مقالات

الصين.. والقوة الجيواقتصادية

بقلم د.محمد حسين ابو الحسن –

بحلول 2030 يتوقع أن تصبح الصين أكبر اقتصاد فى العالم، قوة عظمى بكل معنى الكلمة، أكبر لاعب فى تاريخ الإنسانية، تغير ميزان الثروة والسلطة العالمى، تعيد توزيع خريطة الإنتاج ونمط المبادلات التجارية وحركة رءوس الأموال والتقدم التقنى، كسرت حاجز التخلف المزمن، وحلقت بعيدا فى سماء الاقتصاد العالمى، بعدما كانت بلدا فقيرا يفيض بالمآسى والمجاعات.

تستحق التجربة الصينية الوقوف أمامها بالفحص والدرس؛ هناك إجماع فى الفكر التنموى، فى ضوء تجارب الصين ودول جنوب شرق آسيا، على أهمية الدور التدخلى للدولة التنموية، يأخذ شكل «الإرشاد الإستراتيجي» فى توجيه عمليات التنمية، أو«الدولة المحفزة» لإحداث تغيرات جوهرية فى قطاعات الاقتصاد، إستراتيجية استثمارية واعية نتجت عنها معدلات نمو استثنائية، فالدولة فى الحقيقة كانت «قائدة السوق»، وليس مجرد تابع أو معضد للسوق، وفقا لنظرية «السوق المحكوم». أى تحديد الدرجة الصحية فى انفتاح الاقتصاد المحلى على العالمى، خاصة نوعية تدفقات الاستثمار الأجنبى، وليس ترك الأمر «سداح مداح». اهتم الحزب الشيوعى الحاكم بأمرين وقف الاستغلال الداخلى والنظام الإقطاعي- كان يُفقر الصين ويمنع تنميتها- ووقف الاستغلال الخارجى، لمنع تحويل البلاد إلى نظام تابع، فى الوقت نفسه سمح للأفراد بإنشاء مشروعاتهم الصناعية وإنماء ثرواتهم، بتخطيط وتنسيق من الحكومة، وبذل جهدا تنظيميا هائلا لتحديد الامتيازات الممنوحة للمستثمرين الأجانب. أرسى دينج شياو بنج «نمطا سياديا» للتنمية، لايخضع لرأس المال العالمى، أو وكلائه الذين يبيعون بلادهم بثمن بخس فى أى وقت؛ فأنت قد تخرج خاسرا عندما لا تضبط علاقة أصحاب الأموال فى بلدك مع السوق الدولية.

قامت فلسفة هذا الزعيم الصينى على مزيج فريد من السياسات العامة: نظام تعليمى كفء، احترام العلم والكفاءة والنزاهة، على مستوى الفرد والمجتمع، لا أهل الثقة، إعلاء المصلحة الوطنية، لا حصد الغنائم العاجلة أو العابرة. قاد دينج العمل على ثلاث مراحل: تأهيل مؤسسات الدولة؛ للاضطلاع بمهام النهضة، ثم مرحلة التسخين باختراق حاجز التكنولوجيا، ثم مرحلة الانطلاق لحلبة السباق العالمي. لم تقدم الصين الشيوعية نموذجا بديلا للرأسمالية والتجارة الحرة، بل استخدمت آليات الرأسمالية والاقتصاد الحر لإنجاز مكتسبات جيوسياسية.

أهم دروس التجربة الصينية أن النمو الاقتصادى يجب أن يكون من أجل الأغلبية، هذا لن يحدث إلا حين تقوم الدولة بحشد وتوجيه موارد البلد بشكل قصدى، وليس حين تترك السوق لعقاله وتملّك البلد للأثرياء، المهمة الأساسية للدولة النامية هى تحقيق هذا التّنظيم، تحكمت الصين بالرساميل، وضعت قيودا على خروجها، منعت الأجانب من الاستثمار على هواهم، مصرة على مبدأ السيادة الاقتصادية؛ أكبر نجاحات بكين هو تشغيل أعداد كبيرة من النّاس، وانتشال800 مليون من الفقر، وخلق دورة اقتصادية نشيطة وتوزيع ثمار النمو بعدالة على الجميع، فكانت النتيجة مبهرة.

تراجعت دول ونزفت من دخلها، حين كان الاقتصاد يزدهر لمصلحة الطبقة العليا فقط، تنتقل الثروة من الطبقات الفقيرة إلى النخبة، ثم تهربها النخبة أحيانا إلى الخارج، الخلاصة أن السيادة الاقتصادية وتوجيه الدولة للإنتاج والاستهلاك، مع الحرص على توزيع عادل للدخول والأعباء، عوامل لا غنى عنها لبناء اقتصاد لا ينزف الثروة، وشعب منتج يراكم المعرفة، وهى عوامل سياسية بالكامل، لا علاقة لها بالجوانب النظرية من علم الاقتصاد، ولا بتوصيات مؤسسات التمويل الغربية الملغومة سياسيا.

باتت الصين ثانى أكبر اقتصاد، بعد الولايات المتحدة، وقد تتبوأ الصدارة عالميا، بحلول 2028، نما اقتصادها 8.1%، ليسجل 18 تريليون دولار العام الماضى، بحسب وكالة شينخوا، لديها أكبر احتياطى من العملات الأجنبية 3.2 تريليون دولار؛ بيت القصيد أن الصين دولة لا يمكن استبدالها فى النظام الدولى، أو حصارها، هذا هو المعنى الحقيقى للقوة العظمى، تحتل بكين مكان آخرين فى دورة الإنتاج، لايستطيع الغرب الاستغناء عن سلعها دون التضحية بنمط الحياة الغربى ورفاهيته، وتحتاج الصين لتصريف فائضها الصناعى فى أسواق الغرب الشرهة.

دشن الرئيس الصينى الحالى شى جين بينج خطة تهدف إلى التفوق فى اقتصاد المعرفة، اقتصاد المستقبل: الذكاء الاصطناعى، الحواسيب الكمية، الطاقة المتجددة، الصناعات الدقيقة، كمحركات الطائرات والسيارات الكهربائية. إستراتيجية للتقدم والهيمنة، تليق بالعملاق الآسيوى، لا تعتمد على الحروب أو الجيوش، بل على الاقتصاد، فمن يسيطر عليه يسيطر على العالم، قبل ذلك أعلن الرئيس شى فى عام 2013، مبادرة «الحزام والطريق»، مبادرة ضخمة لمشروعات بنى تحتية، انضمت إليها 138 دولة، تمثل 65% من سكان الكرة الأرضية، و40% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، ويتوقع أن تثمر 22 تريليون دولار، إطار تنافسى مع أمريكا على الزعامة، ومنطلق لإعادة النظر بشكل النظام الدولى.

عجائب التجربة الصينية لا تنفد، تمدنا بالدروس والعبر: على الشعوب أن تنظر إلى مصالحها بالدرجة الأولى، بغض النظر عن الأيديولوجيات، الاقتصاد القوى هو قلب مفاعل التقدم الصينى، والتنافس على المكتسبات الجيوسياسية. ذهب الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون فى كتابه «اغتنم الفرصة» إلى أن القوة الاقتصادية والجيواقتصادية أصبحت أكثر أهمية من القوة العسكرية والجيوسياسية، وأن على أمريكا ألا تضرب السيوف إلى محاريث – كما يقول الكتاب المقدس – بل إلى رقائق إلكترونية. وهذا بالضبط ما فعلته الصين بالمثابرة والتخطيط والسير المتواصل صوب المستقبل، فكان لها ما أرادت!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى