في الذِكرَى المئويِّة: الحَقُّ الكُرْدي بين مُعاهدتي سيفر ولوزان
تحليل د. طه علي أحمد، تَحِلُّ هذه الأيام الذِكرى المئوية لـمعاهدةِ “لوزان” التي تُعَدُّ إحدى الركائز التي قام عليها النظام الإقليمي بالشرق الأوسط وشرق المتوسط، حيث أفضَت هذه الاتفاقية عن تأسيس ما عُرِفَ بـ “الجمهورية التركية” وتعيين حدودها خَلفاً للإمبراطورية العثمانية التي أصابها التَحَلُّل والانهيار آنذاك. ورُغمَ ما يعتبره الأتراك انتصاراً في المعارك التي قادها مصطفى كمال أتاتورك بين 1918 و 1923، والتي جاءت اتفاقية لوزان في ضوء نتائجها، إلا أن النُخبةَ القوميةَ الحاكمةَ في تركيا ترفع شعار التمرُّد على هذه الاتفاقية وتسعى للتوسع الإقليمي على حساب دول المنطقة فيما يُعرَف بـ “العُثمانية الجديدة” التي يرتكز عليها الخطاب السياسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مُتجاهلا الواقع الجيوسياسي التي ترسَّخ على مدار عَقدٍ من الزمان بعد اتفاقية لوزان.
وكأي قوميةٍ لها الحق في العَيْش والتعبير عن ذاتها وتمثُّلات ثقافتها، يسعى الكرد تاريخياً لتأكيد هذه الحقوق، غير أن خضوع القضية الكردية تاريخياً لتوجهات القوى الاستعمارية في الشرق الأوسط، جعل هذا الحق الكردي أحد القضايا المطروحة عند أية ترتيبات إقليمية بالمنطقة، فقبيل اتفاقية لوزان، ظهرت اتفاقية سيفر عام 1920، لتؤكِّد بين بنودها على حَقِّ الكرد في إقامة كيانٍ لهم في المناطق ذات الأغلبية الكردية، غير أن تراجع القوى الدولية عن وعودهم والانقلاب على اتفاقية سيفر، والاعتراف رسمياً بحدود تركيا رسمياً، وتأييدهم لأتاتورك في سياساته القمعية ضد الكرد والأرمن وغيرهم، كل ذلك أصاب الحق الكردي في مقتل حينما خَلَت بنود معاهدة لوزان من أي إشارةٍ واضحةٍ حول الحقوق القومية الكردية.
معاهدة سيفر
عَبَّرت معاهدة سيفر SEVER، التي وُقِّعَت بباريس في 10 أغسطس 1920، عن واقعِ ميزان القوى العالمي الذي أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى (1914 – 1917)، فقد أُرْغِمَ السلطانُ العثماني، تحت قوةِ المدافع، على التوقيع على هذه المعاهدة لإرساء الترتيبات الجديدة لبيئةِ ما بعد الحرب، حيث كانت النَغمةُ السائدةُ آنذاك هي الدوران في فَلَكِ التقسيم الجيوسياسي الشامل لمناطق النفوذ العثمانية بين القوى الأوروبية المُنتَصرة في الحربِ وِفقاً لعددٍ من الاتفاقات السِرِّيةِ السابقة، كما قامت هذه المعاهدة على أساسِ مُخرجات مؤتمر “سان ريمو” الذي عُقِد في 25 أبريل 1920 بغرضِ تسويةِ القضايا العالِقة بانهيار الدولة العثمانية، وفي مقدمتها نَفْطِ العراق. وضِمْن مقرَّرات هذه المعاهدة، تم النَصُّ على قيامِ دولةٍ كردية، وأُخرى أرمنية في شرق الأناضول، ودولةٍ سوريةٍ ودولةٍ عراقيةٍ، ودولةٍ عراقيةٍ تكون عاصمتُها مكة، وقد عَهَدَت الاتفاقية بإدارة فلسطين إلى قوةٍ مُنتدبةٍ تعمل على إنشاء “وطن قومي لليهود”، بالإضافة لترتيباتٍ جيوسياسيةٍ إقليميةٍ أخرى بين دول المنطقة. أما فيما يخص المسألة الكردية فقد نَصَّت الاتفاقيةُ على ما يلي:
• المادة رقم (62) أوضحت وجوب العمل لوضعِ خطةٍ للحكمِ الذاتي المحلي للمناطق التي تسكنها أغلبية كردية شرقي نهر الفرات وجنوب الحدود الأرمينية وشمال الحدود بين تركيا وسورية والعراق.
• المادة (63) تَنُصُّ على وجوبِ موافقةِ الحكومة التركية على ما يتم التوصُّل إليه بهذا الشأن.
• المادة (64) تقول “إنه إذا حدث، خلال سنة من تصديق الاتفاقية، أن تقدم الكرد القاطنون في الأراضي المُحَدَّدة في المادة (62) إلى عِصبة الأمم قائلين إن غالبية سُكَّان هذه المنطقة يطلبون الاستقلال عن تركيا، ورأت عصبة الأمم قدرتهم على الاستقلال، فإن تركيا تتعهد بقبول توصية العصبة بشأن استقلالهم”.
ما سبق، يعني أنه رغم إقرار “اتفاقية سيفر” بحق الكرد في الاستقلال الذاتي، إلا أنها لم تخلو من التحفظات والشروط، حيث اشترطت إجراء استفتاء بين أهالي المنطقة الكردية على موقفهم من الانفصال عن تركيا من عدمه، كما اشترطت الاتفاقية عرض نتيجة الاستفتاء على عصبة الأمم على ان تقرر المنظمة الأُمَمِية ما إذا كان الكرد جديرين بالاستقلال من عدمه. وفيما إذا أقرت عصبة الأمم بجدارة الكرد بالاستقلال، اشترطت اتفاقية سيفر أن يتم تنفيذ ما تقرره العصبة من خلال تركيا مع الإقرار بحق كرد الموصل في الانضمام للدولة الكردية المقترحة. وهو ما يعني أن المسألة الكردية تبدو مرهونة بسياسات القوى الدولية الفاعلة على مستوى عصبة الأمم في هذه المرحلة، والأمم المتحدة لاحقاً.
بجانب ذلك، فقد تزامنت اتفاقية سيفر مع اندلاع حركةٍ قوميةٍ في تركيا عُرِفَت بـ “الكمالية” بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، والتي قامت على ستة مباديء من بينها “اعتبار القومية كأساسٍ للمواطنة التركية”، بما يعني تجاهل أية مكوناتٍ عرقيةٍ أخرى بالمجتمع التركي. وقد استفادت هذه الحركة من التطورات التي كان أهمها تنامي الحركة الثورية التحريرية العربية ضد الدولة العثمانية بقيادة الشريف حسين وولده فيصل الأول، أول ملوك المملكة العراقية (1921- 1922)، وملك سوريا (من مارس 1920 حتى يوليو 1920)، ورغم هذه الحالة الثورة ضد العثمانيين، إلا أن الكماليين استغلَّوا هذه الأجواء وقاموا بتحطيم معاهدة سيفر، حيث أدرك أتاتورك أن المسألةَ الكردية بدأت تفرض تحد جَسِيمٍ ضد وحدة الدولة التركية، فلم يتردد استخدام القوة القمعية ضد أية تحركات مطالبات حقوقية كردية.
هنا تجدر الإشارة، إلى أنه في حين تكرَّسَت أوضاعُ دول المشرق العربي في ضوء ما نَصَّت عليه اتفاقية سيفر، إلا أن الحركة الكمالية أرغَمَت الحلفاء على إبرام معاهدةٍ جديدةٍ هي “معاهدة لوزان” في 24 يوليو 1923، حيث تم تعديل الأساس الذي قامت عليه اتفاقيةُ سيفر فيما يخص الأراضي التركية وذلك في ضوء الواقع الذي ترسَّخ مع المكتبسات التي حقَّقَتها الحركة الكمالية على الأرض فيما يعرفه الأتراك بـ “حرب الاستقلال” (1918 – 1923).
معاهدة لوزان والشوفينية التركية
تجدر الإشارة إلى أن معاهدة لوزان قد جاءت في أعقاب انهيار ثلاث امبراطوريات عالمية هي الامبراطورية العثمانية، والامبراطورية النمساوية – المجرية، والامبراطورية الروسية – القيصرية، وتَشَكُّل نظام دولي جديد وِحْدَتُه الأساسيةُ هي “الدولة القومية” Nation State. بجانب ذلك، فقد جاءت معاهدة لوزان بعد ما يعرف بـ “سنوات التحول” (1914 – 1923)، والتي شهدت سلسلة من الاتفاقات التي أبرمتها الدولة العثمانية مع القوى الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا) خلال عامي 1913 و 1914، بالإضافة إلى اتفاقات سايكس – بيكو (1916)، وهي الاتفاقات التي مثَّلت أساس تقسيم الدولة العثمانية، وتجاوز ما عرف وقتها بـ “المسألة الشرقية”.
وقد حملت معاهدة لوزان مشروعاً قومياً تركياً مُتطرفاً ترجمته سياسات أتاتورك بحق المكونات التركية الأخرى في المجتمع التركي، والتي كانت تسعى للتحرر من سيطرة الأتراك كالكرد والأرمن. وبالتالي، فعلى صخرة لوزان تحطَّمت مشاريع الدولةِ الأرمنية في الأناضول، والدولة الكردية المحتملة التي بشَّرت بها معاهدة سيفر.
رغم تشدد المفاوض التركي فيما يخص القوميات الأخرى التفاوض حول لوزان، إلا أن الشكل النهائي للاتفاقية حاول الاقتراب من حماية غير الأتراك وضمان حقوقهم، فنصَّت المادة 39 منها على أن “الحكومة التركية تتعهد بمنح سكان تركيا الحقوق التامة لحياتهم وحريتهم دون تمييز في الأصل والقومية والدين والعرق، كما نصَّت المادة 39 على: “لا تصدر أية مضايقات ضد المواطنين في تركيا بشأن الاستخدام الحر لأية لغة كانت سواء في العلاقات التجارية، أم في مجال الدين والإعلام والمؤلفات المطبوعة من أي نوع كانت أو في الاجتماعات العامة”. رغم ذلك، إلا أن كافة جوانب الإطار التشريعي والممارسات السياسية والأمنية للدولة التركية بعد لوزان قد أكَّدت على مخالفة الحكومات التركية المتعاقبة لهذين البندين (38) و(39)، وتطرفت بقدر من الإجحاف تجاه القوميات غير التركية وبخاصة الكردية.
فرغم الدور الذي لعبه الكرد في حركة الاستقلال التركية بعد الحرب العالمية الأولى، إلا أن طموحاتهم في حل المسألة الكردية على أساس الحكم الذاتي للشعب الكردي ضمن الدولة الواحدة قد أحبطت من قِبَل الحكومة التركية الجديدة التي تجاهلت حقوقهم القومية. فما إن استقرت أوضاع مصطفى كمال أتاتورك في السلطة، وتمَّت عملية بناء الدولة التركية الجديدة، إلا وانقلب أتاتورك على الكرد الذين كانوا جزءاً فاعلاً في عملية بناء الدولة.
نتيجة لذلك، كان من الطبيعي أن تندلع سلسلة من الثورات والحركات المسلحة ابتداءً من ثورة الشيخ سعيد عام 1925، وانتفاضة آرارات (1927 – 1931)، وانتفاضة ديرسيم (1936 – 1938). إلا أن أتاتروك تمكن من قمع هذه الثورات، وقد تحقق ذلك نتيجة لعدة أسباب منها ما يلي:
• تفوق تركيا عسكرياً واقتصادياً، حيث استخدام الأتراك لسلاح الطيران
• مساعدة إيران للأتراك، فقد سمحت لهم باستخدام الأراضي الإيرانية بهدف شن الهجوم على المقاتلين الكرد، بل وسمحت إيران للجيش التركي بدخول أراضيها لتمشيطها بحثاً عن الثائرين
• التحديات الميدانية التي واجهت الكرد مثل نفاذ المؤن وعدم وجود دعم خارجي، مما جعل بنهاية هذه الانتفاضات.
• وقوف الدول المجاورة موقفاً سلبياً من هذه الانتفاضات، وحرمان الكرد من المساعدات الخارجية.
• عدم وجود حزب طليعي ثوري يستوعب الحركة الكردية ويقودها.
وفي إطار النهج القمعي، لم يقف أتاتورك عند استخدام القوة لقمع الكرد، بل شنَّ حملات واسعة لإزالة معالم القومية الكردية وصهر كل ام له علاقة بالثقافة الكردية من خلال عدة إجراءات من بينها ما يلي:
• مَنْع تأسيس الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية الكردية
• إغلاق المدارس والنوادي الكردية.
• حظر نشر الكتب والصحف والمجلات باللغة الكردية.
• منع استخدام اللغة الكردية بل إن أتاتورك أنكر هذه اللغة تماماً.
• وحظر ارتداء اللباس القومي الكردي وغير ذلك مظاهر الثقافة الكردية.
• تبديل أسماء المدن والبلدان من الكردية إلى التركية، وذلك اعتباراً من 27 مايو 1960.
• اعتقال المئات من الزعماء الكرد ونقل المعارضين الكرد إلى مناطق أخرى، وهو دفع الكرد نحو العمل السري منذ عام 1980 نتيجة لحظر أنشطتهم بشكل رسمي.
بجانب ذلك، نَصَّت المادة 25 من الدستور التركي الصادر عام 1924 على اعتبار اللغة التركية لغة البلاد الرسمية، وأعطت المادة 10 حق الانتخاب لكل تركي بلغ عمره 22 سنة، كما أعطت حق الترشح للبرلمان لكل تركي بلغ من العمر 30 سنة، كما نصَّت المادة 88 على أن جميع سكان تركيا، بغض النظر عن دياناتهم وقومياتهم “أتراك”، وهو ما يعني أن البنية التشريعية التي قامت عليها الدولة التركية قد تجاهلت وجود أية قوميات أخرى غير التركية تعيش بداخل البلاد.
كما لم يشهد الإطار الدستور الرافض للحقوق القومية الكردية في تركيا أي تطور ملحوظ، إذ لم تنص الدساتير التي صدرت في الأعوام 1924، و 1961، و 1982، على أية حقوق للقومية الكردية، ولم تميز المكون الكردي باعتباره قومية أخرى غير القومي التركية، وإنما اعتبرت الشعب التركي شعباً واحداً ليس فيه قوميات أخرى. وبزعم تحقيق وحدة التلاحم التركي، أكدت الدساتير التركية على دور العسكري في الحفاظ على التكامل الإقليمي والأمة التركية في مواجهة التهديدات بما اعتبرته “تمزيق الدولة، وإغراق الأمة في بحرٍ من الدماء”. وقد أوكَلت آلية مهمة صيانة المبادئ الأتاتوركية والتصميم على حماية الوجود المستمر ورفاهية الدولة التركية. وهو ما يفسر الموقف الحازم من جانب المؤسسة العسكرية التركية ضد القضية التركية، وقمع أي نشاط كردي بزعم أنه ينطوي على تهديد وحدة الإقليم التركي، ويمهد للانفصال عنه.
وفي هذا السياق، فإن بُنية النظام الذي مثَّلت معاهدة لوزان، ومن قبلها معاهدة سيفر أحد دعائمه، لا تزال هي الإطار الذي يحكم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وإن كانت البنية المؤسسية القانونية الدستورية قد تعرَّضت لتغيرات شديدة، إن هذه البنية لا تعدو كونها نظاماً اتحادياً للطائفية السياسية في دول “المشرق العربي”، لبنان وسوريا والعراق، وبالطبع تركيا وكذلك إيران.
وأخيراً، يبقى القول بأن اتفاقية لوزان، ورغم مزاعم حرصها على ضمان حقوق القوميات غير التركية (كالكردية والأرمنية وغيرها) وتأمينها، بما يَكْفُل العَيش المُشترك، ويُعَزِّز الاندماج الوطني في المجتمع التركي، إلا أنها ظلَّت عاجزةً عن ضمان ذلك، أمام تطرف النخب القومية المتعاقبة منذ أتاتورك حتى أردوغان، وهو ما يتجلى في رفض الحكومات التركية المتعاقبة لأية دعاوى حقوقية كردية بل واعتبارها خطراً يهدد وحدة الجغرافيا التركية.
لكن ذلك، لا يمنع القول بأن اتفاقية لوزان، وكغيرها من الاتفاقيات الدولية المزامنة لها، قد عكست واقع لتوازن القوى بالشرق الأوسط في مرحلة زمانية معينة (بعد الحرب العالمية الأولى)، ورغم رسوخ هذا الواقع على مدار قرن من الزمان، إلا أن هذا الواقع يبدو حاليا أشد قابلية للتغيير بما يواكب توازنات القوى في الوقت الراهن، وهو ما دأب الرئيس التركي على التصريح به، الأمر الذي يعزز احتمالية أن تُقْبِلَ منطقة الشرق الأوسط على تطورات درامية من شأنها تغيير هذا الواقع وتلاشي اتفاقية لوزان إلى الأبد.
*باحث في شئون الشرق الأوسط وسياسات الهوية