تطور الوعي القومي الكُردي في القرن العشرين

تحليل د. طه علي أحمد .. رُغم المسيرة النضالية التي خاضها الكُرد على مدار القرنِ التاسع عشر ومَطْلع القَرنِ العشرين، والتي كَثُرَت فيها الانتفاضات والاحتجاجات الثورية، حِفاظاً على الهوية الثقافية للكُرد أينما وُجِدُوا، وللحصول على الاستقلال عن القوى الإمبراطورية الاستعمارية المُهَيْمِنَةِ في إيران وتركيا وأيضاً النظام الملكي في العراق، رُغْمَ ذلك إلا أن الوعيَ القومي الكُرْدي لم ينتقل إلى مستوى الفكر القومي المُنْتَظِم بإطارٍ فلسفيٍ كما ظَهَرَ بأوروبا في تلك الأثناء.
ففي حين شَهِدَت أوروبا صُعود حركةِ القوميات بدايةً مما يُعْرَف بـ “رَبيع الأُمَم” The Spring of Nations في 1848 – 1840م، ثُم توالت موجات المَدِّ القومي بين الأوروبيين وصولاً إلى تَبَلْوُر تجربة الاتحاد الأوروبي على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، كما شَهِدَت هذه الفترة بزوغ حركةِ القوميةِ العربيةِ المدفوعة بأيديولوجية قومية، إلا أن حركةَ الوعي القومي الكردي قد غاب عنها ذلك الإطار الأيديولوجي على مدار الفترات السابقة.
فلطالما كان النضال الكُردي يدور في إطارِ عَدَدٍ من المفاهيم مثل “الاستقلال” و”الحُرِّية” و”الحقوق الثقافية للأمة الكردية”، وهكذا لم تَكُن ثَمَّةَ فلسفةٌ عامةٌ تحكم هذه المسيرةَ النضاليةَ، وتضع تلك المفاهيم في سياقٍ أيديولوجيٍ، وذلك رُغْمَ انتشار الوعي القومي الكُردي بشكلٍ ملحوظ بين المُتعلمين ورجال الإعلام. فالصُحف الكردية، بداية من صحيفة “كُردستان” التي تأسَّسَت في 22 أبريل 1898م، لعبت دوراً مُهِماً في توحيد القوى الكردية والدعوى لتحرير كردستان من السيطرة التركية والفارسية، والمطالبة بتشكيلِ دولةٍ كُرديةٍ مُستقلة. لكن ذلك لم يمنع من بعض الأدوار السلبيةِ التي نُسِبَت إلى فئاتٍ من الكُرد كأولئك الذين شَمَلَتْهُم “الوية فرسان الحميدية” التي شكَّلَها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في مدينة “آلاشكيرت”، كأداةٍ للتنكيل ببعض الطوائف في المناطق الحدودية مع روسيا، ويُقَال أن ذلك جاء بإيعازٍ من الدبلوماسيين الإنجليزي، وقد توافَقَت هذه المشورةُ مع توجهات السلطان العثماني. لكن تجربة “الأولوية الحميدية” لا يمكن اعتبارها بمثابة كخطوةٍ في مسيرة الوعي القومي الكردي حيث لم يشارك أفرادها بوازع قومي أو هوياتي إنما جاءت كمناورةٍ من جانب السلطان العثماني لتنفيذ سياساته الإقصائية لقمع الأقليات في الدولة العثمانية من جانب، واحتواء الحس القومي لدى العناصر التي شاركت في هذه الأولوية، وسَدِّ الطريق أمام تطور حركة الوعي القومي الكردي من جانب الكُرد على جانب آخر.
القَبَلية والعشائرية تقود الوعي القومي الكردي
بحكم الطبيعة العشائرية للمجتمع الكردي، فقد احتلَّت الشخصيات والقيادات العشائرية مكانةً مركزيةً في سيرورة الوعي القومي الكردي مثل الأمير بدرخان (1803-1869م)، والشيخ عبيد الله النهري (1826 – 1883م) والشيخ سعيد بيران (1865 – 1925م)، والجنرال إحسان باشا (1896 – 1976م) في تركيا، والشيخ محمود الحفيد (188 – 1956م) والشيخ أحمد البارزاني (1896-1969م) والشيخ مصطفى البارزاني (1903 – 1979)م) في العراق، وسمكو آغا شكاك (1887 – 1930م)، وقاضي محمد (1893 – 1947م) في إيران وغيرهم، وقد مثل هؤلاء القادة التاريخيين نماذج مهمة للوعي القومي الكردي. وتجدر الإشارة إلى أن الطبقة الإقطاعية من الشيوخ ورؤساء العشائر الكُردية قد استفادت من التحولات التي طَرأَت على المجتمع التي توجد بها، ففي تركيا – على سبيل المثال – تَشَكَّل تحالفٌ مُجتمعيٌ من مُلَّاك الأراضي من الأتراك والكرد، مما وفَّر قاعدةً انتخابية للنُخَب التركية من بين الكُرد التابعين لشيوخ العشائر الكُردية فكانوا مَوْرِداً للأصوات الانتخابية. ولهذا، فإن الحقوق المدنية والسياسية التي يحصل عليها الكرد كانت تُمنَح للإقطاعيين الكرد، بينما يُحْرَم الفلاحون من كافة الحقوق. أما الطبقة البرجوازية الكُردية، فلم تخلوا مِمَّن يُمَثِّلَهم في الأحزاب السياسية التركية، ولهذا كانت هذه الطبقة تتحفظ تجاه الحركة القومية الكُردية، لكنها لم تكن مُنْعَزلة عن مَسيرة الوعي القومي الكُردي بالكُلِّية، لكنها لم تكن في مُقَدِّمة اهتماماتها ولم تناضل من أجلها.
الوعي القومي الكردي في مرحلة ما بين الحربين
لقد تفاعلت القوى الكُردية مع المستجدات التي ألقت بظلالها على صراعات الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تشَكَّلت الدول القومية بدعمٍ من القوى الاستعمارية، وانخرط الكُرد في العملِ السياسيِ المُنَظَّم وتفاعلاته الإقليمية، وقد كان الوعي القومي الكردي في هذه المرحلة قد تَشَكَّل كموروثٍ تاريخيٍ تجسد في مشاركة الكرد في حرب الاستقلال (1919 – 1923)، حيث شارك 77 مُمَثِّلاً للكرد في أول برلمان تركي، إلا الحكومة الجديدة في تركيا، والتي قادها الكماليون بنهج قومي متطرف، انقلبت على الكرد واتبعت تجاههم ما عرف بـ “سياسة التتريك” الرامية لصهر الهوية الكردية في المجتمع التركي وإنكار وجود الكرد كجماعة متمايزة ذات حقوق ثقافية داخل المجتمع التركي، وهو ما ترتب عليه أن شهدت الفترة ما بين1920 – 1940، نحو عشرين حراك ثوري من جانب الكرد بداية من “ثورة كوجكري” (1920 – 1921) التي أطلقها قادة قبيلة كوجكري ضد الإجراءات القمعية لقوات مصطفى كمال أتاتورك تجاه قادة القبائل الكردية ورفض أتاتورك للحقوق التي منحتها معاهدة سيفر للكرد، و”ثورة الشيخ سعيد بيران (1925)، وهو من المشايخ ذوي النفوذ الديني وكان لديه مريدين وأتباع، وقد اندلعت هذه الثورة ضد مساعي “الكماليين” لإنكار وجود الكرد ومحاولات صهرهم في المجتمع الكردي بكافة السُبُل، وانتفاضة إقليم آكري(أرارات) المسلحة التي نظمتها جمعية “خويبون” (الاستقلال) عام 1930 ردا على اتخاذ الحكومة التركية المزيد من إجراءات لتتريك الكُرد، وانتفاضة “درسيم” التي اندلعت في إقليم درسيم عامي 1936 – 1937 رداً على إجراءات قمعية ضد زعماء القبائل واستمرار سياسة التتريك وغيرها من أشكال الحراك الثوري التي تتابعت في هذه المرحلة.
رغم ذلك، ظَّلَت مسيرةَ الوعي القومي الكردي مُحَملَّةً بأعباءٍ مُعَرْقِلةٍ لها؛ مِثْل عَدَم وجود مشروع سياسي مُوَحَّد ومتوافق عليه بين القوى الكردية، وقد تجلَّى ذلك في الصراعات العشائرية التي غذَّتها الطبيعة القبلية والعشائرية للمجتمع الكردي؛ ففي بداية ثلاثينات القرن العشرين طَفَت على السطح الصراعات بين قبائل كُرْدِيةٍ منها عشيرتي “بارزان” و”براودست” التي تصارع قادتهما الشيخ أحمد البارزاني والشيخ رشيد لولان رئيس عشيرة براودست على الزعامةِ الدينية والعشائرية في منطقة براودست Bradost (الواقعة بين إيران والعراق وتركيا)، وهي أجد مركز كُردستان المهمة، وقد انتقل هذا الصراع مع الحكومة العراقية والإدارة البريطانية التي عَمَلت على تعميق الخلافات بين العشائر في هذه المناطق وصولاً إلى مرحلةِ الصِراع المُسَلَّح الذي عبَّرت عنه (ثورة البارزاني 1931م)، حتى تمكَّنَت الحكومة العراقية بمعاونة البريطانيين من إخماد الحركة المُسَلَّحة للشيخ مصطفى البارزاني في يوليو 1932، حيث لجأ وأتباعه إلى تركيا فتحقَّقت السيطرة للحكومة العراقية على المنطقة. ورُغم لجوء البارزانيين إلى تركيا، إلا أن السلطات التركية أعادتهم للعراق فتم نَفْيُهم جنوباً إلى مدينة السليمانية عام 1935م، إلى أن تمكَّن الشيخ أحمد البارزاني من الفِرار إلى شرق كردستان(غرب إيران) في 1942، ثم عاد لاحقاً إلى قريته “بارزان”. وقد تَمَيَّزت هذه المرحلة بالصدام بين المُكَوِّن الكردي والحكومة العراقية، ورُغم التوصل إلى اتفاقٍ مع رئيس وزراء العراقي نوري المالكي، إلا أن ذلك الوضع لم يستمر حيث استقال السعيد ليعود الصراع بين الجانبين بالتوازي مع الدَعْمِ البريطاني للحكومة العراقية. وعلى خلفية ذلك، انتقل البارزاني وأعوانه إلى كردستان إيران التي كانت تشهد آنذاك قيام “جمهورية كردستان” في مدينة مهاباد شمال غرب إيران، وكانت جمهورية كردية صغيرة في 22 يناير 1946، لكنها سرعان ما انهارت (بعد 11 شهر فقط)، حيث تم إعدام زعيمها “قاضي محمد” في 31 مارس 1947، وتمكَّن البارزاني الذي عمل رئيساً لأركان جيش الجمهورية ، من الهروب إلى الاتحاد السوفيتي لمدة 12 سنة.
الوعي القومي الكردي بعد الحرب العالمية الثانية
بعد الحرب العالمية الثانية، بَرَزَت فجوةٌ فاصلةٌ في الذاكرة التاريخية الكُردية، حيث بدأ الشِقَاق يتَّسِع بين مكونات الجماعة الكردية، وزاد الميلُ نحو التجزئةِ بفضل جهود الدولة القومية المركزية، في كُلٍّ من إيران وتركيا والعراق وسوريا. ورغم تجانس الأُمَّة الكُردية، إلا أن الهُوِيَّةَ الساسيةَ للكُرد وتعبيراتها الاجتماعية قد أضحت خلال هذه المرحلة تعاني من التَشَتُّت والانقسام.
فرغم سقوط جمهورية كردستان في مهاباد، واصل الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران نشاطه بصورة سرية، حيث لم تسمح السلطات الإيرانية بأي نشاطٍ حِزبي مُعارض، بل شنَّت عمليات عسكرية ضد الكرد خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين، وحتى عندما قامت الثورة الإيرانية 1979. ورُغْم مُشاركة الكُرد وكافة التيارات اليسارية بالمجتمع في الثورة، إلا أن السلطات الإيرانة واصلت التضييق على الكُرد والصدام معهم. ورغم أيضا محاولات التقريب بين السلطات الإيرانية وقادة الحركة الكُردية، إلا أن الحركة لم تَسْلَم من الملاحقة؛ حيث اغتيل عَددٌ من قادتها في فيينا عام 1989م، أثناء التحضير لبعض اللقاءات بهذا الصدد، فاغتيل رئيس الحزب عبد الرحمن قاسلموا، ونائبه عبد الله قادري، وكذلك الوسيط العراقي في التقارب فاضل رسول الله، وفي 1992م قُتِلَ صادق شرفكندي الذي خَلَفَ قامسلوا في قيادة الحزب.
وفي تركيا، ارتكزت السياسة الكمالية تجاه الكُرد على إنكار الهوية الكردية إنكاراً تاما، وقمع حركتهم بوحشية، ولم يقتصر الأمر على قمع اللغة والثقافة الكردية، بل انعكست هذه السياسة على طبقة الملاك الكُرْد الذين تدهورت أوضاعهم السياسية والثقافية، بل تم إقصاؤهم من دوائر الحقوق السياسية والتمثيل السياسي. وفي مقابل السياسة القمعية للسلطات التركية، اتجه الكُرد في تركيا نحو تَبَنِّي سياسةٍ جديدةٍ للتعامل مع السلطات التركية تقوم على استخدام الثقافة بدلاً من الثورة للتعبير عن هويتهم، فبعد الانقلاب العسكري الذي قاده رئيس أركان الجيش التركي جمال كورسيل Cemal Gürsel ضد رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس وإعدامه (1960م)، قامت السلطات التركية بتهجير الكُرد من مناطقهم، حيث صدر القانون رقم 105 في اكتوبر 1960م لتهجير العديد من العائلات بالمناطق الشرقية إلى مناطق متفرقة في أنحاء تركيا، كما صدر القانون 114 في نفس العام والمتعلق بإزالة كافة العناصر غير المرغوب فيها، وهي كُرْدية بالأساس، من الجامعات التركية، كما قامت بتتريك أسماء المدن والقرى الكردية، وقد نُسِبَت إلى جمال غورسيل مقولة (لا وجود لكرد وإنما الجميع أتراك).
وفي عام 1965، صدر قانون الأحزاب رقم (648) والذي حظرت المادتان 89 و 90 منه إنشاء أي حزب سياسي يعمل في سبيل الحكم الذاتي لأية منطقة من مناطق البلاد. لكن ذلك لم يَحُلْ دون استمرار الحركة القومية الكردية في تركيا، حيث عملت منذ الستينات من خلال اتجاهين:
الأول: التَسَلُّل والانضمام إلى الاحزاب السياسية التركية وخاصة الاتجاه اليساري.
الثاني: تنظيم الأحزاب الكُردية وبشكلٍ سِرِّيٍ، وذلك على غِرار “الحزب الديمقراطي الكردستاني” في العراق.
الحركة الحزبية الكردية
مثَّلت الحركةُ الحزبية إحدى المظاهر الأساسية للوعي القومي الكردي، ورُغم تَعَدُّدِ الأحزاب الكُردية في الدول التي يوجد بها الكُرد، إلا أن وجود حِزبٍ يحمل مُسَمَّى “الديمقراطي” ظَلَّ قاسما مُشْترَكاً بين أينما يوجد الكُرد؛ ففي إيران تأسَّس “الحزب الديمقراطي الكردستاني” عام (1945)، كما توالت الأحزاب التي تأسست بنفس المُسَمَّى في العراق (1946)، وفي سوريا (1957)، وفي لبنان (1960) وفي تركيا (1965).
ورغم التضييق الذي مارسته النظم الحاكمة في الدول الأربع إلا أن حركةَ تأسيس الأحزاب الكردية قد انتعشت بالتزامن مع التحولات الإقليمية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فبجانب ظاهرة “الحزب الديمقراطي الكردستاني” في البلدان الأربع، تأسَّس في تركيا “حزب العمل الكردستاني” (1978)، و”الحزب الديمقراطي الثوري الكردستاني” (انشق عن الديمقراطي الكردستاني – تركيا)، و”منظمة الاتحاد (1972)، و”حزب تحرير كردستان”، و”حزب راية التحرير” (1928)، و”الحزب الاشتراكي الكردستاني “(عمل في السِّر بداخل حزب العمال التركي)، و”منظمة كاوة”(1975)، و”الحزب البروليتاري الكردستاني الشيوعي” (1978)، وحزب “الاتحاد الاشتراكي الكردستاني” (1984)، و”منظمة “ثوار كردستان”، و”الحزب الطليعي لعمال كردستان ، و”حزب قوات كردستان”، و”حزب العمل الشعبي” وغيرها من التنظيمات الكردية الأخرى. وفي سوريا، تشكل “المجلس الوطني الكردي” (2011)، والذي يعتبر امتدادا للحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وهناك الحزب الديمقراطي التقدمي، وحزب الوحدة الديمقراطي الكردي (1993)، وحزب “يكيتي” الكردي المنشق عن حزب الوحدة (1999)، وحزب الاتحاد الديمقراطي، وهو من أكثر الأحزاب شعبية وتنظيما. وقد شكل في نهاية 2011 مجلس شعب غربي كردستان، وفي 2013 أعلن قيام “الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا”. وفي العراق انشق عن الحزب الديمقراطي الكردستاني حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في عام 1975م.
ويُلاحَظ على الحركة الحزبية الكردية أنها نشأت تاريخياً من رَحِمِ التنظيمات الكردية التي تأسَّست في مطلع القرن العشرين والتي اضطرت للعمل بشكلٍ سِريٍ كما هو الحال بالنسبة لجمعية “خويبون” التي أسَّسَها عددٌ من النُشَطاء الكُرد (الاستقلال) 1927، للكفاح ضد التُرك وإقامة وطنٍ قوميٍ كرديٍ على أرضهم وأيضاً جمعية “إحياء الثقافة الكردية” (1955) في دمشق، و”الجمعية الثقافية السرية” في حَلَب (1951)، وغيرها. كما أنه بالنظر للممارسة العملية لعدد من الأحزاب الكردية الرئيسية، يتجلَّى غياب الممارسة الديمقراطية عن بعضها كما هو الحال بالنسبة في كردستان العراق حيث يتم تداول السلطة في الحزبين الكبيرين “الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” على أساسٍ عشائريٍ وعائليٍ حيث تتسلسل القيادة في “الديمقراطي الكردستاني” بين عائلة البارزاني، وفي “الاتحاد الوطني الكردستاني” بين عائلة الطالباني”، وهو ما انعكس سَلباً على العلاقة بين الحزبين الكبيرين في كردستان العراق، كما أثَّر ذلك بدوره على الاستقرار السياسي في الإقليم.
التحولات الإقليمية والدولية في السبعينات
خلال النصف الثاني من السبعينات، أضحت منطقة الشرق الأوسط بصدد حِراكٍ من الأفكار والنشاطات الثورية، لاسيما مع تواصل النهج القمعي للسلطات التركية ضد كافة مظاهر الوعي القومي الكردي. ففي تركيا كانت البيئةُ السياسية ُ تشهد انفتاحاً أمام التنظيمات والجماعات السياسية التقليدية. وفي هذا السياق، راحت الأيديولوجيا تتخلل المسألة القومية الكردية من خلال التيارات المتنوعة داخل المجتمع التركي، وقد تزامن ذلك مع العديد من المتغيرات الإقليمية المحيطةم مثل: 1) الانتكاسة التي تعرضت لها الثورة الكردية بكردستان العراق، في سبتمبر 1975م، وقد انعكس ذلك على الحركة القومية الكردية 2) نشوب الحرب الأهلية اللبنانية 3) نمو وتصاعد وتيرة الصراع العربي الإسرائيلي حيث برَزَت منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها المتعددة، وتحولها إلى نقطة جذب للتنظيمات الثورية في الشرق الأوسط 4) تنامي الصراع العالمي بين المسعكرين الرأسمالي والاشتراكي وتمحوره في الشرق الأوسط بعد انتهاء مشكلة فيتنام وخُفُوت الصراعات في أمريكا اللاتينية.
عبد الله أوجلان وإعادة بعث الوعي القومي الكردي
وفي هذا السياق الإقليمي والعالمي المتحول، تنامت نزعة الوعي القومي الكردي وانخرط العديد من الشباب الكردي في صفوف هذه التنظيمات. وهنا ظهر للوجود “حزب العمال الكردستاني PKK” الذي أسَّسَه القائد والمفكر الكردي عبد الله أوجلان. وكان أوجلان قد نَشَأ بين أوساط حركات الشبيبة الثورية الكردية، وتأثَّر بها مِثْل “المراكز الثقافية لثوار الشرق DDKO”، و”قادة جيل شبيبة 68″، وغيرها من الحركات اليسارية التي نشطت في تركيا، مما عزَّز الميول الحركية لديه؛ فقاد أول اعتصام نُظِّمَ في مبنى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية احجاجاً على تنكيل القوات التركية بقادة الحركات الثورية آنذاك مثل “جيش تحرير العمال لتركي”، وكان جناحاً عسكريا للحزب الشيوعي الماركسي اللينيني، حيث أُعْدِمَ عددٌ من قادة التنظيمات الحقوقية في تركيا آنذاك.
في صيف 1978م، قدَّم عبد الله أوجلان إطاراً نظرياً في تحليلٍ بعنوان “طريق ثورة كردستان” بجريدةٍ تُسَمَّى “سرخبون”، وقد عُرِفَ لاحقاً بـ “المانيفستو”، ثم عُقِدَ المؤتمر التأسيسي الأول للحزب يومي 26 – 27 نوفمبر 1978م، بمدينة آمد (ديار بكر) التركية، وفي حينها تم الإعلان عن تأسيس حزب العمال الكردستاني”. وقد قام الحزب على أساس الاشتراكية كأيديولوجية وسياسة معاً، كما تقارب مع البلدان الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي.
استَهَلَّ أوجلان مرحلة الثمانينات بالانخراط مع القوى الديمقراطية والاشتراكية المناظرة، وذلك في إطار تنظيم “الحرب الثورية في الشرق الأوسط” الذي نَشَطَ على الحدود اللبنانية – السورية. ثم واصل أوجلان، على مدار الثمانينات والتسعينات، مسيرةً نضاليةً مُسَلَّحةً أسماها “حرب حماية الوجود”، وذلك انطلاقاً من مدينتي “أروه” و”شمدينلي” جنوب شرق تركيا في أغسطس 1984م، وقد توازت معها جهود تنظيرية عديدة من خلال تحليلات قدَّمها أوجلان تناولت إمكانيات وسُبُل حَلِّ القضية الكردية وتحليل وضع المرأة، ونقد الحداثة الرأسمالية، حيث تبنَّى منهجاً نقدياً صارماً لنموذج “الدولة القومية”، وما يُعرَف بـ “قومية الأمة الحاكمة والأمة المحكومة، وتركَّزَت تحليلاته، التي انطلقت من خلفيةٍ يسارية، على نَقْد الحداثة الرأسمالية العالمية وما خلَّفَته من دولةٍ قوميةٍ رأى فيها أوجلان سَبيلاً للقمع والاستغلال أكبر من كونها مجرد تنظيماً للاحتكار الاقتصادي، كما اعتبر أن الرأسمالية هي أكثر أطوار نظام المدينة تأزُّماً، وأقصى أشكال تنظيم العنف على مدى تاريخ المجتمعات، وانتقد كذلك الاشتراكية المشيدة التي كانت تمثل بنظره رأسمالية الدولة.
وقد واصل أوجلان مسيرته من الأراضي السورية حتى اضطر لمغادرتها، في 9 أكتوبر 1998م، بعد ضغوط مارستها تركيا والولايات المتحدة على النظام السوري، ورغم لجوءه لليونان إلا أنه مع تواصل الضغوط، انتقل إلى روسيا وإيطاليا و كينيا ليتم إلقاء القبض عليه في إطار عمليةٍ استخباراتيةٍ دولية في مطار نيروبي ثم نقلته إلى سجن شَديد الحراسة بجزيرة “إمرالي” في جنوب بحر مرمة.
وبالنظر إلى مسيرة عبد الله أوجلان النضالية، تنظيمياً وفكرياً يُمكن القول بأنه قد أسهم في إخراج القضية الكُرْدية من كَونها مشكلةً مقتصرةً على دائرة الهيمنة العالمية الرأسمالية، وتحولها إلى جزء من النظام الاشتراكي العالمي، حيث ظهر مفهوم الأمة عامةً، والأمة الكردية خاصة، والأمة الديمقراطية في إيديولوجيتة. وقد ارتبط ذلك بالتحولات التي شهدتها البنية الاجتماعية والفكر السياسي الكردي خلال العقود الأخيرة قد انتجت حالةً جديدةً بشأن أسئلة الهوية والانتماء، ففي حين تشارك الهوية الناشئة المتماشية مع العصر في المكونات الأساسية مع الهويات القومية العرقية التقليدية المهيمنة، فإذا بالأولى تنفتح لتدمج داخلها العناصر الاجتماعية والفكرية الجديدة. وهو ما بدا جلياً في نموذج “منظومة المجتمع الكردستاني” التي تأسَّسَت عام 2005، كنظامٍ جديدٍ للهويةِ السياسيةِ الكُردية بشكلٍ يتجاوز الفَهْم التقليدي والمشترك للرابطة القومية العرقية الكردية، وقد كان ذلك المنظور مُسْتَوحى من المسيرة النضالية لـ “حزب العمال الكردستاني”، والتي تجسَّدت فيها براديغما ثلاثة “المجتمع الديمقراطي وحرية المرأة والمجتمع البيئي”. وفي إطار هذه البراديغما الثلاثية، رفعت منظومة العمل الكردستاني شعار “الشعب الكردي يسعى للمشاركة في إدارة نفسه بنفسه في المجالات الاجتماعية والثقافية واللغوية والاقتصادية، وذلك في إطارٍ من اللامركزية، وهو ما يتجسد في “إدارة ذاتية ديمقراطية” على أساس الوحدة الترابية للدول التي يعيش الكرد فيها، وهو ما يعني أن هذه الإدارة الذاتية ليست إنقساماً أو بديلاً للدولة.
ولأجل ذلك، قدَّم عبد الله أوجلان أطروحة “الأُمَّة الديمقراطية” كنموذجٍ للتنظيم الاجتماعي والسياسي بما يتجاوز نموذج الدولة القومية ذات المنظور المدود، وهو الإطار الذي جسدته “منظومة المجتمع الكردستاني” كمِظَلَّةٍ جامعةٍ في كردستان وكرد المهجر بهدف دعم وبناء هياكل الإدارة الذاتية، فقدَّمت هذه المنظومة نظاما كونفدرالياً ديمقراطياً. ولهذا، لم تنتهي مسيرة عبد الله أوجلان مع إلقاء القبض عليه، بل واصل انتاج أفكاره التي تنوَّعَت وتَعَمَّقَت في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع …إلخ، أما حزب العمال الكردستاني فقد مضى في مساره حيث تعتبره الدولة التركية أحد مُهَدِّدات الأمن القومي التركي الرئيسية، أما أفكار أوجلان فقد اخذت طريقها نحو التطبيق في شمال سوريا، التي أعلن فيها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بسوريا إقامة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” في نوفمبر 2013، لُتَشِّكلَ إحدى محطات الوعي القومي الكردي التي تجلت فيها الصيغةُ التشاركية، والتي تعكس مستوى أكثر تطوراً مُقَارنةً بالبُعدِ الكلاسيكي، لاسيما وأنها أخذت طريقها نحو التطبيق على مساحةٍ جغرافية مُعَيَّنة في شمال وشرق سوريا.
الوعي القومي الكردي: نظرة على القرن العشرين
في حين اعتُبَر القرن العشرون قرن تقسيم كردستان، فقد تسارعت أنماط الحراك المختلفة بداية من الشرائع العليا في المجتمع الكردستاني فيما يشبه القوميات البدائية، كما كان عليه الحال في العراق ثم انتقل إلى نطاق المثقفين، ثم انتقل إلى الطابع الجماهيري. كما تجسَّدت أولُ تجربةً قوميةً في جمهورية كردستان في مدينة مهاباد الإيرانية(1946م)، كما أن الحرب التي شهدتها العراق بين 1961 و 1975، والتي تُعرَف بـ “حرب الكريلا”، قد أسهمت في تأجيج المشاعر القومية في عموم كردستان. ورغم سيطرة نمط الأمة القومية الكردية على مدار القرن العشرين بين الكُرد (في العراق تحديداً)، إلا أن القضية الكردية قد أضحت بصدد خيارين متمايزين لمسار الوعي القومي الكردين، وقد تمايز هذين الخيارين أيديولوجياً وسياسياً وميدانياً. ونتيجة لهذا التمايز، فقد انقسم واقع الوعي القومي الكردي بين معسكرين؛ أحدهما تقليدي محافظ والثاني تقدمي ثوري. أما الأول فيَنْبُع من الهيكل الطبقي والطبيعة العشائرية للمجتمع الكردي، ويحافظ هذا المعسكر على السَمْت التقليدي له، بل إنه يتعايش مع النُخَب القومية ويتداخل مع المجتمع الرأسمالي العالمي. فتجربةُ إقليم كُرْدستان العراق تبدو مُحَمَّلة بأعباء الانقسام بين حزبي “الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الديمقراطي الكردستاني” وكلاهما يدور في فَلَك عشيرتي “البارزاني” بالنسبة للأول فيما يُعْرَف بالمنطقة الصفراء، و”الطالباني” بالنسبة للثاني فيما يُعْرَف بالمنطقة الخضراء. وقد أسْفَرت هذه الثنائية عن واقع صراعي تجلَّى في الصراع المُسَلَّح بين 1994 – 1997، وبين 2014 – 2017، كما يتصارع الحزبان حول كيفية تخصيص الموارد بين المحافظات في إقليم كردستان العراق.
أما المعسكر الثاني، والمُتَمثِّل في حزب العمال الكردستاني، فيتمرد على النمط التقليدي العشائري، سواء على مستوى الأفكار أو التطبيق، فالحزب ينطلق في أطورحة الأمة الديمقراطية، التي سبقت الإشارة إليها، كعقدةٍ ناقدة للدولةِ القوميةِ، حيث تعني في أبسط مضامينها قيام الشعب بتحقيق تحوله الوطني عبر التسييس ودون الاعتماد على السلطة أو الدولة، كما أنها تجتهد لإثبات جدارة الشعب في التمكن من التحقيق التحول الوطني وبناء نفسه كأمةٍ ديمقراطيةٍ تشاركية من خلال مؤسسات الاستقلال الذاتي المعنية بحق الدفاع الذاتي والميادين الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والدبلوماسية والثقافي دون اللجوء إلى التحول السلطوي، وهي العقيدة التي تتبناها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا منذ تأسيسها.
أخيرا، ففي مقابل انتقال الوعي القومي الكردي من مسار النضال لتأكيد الهوية الثقافية الكردية والحفاظ عليها وتطويرها إلى ميدان للصراع العشائري القبلي المدفوع بالمصالح السياسية والاقتصادية في الحالة العراقية، وفي مقابل – أيضاً – خضوع مكونات الحركة الكردية المُسْتَأنسة للدولة القومية في تركيا، مثَّلَت أفكار عبد الله أوجلان من خلفه نموذج “حزب العمال الكردستاني”، وتجربة الإدارة الذاتية القائمة في شمال وشرق سوريا أحدث مراحل تطور الفكر القومي الكردي كونها تستهدف صياغة إطارٍ عامٍ للمجتمع بما يتجاوز الأطر التي جعلت السلطة هدفاً منشوداً لها، ولهذا أضحى المجتمع هو إطار التحليل والتطوير وليس السلطة. بجانب ذلك، فقد مَضَت أطروحة الأمة الديمقراطية” نحو تأكيد طابعها الأيديولوجي بل وتَحْظَى بموطئ قَدَمٍ على أرض الواقع، غير أن ذلك لا يَعْني خُلُو مسيرة هذا النموذج من التحديات، لاسيما وأن حزب العمال الكردستاني يقف على رأس التحديات الأمنية في مدركات النخب السياسية القومية في تركيا، فضلا عن التحديات التي تواجهها تجربة الإدارة الذاتية كونها مُحَاصَرة بأنظمةِ حكمٍ قوميةٍ ترى في نجاحها تهديداً للوحدة الترابية لهذه الدولة (تركيا وإيران والعراق وسوريا).