دراسات

عمليةُ جِنين وفشل سياسةُ الردع الإسرائيلي

تحليل د. طه علي أحمد .. لا تنفصل العلميةُ العسكريةُ التي شَنَّتَها قوات الاحتلال الاسرائيلي على “مُخَيم جِنين” بالضفةِ الغربية، في 3 يوليو الجاري، عن الأجندة التصعيدية لحكومة نيتنياهو اليمينية الأشد تطرفاً في تاريخ إسرائيل، فقد شارك في هذه العملية نحو ألفين جندي، واستُخْدِمَت فيها “الجرافات المُجَنزَرة” العملاقة “دي 9″، وانضمَّت إليها نحو 150 آلية عسكرية، كما شاركت، للمرة الأولى، 6 طائرات مُسَيَّرة لقصف أهدافٍ في المُخيم، وأسْفَرَت العمليةُ عن عددٍ كبيرٍ من الضحايا (تجاوز 10 شهداء، و إصابة أكثر من مائة)، وقد تبع ذلك تعطل الحركة وإضرابٌ شاملٌ بين المدن الفلسطينية. وهو ما وصفته وزارة الخارجية الفلسطينية بأنه حرباً مفتوحة على أهالي جنين، وأدانته جامعة الدول العربية، وحذَّر منه أطرافٌ دولية مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا وغيرها.

وفي حين تمثَّلت أهداف عملية جنين الأخيرة، التي وصفها المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي بـ “الإستباقية”، في ضرب مخازن الأسلحة ومُلاحقة مطلوبين لدى السلطات الاسرائيلية، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي دأب على الدفاع عن حكومته المتهمة من جانب المعارضة الاسرائيلية بـ “التَخَبُّط الاستراتيجي” و”غياب الرؤية”، تحدَّث عمَّا يُسَمِّيه بـ “سياسة الردع”، حيث قال نتنياهو قبل العملية الأخير بأيام “واهم من يظن أنه لا يوجد لدينا استراتيجية منذ عملية “حارس الأسوار” في 2021، إذ لم تطلق حماس أية قذيفة صاروخية تجاه أراضينا، وتسبَّبَت هذه الاستراتيجية في تغيير معادلة الردع وهذا مستمر منذ عامين وسينطبق على حركة الجهاد الإسلامي قريباً، وهو ما حمل إشارةً مُسْبَقةً على اقتحام مخيم جنين باعتباره هدفاً استراتيجياً بالنسبة لحكومة نتينياهو.
لماذا جنين؟!

تأسَّس مُخَيَّم جنين عام 1953، على مساحةٍ تُقَدَّر بنحو 420 ألف متر مربع في مدينة جنين، شمال الضفة الغربية، لإيواء فلسطينيين تم تهجيرهم إجباريا من مناطق حيفا والكرمل والقرى المجاورة لها عام 1948. ولمخيم جنين تاريخٌ من الاستهداف كان أشهر محطاته في عام 2002، فيما أطلَقَت عليها سلطات الاحتلال مُسمَّى “السور الواقي”، وقد استُشْهِد خلالها ما لا يقل عن 52 فلسطيني، وقُتِلَ 23 جندياً إسرائيلياً.
في عام 2021، ظهرت في المخيم “كتيبة جنين”، التابع لسراي القدس، الذراع المسلح لحركة الجهاد الإسلامي، وهو كيانٌ عابِرٌ للتنظيمات المعروفة في فلسطين حيث يضم عناصر من تنظيمات فلسطينية عديدة. وقد ظهر هذا التنظيم عقب معركة “سيف القدس” وعملية “نفق الحرية” في العام ذاته. ويبدو أن هذا التنظيم قد نجح في تجاوز التمايزات بين الفصائل، وتمكَّن من صُنْعِ قنابل محلية وعبوات ناسفة الأمر الذي أكسبه صلابةً في مواجهة قوات الاحتلال، مما دفع السلطات الاسرائيلية لاعتبار مخيم جنين ذات أولوية استراتيجية في منظومة الأمن القومي الإسرائيلي. ولهذا، تعرَّضَت مدينةُ جنين، منذ بداية العام 2023، لنحو 20 نشاطاً عسكريا للاحتلال، حيث شهد شهرُ يناير اقتحامات يومي 19 و 26 أسفرت عن استشهاد نحو 11 فلسطيني، وفي مارس سقط 6 شهداء، وفي يونيو سقط نحو 10 آخرون، وأخيراً جاءت العملية الأخيرة في 3 يونيو، والتي انطلقت بعد اجتماع رئيس الوزراء الفلسطيني، في 23 يونيو، مع قادة الجيش الاسرائيلي وقادة جهاز الأمن العام (الشاباك)، حيث تبنَّى نتنياهو شَنَّ عمليةً عسكريةً ضد المخيم بهدف مُعلن تمثَّل في ضرب بنية المقاومة التي تُشِكِّل أرقاً لسلطات الاحتلال بمُخَيم جنين.

السلطات الاسرائيلية، إذن، تتبع ما يصفه بنيامين نتنياهو بـ “سياسة الردع” لاقتلاع جذور المقاومة من بين الشعب الفلسطيني، غير أن اعتماد هذه السياسة على “البُعْدِ الأمني” وتجاهل الجوانب السياسية قد أكَّد على حتميةِ فَشَلِها، وهو ما عبَّرت عنه عمليةُ الدهسِ التي شهدتها تل أبيب، في اليوم التالي على أحداث جنين (4 يونيو)، والتي قالت السلطات الاسرئيلية أن منفذها هو أحد أبناء الضفة الغربية، من منطقة الخليل. ويؤكد ذلك على فشل سياسة الردع التي تعتمدها حكومة نتانياهو المتطرفة. فرغم مشاركة اسرائيل في اجتماعين خماسيين ضمَّا كلا من مصر والأردن والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية، في 26 فبراير و19 مارس 2023، وإعلان تل أبيب الالتزام بضرورة التهدئة ووقف التصعيد مع الاتفاق على الالتزام الاسرائيلي بوقف الاستيطان، رغم ذلك، إلا العملية الأخيرة في جنين، وما سبقها من أحداث مماثلة، تؤكد على نية إسرائيل المُبَيَّتة للمضي في طريق التصعيد وعدم الالتزام بأية مسارات سياسية للتهدئة.
خيبةُ الأمل الناجمة عن ذلك التَعَنُّتِ الاسرائيلي دفعت السلطة الفلسطينية لوقف التنسيق الأمني مع الجانب الاسرائيلي، وعلى مدار الشهور الأخيرة وقد أكَّدَت على ذلك السلطة، عقب العملية الأخيرة على لسان المتحدث بإسمها نبيل أبو ردينة.

عملية جنين ومخطط توسيع الاستيطان
السياقُ العام للأحداث يربط بين هذه العملية ومخططات حكومة نتانياهو بتوسيع نطاق الاستيطان، وكانت الحكومة أقرَّت في 18 يونيو الماضي خطةً لتوسيع الاستيطان وتسريعة من خلال تقليص إجراءات المصادقة على بناء المستوطنات، وجعل القرار المُتَعَلِّق بذلك في يد وزير المالية “بتسلئيل سموتريتش”، المدافع عن المستوطنات بشكلٍ مُتَطرف. ومن شأن هذه الخطة إضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية غير القانونية بما يُقَلِّل من الانتقادات الدولية الموجهة لحكومة نتانياهو في هذا الصدد.

ظاهرياً، المجتمع الدولي يحذِّر من توسيع الاستيطان، فقد أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في 20 فبراير الماضي، بياناً رسمياً أعرب فيه عن “القلق العميق والاستياء” عن خطة إعلان اسرائيل في 12 فبراير عن مزيداً من البناء والتوسع في الاستيطان، وأكد المجلس في بيانه أن “استمرار الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية يُهدد بشكلٍ خطيرٍ إمكانية حَلِّ الدولتين على أساس حدود 1967”.، وفي بيان مشترك، بتاريخ 14 فبراير، أعرب وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة عن رفضهم وانزعاجهم الشديد بهذا الصدد. غير أنه رغم تلك الإدانات الشفوية، إلا أنه لم تصدر أية خطوة معارضة للاستيطان من جانب هذه الأطراف وبخاصة الولايات المتحدة، فرغم تصريح وزير الخارجية أنتوني بلينكن بأن واشنطن “مُنْزَعِجة” من هذه الخطة وتعارضها، لكن إجراءاً يهدف لتقويضها ومعارضتها على الأرض لم يصدر من جانب واشنطن ولا بقية المجتمع الدولي على الإطلاق. وفي كلمة ألقاها رئيس الوزراء الاسرائيلي في السفارة الأمريكية بالقدس، بالتزامن مع عملية جنين الأخيرة، أكد نتنياهو على متانة التعاون والدعم المشترك بين إدارة بايدن وتل أبيب، بل إنه أشار إلى أن إدارة بايدن اطلعت على نوايا تل أبيب بشن عملية جنين الأخيرة.

اليمين المتطرف يقود إسرائيل إلى الهاوية
الحكومة الإسرائيلية بتركيبتها اليمينية المتطرفة الحالية تعكس التحولات الجارية بداخل المجتمع الإسرائيلي نحو المزيد من التطرف؛ فقد وصل الأمرُ إلى تقديم أحد أعضاء حزب الليكون في الكنيسيت واسمه “عميت هاليفي”، مسودةً قانون يتضمن تقسيم المسجد الأقصى مكانياً ليحصل المسلمون فيه على مساحة محددة للصلاة فيها (القُبَّة الرصاصية وملحقاتها الجنوبية)، بينما يحصل اليهود على المنطقة الوسطى والشمالية من المسجد، بما فيها “قُبَّة الصخرة” التي تزعم الرواية اليهودية إقامة “هيكل سليمان” فيه (تشكل 70% من المساحة الكلية للمسجد).

هذه التركيبة المتطرفة تبدو وكأنها تقود إسرائيل نحو المجهول؛ فما بين خطة الاستيطان التي تتبنَّاها الحكومة، والاقتحامات الجماعية المتكررة للمسجد الأقصى التي يقودُها وزير الأمن الداخلي، اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير، وصولاً إلى العمليات العسكرية التي يشنها الجيش الإسرئيلي، بين هذا وذاك تمضي الحكومة الاسرائيلية الراهنة نحو أفق مسدود، فمع كل جولةٍ تصعيدية ينشأ فيها جيل جديد من الفلسطينيين ذات قناعة راسخة ومتجذرة بضرورة المقاومة كملاذٍ حتمي لتحرير بلاده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى