بقلم الكاتب والمحلل فراس يونس – فرضت الحرب السورية خلال عقد من الزمن مفردات قاموس من الدلالات والإشارات، المستمدة من أهوال وعنف الحرب والمتحاربين، التي تتجاوز في متنها مفردات خطاب كراهية هنا أو جريمة هناك من جرائم الكراهية، كما يحدث بين الحين والآخر في بلد أوربي أو أمريكي شمالي.
نذكر كيف جرى حادث مروع بأهداف عنصرية راح ضحيته /4/ أفراد من عائلة مسلمة، في كندا في يوم 6/6/2021. الشرطة الكندية وصفت جريمة قتل أفراد الأسرة المسلمة الأربعة دهساً بشاحنة صغيرة تخطت الرصيف وداست عليهم، استهدفوا عمداً كـ “جريمة كراهية”.
من الطبيعي أن يتناسب توصيف البوليس الكندي للحادثة باعتبارها جريمة كراهية، بناءً على واقع الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني الذي تنعم به كندا، هذا الاستقرار الذي لا يمنع مع ذلك من حدوث اختراقات، وتعديات وجرائم كراهية تنتج خطابا للكراهية على منصات إعلامية رسمية وغير رسمية مما يتعارف عليه بـ “وسائل التواصل الاجتماعي”.
وكما أن للحرب السورية محركاتها وأدواتها ومجاميع الطامحين لتحقيق أجنداتهم شرقاً وغرباً، لها أيضاً بما يتناسب مع الوقائع الدموية من قصف ودمار وكيماوي وحصار وتجويع واعتقال وخطف واختفاء عشرات الآلاف في كل مواقع وجغرافيات سلطات الأمر الواقع، أقول لها أيضاً مفردات قاموسها الذي يتخطى ويتجاوز “خطاب الكراهية” إلى خطاب حرب مؤسس على ثقافة عنف تاريخي مستند إلى “فقه كراهية” ذو طابع ديني، وطائفي – سياسي، ورهانات الأطراف المتحاربة على إعادة توزيع جغرافية “المغانم والثروات والسلطات”.
وعندما نحدد خطاب الحرب كإطار أشمل فهذا يساعدنا على موضعة “خطاب الكراهية” وتعيين موقعه في إطار خطاب الحرب الأشمل.
الحرب عدوان على البشر والحجر تشكل في دماغ على ورق:
لم ينشأ “خطاب الحرب” بكل ما يتضمنه من كراهية وتعامٍ، وإقصاءٍ وإلغاء في سوريا من عدم، أو على نحو فجائي كغيم أسود في سماء صافية. على أن مقدماته تتجاوز الحساسيات التاريخية التي كانت تضج بها وقائع يوميات السوريين، عبر الفروق بين المدينة والريف فضلاً عن الاختلافات الطبقية والاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، من عادات وأعراف، كما الحساسيات السياسية بين الكتل والأحزاب السياسية التي سادت في النصف الثاني القرن الماضي.
تلك الحساسيات التاريخية لا تلبث أن تتضخم في الوعي الجمعي السوري، لتأخذ مضامين واتجاهات جديدة في التعبير عن تأزمها في ظل نهج استبدادي يستند على الإخفاء و”الصرصرة”، وتجاهل المشكلات أو التقليل من شأنها عوضا عن مكاشفتها وتسليط الضوء عليها. هذا الترحيل الدائم للمشكلات وسيادة عقل معالجة المشكلات بأفق الحل الأمني، والانتصار الخادع والساحق على المجتمع في الثمانينات، سيبلور “خطاب كراهية” غير معلن حبيس الأفئدة والصدور والسجون الممتدة على أرض الوطن.
خطاب الحرب الذي أنتجه ومهد له “خطاب الكراهية” أتاح للأخير أن يتمدد ويتعمق اليوم في الوعي الاجتماعي والسياسي والاعلامي السوري، في الداخل ودول المهجر على توزع السوريين في العالم. يعلو تارة ويخفت تارة، لكنه يخفي خلف خفوته اندفاعاته البركانية الصاخبة رهين ما يعتمل في ساحات المعارك، وأروقة المفاوضات، والغرف السوداء، وهيئات أركان الحرب في عواصم القرار الاقليمي والدولي.
على نهج من قبيل رفض الآخر وشيطنته، في إشاعة العنف وثقافته، في الخروج على أي قانون وضعي أو ديني، التمييز ضد المرأة، وعدّها كائنا من الدرجة الثانية، تعميم الفوضى والقبح، تعطيل الروح النقدية في إشاعة التماثل القطيعي والإمتثال لمشيئة الأقوى دون اعتراض أو سؤال، عسكرة المجتمعات ومسخ روحها المدنية والريفية، وأهوال تلك العسكرة التي تمتد من الطفولة إلى سن البلوغ، في سيادة الأجهزة الأمنية وتدخلاتها المنفلتة من أي ضابط ووازع، هي بعض من مرتكزات وأسس “خطاب الكراهية” الذي يشتعل أواره اليوم، دون أن يلوح في الأفق خفوته أو اختفائه قريباً.
بطبيعة الحال فإن “خطاب الكراهية” لا يستعر اليوم ضمن النطاق الوطني السوري وحده، بل يجد تغذيته على نحو غير مسبوق في حطب النزاعات الاقليمية والدولية البالغة الاستقطاب والحدية، والعولمة الإعلامية المفتوحة على مصراعيها، والمنفلتة على حِلّ شعرها- كما يقولون- في قلب منطقة تتخذ صراعاتها السياسية لغاية في نفس أكثر من “يعقوب” لبوسات دينية، وطائفية، يتصارع فيها لاعبون كبار وفق محاور وأحلاف متعارضة لايبدو معها في الأفق ملامح تسوية تاريخية، خاصة في سياق توازن قوى كارثي مديد لا يسمح بترجيح كفة طرف على طرف آخر.
يعلم المتابعون سيرورة ما جرى ما بعد انفجار 15 آذار 2011 في سوريا، الذي لا تزال شظاياه وأصداؤه تتردد إلى الآن في صيغة قضايا عالقة وأهداف تنتظر الحل واستعصاء وصول الغايات الطموحة لشعبنا في الحرية والكرامة والتقدم إلى أهدافها النهائية. هذا الانفجار الثوري الذي كان يتوخى إجراء إصلاحات جدية وجذرية على ايقاع حضور الشعب الفاعل بدلاً عن هجوعه الساكن الخامل الذي خضع له قرابة أكثر من 40 سنة، اصطدم بعقلية القمع السافر والصلافة فضلا عن احتقار الإعتراض، وربطه الدائم بالمؤامرات التي تحاك من الخارج واعتبار كل محتج أداة لتلك المؤامرة. ومع ديمومة القمع والقتل اليومي لمئات المحتجين الذين واجهوا الرصاص بصدور عارية تكرست إيديولوجية إقصاء عنصري إلغائي مهيمن، فرضت على الطرف الآخر بالمقابل ايديولوجية وخطاب إقصاء عنصري إلغائي كرد فعل على الأول بعيداً عن المضامين والأهداف السياسية العامة والعابرة للطوائف والقوميات والمناطق التي رفعها المتظاهرون في المراحل الأولى من الثورة السورية. لقد تكرس “خطاب عدواني” قوامه الحرب والعسكرة والإلغاء والكراهية.
هذا السياق الدموي لثورة السوريين أفضى الى حرب مفتوحة وزج بعوامل ولاعبين تتجاوز السياق الثوري في طاقته الابتدائية، كما أشرنا أعلاه، وقواه الشابة وأهدافه، وليمسك المتدخلين بالشعارات الثورية، وتبنيها الكاذب، وإفراغها من مضامينها وقواها الحية.
أمام استعصاء الحلول والمخارج وعدم القدرة على استشراف مخارج بالحد الأدنى كان يعتمل فرز اجتماعي واعلامي – سياسي حاد بين القوى المتنازعة تعززه ماكينات إعلامية وجيوش الكترونية على جبهات ومواقع التواصل اللا (إجتماعي) بمضمون خطابي استئصالي وقطعي في قسمات مضمونه على كافة المستويات الدينية والطائفية والقومية والعرقية. تبعاً لمجريات الصراع وبقدر اتساع الشروخ التي ولّدها العنف السلطوي والعنف المضاد له، ترتسم لوحة سوداوية من “الكراهيات” المتبادلة التي تترسخ على شلّ استعادة وشائج الماضي القريب ووحدة المصالح على أسس المساواة والإنصاف، وتسيّد نزعة الإقصاء والإلغاء، لأي ميل بإستعادة اللحمة الوطنية والاجتماعية في قادم الأيام.
ولأن الحاضر يفسر الماضي في كثير من العمليات التاريخية، بيّن هذا الحاضر الأثر المديد لسياسة عنف النظام قبل 2011، هذا العنف لم يأتِ من السماء. إنه العنف الأخلاقي والجسدي العنف المتولد من التعصب والتزمت العنف الايديولوجي، عنف الفساد والحماقة الي يرافق القوة على الدوام1 كما بين مدى تراكم التصدعات والشروخ التي تعتري الجماعات والتكوينات الاجتماعية في ظل تجاهل فاضح للمشكلات الطائفية والقومية، يخلو من المسؤولية على صعيد مؤسسات الدولة ذات الشأن، فضلا عن منظمات المجتمع المدني من أحزاب وهيئات سياسية. ندوب أحداث الثمانينات لم تقلب صفحتها بمواجهة جريئة ومنصفة خارج اعتبارات الأمن الضيقة وهواجسه المريضة.
اللوياثان2 السوري في هيئة جرائم وخطاب حرب وكراهية:
وفي بيئة سياسية وثقافية تاريخية غابت فيها تقاليد التفكير النقدي والموضوعي، بل ولوحقت عسفاً واضطهاداً، وتعممت ثقافة الإقصاء والإلغاء فيها، كان من الطبيعي أن يصعب التفكير العقلاني والنقدي في سياق الحرب المجنونة والعبثية، على فرض وترسيخ رؤاه وثقافته السياسية، في أجواءٍ مثقلة بالبارود وكل صنوف الأسلحة والجيوش والميليشيات وغرف إدارة المعارك وأجواء الستربيتز الدموي3، ليتمخض خطاب كراهية متعدد الرؤوس والأرجل يقوم على ترسيخ الأحقاد وإبراز المظلوميات، وشيطنة الآخر وفي سياق تنازع هذه القوى على تعميم رؤيتها للصراع وأهدافها فإن القانون الذي لم يستطع أحد الخروج من قانونه الحديدي، إذ غالباً ما تضفي القوة طابعا طفالياً (من الطفولة بمعناها السلبي المضطرب النمو) على أولئك الذين يستخدومنها مثل أولئك الذين يخضعون لها4 أي أن هذا الطابع الطفالي يلغي القدرة على الاستشراف الموضوعي للأفعال وردود الأفعال، والحافز إلى استقلالية الرأي وشجاعته، وتقديم رؤية موضوعية واقعية لاترمي إلى شيطنة الآخر، والنظر إلى الشخص المعادي بجسد المجموعة، كما والنظر إلى المجموعة المعادية بهيئة شخص من شخوصها، لتختفي تفاصيل وتباينات وتمايزات داخل كل ( مكون)، وأن فهم جماعة ما يجب أن لا يبستر في نصوص كتبهم المقدسة، أو يختزل في مزاعم الآخرين بشأن معتقداتهم.
جرائم الحرب تتويج لخطاب الكراهية، ومناخ البارانويات5:
في حين تلمع جرائم الكراهية كوميض متقطع من الفظاعة والصدمة في العالم الغربي المتقدم اليوم، تأخذ جرائم الحرب في سوريا نهجاً متسقاً ومتتابعاً من كل أطراف الصراع، ليتسع قوسها الأسود تنكيلاً واغتصاباً (خصوصاً للنساء والأطفال) واختطافاً واختفاءاً وتعذيباً وحشياً، بحق كل مختلف بالعقيدة والتوجه السياسي. وكلما برز الشعور الاضطهادي باسقاطاته الهذيانية على الآخرين، تعزز الشعور بالعظمة والفرادة المتوهمة، وجنونها في مناخ من البارانويات الذي يرزح تحت وطأة يقينيات لايمكن زعزعتها، أو تعديلها أو التشكيك فيها، ولا يتسع فيها مطرح للحلم والتسامح، وحق الإختلاف فالآخر الجيد هو الآخر الميت.
وصم الآخر بالايديولوجي خطاب كراهية نخبوي:
في استخفاف بدا موضوعياً ومفهوماً لمفهوم النخبة والطليعة التقليدية في الأوساط الثورية والسياسية الفاعلة على الأرض في سوريا، على ضوء فشلها وإحباطاتها بدا الميل بين النشطاء والكوادر الشابة لإرساء قواعد عمل جديدة وعلاقات تقوم على التواضع وتعزيز الروح الجماعية والمشورة وتبادل الرأي والإصغاء والمرونات المتبادلة، في بدايات الحراك الاصلاحي والثوري السوري، ومع نزيف هذه الأطر القيادية الشابة قتلاً وخطفاً أو اعتقالاً، ظهرت قوى أقل خبرة وإحاطة وخبرة في العمل الديموقراطي وأكثر نزوعاً للشعبوية وتبني أصداء الجمهور القاعدي المشبعة بالقهر والمشاعر والخيبة وتوخي الحلول السريعة، وأكثر قابلية للتمول من الخارج وفق أجنداته وإملاءاته. إن رمي الروح النخبوية في الحاوية لصالح تبني غير نقدي للرؤى السائدة كان يعني في نهاية المطاف الوقوع في القطيعية السياسية، والشعبوية في أسوأ تعبيراتها، والغناء على موسيقاها النشاز!
أمام هذا الميل كان ثمة استخفاف ولا يزال بالنظرية وبالمعرفة، العداء لأي نظرية واعتبارها ايديولوجياً. على أن هذا العداء لا يعني في العادة سوى العداء لنظريات الآخرين ونسيان المرء نظريته الخاصة فلا مهرب لأحد من الايديولوجيا وكل ما نقوى على فعله تجاه ايديولوجيتنا هو أن نعيها ونتخذ حيالها مواقف نقدية وهذا أضعف الإيمان6.
ولأننا من دنيا واحدة… نحن قادرون فيما بيننا على التفاهم (نيرودا)
ولأن “خطاب الكراهية” لا يعالج بخطاب ضدي، قائم على المحبة المثالية المتخيلة مما تتحفنا به أساطير طوباويتها الرومانسية، بل بتفكيك “خطاب الكراهية” وفضح مراميه وأهدافه والسخرية منه “السخرية سلاح فعال في هذا المقام” كخطاب ضيق الأفق وغير ملائم لما خطاه الإنسان في مسيرته التحررية على هذه الأرض، وإرساء ثقافة بديلة تكون المشاركة والإجتماع نواتها، مشاركة الجميع، كل حسب طاقته وإبداعه، في تدبر مصائر عالم تجتاحه الحروب والتوحش والأوبئة.
الهوامش:
_________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
“1” من رواية شيطنات الطفلة الخبيثة – للروائي ماريو بارغاس يوسا.
“2” تشير كلمة لوياثان إلى أي وحش بحري وترمز إلى الأشياء أو الأشخاص ذوي القوة الساحقة.
“3” الاستبرتيز أو التعري الدموي ظهر مع عمليات ذبح وقتل شهدتها جغرافيا الجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة وبوكو حرام وجبهة النصرة وغيرهم- من مقال: المجد للأرانب إشارات الإغراء بين الثقافة العربية والإرهاب- مجلة الكشكول العدد 179/180 شباط- آذار /2016
“4”لو اندرياس سالومي- وردت في كتاب الحريم الفرويدي – باول روزان.
“5” البارانويا مرض عقلي يتميز بوجود نسق منظم من الأفكار الهاذية، وسلسلة من النتائج المستبطنة من مقدمة خاطئة خطأً مطلقاً، يؤمن بها المريض إيماناً مطلقاً لا يمكن زعزعته أو تعديله، أو التشكيك فيه. ومن حيث المضمون نجد أن فكرة الإضطهاد والريبة من نوايا الغير وأفعالهم تقوم بدور رئيسي في هذا المرض. أما من حيث الشكل فإن المرء يستخدم عملية الإسقاط استخداماً متصلاً فينسب إلى الغير أفكاره ومشاعره، ولا يفتأ يؤول حركات الآخرين وسكناتهم بما يتفق واعتقاده المرضي، بحيث يتحول الصراع الداخلي في النهاية إلى صراع خارجي بين المرض والآخرين، منقطع الصلة بأصله الذاتي./ الموجز في التحليل النفسي – سيغموند فرويد – ص126/
“6” نص من الذاكرة للناقد والمنظر الأدبي البريطاني تيري إيغلتون.