العلاقات التركية مع منطقة الخليج وانعكاساتها على سياستها الإقليمية

تحليل يكتبه السفير شريف شاهين ..
شهدت علاقات تركيا بمنطقة الخليج وخاصة السعودية والإمارات العربية صعوداً وهبوطاً على وقع طموحات تركيا وتعقيدات الماضي منذ سقوط الخلافة الإسلامية ودور الحجاز في الثورة العربية الكبرى، التي لازال العقل الجمعي التركي يعتبر أنها كانت الخنجر المسموم فى خاصرة الإمبراطورية العثمانية؛ تم ما لبث أن دار التاريخ دورته وأصبحت المصالح الاقتصادية هى عنوان المرحلة مع فورة الحقبة النقطية في الخليج وانفتاح تركيا على الاستثمار والاستفادة من هذه الفورة.
ثم ما لبث أن صعد حزب العدالة والتنمية إلى قمة السلطة فى تركيا في أواخر التسعينيات واقترنت طموحات تركيا الاقتصادية بطموحات سیاسية وعقائدية أكبر على وقع تبنى حزب العدالة والتنمية التركي لسياسة تهدف إلى دعم مراكز الإخوان المسلمين فى العواصم العربية الكبرى من المغرب إلى العراق مرورا بالشام ثم منطقة الخليج، وكان التركيز الأبرز على الدول التالية؛ السعودية والكويت والإمارات، والتي تضمن حواضن شعبية نشطة لأحزاب و جمعيات ومشاريع اقتصادية للإخوان، ما لبثت أن زادت طموحاتها مع ثورات الربيع في تونس ومصر وسوريا و واليمن وليبيا والبحرين.
كان الاستنفار للأجهزة الأمنية فى السعودية والكويت والإمارات والبحرين ذات الوضع الخاص مع الأغلبية الشيعية خشية انتقال هذه الثورات إلى أراضيها وحفاظاً على أنظمتها الملكية المحافظة، فكان الصدام التركي الإماراتي على خلفيه دعم تركيا للنظام الإخواني في مصر ودعم أخوان الإمارات، حيث اعتبرت الإمارات أن سقوط مصر في يد الاخوان هو مقدمه لإسقاط الأنظمة الخليجية المحافظة، فكان التعاون الأمني و المخابراتي والعسكري على أشده خلال العامين ٢٠١٢ و ٢٠١٣ لإسقاط حكم الإخوان فى مصر ومنع امتداده إلى السعودية والبحرين و الكويت، ثم جاء انقلاب تركيا العسكري الفاشل فى صيف ٢٠١٦ ليعزز من مخاوف تركيا من الدور الخليجي الساعي إلى إسقاط المشروع الإخواني.
تم ما لبث أن زاد الطين بله، حادثه اغتيال الناشط السعودي جمال خاشقجي فى عام ٢٠١٩ بمدينة إسطنبول التركية، والتي اعتبرها أردوغان بمثابة اعتداء على سيادة تركيا و ضربه شديدة للأجهزة الأمنية على أراضيها، في وقت سعت فيها تركيا خلالها لتكون قبلة السياحة والاستمارات في المنطقة .
وقد أعقبت هذه المشكلة فترة من المواجهة الساخنة بین تركيا وكلاً من السعودية والإمارات مع تطلع دول الخليج كالسعودية والإمارات والبحرين بمسانده مصرية لعزل قطر واسقاط نظامها الذي كانت هذه الدول تراه اختراقاً إخوانياً لمجلس التعاون الخليجي، نتيجه احتضان نظام قطر لسياسة تتعاطف مع جماعة الإخوان وترى أن ما حدث في كل من مصر سوريا واليمن وتونس شكل ضربه قاسيه للنهج الإخواني الذى ارتدى ثوب الديمقراطية وأتى إلى السلطة بالصناديق، فكانت هذه الأحداث بمثابه مواجهه ساخنة بين مشروعين اقليمين يتصارعان على النفود:
1- مشروع أردوغان التركي العثماني لدعم الاخوان، والوصول إلى السلطة لصيانة مشروع إقليمي لإمبراطورية أردوغانية ترتدى ثوب الحداثة.
2- مشروم خلیجي محافظ، يسعى إلى الإبقاء على ما تبقى من إرث العائلات الخليجية، والتي نجحت في الستينات في الخروج من الحقبة الناصرية بانتصار ظاهر بعد معركة ١٩٦٧ وسقوط المشروع الناصري.
والآن نحن أمام سياسة تركية جديدة فى المنطقة بعد نجاح الطيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. تسعى تركيا إلى معالجه أخطاء المرحلة السابقة وتبنى سياسات براجماتية لتعريز وضعها الأمني والاقتصادي المضطرب بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وحساسية مكانة تركيا الجيوسياسية في هذه الحرب وانعكساتها على الاقتصاد التركي المضطرب بسبب العبىء التركي الإقليمي وتدخلاتها، حيث تتواجد لتركيا قوات في ليبيا لدعم نظام الدبيبة في الحرب و من ورائه جماعات الإخوان، وفي قطر، حيث ساهمت قوات تركية في حماية نظام الأمير وفى السودان والصومال والقرن الإفريقي.
انتهجت تركيا خلال العامين الأخيرين ٢٠٢٢ و ٢٠٢٣ سياسه براجماتية بتقليل التوتر في العلاقات مع دول المنطقة الرئيسية السعودية و الإمارات ومصر، وساهمت زيارة رئيس دولة الإمارات خليفه بن زايد لإسطنبول العام الماضي في فتح صفحة جديدة من العلاقات بين الدولتين، كما عزز هذا التطور جولة أردوغان الأخيرة فى منطقة الخليج بزيارة كلاً من السعودية والإمارات و قطر وفتح صفحة جديدة من العلاقات مع الإمارات والسعودية حيث من المأمول أن يزيد حجم التبادل التجاري ٦,٥ ملياراً فى العام الماضي الى ٤٠ ملياراً في عام ٢٠٢٥، ووقعت السعودية مع تركيا اتفاقيات هامة لدعم الصناعات العسكرية السعودية مستعينة بالخبرات التركية، حيث تولي السعودية اهتماماً بالطائرة(البيرقدار) المسيرة وترغب في مساندة تركيا لتوطين الصناعة العسكرية السعودية على أراضيها وكذلك مشاركة الشركات التركية وخاصة شركات المقاولات في مشروعات مشروع “نيوم” السعودي السياحي الطموح على ساحل البحر الأحمر.
وفيما يتعلق بالإمارات فقد بلغ حجم التبادل التجاري غير النفطي ١٩ ملياراً عالم ٢٠٢٢ و متوقع أن تبلغ ٤٠ ملياراً في غضون السنوات الثلاث الأخيرة
والخلاصة أن التقارب التركي الخليجي الأخير، لديه من الدوافع وفرص النجاح والاستمرار بعد أن كانت تركيا أكبر الداعمين للربيع لعربي عام ٢٠١١ الذى شهد انتكاسه على يد الخليج، ولكن هذا لا يعني تخلي تركيا عن سياساتها في محاولة تأكيد لنفوذها الإقليمي مستغلة قوة علاقاتها مع ايران أكبر خطر يهدد أمن الخليج، وكذلك تـسعى إلى دعم نفوذها العقائدي في الشام وبلاد الرافدين عبر سلسلة من الأنشطة الاستخباراتية والعسكرية فى كلاً من العراق وسوريا ولبنان، ففي لبنان على وجه الخصوص تسعى تركيا الى الهيمنة على القرار السنيّ اللبناني، وازاحه النفوذ السعودي التقليدي فى هذا البلد، الذى يعانى من مشاكل طائفية تهدد (مشروم الطائف) الذي بنى نظاماً سياسياً مستقراً وإن كان هشاً، وليكون النفوذ الأمني والعسكري التركي شوكة في خاصرة الخليج اذا ما فكرت دوله في إعادة الدور الذى لعبته بنجاح خلال أحداث الربيع العربي.
هذا وستظل السياسة التركية في منطقه الخليج، تشهد نوعاً من الترقب الحذر والتوتر الملحوظ على خلفيه شكوك دول مجلس التعاون الخليجي فى نوايا ورغبة تركيا من جانب آخر وفي التقاطها انفاسها وإعادة الحياة الى دورة اقتصادها المنهك استعدادا لجولة أخرى من الصراع من الجانب الأخر، والذى سيأتي حتماً مع تطلع نظام أردوغان لدعم المشروع الإسلامي السياسي فى المنطقة وتأمين دوام وجود قواته في بعض الدول العربية.
ويبقى السؤال الأخير، هل ستكون لهذه العلاقات والسياسات انعكاساً على سياسة تركيا المناهضة للمشروع الكردي الديمقراطي في كلاً من سوريا والعراق وكذلك في تركيا، والجواب سوف تأتي به الايام على خلفيه نجاح المكون الكردي ضمن هذه الدول فى الاصطفاف والاستفادة من هذا الصراع لدعم مكانته الإقليمية ولعب أوراقه السياسية بذكاء في ضوء القرارة الواعية لهذه التطورات .