متابعات

زيارة الرئيس الفلسطيني لمخيم جنين ورسائل الأمل بالوحدة الفلسطينية

تحليل: د. طه علي أحمد .. في خطوةٍ تاريخيةٍ، قام الرئيسُ الفلسطيني محمود عباس، بزيارةٍ لمدينة جنين ومتابعة أوضاعها، وتَفَقُّدِ مُخيمها الذي كان مسرحاً للأحداث خلال الفترة الأخيرة عندما شنَّت سُلطات الاحتلال هُجوماً برياً أسْفَر عن سقوط عشرات الضحايا واعتقال عشرات آخرين، ولا يُعد هذا الهجوم الأول على المخيم الذي تنامت خطورته أخيراً أمام دولة الاحتلال حتى أصْبَح في قَلْبِ استراتيجيته العسكرية للقضاء على المقاومة الفلسطينية.


وكخطوةٍ تاريخية، فقد حملت الزيارةُ الأخيرة للرئيس العديد من الرسائل التي يأتي في مُقدمتها دعم الرئاسة لنهجِ المقاومة وإضفاء الشرعية عليه، وهي الخطوة التي لا تخلو من المخاوف لدى سلطات الاحتلال بما لها من تداعيات قوية، حيث يقف صانع القرار الاسرائيلي أمام حالةٍ متنامية من الالتحام الداخلي بين الفلسطينيين عبَّر عنها الترحيب الذي لاقاه الرئيسُ من أهالي جنين خلال الزيارة. فمن جهةٍ تتعزز شرعية الرئيس وتتأكد شعبيته بين الأجيال الفلسطينية الجديدة، وتتأكد سيطرة السُلطة الفلسطينية على مناطق مثل جنين، بما يفند الأكاذيب والشكوك التي يروجها الاعلام الصهيوني، ومن جهة أُخرى تترسَّخ شرعية المقاومة وتقوى شوكتُها أمام سلطات الاحتلال، وهو ما عبَّرت عنه كلمة الرئيس في جنين حينما قال: “إن مخيم جنين البطل أيقونة للنضال والصمود والتحدي، الذي صمد في وجه العدوان وقدم التضحيات والشهداء والأسرى والجرحى في سبيل الوطن”. كما تحمل الزيارة في طياتها إشارات على إصرار الرئاسة الفلسطينية للتصدي للمخططات الصهيونية بهدم مخيم جنين وتهجير سكانه، وتدمير بنيته التحتية، الذي تمضي فيه حكومة نتنياهو منذ وصولها للسلطة في يناير الماضي، فبعد موافقة الكنيست على تشريع خاص بمُخَطَّط الاستيطان في مارس الماضي، أقرت الحكومة في 18 يونيو بدخوله حيز التنفيذ وتوسيع نطاقه.

فلطالما ارتكزت استراتيجية رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتينياهو، على تعميق التصدعات الداخلية وإثارة الشقاق بين الفلسطينيين، بالإضافة إلى ما يُسَمِّيه نتينياهو بـ “سياسة الردع” من خلال تتابع العمليات العسكرية المحدودة بغرض القضاء على المقاومة واقتلاع جذورها إرضاءً للأصوات اليمينية المتطرفة التي تجتاح المجتمع الإسرائيلي أخيراً، وقد عبَّرت عنها الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي توصف بـ “الأشد تطرفاً” في تاريخ دولة الإحتلال.

لذلك سلطات الاحتلال بشدة على القوة العسكرية وتهميش كافة المسارات السياسية، والتي تمثلت آخر محطاتها في اجتماعي العقبة وشرم الشيخ في 26 فبراير و 19 مارس الماضيين، حيث زعمت حكومة نتنياهو التزامها باتخاذ خطوات فورية لإنهاء تصاعد أعمال العنف، وهو ما أثبت زيفه قيام مجموعات من المستوطنين إلى قرية “حوارة” بمحافظة نابلس، بعد اجتماع العَقَبة بساعات، وقيامهم بحرق ما لا يقل عن 15 منزل، بالإضافة لعدد من السيارات والأشجار، ثم أعقب ذلك عملية جنين يومي 3 و 4 يوليو الجاري، وقد أسفر هذا النهج عن سقوط ما يزيد على 120 شهيد فلسطيني، وإصابة أكثر من 500، وهدم ما يزيد على 600 منزلا فلسطينيا، خلال العمليات العسكرية المتتابعة التي قامت بها سلطات الإحتلال منذ مطلع العام الجاري.

غير أن صمود المقاومة الفلسطينية التي تجلَّت أخيرا في جِنين، ومن قبلها في أماكن أخرى، بالإضافة إلى الزخم الإيجابي الذي أحدثته زيارة الرئيس محمود عباس لجنين أخيراً، وما كشفت عنه من مؤشرات إيجابية حول إمكانات إحداث توافق سياسي داخلي فلسطيني، قد كشفت فشل استراتيجية “الردع” المزعومة من جانب نتينياهو، وزيف مزاعمه المُضَلِّلة للرأي العام الإسرائيلي الثائر ضد الفشل السياسي والأمني لحكومته.

فقد كشف البيان الذي أصدرته “كتيبة جنين” عقب زيارة الرئيس لمدينة جنين عن مؤشرات إيجابية يمكن البناء عليها لتأكيد مساعي الرئيس لِلَمِّ الشمل الفلسطيني وتأكيد فشل مزاعم نتينياهو. فوفقا للبيان، “تضامنت الكتيبة مع الأجهزة الأمنية في تأمين زيارة السيد الرئيس”، و”لم يتم إزالة أية راية أو صور معلقة في محيط استقبال الرئيس”، كما كشف البيان عن “الاتفاق على إرجاع السلاح الخاص باثنين من عناصر “كتيبة جنين” هما مراد الملايشة ومحمد البراهمة، وقد تم استلام السلاح بالفعل”، وفقا للبيان، بجانب ذلك، كشف البيان عن “وعود من جانب الأجهزة الأمنية بأن يتم الإفراج عن الملايشة والبراهمة بعد زيارة الرئيس لجينين”.

منذ تأسيس “كتيبة جنين” في 2021، شهد ميدان المقاومة فاعلاً جديداً ذات ملامح مختلفة عن الكيانات التقليدية التي عرفتها الأراضي الفلسطينية؛ حيث أبدى التنظيم الوليد مرونةً في حشد عناصر متنوعة تتجاوز التنظيمات القائمة، كما لم تتوقف حدوده عند أيديولوجيا بعينها، بل أحرز نجاحات عديدة، وقدَّم صورةً ملهمةً للمقاومة ربما تتسع أصداؤها لتشمل مناطق فلسطينية أخرى مثل نابلس؛ حيث مُخيمي “بلاطة” و”نور شمس” في طولكرم بالضفة. وبالتالي، فإن توسيع نطاق التفاهم بين السلطة الفلسطينية و”كتيبة جنين” من شأنه ضرب اسراتيجية نتينياهو في عمقها، كما تبعث بإشارات إلى حركة حماس في قطاع غزة، بضرورة العمل على تضييق الهوة بينها وبين السلطة الفلسطينية؛ إذ لم تجني سياسة حماس، التي وصفها نتنياهو، في 15 مايو الماضي، نفسه بأنها تخدم استراتيجيته، أي خير للشعب الفلسطيني، بل إنها تقف كحجر عثرة أمام أي تقدم للقضية الفلسطينية.

النقاط الواردة، في بيان “كتيبة جنين”، وهي مؤشرات إيجابية، تنطوي على أُسُسٍ يُمكن البناء عليها لدعم إمكانية احتواء السلطة الفلسطينية لكياناتٍ فاعلةٍ على الأرض مثل “كتيبة جنين” وغيرها، فيما يعزز فرص التماسك الداخلي، ويدعم مسارات الحوار الفلسطيني – الفلسطيني. إنها حالة إيجابية لإحداث زخم داخلي، ودفع الرأي العام الفلسطيني للالتفاف حول أبو مازن، ليس باعتباره رئيساً شرعياً فحسب، بل كرمزٍ للقضية الفلسطينية، وقد حرص الرئيس نفسه على تأكيد ذلك حين قال: سأزور جنين ونابلس وقباطيا وكل المدن الفلسطينية”.

يتوازى ما سبق مع الخطوات الأخيرة التي اتخذتها السلطة الفلسطينية عقب هجوم سلطات الاحتلال على مخيم جنين يومي 3 و 4 يوليو الجاري، حيث قرَّرَت السلطة التوجُّه الفوري لمجلس الأمن الدولي لتنفيذ القرار 2334 وقرارات الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، ودعوة المحكمة الجنائية الدولية للتعجيل في البَتِّ بالقضايا المحالة إليها، والمطالبة بوقف عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة بسبب عدم التزامها بتنفيذ القرارات 181 و 194، وهو ما يضع المجتمع الدولي أمام إشكالية حقيقية في مسار القضية الفلسطينية، كواحدةٍ من ركائز الاستقرار في الشرق الأوسط، وهي عدم التزام الحكومات الاسرائيلية بالقرارات الدولية المعنية بحقوق الفلسطينيين منذ عام 1984.

أخيراً، تبقى زيارة الرئيس محمود عباس لمخيم جنين أخيراً واحدةً القفزات السياسية البنَّاءة التي يتعين على كافة الفصائل الفلسطينية استغلالها، والاستجابة للدعوة التي أطلقها الرئيس في 11 يوليو الجاري، للمشاركة في الاجتماع المزمع عقده في القاهرة، في 30 يوليو الجاري، بحثاً عن رؤية وطنية شاملة، وتنحية الخلافات، وتوحيد الصف الفلسطيني، لاسيما وأن الرئيس وجه دعوته لكافة الفصائل ولم يستثني منه أحداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى