دراسات

تطور الوَعْي القومي للكرد خلال القرن التاسع عشر

تحليل د. طه علي أحمد .. كغيرِها من الحركات القومية في الشرق الأوسط، ارتبط تطور الوعي بالقوميةِ الكردية بالسياق السياسي الذي شهدته مجتمعات المنطقة على مدار القرن التاسع عشر حيث انطلقت موجةٌ واسعةٌ من الوعي المجتمعي مع تزايد الاهتمام بالتعليم، والاحتكاك بالعالم الخارجي إما عن طريق البعثات العلمية التي دشَّنَها والي مصر محمد علي أو اتساع نطاق التبادل التجاري بين أقطار المنطقة والأقطار الأوروبية.


في حين لم يكن من المتوقع أن تنشط حركات قومية جادة قبل ذلك لعدم وجود هذا الوعي بشكل حقيقي، فشعوب الشرق الأوسط كانت تخضع لمساعي هيمنة القوى الإمبريالية المُسيطرة على العالم، والتي تجلَّت أبرز معالمها في الحملة الفرنسية التي شنَّها نابليون على مصر (1799- 1801م)، ونتيجة لذلك عاشت شعوب الشرق الأوسط صراعات داخلية ودخلت في غياهب الجهل والفقر.

وكغيرهم من شعوب المنطقة افتقر الكرد، خلال هذه المرحلة، للحركات المنظمة Organized التي يمكنها استيعاب عمل جماعي يستند لبرامج محددة، حيث كانت تغيب عنهم فكرة تكوين الأحزاب السياسية وتنظيم العمل الجماهيري إلا من خلال الطلاب الذين انخرطوا في البعثات العلمية سالفة الذكر، بالإضافة إلى سلسلة الحركات والانتفاضات التي استهدفت تحقيق الاستقلال عن السيطرة العثمانية على مدار القرن التاسع عشر والتي قوبلت في كافة الأحيان بقمعٍ من جانب السلطات العثمانية، وهو ما أثَّر بدرجةٍ كبيرة في تطور الوعي القومي خلال هذه المرحلة.

في هذا السياق، ينبغي التمييز بين الشعور القومي والوعي القومي، فالأسبقية تتحقق للأول حيث يعني الإحساس بالانتماء إلى أمةٍ معينةٍ تتميز عن غيرها، في حين يُعَدُّ الوعي القومي مرحلةً أكثر تقدماً وعُمْقًا من هذا الشعور، حيث تخرج من نطاق الإحساس بالانتماء إلى مرحلة الممارسات المُعَبِّرة عن هذا الإحساس والمؤكد للانتماء. وبالتالي، ينبغي عدم الخلط بين حقيقة الوجود القومي وهي موجودة بالفعل وبين تاريخ الوعي القومي الذي أدى إلى ظهور الحركات القومية بعد الحرب العالمية الأولى، وبخاصةٍ مع التطورات التي شهدتها الساحة الدولية مثل انتشار فكرة تقرير المصير التي غذَّتها الثورة البلشفية، والليبرالية الأمريكية التي رفَعَت رايتَها بنود الرئيس وودرو ويلسون Woodrow Wilson.

لكن ذلك لا يعني إغفال وجود الشعور القومي لدى الكرد قبل ذلك بقرونٍ عديدة، وهو ما يبدو جلياً في كتابات الشاعر الكردي التاريخي أحمدي خاني (1650- 170)، الذي يعد أحد رموز الوعي القومي الكردي في مراحله المبكرة، حيث مثَّلَت ملحمته الأدبية :ممو زوين” إلهاما للروح الوطنية عند الكرد بما تضمنت من إشارات وقيم وطنية.

وقد عرف التاريخ الكردي العديد من الكيانات السياسية المنظمة في صورة إمارات في ربوع “كردستان” مثل إمارة عيشاني (912-961م) شمالي غرب إيران، وإمارة روادي (948-1071م) غرب إيران، وإمارة شدادي (951-1198م)، وإمارة هزباني (952-1190)، وإمارة حسنويهي (952-1190م)، وإمارة مرواني (983-1096م) في آمد(ديار بكر) ومناطق أخرى، وإمارة عنازي (1046-1139م)، وإمارة أردلان (1214-1864م)، وإمارة بادينان (1376-1843م) بين الموصل ونهر دجلة ونهر الزاب، وإمارة بابان (1649-1851م)، وإمارة سوران (1813-1833م) شمالي العراق، وإمارة بوتان (1820-1847م) على ضفاف نهر دجلة، وإمارة هكار (1822-1912م) جنوب شرقي الأناضول.

بجانب ذلك، لعبت موجةُ المَدِّ القومي التي اجتاحت أوروبا خلال القرن التاسع عشر دوراً في إزكاء الوعي القومي لدى الكرد وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط، فيقول المؤرخ “أرنولد توينبي”: (عندما بدأت ريح القومية القادمة من الغرب تهبُّ على الشرق الأوسط، كان لابد أن تؤجِّجَ نوعاً من القومية غير المفهومة بين الكُرد، مثلما فعلت بالنسبة لليونانيين والأرمن والعرب وكل الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية”. وقد انعكس ذلك على ظهور الحركات الكردية نشطة خلال القرن التاسع عشر، التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:

حركة عبد الرحمن باشا الباباني
تزعم عبد الرحمن باشا الباباني (نسبة إلى مدينة بابان في السليمانية بالعراق)، انتفاضة واسعة عام 1806م عُرِفَت بأنها أول تمرُّد كردي معاصر، حيث تمكَّن من بسط سلطته على أراضٍ شاسعة امتدت من الموصل حتى الحدود الإيرانية، بل إن محمد باشا اتجه نحو المناطق الكردية في إيران لضمِّها إلى أراضيه لولا أن الدولة العثمانية عبَّأت في عام 1822م قوةً كبيرةً تحت إمرة “أحمد باشا” لمهاجمة عاصمة الإمارة البابانية، وبعد معارك طاحنة وقعت المدينة في يد العثمانيين الذين تمكنوا من إخماد حركته.

انتفاضة الأمير بدرخان
كانت إمارة بوتان، التي قامت في الفترة 1820 – 1847م، على ضفاف نهر دجلة بإقليم جولمرك(هكاري) الجبلي على الحدود التركية الإيرانية العراقية، أهم الإمارات الكردية التي كانت أقرب إلى شكل الدولة القومية الحديثة، وقد بلغت أوج قوتها عام 1842م، حيث تمكن حاكمها الأمير بدرخان من تشكيل حكومة قوية شبه مركزية. وقد سعى الأمير بدرخان تحرير كردستان من العثمانيين والإيرانيين وإقامة دولة مستقلة على مساحة بلغت نحو 295 ألف كيلو متر مربع، ويطلق بعض المؤرخين على هذه الحركة باسم “ثورة الأمير بدرخان”، لكن الجيش العثماني تصدى لهذه الحركة بوجود عوامل ضعف داخلية.

انتفاضة يزدان شير عز الدين (1853 – 1858)
بعد أن أخمد الجيش العثماني حركة الأمير بدرخان أسندت الحكومة التركية إدارة إمارة بوتان وأردلان إلى “يزدان شير”، لكنها سرعان ما انقلبت عليه خوفا من اتساع نفوذه، مما أدى لانتفاضة بين أنصار يزدان في منطقتي هكاري وبوتان تمكن خلالها يزدان أن يحرر كل المنطقة الممتدة بين بحيرة “وان” وبغداد وقد استمرت هذه الانتفاضة لعامين حتى أرسلت بريطانا قواتها لمساعدة القوات التركية في القضاء على هذه الانتفاضة والقبض على يزدان وهو ما تم بالفعل.

حركة الشيخ عبيد الله النهري (1878 – 1881)
نجح الشيخ النهري، زعيم الطريقة النقشبندية وشيخ منطقة شمدينان التابعة لولاية هكاري جنوبي ولاية وان على الحدود العثمانية الإيرانية، من توحيد القبائل الكردية وتحرير كل المنطقة الواقعة بين بحيرة أروميا وبحيرة وان فيما يعرف بـ “أكبر حركة قومية كردية في القرن التاسع عشر”، حيث شارك فيها أغلب العشائر الكردية في شمال كردستان، كما أنها أولى الحركات التي استهدفت تحرير كافة أراضي كردستان، لكن القوات العثمانية، وكعادتها، تشاركت مع القوات الإيرانية للتصدي لحركة الشيخ النهري وإخمادها ونفيه إلى مكة حيث توفى هناك.
في هذا السياق، يمكن الوقوف على عددٍ من القواسم المشتركة بين سلسلة الانتفاضات القومية الكردية التي شهدها القرن التاسع عشر من خلال ما يلي:

مركزية الزعامات العشائرية
ارتبط الوعي القومي لدى الكرد خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بالطبقة العليا والزعامات العشائرية والإقطاعيين والأمراء ورجال الدين الذي كانوا على اتصال مباشر بالسلطة المركزية مقارنة بعموم الكرد على المستويات الاجتماعية القاعدية. فالطبقة العليا من المجتمعات الكردية كانت تسعى للتخلص من هيمنة العثمانيين لذلك شهد النصف الثاني من القرن العشرين العديد من الانتفاضات الكردية كجزءٍ من حركة أوسع لانتفاضة كافة المكونات العرقية غير التركية الواقعة تحت سيطرة الدولة العثمانية مثل الأرمن والآشوريين والعرب واليونانيين. فغالبية قادة الانتفاضات الكردية كانوا ينتمون من قيادات العشائر الكردية في المناطق الجبلية على الحدود التركية الأمر الذي أكسبهم سندا شعبيا بين أهالي المنطقة؛ فالشيخ عبيد الله النهري – على سبيل المثال – وفضلا عن كونه شيخاً للطريقة النقشبندية الشائعة بين الأهالي، كان يحوز على ما يزيد عن مائتي قرية، وكان يتولى منصب قيادة العشائر الكردية، ويحظى بمكانة اجتماعية وروحية تتجاوز مكان السلطان العثماني نفسه بين أهل المنطقة فضلالا عن مكانته بين رجال الإقطاع والتجار.

تكاتف القوى الإقليمية والدولية لقمع الحركات والانتفاضات الكردية
نظرا لما رآه الحُكَّام الإيرانيون والعثمانيون من تهديد تمثله الانتفاضات الكردية تجاه وحدة الأراضي الخاضعة لسيطرة العثمانية والفارسية، كان من الطبيعي أن يتكاتف الطرفان ضد هذه الانتفاضة؛ ففي 1855م، ومع تعاظم قوة “يزدان شير” (تجاوزت مائة ألف بينهم عرب ويونانيون) أرسلت بريطانيا قواتها لمعاونة العثمانيين لقمع “يزدان شير”، وفي 1883م، خرجت حملة عسكرية مشتركة بين الفرس والعثمانيين لقمع ثورة الشيخ عبيد الله النهري.

غياب الاستراتيجية الشاملة
رغم قوة الفعل الثوري التي تجلَّت في كافة الحركات القومية الكردية خلال القرن التاسع عشر، إلا أنها في مجملها قد تحرَّكت في نطاقات جغرافية محددة، وبأنماط تقليدية كان قوامها التمرد العشائري بعيدا عن الاستراتيجية الشاملة لعموم كردستان في الشرق الأوسط؛ فالدور الذي قام به عبد الرحمن باشا الباباني قد ارتبط في بدايته بالتعاون مع السلطة العثمانية في مواجهة اليزيديين في سنجار عامي 1794م و 1797م وفي الفُرَات عام 1805م، لكن عندما اختلف مع والي بغداد لجأ الباباني إلى إيران ثم السليمانية واشتبك مع العثمانيين في عام 1808م. أما في عام 1877م، وخلال الحرب الروسية العثمانية فقد اتحد بعض الكرد تحت قيادة الأمير بدرخان واتجهوا إلى الجزيرة عام 1879م، وأعلنوا استقلال إمارة بوتان. ورغم تمكنهم من تحقيق هدفهم في البداية، إلا أن مناورات السلطان العثماني عبد الحميد تمكَّنَت من مداهنة قائدَيِّ هذه الحركة حسين كنعان باشا وعثمان باشا حتى انقلب عليهما العثمانيون وصولاً لإخماد هذه حركتهما وإيداعهما قيد الإقامة الجبرية. الحال نفسه تكرر مع الشيخ عبيد الله النهري الذي، رغم نجاحه في بسط نفوذه على منطقة واسعة، إلا أن الحكومة العثمانية تصدَّت له بالتعاون مع القوات الإيرانية.
إن القاسم المُشْتَرك بين هذه الحركات الثورية والانتفاضات القومية الكردية هو ضيق النطاق الذي تحرك فيه قادتها حيث ارتبطت نجاحاتهم بدرجة كبيرة بنفوذ قادتها في ربوع كردستان سواء على الجبهة التركية أو الإيرانية أو السورية أو الإيرانية، ورغم تجاوز هذه الحركات للمكون الكردي، في بعض الأحيان، حيث انخرطت فيها عناصر قومية أخرى كالعرب والآشوريين والسريان وغيرهم، إلا أنها قد غاب عنها الاستراتيجية الشاملة التي يمكنها استيعاب ذلك الزخم بما يخلق واقعاً يتوسطه كيانٌ قوميٌ كرديٌ راسخ.

تنامي الوعي القومي الكردي
رُغم الانتفاضات المتتالية وقمعها من جانب السلطات العثمانية والفارسية بدعمٍ من قوى دولية مثل بريطانيا، إلا أن تبلور الوعي القومي اتخذ وتيرة متسارعة؛ حيث لم تنفصل القضية الكردية عن حركة التنوير الثقافي التي كانت تمر بها منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وفي هذا السياق لم تغب القضة الكردية عن الطفرة التي شهدتها الصحافة كميدانٍ فكري وليد؛ إذ لعبت صحيفة “كُردستان”، التي تأسَّست في 22 أبريل 1868 بالقاهرة، دوراً في إزكاء الوعي القومي الكردي وتشجيع النشاطات المعارضة للاستعمار البريطاني والدولة العثمانية. وقد استغل العناصر الكردية الحالة النضالية السائدة آنذاك وانخرطوا فيها فشارك بعضهم في تشكيل المنظمة التي عرفت بـ “جمعية الاتحاد والترقي” التي تطورت وأصبحت تشكل حزباً سياسياً عام 1889، وانعقد أول مؤتمراتها بباريس عام 1902 حيث شارك في أعمال هذا المؤتمر اثنان من الزعماء الكرد هما عبد الرحمن بدرخان وحكمت بابان، كما ضمَّت هذه الجمعية شخصيات كردية مثل اسحق سكوتي من ديار بكر وعبد الله جودت من عربكير. كما انخرط الكُرد في الحركة الشاملة التي شهدتها المنطقة للمطالبة بالتخلص من السيطرة الأجنبية، والكفاح ضد الاستعمار، وتعزَّز ذلك التوجه بالانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي عبَّرت عنه حركة تأليف الجمعيات والتنظيمات السياسية التي اتَّسَمَت بالسرية في بادئ أمرها، مثل الجمعية القحطانية التي أسَّسَها عزيز المصري في الاستانة سنة 1908، وجريدة “جراب الكردي” التي صدرت في حيفا عام 1908، للتنديد بجرائم الإبادة ضد الكرد والأرمن.

في هذا السياق، أدركت السلطات العثمانية، في أواخر القرن لخطورة أن يُتْرَك الوعي القومي المتنامي لدى الكرد بدون مساعٍ لاحتوائه؛ ففي عام 1892، أسَّسَت الدولة العثمانية “مدارس القبائل” والتي عُرِفَت باسم “عشيرة مكتبلري” والتي ضمت أبناء القبائل الكردية والعربية عسى أن يكون في ذلك ربطاً للأجيال الجديدة بالسلطة العثمانية وضماناً لولائهم. كما أنشأ السلطان عبد الحمد الثاني كتائب مُحَارِبة من أبناء العشائر الكردية أطلق عليها اسم “ألوية الخيالة الحميدية” (ألاي لري)، وقد اضطلعت هذه التشكيلات بدورٍ مُهِمٍ في الحروب الروسية العثمانية وبخاصة في حماية الحدود مع روسيا وإيران.

أخيراً، فرغم المساعي العثمانية لاحتواء الوعي القومي المتنامي لدى الكرد من خلال “سياسة المُهادنة” سالفة الذكر، إلا أن هذه المدارس والكتائب بالإضافة إلى الخبرة المتراكمة عبر القرن التاسع عشر وموجة المد القومي بمفاهيمها الوافدة من أوروبا، كل ذلك دفع نحو تبلور وعي قومي أكثر وضوحا وأشد قوة مع مطلع القرن العشرين. وقد تعزز هذا التوجه على مدار القرن العشرين وتحديداً بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني، وصدور الدستور العثماني، وتولي حزب الاتحاد والترقي الحكم في 23 يوليو 1908، وهو ما سوف يتناوله المقال التالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى