تحليل د. شروق صابر – تمتلك إيران استراتيجية خاصة تتعلق بتدخلاتها في شئون الدول العربية، وقد ازدادت تدخلاتها في تلك الدول خلال الفترة الأخيرة، فقد حاولت طهران الاستفادة بأكبر قدر ممكن من الانشغال الدولي الحالي في الحرب الأوكرانية أكثر من التركيز على أنشطتها، وقامت بتوظيف تلك الظروف لخدمة مصالحهما في المنطقة، وقد خلقت تلك السياسات أزمات عديدة لها مع عدة دول، لعل أبرزها إسرائيل التي ترفض بالطبع هذا النفوذ الإيراني في الإقليم، الأمر الذي ساهم في تعقد الأزمات التي تشهدها الدول العربية أكثر بدلًا من حلها.
منطلقات الاستراتيجية الإيرانية تجاه الدول العربية
منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، سعى النظام الإيراني إلى ترسيخ نفوذه في جميع أنحاء المنطقة، وقام بمواجهة القوات العسكرية التقليدية بشبكة من الميليشيات المرتبطة به، وقد لعب فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي دورًا رئيسيًا في هذه العملية. وكانت نقطة الإنطلاق الأولى لهذا المشروع في البلدان العربية اتباع سياسة نصرة الشعوب المستضعفة، والتي نتج عنها ما عرف بمبدأ “تصدير الثورة”، حيث تنص المادة الثالثة من الدستور الإيراني على أن تنظيم السياسة الخارجية للبلاد، يقوم على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي الأرض. كما تشير المادة (154) إلى أن جمهورية إيران الإسلامية تعتبر “سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله، قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل، حقًا لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطةٍ من العالم. وفي الوقت نفسه، لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى”. وفي أثناء الثورة وقبل مرحلة انتصارها ووضع الدستور كانت من مقولات الخميني، وهتافات الثورة الشهيرة: “الإسلام ينتمي إلى المُستضعفين لا إلى المستكبرين”.
في إطار ذلك، عملت النخبة الحاكمة على تصدير الثورة والفكر الثوري، ودعم وتخليق حركات وجماعات عنيفة دون الدول الوطنية في الإقليم، وعززت نفوذها في عدد من مناطق النزاع بالعالم العربي، جاءت البداية في لبنان حين قامت بدعم التنظيمات الشيعية خلال فترة الحرب الأهلية، وفي العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، كررت الأمر ذاته حيث استفادت من الحضور القوي للمكون الشيعي لأجل دعم أحزاب وحركات أضحت اليوم رئيسية في المشهد العراقي. جرى هذا في اليمن أيضًا، حيث تتهم إيران على نطاق واسع بدعم الحركة الحوثية، رغم نفيها لذلك. أيضًا شكل وقوفها إلى جانب نظام الأسد، أحد الأسباب الرئيسية التي ساهمت في استمراره رغم كل التوقعات بنهايته بعد فقدانه السيطرة على أراضٍ كبيرة.
وفضلًا عن تبني سياسة تصدير الثورة، يتفاعل التدخل الإيراني في دول الجوار مع عدة منطلقات أهمها، السعي لتأمين النظام من خلال استراتيجية “دفاع أمامي”، أي مقاتلة أعداءه في دول أخرى، ولمواجهة المخاطر والتهديدات التي تتعرض لها من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، والحفاظ على الهيمنة على الفضاء بين الحدود الإيرانية العراقية والبحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن ترهيب دول الخليج. ما جعلها تعول على التدخلات في الاقليم بمسوغات دفاعية ووقائية.
حيث تتخذ إيران من كلًا من سوريا ولبنان بوابة إلى البحر الأبيض المتوسط، وهو ما له أهمية كبيرة لتأمين المنافذ إلى شمال إفريقيا وأوروبا، وكدرع ممتد ضد تركيا وإسرائيل، ومنصة إطلاق للصواريخ على إسرائيل. بالنسبة لطهران. ففي سوريا على الرغم من أن العلويين هم فرع شيعي، إلا أن طائفة الرئيس السوري بشار الأسد ليست شيعية، ونظام البعث هو الأكثر علمانية في العالم العربي ذي الأغلبية المسلمة. ومع ذلك، منذ وصول آية الله الخميني إلى السلطة عام 1979، لا يزال محور طهران – دمشق صامدًا، وبالنسبة للأسد، إيران مصدر مهم للدعم العسكري والمالي. وفي لبنان، تعتبر حماية المجتمع الشيعي الإثني عشري ذات قيمة كبيرة في السياسة الإيرانية الداخلية، ولكن الأهم من ذلك، أن الإثنا عشرية اللبنانيين يثبتون أنهم وكلاء راغبون. من خلالهم، يمكن لطهران السيطرة على لبنان ومضايقة إسرائيل دون أي خطر على نفسها.
أما في اليمن، ينتمي الحوثيون إلى الطائفة الزيدية الإسلامية (ما يسمى بالشيعة الخامسة)، وعلى هذا النحو، فهم ليسوا قريبين من الشيعة الإثني عشرية في إيران. لكن السيطرة على مضيق باب المندب لها أعلى قيمة استراتيجية بالنسبة لطهران. مع مضيق هرمز، الذي تسيطر عليه منذ عام 1971، يعد أحد أكثر المواقع أهمية من الناحية الاستراتيجية في الشرق الأوسط. يتيح باب المندب الوصول إلى البحر الأحمر ومن هناك إلى إيلات وقناة السويس والبحر الأبيض المتوسط. مضيق هرمز هو المدخل من الخليج الفارسي إلى المحيط الهندي. القدرة على منع أو تهديد أي منهما هي ميزة أساسية.
ويحظى العراق، باعتباره أحد البلدان الخليجية العربية بأهمية كبيرة في الإدراك الإيراني، وهذا بالتاكيد سببه المقومات المهمة الضرورية التي يمتلكها، فالقرب الجغرافي والموارد الاقتصادية والبشرية مكنه من أن يصبح إحدى القوى الفاعلة في الإقليم وعنصرًا اساسيًا في تقرير التوازنات الاقليمية القائمة في المنطقة.
السياسة الإيرانية تجاه الأزمات العربية
تحاول إيران استغلال الانشغال الدولي الحالي في التركيز على الحرب الأوكرانية أكثر من أنشطتها، ووفقًا لذلك اتخذت إجراءات تصعيدية في برنامجها النووي، وفي تأكيد نفوذها الإقليمي، وازدادت التحركات الميدانية التي تقوم بها الميليشيات التابعة لها في جنوب سوريا وبالقرب من حدود إسرائيل، فضلًا عن محاولتها المستمرة لنقل عتاد عسكري إلى داخل سوريا عبر الحدود مع العراق، كما ساندت روسيا من خلال بيع طائرات من دون طيار لمهاجمة أوكرانيا، وقامت خلال الفترة الأخيرة بتوجيه رسائل عديدة تزيد من احتمال إقدامها على اتخاذ خطوات تصعيدية جديدة في المنطقة.
حيث لم تعد تستبعد حاليًا نشوب حرب في المنطقة تكون طرفًا فيها، فحسب المقربين من التفكير العسكري في طهران، إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وصلت إلى مرتبة عالية جدًا من الثقة بالنفس وهي واثقة بأنها لن تحتاج حتى المعونات العسكرية من روسيا أو من غيرها وإنما هي قادرة بمفردها على تدمير البنية التحتية الإسرائيلية برمتها. ويطلق المسؤولون الإيرانيون بشكل دوري تصريحات يتوعدون فيها بـ “إبادة إسرائيل”، ويُعتقد أن بلادهم تسعى إلى الحصول على سلاح النووي، وهو ما من شأنه أن يدعم هذه التهديدات، ويأتي هذا التصعيد الإيراني وفقًا لعدة أسباب يمكن إيضاحها في التالي:
1- إثبات عدم تأثر السياسة الخارجية بالضغوط الداخلية: فرضت الاحتجاجات الداخلية التي شهدتها إيران منذ سبتمبر 2022، تنبؤات بأن تنعكس آثارها على سياسة إيران الخارجية، ومن هنا، حاولت إيران من خلال تلك التحركات تأكيد أنها لن تتراجع عن سياستها الحالية التي تتبناها في التعامل مع القضايا الرئيسية، خاصة ما يتعلق بحضورها الإقليمي، وفي مطلع الأسبوع الحادي عشر للاحتجاجات الدائرة في الداخل الإيراني، دافع المرشد علي خامنئي عن دور ميليشيا “الباسيج” التابعة لـ “الحرس الثوري” وتفاخر ضمنًا بمحاولات “تصدير الثورة” في منطقة الشرق الأوسط، عندما قال إن “امتداد الثورة” في العراق وسوريا ولبنان “أصبح فاعلًا”، وقال: “تم إنجاز عمل كبير هو هزيمة أميركا في البلدان الثلاثة”. وأضاف: “فشل مخطط أميركا في القضاء على حزب الله وحركة أمل في لبنان، وكذلك فشلت في سوريا والعراق رغم إنفاق مليارات الدولارات”. كما حاولت إيصال رسائل لقوى إقليمية تم اتهامها بأنها تقف وراء الاحتجاجات الداخلية التي تشهدها البلاد، من خلال إطلاق الجيش الإيراني في 30 ديسمبر 2022، مناورات حملت اسم “ذو الفقار 1401″، من المناطق الجنوبية الشرقية من إيران، وشرق مضيق هرمز إلى شمال المحيط الهندي، لمحاولة إثبات أنها قادرة على تهديد حركة الملاحة والتجارة في المنطقة، وأنه ليس من الوارد التخلي عن تدخلاتها الإقليمية السلبية، على الرغم من الضغوط التي تتعرض لها في الفترة الأخيرة.
2- توجيه الاتهامات لها باستمرار تعثر الأزمات بدلًا من حلها: لإيران دور هام في ملف انتخاب الرئيس اللبناني، نظرًا لأهمية العامل الخارجي في هذا الملف، لكون الوصول إلى هذا المنصب محكوم بتوازنات وتحركات إقليمية ودولية. وتتعارض مصالح كل من الولايات المتحدة وفرنسا والقوى العربية في لبنان مع النفوذ الإيراني المستمد من نفوذ حزب الله والذي استطاع إيصال عون المتماهي مع مصالحه إلى الرئاسة بعد أكثر من عامين من الفراغ، أما إيران فإن هدفها هو ألا يكون الرئيس القادم مغايراً في سياساته عن عون من حيث دعم سلاح حزب الله بوصفه سلاح المقاومة. أيضًا، يتعارض التواجد العسكري الإيراني في سوريا مع مسار التقارب العربي مع النظام السوري في ظل انفتاح العديد من الدول العربية لدعم سوريا بعد أزمة الزلزال، وهو ما يفيد النظام الذي يوشك على الخروج من عزلته العربية. كما أن لإيران مصلحة في عراق ضعيف غير معاد من خلال رعاية لاعبين سياسيين ودودين في ذلك البلد، لذا لم تتوقف عن التدخل في شؤونه السياسية وخلال “مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون” الذي عُقد في ديسمبر 2022 بمشاركة 9 دول عربية وأجنبية، من الموضوعات المهمة التي طرحها المشاركون في المؤتمر هي رفضهم التدخلات الخارجية وبشكل خاص الايرانية في الشأن العراقي، سواء كان ذلك على المستوى السياسي أو الأمني والعسكري وغيرها من التدخلات الأخرى، وكان رد العراق على لسان رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني في كلمته أن “العراق متمسك ببناء علاقات تعاون وثيقة ومتوازية مع كل الشركاء الاقليميين والدوليين وينأى بنفسه عن اصطفاف المحاور واجواء التصعيد وينفذ سياسة التهدئة وخفض التوترات”.
3- الانفصال الأوروبي- الإيراني: تفاقم التوتر بين إيران والدول الغربية إلى درجة صرح قائد “الحرس الثوري”، حسين سلامي في 24 فبراير 2023، إن أوروبا “دخلت بشكل علني ورسمي في حرب ناعمة ضدنا”، يعود هذا التوتر إلى عدة أسباب، منها الاتفاق النووي وعدم تجاوب إيران مع مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فضلًا عن الدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية التي تعتبرها أوروبا ضدها مباشرة، وهو انخراط تراه الدول الأوروبية يساهم في استمرار الأزمة وتقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها روسيا من جانب الدول الغربية لإنهاء الحرب، في إطار ذلك حدث تغير في العلاقات الإيرانية مع الدول الأوروبية، ولم تعد الأخيرة تدافع عنها أو ترضخ لشروطها، وأشارت تصريحات وزيرة خارجية ألمانيا إن مفاوضات فيينا لم تعد مهمة، وهو ما يعني رفضًا لاتفاق يمنع إيران من اقتناء سلاح نووي فيما برامج الأسلحة الأخرى تطرق أبواب أوروبا بعنف. وهناك أيضًا اتهام من قبل طهران لتل أبيب وكييف برعاية أوروبية- أمريكية بتنفيذ سلسلة التفجيرات التي استهدفت مواقع عسكرية حساسة في أصفهان. وكذلك تعليق المفاوضات النووية مع القوى العالمية على نحو بدد الآمال الإيرانية في تصدير مزيد من الطاقة لإتعاش الاقتصاد، هذا مع عدم تقدم في المفاوضات بين الرياض وطهران ووقوفها عند الجولة الخامسة. تلك التغيرات لم تكن على الملف النووي فقط، ولكن أشارت الانتقادات الفرنسية للتدخلات الإقليمية التي تقوم بها إيران في الشرق الأوسط، ولإصرار إيران على تطوير القدرات الصاروخية والطائرات من دون طيار، على أن الأمر يصل إلى النفوذ الإقليمي لإيران أيضًا، وفي لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في أول فبراير 2023، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزم فرنسا العمل مع إسرائيل “في وجه أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط”.
4- استمرار التصعيد الإسرائيلي- الإيراني: على خلفية دعم النظام الإيراني لدمشق ولـ “حزب الله” اللبناني، تنفذ إسرائيل ضربات جوية بشكل دوري بهدف كبح قوة طهران العسكرية خارج الأراضي الإيرانية، ففي ظل معلومات عن “إعادة تموضع” تقوم بها ميليشيات موالية لإيران في محافظة دير الزور شرق سوريا، أجرت إسرائيل هجوم صاروخي وقع في دمشق أصاب منشأة كان يجتمع فيها مسؤولون إيرانيون لدفع برامج لتطوير قدرات الطائرات المسيرة أو الصواريخ الخاصة بحلفاء طهران في سوريا، جاءت تلك الضربة لما تراه تل أبيب من أن المناطق التي تجري فيها عملية “إعادة التموضع” تعد مناطق غير مسموح فيها بالتمركز الإيراني الذي قد يشكل تهديداً لها. بجانب ذلك تشير تقارير إلى أن طهران تعمل حاليًا على استغلال دورها في تقديم الدعم للنظام السوري لمواجهة تداعيات الزلزال وتقوم بشحن أسلحة إلى مليشيات حزب الله الإرهابية وغيرها من الجماعات المدعومة منها هناك، كما أعلنت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية، في 24 فبراير 2023، أن إيران ستقدم دعماً عسكرياً إلى النظام السوري، يتمثل في عدد من الدفاعات الصاروخية ومنظومة “خرداد 15″، الأمر الذي يزيد من مستوى التصعيد الإيراني- الإسرائيلي. وتتزامن تلك التحركات الإيرانية على الساحة السورية مع مواصلة حزب الله في إرسال رسائل تحذيرية إلى إسرائيل مفادها أنه إذا وسعت تل أبيب ساحات الصراع مع إيران في سوريا وفي العمق الإيراني، فإن القوى الموالية لطهران تستطيع أن ترد وتكبد إسرائيل ثمنًا غاليًا. تلك التحركات الإيرانية تشير إلى ازدياد التصعيد بينها وبين إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة.
في النهاية يمكن القول، إن تأثيرات الصراعات والأزمات الدولية على النزاعات الإقليمية خلقت لإيران فرصة للتوسع أكثر في المنطقة العربية، فهل يكون الاتفاق السعودى – الإيرانى بداية للحد من هذا التوسع ؟ .. الأشهر القليلة المقبلة هى التى ستحدد الإجابة الصحيحة على هذا السؤال.