“الجينولوجيا” والثورة على علم اجتماع المرأة
د. طه علي أحمد .. منذُ أن ظهر علمُ اجتماعِ المرأةِ في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى (1914م – 1918م) والثانية (1939م – 1945م)، تصدُّرت قضايا المرأة في محيطها المجتمعي واجهةَ المشهدِ السياسي والاجتماعي والثقافي سواءً داخل الحقل الأكاديمي أو في الممارسة العملية. وكغيره من فروع علم الاجتماع العام مِثْلَ علم الاجتماع الديني، وعلم الاجتماع البيئي، وعلم الاجتماع السياسي …وغيره، فقد جاء استقلالُ عِلْمِ اجتماع المرأة كنتيجةٍ لفشل علم الاجتماع العام في دراسة قضايا المرأة ومشكلاتها بشكلٍ وافٍ.
وقد ظهرت الإرهاصات الأولية لعلم اجتماع المرأة في كتابٍ بعنوان “ثورة العلم ونموذج الأسرة” World Revolution and Family Pattern، لأستاذ علم الاجتماع بجامعة كولومبيا ويليام كوود William Goode (1917م – 2003م). ومنذ أن ظهر هذا الكتاب عام 1941م، توالت الإسهامات التي شكَّلت الإطار العام والمفاهيمي لعلم اجتماع المرأة الذي يُعني بدراسة الفعل ورد الفعل بين المرأة والمجتمع. ويهتم هذا العلم بدراسة وتحليل البِنَى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بالمرأة لاسيما من زاوية علاقتها بالبناء الكلي وتوزيع الأدوار والمكانات في المجتمع وفرص الوصول إلى الثروة والسلطة في الفضاء العام. وقد كان كتاب كوود انعكاساً لمسيرة الحركة النسوية التي توالت منذ أواخر القرن الثامن عشر حينما كتبت الفيلسوفة البريطانية ماري ولستونكرفت M. Wollestoncraft (١٧٥٩م – ١٧٩٧م) كتابها “دفاعاً عن حقوق المرأة”، وكان ذلك رداً على ما كتبه الفيلسوف جان جاك روسو J. J. Rosseau ((١٧١٢م–١٧٧٩م) الذي أسرف في تقليص وجود المرأة في الجنس والإنجاب، واعتبر أن خضوعها للرجل ليس نتيجة لعرفٍ، بل هو النظام الطبيعي والضروري للأشياء. وقد أعقب كتاب ولستونكروفت تدفقُ سيلِ الحركة النسوية التي ترجع أبرز محطاتها إلى عام 1857م حينما أضربت عاملات أحد مصانع النسيج في ولاية نيويورك الأمريكية مُطالبات برفع الأجور وتضامَنَ معهن العمال والعاملات في المصانع الأخرى، ثم أعقبها تأسيسُ الكثير من الجمعيات والنقابات وإصدار المجلات النسائية المُعَبِّرة عن طموح المرأة في المساواة مع الرجل في الأجر، وفي عام 1888م تأسَّسَت “جمعية نساء الولايات المتحدة”، وفي عام 1904م تأسَّسَ “الاتحاد النساي العالمي من أجل النضال في سبيل المساواة” ثم تتابعت موجة تأسيس المنظمات لأوروبا مع مطلع القرن العشرين.
علم المرأة (الجينولوجيا)
رغم تدفق الاجتهادات النظرية التي دارت في فَلَكِ علم اجتماع المرأة بغرض دراسة وتفسير تفاعلات المرأة مع واقعها المحيط، إلا أن نطاق ذلك العلم لم يتسع ليشمل الجذور العميقة لبنية مشكلات المرأة في المجتمع وفلسفتها العامة بشكلٍ ذات قدرة تفسيرية مناسبة وذلك وفقاً لرؤية المفكر الكردي عبد الله أوجالان، حيث يرى أن علم اجتماع المرأة إنما ينطوي على اجتهاد نظري ذات أصول غربية بالأساس. ولذلك فمن الطبيعي أن تفتقر الأطروحات النظرية في إطار هذا العلم على القضايا التي دارت في فلك المجتمع الأوروبية، بل ومن منظور يخدم الإطار القيمي الرأسمالي الغربي بعيدا عن القضايا التي تخص البيئات الأخرى مثل منطقة الشرق الأوسط التي تعاني منذ فجر تاريخها من مخططات التشكيل والتقسيم وفقاً لما يخدم مصالح القوى الغربية الرأسمالية.
وفي إطار تلك الرؤية النقدية، يربط أوجلان بين العبودية والاستغلال الاجتماعي، وينظر إلى العلاقة بين الرجل والمرأة منذ فجر تاريخ البشرية، وذلك باعتبار أن هذه العلاقة تقوم على أساس الاستغلال والعبودية كشكلٍ بدئيٍ مُصَغَّر لوضع الاستغلال الاجتماعي والعبودية في البشرية بشكلٍ عامٍ. وعلى هذا يرجع أوجلانالفشل في تطوير النضال من أجل الحرية والمساواة والتغلب على مساوئ الحداثة الرأسمالية إلى عدم التخلص من ذهنية العبودية والاستغلال التي طعَّمَت حياة المرأة ورسَمَت ملامحها. وبالتالي، فإن تعريف المرأة وتحديد دورها في الحياة الاجتماعية يُعَدُّ شرطاً أساسياً من أجل حياة سَديدة. ونتيجة للنزعة الجنسانية التي تزامنت مع صعود الليبرالية، تم تكريس وضع المرأةِ كسلعةٍ يُمكن عرضها في السوق أو كموضوع، وهو ما يضع المرأة في إطار ما يعتبره أوجلان”أخطر أشكال العبودية والفخ الذي نصبته الحداثة للمرأة”.
وكمُحَصِّلةٍ لرؤيةٍ نقديةٍ عميقةٍ لمنظومةِ العلوم التي تستند على الرؤية الغربية West-Centered، ظهر عند أوجلان مفهوم “الجينولوجيا” Jineoloji والذي يعني “علم المرأة” كإطارٍ معرفي يتجاوز حدود علم اجتماع المرأة، ويشتق هذا المصطلح من الكلمة الكردية جين Jin، وتعنى المرأة و”لوجيا” Loji أي العلم. وقد جاء المصطلح للمرة الأولى في المجلد الثالث من مرافعات عبد الله أوجالان، والذي يحمل عنوان “سوسيولوجيا الحرية”، كما يسعى الجينولوجيا ليكون علماً يحل محل “الفامينية” Faminism، حيث يسعى “علم المرأة” لدراسة جوانب وأسباب فشل الحماية تاريخيا وفي الحاضر؛ فيثير العديد من التساؤلات والمفاهيم المرتبطة بالمرأة مثل الحماية الجوهرية للمرأة، وكيف يكون ذلك؟، وكيف أضر غياب هذه الحماة بعالم الرجال والنساء معاً.
وفي حين يهتم علمُ اجتماع المرأة بدراسة الفعل تفاعلات المرأة والمجتمع، ويسعى لعلاج مشكلات المرأة الموضوعية والذاتية بعد تشخيصها وتحديد أسبابها وآثارها ومعالجتها على نحوٍ هادف وبناء، فإن علم المرأة، (الجينولوجيا) يهتم بتعريف كلمة المرأة والعلم على أساس النموذج الفكري (البراديغما) القائم على الحرية الديمقراطية والإيكولوجيا وحرية المرأة. وفي حين يسعى علم اجتماع المرأة للدفاع عن حقوق المرأة ويحاول ضبط أوضاعها في المجتمع مقارنة بالرجل، فإن علم الجينولوجيا يسعى لتعويض عجز العلوم الاجتماعية عن التفكير في علوم المرأة وتطويرها كنظامٍ لعدة سنوات وذلك من خلال العديد التساؤلات حول غياب أو عدم تبوأ المرأة مكانة اجتماعية في العلوم الاجتماعية التي لم تعتبرها عنصراً أساسياً في الطبيعة الاجتماعية.
الجينولوجيا وثورة المرأة في القرن العشرين
يتحدث عبد الله أوجلان عن القرن العشرين باعتباره “عصر المرأة” الذي يشهد ثورتها على نظام اجتماعي يهيمن عليه العقل الذكوري، وبالتالي فإن الجينولوجيا ينطلق من الأطروحة القائلة بأن ثورة المرأة هي موضوع هذه القرن. ففي إطار طرحه لهذه الإشكالية، ينطلق أوجلان من نقد الطرحين الهيجلي والماركسي؛ ففي حين يرى كارل ماركس أن الخلافات الاجتماعية الرئيسية في العالم تقوم بالأساس على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتنحسر في متلازمة “السيد والعبد”، ويرى هيجل أن أساس الخلافات في العالم تقوم على العلاقة الصراعية التي تشهدها المجتمعات تقوم بين الرئيس والمرؤوس، إلا أن أوجلان ينطلق من اعتبار أن الصراعات الاجتماعية تقوم على المسافة نفسها من العلاقة بين المرأة والرجل. وعلى هذا فإن حلَّ صراعات القرن العشرين تقوم على حَلِّ المعادلة الصراعية بين المرأة المستعبدة والرجل “القوي، السيد”، وإعادة تعريف المرأة وفق معايير الحرية والتعبير عن حقوق المرأة.
يرى عبد الله أوجلان أن المرأة، وباعتبارها نموذجاً للمادة والطاقة، تختلف المرأة عن الرجل، فالمادة الموجودة في المرأة أكثر كَمَّاً ومختلفة نوعاً. وعندما تتحول طاقة الرجل في الطبيعة الاجتماعية إلى أجهزة السلطة، فإنها تتخذ لنفسها الاشكال المادية الملموسة. لذا فالتحول إلى رجل مسيطر في المجتمع، يعني التحول إلى تجسيد عيني للسلطة، حيث تتخذ الطاقة شكلاً عينياً بالطبع مع وجود استثناءات قليلة. أما لدى المرأة، فغالبا ما لا تتحول هذه الطاقة إلى شكلٍ ملموس، إذ تحافظ المرأة على طاقتها في حالةٍ متدفقةٍ مستمرةٍ كطاقةِ حياةٍ بشرط ألا تبقى في المحبس الذي يُهَيْمِن عليه الرجل. ويرتبط ذلك بالجمالية والشاعرية لدى المرأة التي تطغى عليها الطاقة الكامنة. وفي حين تتناسب حرية المرأة طرديا مع حرية المرأة، فإن الأهم أن حرية المرأة ومساواتها لا تحددان حرية المجتمع، أي أن السياسة الديمقراطية تبدو أمراً مستحيلا بدون المرأة. لذا ينبغي إخراج المرأة من كونها مجرد أُم مقدسة ومحور الشرف وزوجة لا استغناء عنها، ولا حياة بدونها، إلى ضرورة البحث في حقيقتها بصفتها إجمالي الذات والموضوع.
تطبيقات الجينولوجيا في الواقع العملي
انتشرت في المناطق التابعة للإدارة الذاتي في شمال وشرق سوريا العديد من المراكز المتخصصة في الجينولوجيا، فمنذ عام 2011، اتجهت المنظمات النسائية في إبداء المزيد من الاهتمام بالجينولوجيا، فخلال عامي 2013 – 2014 أصبح هذا المصطلح معروفا في كافة المناطق التابعة للإدارة الذاتية، وفي عام 2015 تأسَّسَ مركز أبحاث ودراسات الجنولوجيا، ثم اتسع نطاقه عبر فروعه المتعددة، ففي 17 يوليو 2017 افتتح فرع في مقاطعة عفرين، وفي مدينة ديرك التابعة لقامشلو (13 سبتمبر 2017)، وفي مِنْبج (3 يناير 2018)، وفي الحسَكة (11 يناير 2019)، وفي كوباني (6 مارس 2019). وفي نوفمبر 2020، أصدر المركز أول مجلة “جينولوجيا” باللغة العربية في منبج، وكانت قبل ذلك قد صجرة باللغات الكردية والتركمانية واللهجات الصورانية، وتركز المجلة في موضوعاتها على القضايا الاجتماعية العامة وقضايا المرأة وبشكل خاص أشكال العنف الذي تتعرض له النساء، وموضوعات أخرى مثل السوسيولوجيا النسوية والعلوم الاجتماعية وثورة المرأة والأيزيديين.
وقد دخل الجينولوجيا إلى الأوساط الأكاديمية؛ حيث افتتحت جامعة “روج آفا” في قامشلو، في عام 2017، قسم الجنولوجيا في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية ، حيث تم إدراج مادة علم الجنولوجيا في جميع الكليات والمعاهد التابعة لجامعة “روج آفا”، ثم توسَّعَت الجامعة وافتتحت كلية “علم المرأة”، للعمل من خلال مناهج موسعة تتضمن مدخل إلى علم المرأة، والمبادئ الأساسية لهذا العلم، بالإضافة إلى مواد عن تاريخ المرأة وما يُعرَف بـ “علم الحياة الندية”، كما انتشر تدريس مادة الجينولوجيا في بقية الجامعة مثل “جامعة عفرين”، وجامة كوباني التي بدأت تدريسها في العام الجامعي 2021.
يقوم نظام تدريس “الجنولوجيا”، في مناطق الإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا، على أساس نظام الفصول الدراسية، حيث يعتمد 4 فصول موزعة على سنتين، ويمكن للمتخرجات من كلية الجنولوجيا العمل في مراكز الدراسات والأبحاث، والمجالات الدبلوماسية، ومؤسسات التعليم والتدريب والإدارة، وكافة مؤسسات المرأة ضمن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وبعد التخرج يمكن لدارسي الجينولوجيا العمل كمدرسين لهذا العلم في المدارس في صفوف المرحلة الثانوية، أو العمل في المنظمات النسائية.
آفاق الجينولوجيا
مع دخول علم المرأة (الجينولوجيا)، حَيِّز التطبيق الأكاديمي، والممارسات المهنية، من خلال المؤسسات المنتشرة في شمال وشرق سوريا، يبدو هذا المنظور الجديد لدراسة الواقع الاجتماعي للمرأة بمثابة تجربةٍ حيةٍ تفرض نفسها على كافة المتابعين لشؤون الشرق الأوسط، إقليمياً وثقافياً، والمشتغلين بالعلوم الاجتماعية أكاديمياً ومهنياً، إلا أن استمرار هذا المُصْطَلَح والنموذج الفكري المرتبط به سوف يظل مرهونا بقدرته على الخروج من الحَيِّزِ الجغرافي لمناطق الإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا وانتقاله إلى مناطق جديدة يحظى فيها بنفس الاهتمام، وألا يَظِلَ محصورا في هذا النطاق الجغرافي باعتبارها تجسيدا لأطروحات وأفكار عبد الله أوجالان، وبالتالي فإن خروج هذا المصطلح إلى آفاق أوسع وبيئات جديدة يرسخ مكانته بين العلوم الاجتماعية كحصيلة وتراكم علمي إنساني.
كما يتعين أن يدخل علم المرأة في حوار جدلي مع بقية العلوم الاجتماعية المتداخلة معه مثل علم اجتماع المرأة وعلم اجتماع الأسرة وغيرها حتى لا يبقى كنموذج معرفي منفصل عن غيره، بل إن التفاعل مع العلوم الأخرى إنما يفتح الآفاق أمام العديد من الموضوعات الجديدة، وكذلك تطوير الأطروحات التي يقدمها علم المرأة (الجينولوجيا).
أخيراً، يبقى القول بأن مصطلح (الجينولوجيا) ينطوي على إرهاصات ثورية فيما يخص تعريف المرأة كذاتٍ وموضوع، ودراسة قضاياها وفلسفة التعامل مع مشكلاتها، بما يواكب الثورة التي تجتاح البشرية منذ مطلع القرن العشرين في كافة المجالات، بينما يتعزز نطاق الجينولوجيا كثورة للمرأة وثورة على العلوم الاجتماعية عامة وعلم اجتماع المرأة على وجه الخصوص.