تحليل د. طه علي – تتسارع وتيرةُ الأحداث في السودان بما يُنذِر بأيامٍ عصيبةٍ تنتظرها البلاد. فبجانب الانقسام السياسي الجاري، والذي أسفَرَ عن فشلٍ في التوصل لاتفاقٍ سياسيٍ نهائيٍ بين القوى السياسية، مُمَثَّلةً في تحالف قوى الحرية والتغيير، والمكون العسكري، تصاعدت وتيرةُ الصدامِ الناجم عن انهيار التوافق الهش بين العسكريين المنقسمين بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان من جانب، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، (وشهرته حميدتي).
فقد اندلعت صباح السبت 15 ابريل 2023، اشتباكات مسلحةٌ وسط وجنوب العاصمة السودانية الخرطوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وهو ما يثير المخاوف من انزلاق السودان لآتون حربٍ أهليةٍ، وخاصة بعد أن أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها مواقع هامة مثل القصر الجمهوري وبيت الضيافة ومطار الخرطوي ومروي والأبيض وعدد من المواقع الاستراتيجية، بجانب القاء القبض على بعض العسكريين من الجيش السوداني. ثم أعقب ذلك، تدفق الأنباء في إطار روايتين متضاربتين من كلا الجانبي حيث راح كل فريقٍ يؤكد سيطرته على المفاصل الاستراتيجية للدولة، في مقابل نفي الجانب الأخر لتأكيد روايته المضادة.
على أية حال، فإن اندلاع الأحداث الأخيرة بالسودان لم يكن أمراً مستبعداً، لاسيما وأن الأيام الأخيرة شهدت انتشاراً لقوات الدعم السريع في العاصمة السودانية الخرطوم. بل يرجع التصعيد الأخير إلى انهيار العمليةِ السياسيةِ التي انطلقت في 8 يناير 2023، بين القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر 2022، لأجل التوصل لحلٍ سياسيٍ وإنهاء الأزمة المُمتَدة منذ 25 أكتوبر 2021، وتشكيل حكومة تحل محل مجلس السيادة الذي يحكم السودان بشكل انتقالي عبر إجراءات استثنائية وحالة طوارئ مفروضة على البلاد.
إشكالية الاتفاق الإطاري
تكمن إشكالية الاتفاق الإطاري المذكور في غياب الإجماع بين القوى الفاعلة في المشهد السياسي السوداني، ففي حين طالب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بتوسيع القوى الموقعة عليه لتشمل كافة الأطراف السياسية والعسكرية، تعاني العملية السياسي من مناخ سياسي مُعَقد ينطوي على الكثير من التحديات، التي يقف في مقدمتها سيطرةُ ما يُعرف بـ “الدولة العميقة” على مفاصل السُلطةِ في البلاد، فضلا عن خمسةِ قضايا أساسية تناولتها العديد من ورش العمل، التي شاركت فيها غالبية القوى السياسية السودانية خلال الفترة الأخيرة وهي: العدالة، والعدالة الانتقالية، والقضاء على نفوذ قوى نظام “30 يونيو”، بالإضافة إلى اتفاق سلام جوبا وقضية الشرق والإصلاح الأمني والعسكري، وهي القضايا التي يَضُمَّها الاتفاق السياسي الذي كان مُقرراً التوقيع عليه في 4 أبريل الجاري، لولا الخلاف حول مسألة الإصلاح الأمني ودمج قوات الدعم السريع.
معضلة دمج قوات الدعم السريع
لا تنفصل معضلة قوات الدعم السريع عن الصراع الدائر على السلطة بين البرهان وحميدتي. ففي حين يطالب البرهان بدمج هذه القوات في غضون عامين، يُصِرُّ الطرفُ الآخر على أن تصل هذه المدة إلى عشر سنوات، أملاً في ترسيخ نفوذه السياسي والتأثير على العملية الانتخابية المُقَررة في نهاية المرحلة الانتقالية، بل وربما الإفلات من المطالبات بإخضاع قواته للمحكمة الجنائية الدولية. أما البرهان فيسعى للتخلص من نفوذ حميدتي وقواته وتأكيد سيطرة الجيش النظامي على البلاد، واقتصار التجنيد بين السودانيين على الجيش وليس قوات الدعم السريع.
تمثل قوات الدعم السريع إحدى المشكلات المُرَكَّبة التي يعاني منها المشهد السياسي والأمني بالسودان، فمنذ تأسيسها رسمياً عام 2013 كسبيل لإعادة هيكلة نشاط ميليشيات الجنجويد التي استخدمت في مواجهة الجماعات المتمردة في إقليم دارفور وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق، تعاظم دور هذه القوات في السودان. ففي أبريل 2019 شاركت في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس السابق عمر حسن بالبشير، وقع في نفس العام، تم التوقيع على اتفاقٍ لتقاسم السلطة أصبح بموجبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (وشهرته حميدتي)، نائباً للبرهان الذي ترأس مجلس السيادة الانتقالي. بل إنه في 30 يونيو من نفس العام أجرى البرهان تعديلا دستورياً، حَذَفَ بموجبه المادة الخامسة التي تنص على خضوع قوات الدعم السريع لأحكام القوات المسلحة بما جعل هذه القوات الدعم السريع لأحكام القوات المسلحة بما جعل هذه القوات مستقلة تماماً وتخضع لقائدها حميدتي. وبالتالي، ارتبط الجنرالان، في تحالف سياسي، لكنه هشِّ وغير مستقر منذ اكتوبر 2021، حيث أعلن البرهان إجراءات استثنائية تضمنت حل مجلس السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ، ووضع الجيش محل الحكومة الانتقالية.
تكمن خطورة قوات الدعم السريع في كونها كياناً عسكرياً، وقوةً سياسيةً تتجاوز إطار الدولة، الأمرُ الذي يجعل حميدتي القائد العام لهذه القوات خارجاً عن سيطرة السلطة المركزية في البلاد، بل إنه في سبيل ترسيخ وضعه، عمل على نَسْجِ شبكةٍ من العلاقات الإقليمية والدولية، حيث شارك حميدتي، في عام 2015، بنحو ثلاثين ألفاً من قواته في العمليات العسكرية باليمن، تحت مظلة التحالف العربي لدعم الشرعية ضد الحوثيين وفقاً لتصريحات حميدتي نفسه، الأمر الذي فتح له آفاق الدعم الخليجي. كما دفع في اتجاه رفع مستوى العلاقات مع اسرائيل (التطبيع) حيث قال في حديث مع صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 28 اكتوبر 2020، أن 90% من الشعب السوداني يؤيد العلاقات مع اسرائيل، كما وسَّع تحالفاته لتشمل قوى دولية مثل روسيا، حيث قام حميدتي في 23 فبراير 2022 بزيارة موسكو وأعلن انفتاحه على تأسيس قاعدة روسية على سواحل البحر الأحمر بالسودان. كما أنه خلال أحداث الزلزال الكارثي الذي ضرب شرق المتوسط في 6 فبراير من العام الجاري، وفي حين انخرطت السودانية في جهود الدعم الإغاثي بإرسال الجيش السوداني طائرة مساعدات إنسانية إلى تركيا، أرسلت قوات الدعم السريع طائرة منفصلة بعد ذلك بإسبوع. وبالتالي لم تعد قوات الدعم السريع مجرد “ميليشات” تُستَخدم من قبل النظام السياسي كما حدث خلال محاربة المتمردين في دارفور خلال سنوات حكم الرئيس الأسبق عمر حسن البشير، بل أصبحت رقماً مهما بالمعادلة السياسية في البلاد.
أحداث قاعدة مروي
في إطار الاشتباكات الأخيرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، قامت الأخيرة بمهاجمة العديد من القواعد العسكرية والمناطق الاستراتيجية، ومن بينها قاعدة مروي العسكرية التي تقع على بُعْدِ 350 كلم شمال العاصمة الخرطوم، بولاية شمال السودان، وهي قاعدة ذات أهمية استراتيجية حيث تضم مطاراً مدنياً وآخر عسكرياً يُمَثِّل غطاءً جوياً للعمليات العسكرية التي تجري في شمال السودان. ويتميز مطار مروي، الذي تبلغ مساحته 18 كيلو متر مربع، بقدرته على هبوط وإقلاع الطائرات الضخمة مثل طائرات “إيرباص” Airbus، حيث يبلغ طول مَهْبَطِه أربعة كيلومترات وعرضه نحو ستين متراً، كما أنه مزود بأنظمة آلية حديثة للهبوط، كما تتمركز فيه الفرقة 19 التابعة للجيش السوداني.
وخلال الأحداث، اعترضت قوات الدعم السريع عددا من الجنود المصريين المتواجدين في المنطقة بحكم اتفاق بين القوات المسلحة المصرية ونظيرتها السودانية لإجراء تدريبات مشتركة. وردَّاً على ذلك، أصدر الجانب المصري بياناً جاء فيه أن “القوات المسلحة المصرية تتابع عن كثب الأحداث الجارية داخل الأراضي السودانية”. وما ان صدر البيان المصري إلا وخرج حميدتي في وسائل الإعلام، فيما يشبه الاعتذار، مُصرحاً بأن القوات المصرية في مأمن.
الآفاق المستقبلية للأزمة
تكشف الأحداث الجارية على أرض السودان عن أزمةٍ مُرَكبةٍ يمكن النظر إليها من خلال الجوانب التالية:
• غياب تام للثقة بين طرفين متصارعين على السلطة الفعلية، وصلت إلى حد اتهام كليهما لبعضهما بـ “المجرم” على وسائل الإعلام المختلفة.
• إن العلاقة بين رفقاء الأمس، البرهان وحميدتي، قد وصلت إلى طريقٍ مسدودٍ، بما يُنذِر بمضي الأزمة الراهنة نحو التصعيد، فقد أصدر البرهان قراراً بإلغاء انتداب جميع ضباط الجيش العاملين بقوات الدعم السريع، كما أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة أنه تم الاستيلاء على جميع مقار قوات الدعم السريع بأم درمان، الأمر الذي يكشف عن إصرار الجيش السوداني مواصلة القتال.
• إن الدعم الإقليمي والدولي المتوفر لدى قائد قوات الدعم السريع، يدفعه نحو التمادي في التعَنُّت في موقفه الرافض لمطالب دمج هذه القوات في إطارٍ جيشٍ سودانيٍ مُوَحَّدٍ وفقاً لِما تَنُص عليه المادة العاشرة من المبادي العامة للاتفاق الإطاري، بإنشاء “جيشٍ مهنيٍ قوميٍ واحدٍ مُلتَزمٍ بالعقيدةِ العسكريةِ الموحدة، وقائم بواجباته في حماية حدود السودان والدفاع عن الحكم المدني الديمقراطي”.
• كما أن الدعم الخارجي لطرفي النزاع، يكشف عن احتمالات صعوبة تحقق إجماعٍ عربيٍ للضغط على الطرفين في السودان من أجل وقف اطلاق النار، فرغم دعوة مصر والسعودية لاجتماع بجامعة الدول العربية على مستوى المندوبين، إلا أن موقفاً عربياً موحدا في هذا الصدد لا يزال غير متوقعاً في الوقت الراهن.
• أما على المستوى الدولي، وهو أحد مؤشرات الحاسمة في تسوية صراعات الشرق الأوسط، فإن الواقع المُتَأزِّم للنظام العالمي يكشف عن احتمالات نقل الصدام الروسي الغربي إلى الساحة السودانية، لاسيما في ظل المساعي الأخيرة لموسكو لتأمين موطيء قدم لها على سواحل البحر الأحمر وهو ما يُعَزِّزَه التقارب الأخير بين موسكو والبرهان، وبالتالي فمن غير المستبعد أن تجد هذه المساعي معارضةً غربيةً بقيادة الولايات المتحدة بما يُنذر بصدامٍ روسي غربي يؤجل تسوية الصراع الجاري بالسودان.
غاية القول، فإنه من غير المتوقع أن تصل الأزمة الراهنة في السودان إلى نهايتها في المدى المنظور لاسيما في ظل تَوَفُّرِ الكثير من المؤشرات الداعمة لتنامي التصعيد، وصعوبة خفضه في الوقت الراهن، بما وانزلاقها نحو المجهول.