إبادة الأرمن بين الاعتراف الدولي والإنكار التركي

تحليل دكتور. طه علي أحمد .. باحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية
حلَّت علينا أخيراً الذكرى السنوية الـ 108 لجريمة “الإبادة الجماعة” التي تعرَّض لها الأرمن على يد الدولة العثمانية سنة 1915، فيما يُعرَف بـ “إبادة الأرمن”. ورُغم إصرارِ الدولةِ التركيةِ بِنُخَبِها القوميةِ على إنكار هذه الإبادة والتنصل من المسؤولية عنها، إلا أن هذه الاحداث قد باتت إحدى المعالم المؤثرة في الكثير من جوانب السياسة الخارجية التركية، وخاصة مع اعتراف نحو 30 دولة بها كـ “بادة جماعية”، الأمر الذي يترتب عليه، بلا شك، العديدُ من التداعيات على كافة المستويات. يتناول هذا المقال “إبادة الأرمن” كواحدةٍ من مظاهر إخفاق سياسات التعامل مع التنوع العرقي في الشرق الأوسط، والتي حَمَلَت بين طياتها جذور غالبية المشاكل التي تُعاني منها منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن.
لقد استقر الأرمن تاريخياً إلى الشمال من منابع نهرَي دجلةِ والفرُات وجنوب القوقاز بجوار الشعب الكردي، وقد تعدَّدت الروايات التاريخية بشأنِ أصول الأرمن قبل استقرارهم في هذه المنطقة، حيث يُجِمع البعضُ على انحدارهم من أصولٍ آريةٍ، ومن الفرع المعروف بـ “الهندو – جرماني Indo-German، وقد وصلوا إلى آسيا الصغرى عبر مضيق البوسفور وامتزجو مع شعوب المنطقة وفي مقدمتهم الكُرد الذين تشابهوا معهم في اللغة والعادات والتقاليد. كما تعرَّض الشعبان (الكرد والأرمن) لغزوات وهجمات خارجية، وبالتالي عانى كلاهما تاريخياً من أشكالٍ مُتعددة للاحتلا الفارسي واليوناني والبيزنطي والساساني والمغولي والسلجوقي، كما خَضَع كلاهُما لسيطرةِ العرب والصفويين ثم العثمانيين.
لقد جاءت الإبادة والتهجير التي تعرض لها الأرمن في مطلع القرن العشرين، في إطار الصراعات التي شهدتها الدولة العثمانية مع قوى دوليةٍ أخرى مثل روسيا، فضلا عما كانت تَمُرُّ به من تحلُّلٍ وانهيارٍ، وقد تزامن ذلك مع بروز العديد من الحركات التي طالبت بالانفصال عن الدولة العثمانية نتيجةً لعددٍ من الأسباب، من بينها ضَعفُ الإدارةِ العثمانيةِ في الولايات الخاضعة لسيطرتها، وظُلْمِ الولاةِ الاتراك، وثِقَل وطأةِ الحُكمِ التركي ورجاله على الشعوب، بالإضافة إلى المطامح الشخصية لدى قيادات هذه الحركات، وكذلك الدور الذي لعبته الدول الأوروبية في مساندة الحركات الانفصالية وتشجيعها، وقد عزَّز ذلك من النهج العثماني ضد كافة تلك الحركات مما زاد من دموية الصدام مع الأرمن والآشوريين وغيرهم كما سبق الإشارة.
التاريخ العثماني: سردية العُنف
رغم اعتماد الرابع والعشرين من أبريل لعام 1915 كتاريخٍ رسميٍ لـ “إبادة الأرمن”، إلا أن الأحداث الدموية التي سبقت الإشارة إليها تؤكد على أن ما حدث في هذا العام إن هو إلا جزءً من مسيرةٍ مُتخَمَةٍ بالأحداث المُشابهة التي تعرَّضَت لها الشعوب التي خضعت لسيطرة العثمانيين طوال مسيرة التوسُّعِ العثماني بدايةً من عهد السلطان سليم الأول في عام 1512 وحتى انهيارها في عام 1924. وتَكْتظُّ هذه السرديات بالمواقف والأحداث المُشابهة لـجريمة “إبادة الأرمن”؛ فيذكر المؤرخ ابن إياس (1448-1523) في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، أنه عند دخول العثمانيين مصر، في 22 يناير 1517، ارتكبوا العديد من المذابح ضد المصريين حتى أنه: “لمَّا خَرَج المصريون ليلقوا نظرة الوداع على سلطانهم (طومان باي) قام الجنود العثمانيون بشنقه على باب زويلة، وصرخ عليه الناس صرخةً عظيمة وكثر الحزن والأسف عليه”، حيث ظلَّت جثَّته مُعلَّقة لمدة ثلاثة أيام”، كما يقول ابن إياس. كما يتسع الأمر إلى المذابح المعنوية التي شملت تجريف المجتمع المصري من أبناءه بنقل الآلاف من الصُّنَاع المَهرةِ والحرفيين. ولم يقتصر الأمر على مِصرَ، فقد تواصلت المذابح التي ارتكبها العثمانيون، مثل “مذبحة كربلاء” بالعراق عام 1842م، و”مذبحة القسطنطينية” 1851م ضد المسيحيين اليونانيين، و”مذبحة سفر برلك” بالمدينة المنورة عام 1914م، وما يعرف بـ “مذابح سيفو” التي كانت ضد المسيحيين السريان (الآشوريين) والكلدان فيما بين 1914م و 1920م ويقدر ضحاياها بنصف مليون شخص، وغيرها من الأحداث المُمَاثلة.

الأرمن في آتون صراعات القوى الكبرى
لأسبابٍ تاريخيةٍ في إطار سياسات الدولة العثمانية، حَظي الأرمن بمكانةٍ متميزةٍ في المناطق التي كانوا يوجدون فيها؛ فقد اشتغل غالبيتهم في الحِرَف اليدويةِ والصناعةِ والتجارة، فضلاً عن انفتاحهم على المجتمات الأوروبية. وقد أسفر ذلك عن تبوأهم مكانة متميزة بين مكونات الدولة العثمانية، حيث أصبح نحو 75% من المراكز الحرفية والصناعية، إضافة إلى التجارة الداخلية والخارجية في يد الحرفيين الأرمن والكرد، مما قرَّب بينهم وجعلهم عرضةً لاضطهاد الدولة العثمانية؛ ففي رسالة سِرِّيةٍ مؤرخةٍ في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 1912، كتبها كاهن أرمني من “موش” (منطقة تقع شرق الأناضول)، يقول فيها “إنهم (أي العثمانيين) يَنهبون الفلاحين الأرمن والكُرد معاً بحجة ضريبة العشر”، وهو ما يؤكد على تَسَلُّطِ العثمانيين على الأكراد والكرد، كغيرهم.
بجانب ذلك، فقد تفاعل الأرمن مع ديناميات التحالف والصراعات التي شهدها القرن التاسع عشر بين القوى الدولية الكُبرى المؤثرة في هذه الأثناء (روسيا، إيران، الدولة العثمانية، انجلترا، فرنسا وألمانيا وغيرها)؛ فقد شهدت الفترةُ بين عامي 1826-1828م حرباً بين روسيا وإيران، وقد انحاز الأرمن في هذه الحرب إلى روسيا، مما انتهى بِضَمِّ جزءٍ من الأرمن لروسيا عَقِب هزيمة إيران. كما تم التوقيع على معاهدة “تركمانجاي” التي توحَّدت بموجبها مناطق “ريفان” و “نهجيفان” مع ولاية إرمينا، كما أسفر ذلك عن توسيع النفوذ الروسي في منطقة البلقان، فضمَّت روسيا ولاية “أرضروم” التركية. وعند اندلاع الحرب الروسية العثمانية (1877-1878م) سعت روسيا للاستفادة من الأرمن، وقد انتهت هذه الحرب بتوقيع معاهدة “سان استيفانو” في 3 مارس/ آذار 1878م، والتي نَصَّت في أحد بنودها على الاعتراف بنوع من “الحكم الذاتي” للأرمن، لكن الدول الأوروبية (وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا) لم تقبل بهذه الاتفاقية، وذلك من قَبيل التصدِّي لسيطرة الروس على البلقان. وفي المقابل سعى العثمانيون للقضاء على مناطق الحكم الذاتي التي تمكن الأرمن من إقامتها مثل “قليم زيتون” الأرمني”. وفي هذه الأثناء عمل الأرمن على تأسيس الأحزاب مثل حزب “الأرميناج” وحزب “هانشاك”، بالإضافة إلى حزب “الطانشاق” في عام 1890م، الذي اتخذ النهج الثوري وانتهج العمل المسلح ضد الدولة العثمانية.
القوميون وتوظيف الدين لإبادة الأرمن
تزامن الصراع بين روسيا والقوى الأوروبية ومعه الدولة العثمانية مع تنامي الحركات القومية العثمانية المُتطرفة التي مثَّلَتها “جمعية الاتحاد والترقِّي، والتي امتزجت بداخلها المشاعر القومية والدينية وتوظفت لخدمة الصراع وإضفاء الطابع الديني عليه، فأعلنت الجمعية، وبدعمٍ من السلطان العثماني “محمد رشاد” (1844-1918) ما سُمِّي بـ “الجهاد المقدس” ودعوة المسلمين لمواجهة الروس والأرمن (المسيحيين)، وعلى إثر ذلك بدأت في عام 1914 أعمال الإبادة بقتل أعدادٍ كبيرةٍ من الأرمن المشاركين في الجيش التركي وطردهم بحجةِ أن بإمكانهم مساعدة الروس، والتي يُقدرها البعض بـ “150 ألف جندي”، وقد تواصلت أعمال التهجير القسري للأرمن الأقاليم الأرمنية إلى سوريا والعراق ومناطق أخرى، والقتل الجماعي بأعدادٍ كبيرة، قد بلغ الأمرُ ذروته في عام 1915م، حيث يكاد يجمع المؤرخون على تقدير أعداد الضحايا بحوالي مليون ونصف، وذلك على اعتبار أنه كان يوجد مليوني أرمني يعيشون في الدولة العثمانية عند بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وقد انخفض عددهم إلى 400 ألف فقط في عام 1922م.
ورغم اعتراف مصطفى كمال أتاتورك (1881م-1938م)، أول رئيس لتركيا بعد انهيار الدولة العثمانية، عند افتتاح البرلمان التركي في 24 أبريل (نيسان) 1920م، بأن ما تعرَّض له الأرمن هو “عارٌ من الماضي”، إلا أن كافة الحكومات التركية المتعاقبة، بما فيهم أتاتورك نفسه، دأبوا على على إنكار ورفض الاعتراف بـإبادة الأرمن، ومحاولة إخفاء هذه الأحداث من الذاكرة التاريخية للدولة العثمانية بكافة السبل، وقد تمثل أحد مظاهر ذلك في إقرار الحكومة التركية، في عام 2005، مادةً قانونيةً تُجَرِّم الاعتراف بهذه “الإبادة” بين أفراد الشعب التركي.
الاعتراف الدولي بإبادة الأرمن وتبعاته
رُغم انكار الدولة التركية لجريمة “إبادة الأرمن”، إلا أن ثمة تزايداً ملحوظاً بين دول العالم بهذه الجريمة، يمكن الإشارة إلى بعض مؤشرات ذلك فيما يلي:
• وصل عدد الدول التي اعترفت بها إلى 30 دولة، من بينها فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولتوانيا وبلغاريا وهولندا وسويسرا واليونان والأرجنتين وأوروغواي وروسيا وسلوفاكيا والنمسا، وكانت آخرها وأبرزها الولايات المتحدة، حيث أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 24 أبريل 2021، مرسوماً بالاعتراف بـ “مذابح الأرمن” كـ “إبادة جماعية” Genocide، وكان الكونجرس الأمريكي قد أقرَّ في مارس 2010 قراراً يقضي بالإعتراف بالأرمن. كما وصف الرئيس الألماني يواكيم غاوك، هذه الأحداث بـ “جريمة إبادة”، وفي 24 أبريل 2015م، شارك الرئيس الروسي فلاديمير في حفل تأبين أُقِيمَ بالعاصمة الأرمينية “بريفان”لإحياء الذكرى المئوية لمذابح الأرمن، وقد أكَّد بوتين على دعم روسيا للتوجه الدولي بالاعتراف بهذه الجرائم.
• اعترف بهذه “الإبادة” عددُ من المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، والبرلمان الأوروبي، ومجلس أوروبا، ومجلس الكنائس العالمي، وغيرها. كما ان ثمَّة العديد من المؤسسات الأكاديمية التي تعترف بها، مثل “الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية” في 1997م، وفي عام 2007م، قامت جمعية أوروبية تحمل مسمى “من أجل الإنسانية” بتقديم رسالة وقِّع عليها 53 شخص من الحائزين على جائزة “نوبل” أكدو فيها على اعتبار هذه المذابح “إبادة جماعية”.
• تُجَرِّم القوانين المحلية إنكار جريمة إبادة الأرمن، في بعض دول هناك العديد من دول العالم تجرم إنكار هذه الجريمة مثل فرنسا وسويسرا واليونان وقبرص وسلوفاكيا. بجانب ذلك، يوجد زهاء 135 نُصباً تذكاري لضحايا هذه الإبادة في نحو 25 دولة حول العالم.
في ضوء ذلك، ينطوي الاعتراف الدولي المتزايد بجريمة إبادة الأرمن على أزمةٍ حقيقيةٍ تواجها الدولة التركية، باعتبارها وريثاً للدولة العثمانية، حيث تقف امام العالم في موقف المدان بجرائم ضد الإنسانية تاريخية، وهوما يستتبعه، بالضرورة، مطالبات لجماعات أخرى، غير الأرمن، تعرضوا لمثل هذه المذابح. ففي عام 2010م، نظرت إحدى المحاكم الأمريكية دعوى ضد تركيا تطالب بـ65 مليون دولار كتعويض على مذابح الأرمن، لكن نظرا لعدم اعتراف الولايات المتحدة، آنذاك، رسميا بهذه الإبادة خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما”، افتقرت الدعوى للسند القانوني، فقررت المحكمة حفظها، لكن بعد اعتراف الرئيس الحالي “جو بايدن” في 24 أبريل 2021م، يبدو أنه قد توفر ذلك السند القانوني المطلوب لمثل هذه الدعاوى بالولايات المتحدة، الأمر الذي يمكن معه أن نتوقع عودة مثل هذه الدعوات أمام القضاء الأمريكي.
الأجيال الجديدة ومحاولة “تلميع” الهوية “العثمانية”
بجانب المخاوف الناجمة عن الضغوط المترتبة على اتساع نطاق الاعتراف الدولي بجرائم الدولة العثمانية بحق الأرمن، تبرز أزمة الحفاظ على الصورة الذهنية لـ “الهوية العثمانية” كمصدرٍ للفخرِ والاعتزاز، تسعى النُخَب القوميةُ الحاكمةُ في تركيا منذ عام 1923م لترسيخه لدى الأجيال الجديدة، ولتجنب أيةِ مُؤثِّراتٍ سلبيةٍ تشوهها، ومن هنا يأتي حرص الدولة التركية للتصدي لكل ما يَمِسّ بهذه الصورة المثالية المزعومة لتاريخ الدولة العثمانية، بكافة السُبل.
غير أن ما كان ممكنا في الماضي، لم يعد بالإمكان الحفاظ عليه في عصر “القرية الكونية”، و”المعلوماتية” التي أصبحت مدججة بالوسائط الناقلة بالحقائق التاريخية والمعلومات التي تسعى من خلالها الأطراف المختلفة، كالأرمن وغيرهم، لسرد قصتهم بكافة السبل. وبالتالي، فمع اتساع حركة الترجمة وانتقال المعرفة حول العالم، لم يَعُد بالإمكان إخفاء مثل هذه الحقائق عن العالم وفي القلب منه الأجيال التركية الجديدة، لتبقى مثل هذه الأحداث راسخة في ذاكرة الإنسانية لا يمكن محوها.