بعد تجميد البرلمان إلى أين يتجه إقليم كردستان العراق؟!

تحليل: د. طه علي أحمد .. أعلنت المحكمةُ الاتحاديةُ العُليا في العراق مُنذُ أيامٍ قليلةٍ (30 مايو)، عَدَم دستورية “قانون استمرار الدورة البرلمانية بإقليم كردستان العراق” رقم 12 لسنة 2022، الذي صدر عن برلمان الإقليم في 19 اكتوبر 2022، وهو ما يَعْني تَجْميد عَمَلَ البرلمان وبُطلان كافةِ القرارات والقوانين التي أقرَّها منذ أكتوبر 2022.
المُتَأملُ في واقع الأزمة السياسية التي يَعيشَها إقليم كردستان العراق، شبه المستقل منذ عام 2003، في الآونة الأخيرة، بالإضافة للإطارِ التشريعي الناظم للإنتخابات في الإقليم، يجد أن قرار المحكمة الاتحادية الأخير إنما كان متوقعاً. فقانون انتخاب البرلمان في الإقليم رقم 1 لسنة 1992، ومن قَبْلِه الدستور العراقي نفسه، يؤكد على ان الدورة البرلمانية تنتهي في آخر السنة الرابعة بما يعني أن التمديد الذي حدث في اكتوبر 2022 كان بالمخالفة لهذا القانون. ورغم تكرار تمديد أعمال البرلمان لعدة مراتٍ منذ عام 1992، لكنَّ المرات السابقة لم تشهد لجوءَ أي من القوى السياسية إلى الاحتكام للمحكمةِ الاتحادية، حيث اعتادت تلك القوى على تمديد أعمال البرلمان بالتوافق فيما بينها، ولِمُدَدٍ مُحدودةٍ لم تكن تصل إلى سنةٍ كما حدث في المرة الأخيرة. وبالتالي، فقد بدا اللجوء للمحكمة الاتحادية وكأنه نتاجاً لفشل القوى السياسية في التوافق على عددٍ من القضايا مثل النظام الانتخابي وتعديل قانون الانتخابات، والكوتة ومفوضية الانتخابات وغيرها.
الأزمةُ البرلمانية وتعقيد المشهد السياسي
تعكس أزمةُ البرلمان في كردستان العراق واقعَ الخصومة السياسية والصراع الذي يشهده الإقليم، بين أكبر كتلتين سياسيتين تقودهما العائلتان الأكبر في الإقليم، وهما “الحزب الديمقراطي الكردستاني (45 مقعد وتقوده عائلة البرزاني) وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني (21 مقعد وتقوده عائلة الطالباني). وقد احتدم الخلاف مع إعلان نائب رئيس حكومة الإقليم “قوباد الطالباني” ووزراء حزب الاتحاد الوطني الكردستاني تجميد مشاركتهم في اجتماعات حكومة الإقليم منذ أكتوبر 2022، حيث اغتيل ضابط المخابرات هاوكار عبد الله رسول، والتي أعقبها سلسلةٌ من الحوادث التي أثَّرت على عملية تقاسم السُّلطة بين الحزبين الكبيرين في الإقليم. وفيما يشبه عودة الوئام بين الجانبين، الطالباني والبارزاني، بوساطةٍ أمريكيةٍ تَمَّت أثناء زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدني لأربيل قبل ذلك بأيام، لكن التوافق بين الجانبين لا يزال بعيد المنال؛ فرغم تعهد الحزبين بإجراء الانتخابات البرلمانية في الإقليم في نوفمبر 2023، إلا أن شجاراً بالأيدي وقع بين نواب الحزبين داخل البرلمان الإقليمي أخيرا (22 مايو)، خلال مناقشات بشأن اللوائح الانتخابية.
يرتبط جوهر هذا الصراع المتداخل والمُعَقَّد بالأساس إما بالرغبة في السيطرة على مناطق تركز الثروة النفطية أو بتوزيع تخصيصات الموازنة. وكانت حكومة إقليم كردستان أعلنت منذ أيام (في 27 مايو)، معارضتها لبعض التغييرات التي أجرتها الحكومة المركزية على مشروع قانون الموازنة الاتحادية بسبب ما اعتبرته “انتهاكا لحقوق الشعب الكردي”، وكانت الحكومة العراقية قد صوَّتت على مشروع قانون موازنة 2023، بقيمة 197 تريليون دينار عراقي (135.6 مليار دولار)، لكن اللجنة قد صوَّتت أخيراً على تعديل فقرات متعلقة بالإقليم تُلزِمُه بتسليم النفط المستخرج أراضيه إلى شركة تصدير النفط الاتحادية “سومو” لِتَتوَلَّي عمليات تصديره وفتح حساب خاص بذلك في البنك المركزي العراقي، كما صوَّتَت اللجنة على إلزام سلطات الإقليم بدفعِ 10% شهرياً من الرواتب المُسْتَقْطَعَةِ لموظفيها وإعادتها إليهم، لكن حكومةَ كردستان العراق أبدت اعتراضها في بيانٍ رسميٍ مُعْتَبِرةً أن هذه التغييرات “ضد الإقليم”، وأعلنت أنها لن تلتزم بهذه التغييرات.
وفي خضم هذا المشهد يُبْرُز صراعٌ دائرٌ منذ عام 2014 بين الحكومةِ المركزية في بغداد وحكومةِ الإقليم، فرغم أن الدستور العراقي قد أعطى الحق لإقليم كردستان العراق الحصول على جزءٍ من الميزانية الوطنية، إلا أن حكومة الإقليم اتجهت في عام 2014 نحو بيع النفط الخام المُسْتَخَرَج من الإقليم عَبْر تركيا دون العودة للحكومة الاتحادية في بغداد، وقد لجأت الأخيرة للتحكيم أمام غرفة التجارة الدولية في باريس، وقد حَصَلَت بالفعل، في مارس الماضي، على قرارٍ لصالحها يقضي بتعليق الصادرات إلى أنقرة، وإلزام حكومة أربيل بالعودة للتفاوض مع الحكومة الاتحادية والالتزام باتفاقية “خط الأنابيب العراقية التركية” الموقعة في 2 أغسطس 1973.
كما أن هناك خلافٌ حول تقسيم الدوائر الانتخابية، كما لا يغيب عن المشهد شبحُ التدخلات الخارجية لاسيما مع استمرار الهجمات العسكرية التي تَشِنَّها تركيا بين الحين والآخر لملاحقة عناصر “حزب العمال الكردستاني” في مناطق جبل قنديل وغيرها بإقليم كردستان شمالي العراق.
النزيف الاقتصادي والمناورة التركية
مع توقف صادرات النفط المستخرجة من الإقليم عبر ميناء جيهان التركي، والتي تُقَدَّر بنحو 450 ألف برميل يوميا، تُقَدَّر الخسائر التي يتكبدها إقليم كردستان العراق بنحو مليار دولار شهرياً. ورُغم اتفاق الحكومة في بغداد مع تركيا على استِئْنَافِ ضَخِّ النفط، إلا أن الأزمة لا تزال قائمة مع إبلاغ أنقرة لبغداد بأنها بِصَدَدِ إجراء صيانةٍ لأنبوب النفط، فضلا عن انشغالها بالانتخابات الرئاسية التي انتهت في 28 مايو الماضي. لكن تأخُّر استئناف ضَخِّ النفط من جانب تركيا، ربما يرجع لإدراك أنقرة بأن قرار التحكيم الأخير ينطوي على إضرار تَمِسَّها، وخاصةً أن قرار غرفة التجارة في باريس يقضي بأن تدفع تركيا 50% من قيمة الخَصْمِ الذي حَصَلَت عليه أنقرة عندما اشترت النفط من خلال حكومة كردستان (تقدر بنحو 1.5 مليار دولار)، بما يخالف “اتفاقية خط الأنابيب العراقية التركية”، وبالتالي فرُغم إقرار أنقرة بالتزامها بنتائج حكم التحكيم، إلا أن ثمةَ قدراً من المناورة التي تَكْتَنِفُ الموقف التركي.
أخيرا، فبموجب قرار المحكمة الاتحادية الأخير، يصبح إقليم كردستان العراق بدون سُلْطةٍ تشريعيةٍ، كما تتحول حكومتة الحالية إلى “حكومة تصريف أعمال”، وبالتالي رُبَّمَا يدفع هذا القرار الأحزاب السياسية في الإقليم لتوفيق أوضاعها والتوافق فيما بينها للتعجيل بإجراء الانتخابات البرلمانية، حتى يخرج الإقليم من نَفَقِ الأزمةِ الراهِنة، وكان رئيس الإقليم، “نيجرفان بارزاني”، قد حدَّد قَبْل أسابيع موعد إجراء الانتخابات البرلمانية في يوم 18 نوفمبر المقبل، وذلك بموجب القانون رقم 1 لسنة 2005 المُعَدَّل لقانون رئاسة الإقليم، لكن التطورات الأخيرة ربما تدفع نحو إجراءات استثنائية من جانب الأحزاب السياسية في الإقليم.