الوعي القومي الكُرْدي في مطلع القرن العشرين
تحليل د. طه علي أحمد ..
ارتبط الوعيُ القَومي الكُردي في مَطْلَع القرنِ العشرين بالظروف الذاتية والموضوعية للمجتمع الكُردي؛ لاسيما وأن القرنَ التاسع عشر قد شهد نمواً واضحاً في الطبقةِ المُثَقَّفة بالمناطق ذات الأغلبية الكُردية سواء في تركيا أو المدن الأوروبية. وقد استهل الكُرد القرنَ العشرين وحركتهم القومية تُعاني من إشكاليةٍ مُرَكَّبة، حيث أن العناصر التي أشْعَلَت الحركات المسلحة الكردية، التي انتعشت على مدار القرن السابق، كانت تنطوي على مزيجٍ من الشعورِ بالقهرِ القومي والطموحات الشخصية للزعماء، والمواقف المختلفة أو المُتَضاربة تجاه مبادرات الإصلاح الإداري في المناطق الكُردية، فضلا ً عن دورِ القوى الإقليمية في إيران والدولة العثمانية مع الدول الاستعمارية (بريطانيا)، في عَرْقَلةِ أي تقدمٍ للحركة القومية الكردية.
بجانب ذلك، فإن الحركةَ الكُردية ذاتها لطالما عانت من إشكالات هيكلية، لعل أهمها هو عدم وجود برنامج توافقي للإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، بين كافة الفصائل الكردية على امتداد “كردستان” بشكلٍ يتناسب مع توجهاتها أو مطالبها القومية، لكن ذلك لا يمنع أن الحركةَ القوميةَ الكرديةَ قد تأثَّرت بالسياقِ العام المحيط بها والتحولات التي طرأت خلال الربع الأول من القرن العشرين، والتي تأثَّرت بدورها بالثورة الدستورية في إيران (1906م)، وصعود حركة “تركيا الفتاة” (1908- 1909م)، والثورة الروسية الأولى (1915م)، بجانب تنامي حركات قومية مُناظرة في الشرق الأوسط مثل حركتي القومية العربية والأرمنية الأمر الذي ألهَب حماسةَ الحركةِ القوميةِ الكرديةِ وسرَّع وتيرتها.
لم يكن ذلك ببعيد عن ظهور العمل الصحفي ذات الصِلَةِ بالشأنِ الكُردي وتطوره، لاسيما وأن الشعوب المجاورة للكُرد في الشرق الأوسط كالعربِ والأرمن في بعض الأحيان قد اهتموا بالكُرد في صحافتهم الوطنية؛ فكانت القاهرة مركزاً فكرياً للحركات الإصلاحية والثورة، حيث صدَرَت أول صحيفة باللغةِ الكُردية باسم كردستان، في 22 أبريل 1898م، على يد مقداد مدحت، سليل عائلة بدرخان الكردية الشهيرة. ومع تَشَكُّل أول جمعية كردية في اسطنبول عام 1908م تحت اسم “جمعية تعالي وترقي الكرد”، صَدَرت عنها جريدة (الكردي) باللغتين التركية والكردية، كما تفرَّع عن هذه الجمعية “النادي الكُرْدي”.
بجانب ذلك، توالَت الأندية الكردية المشابهة’ والتي مثَّلت مَيْداناً للتقارب بين الكُرد وغيرهم مثل الأرمن. كما تأسَّسَت جمعيةُ “المعارف الكُردية” (1910م)، وفي نفسِ العام تأسَّسَت جمعيةُ “الأمل” (هيفي) الطلابية باسطنبول (1910م)، وكذلك جمعية “الرَجُل الكُردي”. كما ظهرت الأندية الكُردية التي لَعِبَتْ دوراً في التقارب بين الكُرد وغيرهم مثل الأرمن.
وخلال سنوات الحرب العالمية الأولى، واصل المثقفون الكُرد نشاطهم الثقافي، فأصدر جمال الدين بابان عام 1913 مجلة كُردية باسم “بانك كُرد – نداء الكُرد”، وكانت تطبع في بغداد، وفي عام 1916م أصدر أحمد ثريا بدرخان مجلة (الحياة) في القاهرة باللغتين الكُردية والعربية، وفي عام 1917، أصدر محمد العهدي جريدة باسم (كُردستان) في اسطنبول. وقد تأثَّرت حركة الصحافة الكردية بنمو الفئة المثقفة بين الكُرد نتيجة لظهور المدارس الرسمية في العديد من الأقاليم الكُردية، فقد بلغ عدد الطلاب في المدن الكردية على النحو التالي: 30 طالباً في مدينة عقرة، و 30 في زاخو، و45 في العمادية، و 140 في السليمانية، و 155 في أربيل، وكان يوجد بالسليمانية مدرسة عسكرية تأسَّست عام 1893م وقد بَلَغَ عدد طلابها 110.
كما كان لصعود حركة “تركيا الفتاة” ووصولها على الحكم، بعد نجاح تمردها ضد السلطان عبد الحميد في عام 1908، أثرٌ دفع الحركة القومية الكُردية نحو المزيد من التنظيم، لاسيما مع انفتاح المجال العام، حيث استوعبت جمعية “الاتحاد والترقي” التابعة لحركة تركيا الفتاة العديد من الحركات السياسية المختلفة، بما فيها الكُرد أنفسهم؛ إذ كان لديهم أملٌ في استجابة الأتراك لمطالبهم عقب الاستقلال، لكن ما حدث كان ينافي طموحات الكرد.
تطور الحركة القومية الكردية بعد الحرب العالمية الأولى
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، اندفع الطموح الكرد نحو الاستقلال، فعلى هامش مؤتمر الصلح الذي عُقِدَ في باريس عام 1916م قام بعض الكُرد بدعايةٍ لإنشاء دولةٍ مُسْتقلةٍ تشمل شمالي كردستان وجنوبها، بل ورشَّحَت أسماء عديدة لرئاستها ومنهم الجنرال شريف باشا، الذي قدَّم مذكرةً للوفد البريطاني المشارك في مؤتمر باريس طلب فيها الموافقة على فرض الانتداب البريطاني والوصاية على كردستان، وكذلك حماية الوفد الكردي من السلطات التركية. وقد كان لذلك أثرٌ على مخرجات معاهدة سيفر Sèvres التي أبدت مرونةً بشأن القضية الكردية.
بجانب ذلك، فقد عانت الحركة القومية الكردية من غياب المشروع السياسي الموحد، فبالإضافة للضعف الواضح الذي مكن مصطفى كمال أتاتورك من شَقِّ الصفِّ الكُردي، فعندما صدر “الميثاق الوطني” الذي أقرَّ بأن جميع الأراضي المحتلة بتاريخ 30 أكتوبر 1918 تسكنها أكثرية عثمانية مسلحة مُتَّحِدة بالدين والعنصر، كما أقرَّ الميثاق بأن المقاطعات الشرقية بما فيها أرضروم وسيواش آمد(ديار بكر) ووان وتبليس وطرابزون، وهي مناطق ذات أغلبية كردية، إنما هي جزءٌ لا يتجزأ من الأراضي العثمانية ضمن الحدود القومية. أمام ذلك ثارت الشكوك والمخاوف بين الأكراد الأمر الذي قابله أتاتورك بالعمل على استمالة بعض الاقطاعيين الشيوخ الكُرد. وقد لَقِيَت دعوتُه انقساماً بين الكُرد رُغْم ما انطوى عليه الميثاق الوطني من إنكار واضح للقومية الكردية. ففي حين اعترض فريقٌ وطالب أتاتورك بتنفيذ ما جاء في مُعَاهدة سيفر، قام فريقٌ آخر (الذي تضمن بعض شيوخ العشائر الكردية بالإضافة إلى 27 نائباً كردياً منتخباً في المجلس الوطني) بإرسال رسالة إلى الحلفاء بأنهم لا يرغبون في الانفصال عن الأتراك، وأنهم يريدون العيش معاً للأبد.
مؤشراً آخر على ضعف الجبهة الكُردية يتمثل في نجاح بعض الكرد في منطقة راوندوز، الواقعة بجبل كركوك بالقرب من اربيل، للتعاون مع الأتراك في اختراق الحدود العراقية، في عام 1922، حيث تحرَّكَت وحدات عسكرية تركية على الحدود بالقرب من منطقتي نصيبين والجزيرة، على الحدود التركية السورية، حيث قام الأتراك بالفعل بأعمال عدوانية، لكن غالبية الكرد نجحو في المقاومة وتصدوا لها. كما أرسلت الجمعية العامة الكردية في السليمانية مذكرة إلى عصبة الأمم في أكتوبر 1924 تنكر فيها أية علاقة بين الكرد والأتراك، حيث كان الأتراك يطمحون لضم ولاية الموصل بغرض تذويب الهوية الكردية وصهر الكرد في كيانهم السياسي.
مهادنة أتاتورك للقوميين الكُرد
من بين نتائج الحرب العالمية الأولى، ولاسيما مع هزيمة الدولة العثمانية، انطوت معاهدة سيفر التي تم التوقيع عليها في في 10 أغسطس 1920، على بارقة أمل بالنسبة للكُرد، حيث قدَّمت تصوراً بفترةٍ مؤقتةٍ من الحُكم الذاتي للمناطق ذات الغالبية الكردية في تركيا بهدف الاستقلال الكامل إذا أراد سكان هذه المناطق ذلك. رُغم ذلك، إلا أن هذه المرحلة الفارقة قد تخلَّلَها خيبات أمل بالنسبة للكُرد، الأمر الذي خلَّف رد فعل عكسي من جانبهم، وقد انعكس ذلك على التصادم بين الكرد والسلطات التركية بعد ذلك.
لكن نتائج الحرب قد انعكست على موقف مصطفى كمال أتاتورك من الكرد، حيث دأب على مهادنتهم، وقد نجح بالفعل في اكتساب مناصرة البعض منهم خلال “حرب الاستقلال”. ولهذا الغرض قال أتاتورك في خطابه الأول في البرلمان الذي انعقد في ابريل 1920: “إن البرلمان لا يتألف من ممثلي الأتراك والكرد والشراكسة واللاز، بل إنه يتألف من ممثلي جماعة إسلامية موحدة بقوة”. وكان أتاتورك بهذا النهج يسعى لتحييد أي مقاومة كُردية خلال “حرب الاستقلال”، كما كان يسعى لضمان التعاون الكردي مع قواته حيث كان يعاني من نقص عدد في الجنود والمواد، لاسيما وأن الأتراك كانوا يواجهون خلال هذه الأثناء انتفاضة من جانب بعض الفصائل الكُردية فيما عرف بـ “ثورة كوجيكري” Qoçgirî والتي قادها بعض الزعماء الأكراد من قبائل كوشيجري مثل نوري دورسيم وحيدر بك. وكان هؤلاء القادة قد احتشدوا لمطالبة الحكومة في أنقرة بتحديد موقفها من فكرة إقامة الحكم الذاتي التي سبق وأن وعد بها السلطات العثماني قبل ذلك، بجانب المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين الكرد في السجون التركية، في العزيز، وملاطية، وسيواس وأززنجان، وسحب الموظفين والجنود الأتراك من المناطق ذات الغالبية الكردية. لقد حاول قادة “ثورة كوجكيري” تفعيل المكتسبات التي نصت عليها معاهدة سيفر وخاصة المادتين 62 و 64 لتأسيس حكم ذاتي. وبالتالي ونظرا لظروف الحرب، فإن أتاتورك آثر المهادنة تجاه الكُرد حتى تمكن من التغلب على “ثورة كوجكيري”. وقد تمكَّنَت قواته من الوصول إلى منطقة جبال منظور مَعْقَل الثوار، واعتقلت عددا منهم وإخمادها في ربيع 1921.
حرب الاستقلال وانقلاب أتاتورك على الكُرد
وفَّرَت نتائج حرب الاستقلال، وإعلان الدولة التركية في اكتوبر 1923م، لأتاتورك قدراً كبيراً من الأريحية والسيطرة على مقاليد السلطة، وقد مكَّنَه ذلك من الانقلاب على الكُرد ومخالفة وعوده لهم التي وصلت في وقت ما إلى إمكانية منحهم الحكم الذاتي على سبيل المهادنة سالفة الذكر. وفي هذا الإطار، أصدر أتاتورك جملةً من القوانين التي استهدفت الحَدَّ من تنامي النزعة القومية الكُردية لصالح سياسات التتريك التي تبناها آنذاك. وقد تضمنت هذه القوانين منع تعلم اللغة الكردية، وحظر نشاط الجمعيات والأحزاب التي تطالب بكيانات سياسية للأقليات القومية في البلاد وفي مقدمتهم الكرد.
وكجزء من هذه السياسة، نصَّت المادة 25 من الدستور التركي الصادر في 1924، على اعتبار اللغة التركية لغة البلاد الرسمية، وأعطت المادة (10) حق الانتخاب لكل تركي بلغ عمره 22، كما أعطت حق الترشخ للبرلمان لكل تركي بلغ من العمر 30 سنة. كما نصت المادة (88) على أن جميع سكان تركيا، بغض النظر عن دياناتهم وقومياهم، أتراك. هنا يلاحظ على صياغة مواد الدستور التركي أنها تجاهلت غير الأتراك المقيمين في تركيا، حيث لم تعترف بوجود أية قومية أخرى غير التركية. وبالتالي، لم يعد لأي إثنية غير التركية، بموجب هذا الدستور، الحق في الهوية أو التعليم، أو ممارسة حقوقها السياسية والثقافية والإدارية وقد أدى هذا الدستور إلى “دَمْجٍ قَسْري” للمواطنين غير الأتراك. كما أن ذلك يخالف المادة (38) من معاهدة لوزان، بالقسم الخاص بحماية الأقليات، والتي تنص على أن “الحكومة التركية تتعهد بمنح سكان تركيا الحماية التامة لحياتهم وحريتهم دون تمييز في الأصل والقومية والدين والعرق”. أما المادة (39)، فقد نصَّت على: “ألا تصدر أية مضايقات ضد المواطنين في تركيا بشأن الاستخدام الحر لأية لغة كانت سواء في العلاقات التجارية، أم في مجال الدين والإعلام والمؤلفات المطبوعة من أي نوع كانت أو في الاجتماعات العامة”.
أما ما سبق، انتقلت انتقل الوعي القومي لدى الأكراد نحو التصعيد، حيث اندلعت سلسلةٌ من الحركات الثورية والاحتجاجات والتي كانت أبرزها ثورة الشيخ سعيد عام 1925م، وانتفاضة آرارات (1927 – 1931)، وانتفاضة ديرسيم (1936 – 1938)، لكن أتاتورك تمكن من قمع هذه الثورات، وقد تحقق له ذلك نتيجة لعدة أسباب يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
التفوق الاقتصادي والعسكري لدى قوات أتاتورك وخاصة مع استخدام سلاح الطيران في حين تراجع قوة الكرد مع نفاذ المؤن لديهم، مما عَجَّل بنهاية هذه الثورات.
مساعدة إيران للأتراك، فقد سمحت لهم باستخدام الأراضي الإيرانية بهدف شن الهجوم على المقاتلين الأكراد، بل وسمحت إيران للجيش التركي بدخول أراضيها لتمشيطها بحثاً عن الثائرين. وقوف الدول المجاورة من هذه الثورات في ذلك الوقت موقفاً سلبياً الأمر الذي أدى لحرمان الثوار الأكراد من المساعدات الخارجية.
الإشكالات الذاتية الداخلية في الحركة الوطنية الكردية، وعدم وجود قيادة موحدة ولا برنامج ثوري متفق عليه لقيادتها.
رغم ذلك، شهدت هذه المرحلة نقلة نوعية للوعي القومي الكردي نحو انتهاج العمل المسلح، لاسيما مع الواقع الذي رسخته اتفاقية لوزان (1923م)، التي نسفت ما جاء في معاهدة سيفر، حيث تأكدت السلطة في يد أتاتورك، واحتشدت خلفه الدولة التركية الجديدة من خلال سياسة التتريك التي اعتمدتها كحجر الزاوية لعملية بناء الدولة في هذه المرحلة، وهو ما يعني معاداة كافة مظاهر التعبير عن الهوية الكردية، وقد أسفر ذلك عن رد فعلٍ عكسيٍ وحادٍ من جانب الكرد الذين انتقلوا نحو العمل المُسلح انطلاقاً من “الحركة الكُردية المسلحة” في عام 1925م.
وفي الإجمال، فقد اتسمت حركة الوعي القومي الكردي في مطلع القرن العشرين في الانتقال نحو المزيد من التنظيم نتيجة للانفتاح الثقافي والسياسي الذي وفرته التحولات في الشرق الأوسط عامة وفي الداخل التركي خاصة، لاسيما مع انتشار التعليم وتطور الصحافة الكردية. وكذلك الانفتاح على المجتمع الدولي أملاً في الاستفادة من نتائج الحرب العالمية الأولى. بالإضافة إلى الضعف النسبي الناجم عن عدم التماسك وغياب المشروع السياسي المتوافق عليه إما بسبب تنوع الرؤى بين الفصائل الكردية أو المناورات والضغوط التي مارستها السلطات التركية. وأخيرا، الانتقال نحو العمل المسلح كرد فعل على سياسات التتريك القسري ومحاولات طمس الهوية الكردية من جانب السلطات التركية.