هل نجح المشروع الإقليمي لأردوغان في الشرق الأوسط؟
تحليل د. طه علي أحمد ..
مع تسارع وتيرة التحولات في المواقف التركية تجاه قضايا الشرق الأوسط وأزماته الإقليمية، يبدو التساؤل منطقياً حول مَدى نجاح المشروع الذي تبنَّاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورَفَع رايته خلال السنوات العشر الماضية؛ حيث رفَعَت الانتفاضات والحِراكات الثورية والتحولات السياسية التي شهدتها العديد من دول المنطقة سَقْف طموحات وتوقعات الرئيس التركي بشأن إمكانية لِعْب دَورِ “المُهَيمِن” Dominant في منظومة التفاعلات الإقليمية المُحيطة به بما يخدم أجندته الداخلية والخارجية. لكن الإجابة على التساؤل السابق تفرض علينا مَعرفة جوهر المشروع الإقليمي لتركيا في عهد أردوغان.
بدايةً، يَجدُر القول بأن ثمَّةَ شِبْه إجماع بين النخبةِ السياسية التركية بأن بلادهم قد أضحت في وضعٍ يختلف جذرياً عما كانت عليه قبل مائة عام، أي عند تأسيس الجمهورية التركية عام 1923م عقب سقوط الدولة العثمانية وتجريدها من مناطق نفوذها بموجب اتفاقات تشبه “اتفاقات الاستسلام” مثل معاهدة سيفر 1920م، و معاهدة لوزان 1923م، وبالتالي، تترسَّخ لدى النخبة السياسية التركية قناعات بأن وضع الدولة التركية يجب أن يتم تعديله بما يتناسب مع ما وصلت إليه من حيث مُقَدَّرات “القوة القومية” National Power على كافة مستوياتها.
في هذا السياق، احتلَّت منطقةُ الشرق الأوسط مكانةً محوريةً لدى دوائر صنع القرار السياسي في تركيا، فقد اعتمدت الاستراتيجية التركية خلال تسعينات القرن العشرين على التقارب مع قوى إقليميةٍ مُؤثرةٍ مثل إسرائيل، لكن دورَها بالشرق الأوسط في هذه المرحلة لم يتسع على نحوٍ كبير، حيث احتل التوجه نحو الغرب مكانةً مركزيةً في الاستراتيجية التركية، إذ كانت أنقرة تأمل في توسيع نطاق الشراكات العسكرية مع الولايات المتحدة، وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع أوروبا لأغراض العضوية مع الاتحاد الأوروبي.
الشرق الأوسط في فكر “العدالة والتنمية”
وامتداداً لذلك، بدأ حزب العدالة والتنمية، منذ وصوله للسلطة بقيادة رجب طيب أردوغان في عام 2002 بتعريف نفسه كحزبٍ “ديمقراطي مُحَافظ” وذلك في محاولة للتقارب مع القوى الغربية وكذلك الأحزاب القومية في الداخل، وفي تلك المرحلة (2002 – 2011) تمكَّن الحزب من تحقيق نمو اقتصادي مُطرد. وفي هذه الأثناء ارتكزت المشروع التركي في الشرق الأوسط على رؤية المفكر الاستراتيجي والمعروف بـ “مهندس السياسة الخارجية” التركية خلال السنوات الأولى لحكم أرودوغان، أحمد داوود أوغلو، وهي الرؤية التي اندفعت تركيا بموجبها نحو نوسيع نطاق الشراكات الاقتصادية والتجارية مع دول الجوار الإقليمية (الدول العربية، وإسرائيل وإيران) وذلك لاكتساب مساحات إقليمية وتوسيع النفوذ التركي في محيطها الإقليمي، لاسيما وأن الأتراك أدركوا “شبه استحالة” قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وهو ما عبَّر عنه التوجه المعروف بـ “صفر مشاكل”. ففي كتابه “العمق الاستراتيجي” يقول أوغلو: “إن ثمة ثلاث سياسات متباينة يمكن لتركيا أن تنتهجها تجاه الشرق الأوسط: الأولى هي الابتعاد عن الشرق الأوسط، والثانية هي تطوير سياسات متناغمة مع سياسات معسكر دولي ما كسياسات حقبة الحرب الباردة، أما الثالثة فتقوم على النظر إلى الشرق الأوسط عبر مقاربة تركية خالصة مركزها أنقرة”. ويخلص أوغلو إلى ترجيح السياسة الثالثة التي تعمل من خلالها أنقرة على توجيه الأحداث في المناطق ذات الأولوية الاستراتيجية بالنسبة لها مثل العراق وسوريا”. فتركيا إن لم توجِّه الأحداث في هذه المناطق، فإنَّ إطرافاً أخرى ستوجهها لصالحها وستكون تركيا هي المتضررة، فبقاء تركيا كدولة وأمة مرهون بالأوضاع السياسية والاجتماعية في هذه المناطق وبما يمكن لتركيا أن تقوم به من دورٍ نشطٍ وفعالٍ فيها، كما يرى أوغلو.
الربيع العربي وصعود العثمانية الجديدة
غير أنه مع تسارع وتيرة الأحداث في الشرق الأوسط في إطار ما يعرف بـ البريع العربي” بداية من عام 2011، وتأكُّد تَعَثُّر مسار مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، شهدت السياسة التركية تحولاً ملحوظاً. حيث تصاعد دور الأيديولوجيا بغرض الاستفادة من دواقع المنطقة الذي انتشر فيها نموذج “الدولة الرخوة”، وتسيطر عليه جماعات الإسلام السياسي، فتمَّت الإطاحة بأوغلو والانقلاب على استراتيجيته، وانخرطت تركيا بقيادة اردوغان بشدة في قضايا المنطقة مما وسَّع مساحات العداء مع دول المنطقة. وفي تلك الأثناء، برز الحديث عن العثمانية الجديدة كأيديولوجيا حاكمة لتوجهات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وبالتالي، فقد أصبحت العلاقات التركية بمحيطها الإقليمي، وخاصة الدول العربية، تتحدد في إطار مشروع توسُّعي ذات صبغة قومية دارت في فَلَك ما أطلق عليه بـ “العثمانية الجديدة”.
والعثمانيةُ الجديدةُ هي أيديولوجيا سياسية تركية تروج في معناها الواسع للارتباط الأكثر بالمناطق التي كانت مُسْبقاً تحت حكم العثمانيين. وهي السياسة التي تبنَّاها حزبُ العدالة والتنمية. وقد مثَّلَت هذه السياسة انقلاباً على الأيديولوجيا الموروثة عن مصطفى كمال أتاتورك والمعروفة بـ “الكمالية”.
في هذا السياق، بات بإمكاننا النظر إلى السياسة التركية من خلال مستويين؛ الأول هو مستوى النخبة التركية التي اتجهت في مجملها نحو الاعتراض على معاهدة لوزان باعتبار انها حجَّمت تركيا وجرَّدَتها من مناطق نفوذها السابقة على الحرب العالمية الأولى. أما المستوى الثاني فيتمثل في النُخْبَةِ الإسلامية التي ينادي العديد منها بضرورة استعادة صيغة جديدة للدولة الإسلامية، وفي مقدمة هؤلاء أحمد داوود أوغلو نفسه. أما المستوى الثالث فيمثله أردوغان نفسه الذي يرى أنه شخصية تاريخية ويرى قدوته السلطان سليم الأول، كما أنه يعتمد على فكرة “الانكشارية”، وهي المرادف التاريخي لمصطلح “المرتزقة”، إنما هي امتداد لفكرة التي اعتمد عليها سليم الأول، وهو ما يقوم به أردوغان حاليا من اعتماد قوات غير نظامية (المرتزقة) كواحدةٍ من أدوات تنفيذ السياسات التركية في مناطق الصراعات بالدول المحيطة مثل سوريا وليبيا وغيرها. والانكشارية هُم أسرى الحروب الذين كان يفصلهم العثمانيون عن ذويهم ويتم تربيتهم على أن يكون السلطان هو والدهم الروحي وإعدادهم لكي تكون الحرب هي صنعتهم الوحيدة في الحياة.
الميثاق الملِّي والوطن الأزرق
وكَجُزءٍ من “العثمانية الجديدة” شمَلت الخريطة التي راحت تروج لها السلطات التركية منذ عام 2016 كُلاً من شمال سوريا حتى اللازقية، ومنطقة الموصل في العراق. كما تمتد إلى ما وراء حدود الجزء الأوروبي من تركيا عبر مضيق البوسفور إلى أجزاء من بلغاريا وسالونيك في غرب تراقيا، وهي المنطقة التي كانت تحت الحكم العثماني عند توقيع وقف إطلاق النار في عام 1918، كما أنها المناطق التي تنازل عنها الاتراك بموجب معاهدة لوزان 1923.
وتطبيقاً للعثمانيةِ الجديدةِ في المحيط الإقليمي لتركيا، انتشرت مفاهيم ذات مضامين توسعية، مثل الميثاق المِلِّي، و”الوطن الأزرق” Blue Homeland بما يُرَسِّخَ التحولات التي طرأت على الفكر الاستراتيجي التركي بعد الاطاحة بفلسفة “صفر مشاكل”، أما فيما يخص الميثاق الملِّي فيشير إلى وثيقة ترسيم الحدود الجديدة للدولة التركية والتي وقع عليها مصطفى كمال أتاتورك في يناير 1920م، ووفقاً لهذه الوثيقة فإن “المناطق التي تسكنها غالبية مُسلمة فهي تَعني وطناً للأمة التركية”، وقد أطلق المسؤولون الأتراك، وعلى رأسهم أردوغان نفسه، سَيلاً من التصريحات التي ترسَّخ ذلك المضمون في أذهان الأتراك، وقد تم تضمين أهداف أردوغان التوسعية في الأراضي السورية والعراقية وغيرها في إطار “الميثاق الملِّي”.
ففي 4 مايو 2009 قال أردوغان أنه بصدد خطةٍ لإعادة مليون لاجئ سوري إلى ما أسماه “المنطقة الآمنة” وهي جزء من الميثاق الملِّي وفقاً لأردوغان. وفي 8 أغسطس 2011 قال أردوغان أن “سوريا ليست مسألةً خارجية، بل نراها شأناً داخلياً”، وفي 15 يوليو 2012 قال أيضا: “يسألوننا عن أسببا انشغالنا بسوريا، الجواب بسيط للغاية، لأننا بلدٌ تأسَّس على بقية الدولة العثمانية، نحن أحفاد السلاجقة، نحن أحفاد العثمانيين”. وفي موضع آخر يقول “إذا دَرَسَت الأجيال الجديدة الميثاق الملِّي، سوف تعرف مسؤوليتنا في سوريا والعراق، فمن أجل ذلك علينا أن نكون على الطاولة وفي الميدان. وفي 18 يناير 2018 قال أردوغان “إن شمال سوريا كان ضمن حدود الميثاق الملي”. وفي 16 سبتمبر من نفس العام قال خلال عودته من باماكو، عاصمة أذربيجان”، “نحن لا نعترف بالنظام السوري، ولا نعترف بالدولة السورية، إذا كان البعض هنا لحماية النظام فنحن هنا لحماية الشعب، الناس يحملون العلم التركي”.
أما فيما يَخُصُّ مفهوم “الوطن الأزرق” فقد ظهر عام 2006 من خلال الجنرالين البحريين جهاد ياييجي Chihad Yayci وجيم جوردينيز Cem Gürdeniz، حيث يَنُصُّ على ضرورة سعي تركيا لبسط سيادتها على مساحات شاسعة من شرق البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود، بل ويجب أن يكون لتركيا حضور في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الأطلسي كرمزٍ لتزايد نفوذها. وفي ضوء ذلك، تم إنشاء قاعدة عسكرية تركية في الصومال في سبتمبر 2016، كما أبْرَمَت تركيا في نوفمبر 2019، مع حكومة فائز السراج في ليبيا على اتفاقاً بحرياً يمنح الأتراك المزيد من حرية الحركة في البحر المتوسط، وفي 2014 وقَّعَت تركيا وقطر اتفاقية أمنية استراتيجية منحت أنقرة قاعدة عسكرية بها، كما تم نشر حوالي 3 آلاف جندي تركي بالإضافة إلى وحدات جوية وبحرية وخبراء عسكريين وقوات عمليات خاصة خلال الأزمة الخليجية عام 2015، وفي سوريا خاضَ الأتراك العديد من العمليات العسكرية تحت مسميات مختلفة مثل “شاه الفرات” 2015،
“درع الفرات” 2017، و”غصن الزيتون” 2018، ونبع السلام 2019، و”المخلب والسيف” 2022، وعلى امتداد الأراضي التي سيطرت عليها تركيا في هذه العمليات لم تتوقف سياسة “التتريك” الحاصلة في المنطقة بما يتناغم مع استراتيجية إعادة التاريخ العثماني، الأمر الذي توازت معه حملات نشر الثقافة واللغة التركية عبر وسائل مختلفة كالدراما والمؤسسات التعليمية التركية التي تم غرسها في مناطق النفوذ التركية في شمال غرب سوريا، بهدف خلق جيد جديد يتكلم التركية بجانب العربية.
احتدام الأزمة
كما انزلقت العلاقات التركية بدول عربية محورية مثل مصر السعودية والإمارات إلى أدنى مستوياتها، فقد خاض أردوغان حملةً شرسةً ضد مصر والإمارات والسعودية بعد سقوط مشروع الإسلام السياسي في مصر عام 2013، واصطدام هذه الدول بطموحات أردوغان في البحر المتوسط، وقد ترتب على ذلك عزلة إقليمية لتركيا وخاصة بعد قيادة مصر لتحالف في شرق المتوسط أسفر عن تأسيس إطار تنظيمي تحت مسمى “منتدى غاز شرق المتوسط”. بجانب هذه العزلة الخارجية، أضحى أردوغان بصدد أزمة داخلية قبيل شهور من الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مايو 2023.
فعلى الصعيد الاقتصادي وصل العجز التجاري إلى 5.16 مليار دولار في يونيو 2023، كما وصل مستوى التضخم إلى نحو 80% إذ أصبحت شركات التصدير ملزمة ببيع 40% من عائدات النقد الأجنبي للبنك المركزي، ومرَّت العملة الوطنية “الليرة” بتعثرات كارثية إذ فقدت ما يزيد على 40% من قيمتها أمام الدولار، كما وصل الدين العام إلى مستويات عالية جدا، بالإضافة إلى تداعيات الزلزال الذي ضرب البلاد في فبراير 2023.
أما على الصعيد السياسي، فقد شهد المجتمع التركي تكتلاً لقطاعٍ عريضٍ عبَّر عنه تحالف بين ستة أحزاب في مواجهة اردوغان. كما عبَّر عن ذلك رفيقه القديم أحمد داوود أوغلو الذي قال في حوار مع مجلة “المجلة” السعودية: “أن أردوغان أجرى تحولاً من نظام برلماني مُزَيف إلى نظام رئاسي مزيف”، فيما يشير إلى تركَّزِ السلطة في كافة الأحوال في يد أردوغان، بل يقول أوغلو أيضا انه في تركيا يوجد أمران لا يمكن أن تعرفهما هما “يوم موتك ويوم الانتخابات”، وذلك في إشارة إلى عدم اليقين الذي يُمَيِّز العملية الديمقراطية في تركيا.
تبدل المواقف التركية
أما ما سبق، اضطر الرئيس التركي لتغيير بوصلة سياسته الخارجية، حيث أطلق مسؤولون أتراك عدداً من التصريحات الإجابية الرامية لتحسين العلاقات مع دول المنطقة، وقد تمثل أبرزها في دعوة أردوغان نفسه في نوفمبر 2020 إلى فتح القنوات الدبلوماسية والمصالحة مع كافة دول المنطقة، ثم أعقب ذلك تحولٌ جذريٌ في السياسة التركية تجاه أنظمة الحكم الحكم التي لطالما اعتبر أردوغان أنه في خصومةٍ لدودةٍ وقد بدأ ذلك باتصال مع الملك سلمان في المملكة العربية السعودية لفتح قنوات الحوار وتحسين العلاقات الثنائية وفي 12 مارس 2021 صرح وزير الخارجية التركي “مولود تشاويش أوغلو” بأنه “لا يوجد لدى أنقرة أي سبب يمنع تحسين العلاقات مع السعودية”، وكان سقف العداء مع السعودية قد وصل ذروته، مع استغلال أردوغان قضية مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” في السفارة السعودية بأنقرة، ومهاجمة المملكة والتشكيك في الرواية الرسمية بشأن هذه القضية. لكن مع التحولات، وبمنطق براجماتي لطالما تميز به الرئيس التركي، دشَّن الاتصال الهاتفي بالملك السعودي حملة متسارعة للتقارب بين أنقرة والرياض أسفرت عن التوقيع على عددٍ من اتفاقات الشراكة الاقتصادية بين الجانبين وذلك خلال جولة خليجية أجراها أردوغان في يوليو 2023. والحال نفسه بالنسبة لدولة الإمارات التي تسارعت وتيرة التقارب معها حيث استقبل أردوغان الأمير محمد بن زايد، وقت أن كان وليا للعهد في نوفمبر 2021، ثم أعقبها زيارتان لأردوغان إلى أبو ظبي كانت الأولى في فبراير 2022، والثانية خلال جولته الخليجية في يوليو 2023. أما بالنسبة لمصر، فإن ثمة مساراً مُتَعَرِّجاً تسعى من خلاله أنقرة للتقارب مع القاهرة، إلا أن ذلك المسار تتصدى له العديد من العقبات مثل الوجود التركي في ليبيا واحتضان أنقرة لجماعة الإخوان التي تلاحقها السلطات المصرية على إثر جرائم سياسية وجنائية ضخمة.
وفيما يخص العلاقات مع النظام السوري، فعلى النقيض من الموقف المعارض لبشار الأسد، فبعد أن وصل العداء مع النظام السوري إلى ذروته مع دعم أنقرة لتشكيل ما يُعرَف بـ “الجيش السوري الحر” كقوةٍ عسركيةٍ مُعَارضةٍ ترفع راية الإطاحة ببشار الأسد، والتوغُّل في الأراضي السورية واحتلال أجزءا منها (ريف حلف في أغسطس 2016، وعفرين في يناير 2018، و تل أبيض ورأس العين في اكتوبر 2019)، وفي إطار التحولات الجذرية للسياسة التركية دخلت أنقرة في مسار لتطبيع العلاقات مع النظام السوري بقيادة روسيا وإيران وكانت البداية، ورغم تعدد اللقاءات بين مسؤولين أتراك ومسؤولين تابعين للنظام السوري، إلا أن أنقرة فشلت حتى اللحظة في إجراء لقاء بين أردوغان وبشار الأسد، الأمر الذي يُعزيه الأخير إلى تمسكه بضرورة انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية التي يحتلونها.
هل نجح أردوغان؟!
هنا نعود إلى التساؤل الرئيس وهو: هل نجح مشروع أردوغان الذي رفع رايته على مدار السنوات العشر الماضية؟
بالنظر إلى حالة التموضع الراهن لتركيا بشأن أزمات الشرق الأوسط وقضاياها، والتي أضحت على النقيض مما كانت عليه قبل أعوام، يتبين لنا حَدَّ الفشل الذريع الذي مُنِيَت به السياسة التركية. ففي حين راهن أردوغان على قوى الاسلام السياسي كرأس حربة لمشروعه الإقليمي، باتت هذه القوى في موقف بائسٍ بعد سقوطها سياسيا وشعبيا، بل أضحت رهنا للمساومات والتفاوض بين أنقرة والقاهرة. وبعد أن كانت عبارات مثل “بشار قاتل” و”بشار دكتاتور دموي ومستبد”، من ضمن مفردات أردوغان اليومي، والحال نفسه مع قادة آخرين مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان اللذان طالَت تصريحات أردوغان العدائية حَدَّ الهجوم الشخصي عليهما، نجد أن الموقف قد تبَدَّل جِذرياً ولم يَعُد لأردوغان أعداءٌ في المنطقة سوى المكون الكردي، وباتت محاصرةٌ تجربةٌ “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” أحد الأهداف الرئيسة لأردوغان في المنطقة.
أخيراً، لقد أسْرَف أردوغان في تقدير وضعه وموارده، إذ ليس لدى تركيا ما يكفي لتكون قوةً عالميةً، أو حتى قوةً إقليميةً مُرَحَّبٌ بها، فالرئيس التركي لا يتفهم أن القوة العالمية هي التي تراها القوى الأخرى عالمية وليس مجرد إدراك ذاتي قد يشوبه سوء التقدير، كما أن القوةَ الإقليميةَ هي تلك القوة التي تقود الإقليم نحو الاستقرار وليست القوة الانتهازية التي تسعى لابتلاع غيرها أو الإطاحة بخصومها، وهو ما افتقده الرئيس التركي، الذي غاب عنه الاعتدال في التعامل مع منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي جعل يومَه على النقيض من أمسِه.