كلما اقترب الخريف، زاد التوتر في أوساط الحكومات الأوروبية، بسبب أزمة الغاز الناتجة عن إيقاف روسيا لضخ غازها نحو أوروبا بشكل كامل ونهائي. ومباشرة بعد هذا القرار الروسي، اتجهت الأنظار نحو مخزون أوروبا من الغاز والذي به ستواجه برد الخريف والشتاء القادمين.
ومباشرة بعد إعلان روسيا إيقاف ضخ الغاز، ارتفعت أسعار الغاز في أسواق العالم بنسبة 30%، ووصلت إلى ارتفاع نسبته 400% مقارنة مع السنة الماضية.
وبينما تتوقع موسكو أن أوروبا ستجد نفسها أمام كارثة طاقية حقيقية في ظل غياب الغاز الروسي، تدافع مجموعة من الدراسات الاقتصادية عن إمكانية تجاوز القارة العجوز لهذه الأزمة بأقل الخسائر، فهل أعدت أوروبا العدة للعيش بدون الغاز الروسي؟ كيف هو مخزون أوروبا من الغاز؟
أعلن الاتحاد الأوروبي عن بلوغ هدف تخزين 80% من حاجياته من الغاز بحلول بداية سبتمبر/أيلول، على أن يواصل التخزين ليصل إلى نسبة 90% في تشرين الثاني المقبل. وتجاوزت نسبة التخزين في عدد من الدول الأوروبية نسبة 80% واقتربت من 90%، كما هو الحال بالنسبة لفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبولندا والدانمارك، والتشيك وإسبانيا والسويد.
ويبقى بعض دول أوروبا الشرقية بعيدة عن هذا الهدف مثل لاتفيا التي بلغت 65% فقط، وكذلك الوضع في النمسا وهنغاريا إلا أن كل العيون تبقى معلقة على ألمانيا باعتبارها الاقتصاد الأكبر في أوروبا، ورغم وصولها إلى تخزين 84% من الغاز؛ فإنها ستكون محتاجة لدعم من دول أوروبية أخرى، ومن المتوقع أن تقوم فرنسا بهذا الدور؛ حيث لا تعاني باريس من نقص في الغاز.
ما البدائل لتعويض الغاز الروسي؟
من خلال خطة المفوضية الأوروبية لتعويض الغاز الروسي، نجد أنها ستعتمد على 3 محاور أساسية، أولها “ممر الغاز الجنوبي”، الذي يمر عبر أذربيجان وجورجيا وتركيا واليونان وبلغاريا وألبانيا والبحر الأدرياتيكي، وسيتم تسليمها إلى إيطاليا عبر خطوط أنابيب تعود إلى أكثر من 3500 كيلومتر. ووفق معطيات المفوضية الأوروبية فإن هذا الخط بدأ بالفعل في ضخ 10 مليار متر مكعب من الغاز نحو أوروبا، ومن المتوقع أن يصل إلى أقصى مستوى (10.5 مليارات متر مكعب من الغاز) بحلول نهاية 2022، وستكون دول شرق أوروبا المستفيد الأول من هذا الخط.
أما الخيار الثاني فهو الاعتماد على البحر الأبيض المتوسط كمنصة من أجل وصول الغاز نحو أوروبا، وهنا تتحدث المفوضية الأوروبية عن كل من الجزائر ومصر وقبرص، لتوريد الغاز إما عبر أنابيب الغاز أو عبر استيراد الغاز الطبيعي المسال.
ثم هناك الخيار الثالث وهو استيراد الغاز الطبيعي المسال وتخزينه، وهنا تحدد المفوضية الأوروبية 3 مصادر أساسية، وهي الولايات المتحدة وقطر وشرق أفريقيا.
كما أعلنت ألمانيا عن بناء 3 محطات عائمة لتخزين الغاز، مع العودة للاعتماد على الطاقة النووية، والتخلي عن قرار إغلاق 3 محطات نووية.
ووفق صحيفة “واشنطن بوست” (Washington Post) فإن ألمانيا بدأت بإصلاح مناجم الفحم ومحطات الطاقة التي أغلقت قبل 10 سنوات في ألمانيا، ومن المتوقع أن تحرق ألمانيا ما يزيد على 100 ألف طن من الفحم شهريا، في استدارة كبيرة عن التزامها بالتخلص نهائيا من الاعتماد على الفحم بحلول 2038، كما بدأت دول أوروبية أخرى مثل النمسا وبولندا وهولندا واليونان في إعادة تشغيل محطات الفحم.
كيف تواجه الدول الأوروبية ارتفاع أسعار الغاز؟
بعد ارتفاع أسعار الغاز بنسبة 400%، وإعلان عدد من الشركات المولدة للطاقة أنها لن تكون قادرة على تزويد المواطنين بالطاقة، بالنظر لارتفاع الأسعار، أعلنت الحكومات الأوروبية عن حزمة من الإجراءات حيث أعلنت الحكومة البريطانية، أنها سوف تجمّد المراجعة الدورية لأسعار الطاقة والتي تؤدي لارتفاع أسعار فاتورة الغاز والكهرباء كل 3 أشهر، أما فرنسا فقد أعلنت أنها أنفقت 26 مليار دولار لتجنيب المواطنين ارتفاع أسعار الغاز منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. أما ألمانيا فقد خصصت أكثر من 65 مليار دولار من أجل دعم الشركات والمواطنين وحمايتهم من الارتفاع الصاروخي لأسعار الغاز والطاقة، كما أعلنت فنلندا عن تخصيص 10 مليارات دولار لدعم شركات الطاقة وعدم رفع الأسعار، وخصصت السويد 23 مليار دولار لنفس الغرض.
هل ستنجو أوروبا؟
تبيّن دراسة لمركز الأبحاث “بروجيل” (BRUEGEL) والذي يوجد مقره في العاصمة البلجيكية بروكسيل، أن نجاة أوروبا من أسوأ شتاء يمر عليها منذ الحرب العالمية الثانية ستكون ممكنة، لكن ستكون لها آثار اقتصادية واضحة، وسيتعين على الحكومات الأوروبية اتخاد قرارات صعبة. ووفق الدراسة نفسها، فإن الخيار الوحيد أمام الدول الأوروبية لتجاوز الاعتماد على الغاز الروسي، هو خفض الاستهلاك الأوروبي بنسبة تتراوح ما بين 10 و15%، وفي الحالة الألمانية سيكون عليها خفض استهلاك الغاز بنسبة 20%، خلال الأشهر الستة المقبلة لتجاوز هذه الأزمة. وطالب المركز البحثي بتدخل صارم من الحكومات الأوروبية، أولا لرفع استيراد الغاز من جهات مختلفة، وأيضا مراقبة السوق لضمان عدم دخول شركات الطاقة في منافسة تؤدي لارتفاع الأسعار.
ما الآثار الاقتصادية لتوقف الغاز الروسي؟
لم يكن تخزين الدول الأوروبية للغاز بالمهمة السهلة، بل كلف ميزانية الحكومات الأوروبية 70 مليار دولار، مقارنة مع 12 مليارا أنفقتها أوروبا لتخزين الغاز خلال العام الماضي، ما يعني زيادة بأكثر من 5 أضعاف. وبات من شبه الأكيد دخول منطقة اليورو ومعها بريطانيا في حالة من الركود الاقتصادي التي قد تدوم إلى غاية نهاية العام الماضي، مع بلوغ معدل التضخم بين الدول الأوروبية 9%؛ وهو رقم أعلى بـ4 مرات من المعدل الذي حدده البنك الأوروبي في نسبة 2%. وأعلن صندوق النقد الدولي أن الاقتصادات الأربعة الكبرى في الاتحاد الأوروبي -وهي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا- سوف تحقق نسبة نمو أقل من المتوقع خلال سنة 2023، وذلك في حال لم تسجل حالة من الركود. أما بريطانيا فقد أعلن البنك المركزي أن البلاد دخلت بالفعل في حالة من الركود، وتوقع أن تبلغ نسبة التضخم 13%، بحلول نهاية سنة 2022.”