دراسة: تحرير المرأة وتجربة الإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا
تحليل د. طه علي أحمد ..
منذ ظهور الاتجاه النسوي كجزءٍ من حركةٍ إصلاحيةٍ في ميادين الاجتماع والثقافة، وكرد فعلٍ على اهتزاز الثقة واختلال القيم المصاحب للرأسمالية، تدفق سيلٌ من الأطروحات الرامية لإصلاح ذلك الخلل الناجم عن تَغَوُّلِ الفردانية وسيطرة المادية على العقل البشري، بل إعادة النظر في منظومة العدالة الاجتماعية شكلاً ومضموناً.
ورغم نجاح الحركة النسوية في دفع قضايا المرأة لواجهة المشهد منذ الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أن ذلك لم يكن مُكتملاً، إذ دارت الحركة النسوية في فلك أجندة غربية رأسمالية أوسع، تتعرف خلالها حرية المرأة في إطار قيمي محدد يرتبط بتلك الأجندة وأهداف القوى المؤثرة في صياغتها، بل ويتجاهل ما عداها من أنساق ثقافية واجتماعية متمايزة حول العالم، ولعل في ذلك ما يفسر إخفاق الحركة النسوية في لعب الدور المأمول منها في دفع موجات الدمقرطة حول العالم. وقد فتح ذلك الإخفاق الآفاق للنقد الموجة للحداثة الرأسمالية باعتبارها، إما أنها منبعاً لأجندات تحرر المرأة في فلك الرأسمالية وقيمها وبالتالي الالتزام بنسقها القيمي دون سواها، أو أنها وضعت العراقيل أمام انسياب هذه الحركات كجزءٍ من ازدواجية المعايير المميزة لسلوك الرأسمالية الغربية في كافة المناحي السياسية والاجتماعية والأخلاقية أيضاً. وفي هذا السياق، تأتي أطروحات المفكر عبد الله أوجالان لإعادة النظر في منظومة التفكير بشأن وضع المرأة كحجر زاوية في إحداث أية نهضة مجتمعية بشكلٍ عام.
ترتبط أطروحات عبد الله أوجالان من مشروعه الفكري الرامي لإحداث تغيير ثوري في الذهنية البشرية بشأن المرأة وذلك من خلال وضعها في سياق صيرورة تاريخية طويلة. وقد انسابت أطروحات أوجالان من خلال طرقٍ يحددها لنفسه كمنهاجٍ يقودُه للتعرف على الحقيقة، وفي مقدمة هذه الطرق اعتمد أوجالان على الأسطورة، أو الميثولوجيا، كمسار موازٍ لتاريخ البشرية، واعتبارها منظاراً يمكن من خلالها رصد حركة التاريخ البشري. ورغم أن تَشَكُّلَ الفلسفة والدين والعلم طرق رئيسة أخرى للتعرف على الحقيقة عند أوجالان، أن الميثولوجيا قد مَثَّلت الرافد الأول لأطروحاته عند تناوله لقضايا البشرية، ذلك أنه يستقي من مضامين نصوصها، التي حملتها النقوش الحجرية القديمة، الإشارات الدالة على سرد التاريخ البشري.
يرصد أوجالان تاريخ البشرية منذ ما يعتبره انحداراً فيما بعد “العصر المشاعي” الذي سادت خلاله ارضية ثقافة الاقتصاد في النَسَق الأمومي المشاعي، حيث كانت “المرأة – الأم” ذات السيادة والمُنسقة لشؤون المجتمع، مُروراً بما يُعرف بـ “العصر النيوليتي” (15000 – 4000 سنة ق.م تقريبا)، وهي المرحلة تبدأ بانفصال الموجود الإنساني عن فصيلة الثديات الرئيسية وتنتهي بظهور المجتمع الهرمي[1].
وفي هذه الحقبة، تمحور المجتمع الذي يُعَبِّر عنه أوجالان بمُصطلح “المجتمع الطبيعي” حول المرأة، حيث تغذَّى من قيم المجتمع الديمقراطي الأخلاقي السياسي التعددي في إطار “الأخوة بين الشعوب”، بل كانت الكونفيدرالية والإدارة الذاتية رُكْناً أساسياً، بمعنى أنه مجتمعٌ متحرر من هيمنة “الدولة القومية”، التي ظهرت فيما بعد، والتي تتمركز حول السلطة والعنف[2]، غير أنه مع انتقال المجتمع البشري بين المراحل المتعددة فقد تراجع وضعُ المرأة، بداية من مرحلة الصيد وما نَشَأَ على هامشها من قيم أنتجتها الممارسات القتالية، كالدهاء، والمكر والمكيدة …إلخ، وهو ما يُعَبِّر عنه أوجالان بـ “الانكسار الجنسي الأول”، حيث يرصُد أوجالان انكسارا جنسيا ثانياً مع الأديان التوحيدية، على أمل أن يتحقق الانكسار الجنسي الثالث على حساب الرجل. وهكذا يكون تاريخُ المدنيةِ عند أوجالان بمثابة “تاريخُ خُسرانِ وضياعِ المرأة”[3]. ولهذا يقول أوجالان “إنّ تسليطَ الضوءِ على وضعِ المرأة، بدءاً من تاريخِ استعمارِها كأنثى إلى استعمارِها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وذهنياً، سيُقَدِّمُ مساهماتٍ كبرى في تسليطِ الضوءِ على جميعِ مواضيعِ التاريخِ الأخرى، وعلى المجتمعِ الراهنِ بكافةِ جوانبه”[4].
الجنسوية وخطايا السلطوية
يربط أوجالان بين مشكلات المجتمع والعلاقة بين المرأة والرجل، حيث يرى بأن الهرمية الأولى قد تجسَّدت عموما في حاكمية الرجل على المرأة، ولهذا فإنه يتعامل مع قضية المرأة باعتبارها “القضية الاجتماعية الأولى”. ولهذا ينطلق أوجالان في سعيه لإيجاد نموذجٍ تحرري للمرأة من تحليل القضايا الاجتماعية في إطار حرية المراة كنواةٍ للمجتمع وركيزته الأولى، إذ لا يتصور أوجالان بأن كفاحاً من أجل الحرية والمساواة لا يتمحور حول المرأة، لن يجدي نفعاً، ولن يعين على نيل الحرية وتوطيد المساواة، ولهذا فإن تحديد دور المرأة في الحياة الاجتماعيةِ يعد شرطاً أساسياً من أجل حياةٍ سَديدة[5]. ولأجلِ ذلك، يرى أوجالان ضرورة خوض مسيرة كفاحية ذهنية ومؤسسية تجاه السلطةِ المهيمنةِ للرجلِ الحاكم، وذلك من أجل تحقيق ضمانُ نصرشراكة قائمة على النِدِّيّةِ الحرة، وهو ما لا يتحقق بدون تلك المسيرة الكفاحية[6].
كما أن هذه الحياة النِدِّيّةَ لا تتحقق بدون القضاء على “الجنسوية الاجتماعيةِ”، التي أضحت أيديولوجية تنتج السلطة والدولة القومية[7]. وكذلك الحال على كافة المجالات الذهنية والمؤسساتية، والتي دامت طيلةَ تاريخِ المدنية، وبلغَت أبعاداً مُرَوِّعةً مع الحداثةِ الرأسمالية، التي في ظلها سَيَّرَ العقلُ الذكوريُّ عِدَّةَ حملاتٍ تمشيطيةٍ كبرى على المرأة، وذلك من خلال تصيير المرأةِ أولَ عبدٍ منزليّ، وكذلك جعلها المرأةِ أداةً جنسية، وجعلها كادحاً مجانياً تُفرَضُ عليها أصعبُ الأعمال، وفي ظل هذه الرأسمالة جُعِلَت المرأةُ من أدقِّ أنواعِ السلع، ذلك أنها باتت مُرْغمة على أنْ تَكُونَ “ناقصةً” أكثر؛ إذ تم الحَطُّ من شأنِها لدرجةٍ باتت هي نفسُها تَقبَلُ فعلاً أنها “ناقصةٌ” جداً نِسبةً للرجل، فشَرَعَت بالتشبُّثِ بيَدِ الرجلِ وسيادته. فالليبراليةُ التي وَرِثَت المجتمعَ الجنسويَّ لَم تَكتَفِ بتصييرِ المرأة عامِلاً مجانياً في المنزل، بل واستَولَت عليها بتسليعِها (أي جعلها سلعة) وعرضِها في السوق كموضوعِ جنس. وبينما كان الكدحُ فقط مُبَضَّعاً لدى الرجل، باتت المرأةُ سلعةً بكلِّ جسدِها وروحها. ولهذا لن يصبح التنوير الذي تزعمه الليبرالية ممكناً إلا بالتنويرِ الحقيقيِّ والشاملِ لطبيعةِ المرأة. بل إنه، ينبغي إخراجُ المرأةِ من كونِها مجردَ “أمٍّ مقدسةٍ ومحورِ الشرفِ وزوجةٍ لا استغناءَ عنها ولا حياةَ بدونها”، بل والقضاء على السلطة الذكورية على المرأة والمجتمع، من خلال ما يعتبره أوجالان بمثابة “قتل الرجل” بمعنى إقصاء النزعات التسلطية بداخله ليقبل القيادة التشاركية للمرأة في قيادة المجتمع، وعلى هذا الأساس فكرة الرئاسة المشتركة التي يقوم عليها نموذج القيادة في تجربة الإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا كميدانٍ لتطبيق أطروحة أجالان بشأن رد الإعتبار للمرأة في سياق مجتمعي شامل، وهو ما سوف يتناوله القسم الثاني من هذه الورقة[8].
الجينولوجيا (علم المرأة) وثورة أوجالان على علم اجتماع المرأة
كمُحَصِّلةٍ للرؤيةٍ النقديةٍ العميقةٍ التي استهدفت منظومةِ العلوم التي تستند على الرؤية الغربية West-Centered، قدم أوجالان مفهوم “الجينولوجيا” Jineoloji والذي يعني “علم المرأة” كإطارٍ معرفي يتجاوز حدود علم اجتماع المرأة، ويشتق هذا المصطلح من الكلمة الكردية جين Jin، وتعنى المرأة و”لوجيا” Loji أي العلم. وقد جاء المصطلح للمرة الأولى في المجلد الثالث من مرافعات عبد الله أوجالان، والذي يحمل عنوان “سوسيولوجيا الحرية”، كما يسعى “الجينولوجيا” ليكون علماً يحل محل “الفامينية” Feminism، حيث يسعى “علم المرأة” لدراسة جوانب وأسباب فشل الحماية تاريخيا وفي الحاضر؛ فيثير العديد من التساؤلات والمفاهيم المرتبطة بالمرأة مثل الحماية الجوهرية للمرأة، وكيف يكون ذلك؟، وكيف أضرَّ غياب هذه الحماية بعالم الرجال والنساء معاً، بل ويتجاوز حدود المرأة نحو إطار أوسع للقضايا الاجتماعية بشكلٍ عام[9].
كما يهتم بتعريف كلمة المرأة والعلم على أساس النموذج الفكري (البراديغما) القائم على الحرية الديمقراطية والإيكولوجيا وحرية المرأة. وفي حين يسعى علم اجتماع المرأة للدفاع عن حقوق المرأة ويحاول ضبط أوضاعها في المجتمع مقارنة بالرجل. ويؤكد أوجالان في إطار الجينولوجيا على الأطروحة القائلة بأن ثورة المرأة هي موضوع هذه القرن. وفي إطار طرحه لهذه الإشكالية، ينطلق أوجالان من نقد الطرح الذي يقدمه كل من هيجل وماركس؛ ففي حين يرى كارل ماركس أن الخلافات الاجتماعية الرئيسية في العالم تقوم بالأساس على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتنحسر في متلازمة “السيد والعبد”، ويرى هيجل أن أساس الخلافات في العالم تقوم على العلاقة الصراعية التي تشهدها المجتمعات تقوم بين الرئيس والمرؤوس، إلا أن أوجالان ينطلق من اعتبار أن الصراعات الاجتماعية تقوم على المسافة نفسها من العلاقة بين المرأة والرجل. وعلى هذا فإن حلَّ صراعات القرن العشرين تقوم على حَلِّ المعادلة الصراعية بين المرأة المُسْتَعَبدة والرجل “القوي، السيد”، وإعادة تعريف المرأة وفق معايير الحرية والتعبير عن حقوق المرأة[10].
وضع المراة في إطار الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كتطبيق لأطروحات أوجالان
أُنشئت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا في نوفمبر عام 2013، كنموذجٍ تطبيعي لأطروحات عبد الله أوجالا، الأمر الذي فتح الآفاق أمام مشاركة المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، فقد احتلت المرأة مكانة متقدمة في كافة هيئات الإدارة الذاتية، وتمثلت البداية في ذلك من نموذج “الرئاسة المشتركة” في كافة المواقع القيادية بهيئات الإدارة الذاتية بما يعكس “فلسفة الأمة الديمقراطية” كنموذج لتجاوز إشكالات الذهنية الذكورية وتوسيع الآفاق لممارسة المرأة لدورها في إطار “الندية” التي تحدث عنها أوجالان، وفي إطار هذا النموذج تحظى المرأةُ بتمثيل متساو مع الرجل في كافة المناصب.
وفي إطار الإدارة الذاتية، انتظمت مشاركة في إطار منظومة تشريعية التي تكرَّست بموجب “العقد الاجتماعي” Charter of social contract للإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا (الدستور) الذي صدر في 6 يناير 2014، والذي نَصَّ في مادته السابعة والعشرين على أنه “للمرأة الحق في ممارسة الحياة السياسية والاجتماعية الثقافية وكافة مجالات الحياة”. كما أقرت المادة 28 “حق المرأة في تنظيم نفسها وإزالة كل أشكال التفرقة على اساس الجنس”[11]، وفي ضوء ذلك صدر “قانون المرأة” في عام 2014، بما يعكس الفلسفة التشريعية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهي مستوحاة من أطروحات ورؤى عبد الله أوجالان التي تحارب الذهنية السلطوية، وتدعو للمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في كافة مجالات الحياة العامة والخاصة مثل الحقوق السياسية والحق في تشكيل التنظميات، والحق في الحصول على موافقة المرأة في القوانين التشريعية الخاصة بها، والمساواة مع الرجل في حق العمل والأجر، والمساواة بين شهادة المرأة والرجل من حيث القيمة القانونية، وتحريم القتل بذريعة الشرف، ومنع الطلاق بالإرادة المنفردة، وتشديد العقوبة على مرتكب الخيانة الزوجية بين الطرفين، ومنع تزويج الفتاة قبل سن الثمانية عشر وغيرها من الحقوق[12].
هيئات المرأة في إلإدارة الذاتية
ما سبق يتسق مع طرح أوجالان الذي يربط فيه بين الاستبداد والسيطرة الذكورية على المجتمع؛ حيث يقول في من كتابه المرجعي “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”: “ينعكس تأنيث المرأة (أي عبوديتها) كما هو تسلسليا على المواضيع والأدوات الذكورية في المجتمع المُعَرَّض للاستغلال والقمع والاضطهاد”، حيث يحصر أوجالان الطريق لحل أية مشكلة اجتماعية في إطار العلاقة بين الرجل والمرأة التي تقوم على الندية[13]، وقد تجلَّى ذلك في المكانة المحورية للمرأة في المؤسسات المُشَكِّلة للهيكل التنظيمي للإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا، والذي جاء على النحو التالي:
هيئة المرأة
كجزءٍ من المجلس التنفيذي للإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا، تَشَكَّلَت هيئةُ المرأةِ في 21 يناير 2014، كجهةٍ رسميةٍ مَعْنِيَةٍ بقضايا المرأة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والقانونية والثقافية، وذلك على أساس الفلسفة العامة لـ “الأمة الديمقراطية”، كما يُقَدِّمها عبد الله أوجالان لتحقيق التَمْييز الإيجابي لصالح المرأة وترسيخ مفاهيم المجتمع الطبيعي الذي يجعل المرأة حجر الزاوية بالنسبة له وصولاً إلى التحرر الطبيعي والأخلاقي لما يعرف بـ “الجنسوية الاجتماعية”، بعد أن سقط المجتمع في براثن السلطوية الذكورية كما يذهب أوجالان، ولهذا أٌنيطَت هيئة المرأة بصياغة الخطط التنموية المعنية بشؤون المرأة، والمساهمة بصياغة التشريعات ذات الصلة. ويتكون الهيكل التنفيذي لها من فريق إداري وتنفيذي، جميعه من النساء، على قمته رئيسٌ وثلاث نائبات. ولهيئة المرأة عدد من الفروع في كلٍ من الجزيرة، والرقة، والطبقة، وعفرين، ودير الزور.
مجلس المرأة في شمال وشرق سوريا
تأسَّس في 14 يونيو 2019 حيث يضم ممثلات من منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية المهتمة بشؤون المرأة. ويوفر هذا المجلس منتدى للمناقشات والحوارات المعنية بوضع المرأة والعمل على تعزيز مشاركتها في دوائر صنع القرار بالإدارة الذاتية. ويعمل المجلس على تحقيق عدد من الأهداف في مقدمتها المحافظة على المكتسبات التي حققتها المرأة في إطار تجربة الإدارة الذاتية، وتنظيم صفوف المرأة في شمال وشرق سوريا، ونشر الوعي بين النساء والمساهمة في تطوير القوانين المعنية بالمرأة وضمان تطبيقها، وكافة مناطق الإدارة الذاتية، بالإضافة إلى تعزيز مشاركة النساء بفاعلية في صنع القرارات المعنية بهن، وغيرها. وينشط المجلس في تنظيم الفعاليات الجماهيرية والمعنية بنشر الوعي بين النساء بالعديد من القضايا المجتمعية مع عدم الاقتصار على قضايا المرأة فحسب. ويلاحظ على ممارسات انخراطه مع الشؤون العامة من خلال البيانات التي تنطوي على مواقفه بشأن المواقف السياسية والأحداث الأمنية سواء بالدعم والتأييد أو الرفض والشجب والإدانة والاستنكار …إلخ.
الدور العسكري للمرأة في الإدارة الذاتية
بعد انسحاب قوات الحكومة السورية وسيطرة الفعاليات الاجتماعية وظهور حزب الاتحاد الديمقراطي، تأسَّسَت وحدات حماية المرأة YPJ في 4 أبريل 2013 تحت راية تطلع المرأة ورغبتها في الحرية، وخلال مؤتمرها التأسيسي الأول تم الإعلان عن تشكيل كتيبة عرفت باسم “كتيبة الشهيدة روكن” في جنديرس بمقاطعة عفرين، ثم توالى تشكيل الكتائب الأخرى بمناطق الإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا مثل “كتيبة الشهيدة عدالت” في مدينة قامشلو، و”كتيبة الشهيدة دجلة” في كوباني وغيرها. وقد شاركت هذه الكتائب بفاعلية في العديد من المعارك التي كان أبرزها معارك تحرير كوباني من سيطرة تنظيم “داعش”، وتصديها للهجمات التي قام بها التنظيم على “شنكال”، جنوب جبل سنجار، وفتح الممر الآمن بينها وبين الإدارة الذاتية ومن ثم المساهمة في تحرير كوباني عام 2015، وكذلك التصدي بفاعلية في صد الهجمات التركية على رأس العين (سري كاينه)، وتل أبيض (كري سبي)، ومطاردة فلول داعش في منطقة الباغوز وغيرها من العمليات العسكرية التي جذبت الأنظار إليها.
بالتوازي مع ذلك، تم إنشاء العديد من الوحدات الأكاديمية العسكرية اللازمة لأغراض التعليم العسكري لتدريب وتطوير آداء المقاتلات، حيث يتلقين دروساً فكرية وسياسية بجانب التدريبات العسكرية. وعلى هذا، فقد ساهمت وحدات حماية المرأة في تأسيس قوات سوريا الديمقراطية “قسد” عام 2015، وقد مثَّلت العمود الفكري لها حيث شاركت في كافة الحملات العسكرية التي خاضتها قسد في عدد من المناطق مثل “الطبقة”، سد تشرين، منبج، الرقة، وريف دور الزور الشرقي.
المرأة والمجتمع المدني في الإدارة الذاتية
في عام 2011، انطلق ما عُرِفَ بـ “ثورة روج آفا” في شمال وشرق سوريا، بإلهامٍ من رؤى وأفكار وأطروحات المفكر والقائد عبد الله أوجالان الذي جعل للمرأة مكانة محورية في مشروعه الفكري بداية من الدعوة إلى العودة لـ “المجتمع الطبيعي”، الذي يستمد إطاره الفكري والحركي أُسُسِه من القيم المرتبطة بـ “المرأة الحكيمة” و”القديرة”، بل التي وصلت إلى حَدِّ “المرأة الإله” أو “تحرير الجنسوية المجتمعية” كسبيلٍ لتحرير المجتمع بسلطته الفوقية، وذلك ابتداءً من تحرير وضع المرأة في النظام الأسري كبنيةٍ تحتيةٍ للمجتمع وصولاً إلى “نموذج الأمة الديمقراطية” التي تقوم على المساواة والعمل التشاركي، ولهذا فما ان اندلعت “ثورة روج آفا” إلا وقد فتحت الآفاق لانطلاق منظمات المرأة. ففي مارس 2011، أنشئت “دار المرأة” كمنظمةٍ مدنيةٍ ترفع شعار إرساء المساواة الاجتماعية وثقافة الأسرة الديمقراطية. وقد اتسع النطاق الجغرافي لهذه المنظمة حتى تجاوز الـ 60 فرعاً في مناطق شمال وشرق سوريا (10 في مقاطعة قامشلو، 10 في الحسكة، 4 في عفرين، 4 في الشهباء، 8 في كوباني، 2 الرقة، 5 في منبج، 6 في دير الزور، 11 في الطبقة، و1 بدمشق في حي “زورافا”، بالإضافة إلى فرعين تم تخصيصهما للنساء السريان.
ولم تقتصر حركة المنظمات النسائية على الأبعاد الاجتماعية والثقافية، بل نشطت في لعب دور سياسي ملحوظ، فعلى سبيل المثال، وبالتزامن مع بدء المسار التفاوضي لتسوية الأزمة السورية فيما يعرف بـ “مسار جنيف” بداية من 3 فبراير 2016، والذي استند على قرار مجلس الأمن رقم 1325، قامت من النساء السوريات بتدشين ما عُرِفَ بـ “مبادرة النساء السوريات للسلام والديمقراطية”، وقد تضمنت المبادرة المطالبة بتأسيس دولةٍ ديمقراطيةٍ مدنيةٍ تعدديةٍ حياديةٍ تجاه جميع مكوناتها، ورفض أية تسوية سياسية على أساس عرقي أو مذهبي أو طائفي أو عسكري للحافظ على وحدة سوريا، وتجريم كافة أشكال التمييز والعنف ضد النساء.
اتحاد ستار Yekîtiya Star أو كونكرا ستار Kongra Star
رُغم الطفرة الجذرية التي طرأت على المجتمع المدني، وانتشار التنظيمات النسائية في شمال سوريا بعد 2011، إلا أنه كان ثمةَ عددٌ من المنظمات النسائية الكُردية في سوريا قبل ذلك مثل مُنظمة “المرأة الكردية الحرة” التي تأسَّست في قامشلو (1994)، وجمعية “المرأة الكردية” 2006، وإن كان بعضها يتم إيقاف نشاطه بسبب التضييق الأمني من قبل السلطات السورية. لكن أكبر هذه التنظيمات، وأوسعها نطاقاً، بل وأعمقها تنظيماً هو “اتحاد ستار” الذي تأسَّس في يناير 2005 باسم “اتحاد ستار”، ثم تغير اسمه إلى “مؤتمر ستار”، كمنظمة مدنية تشمل النساء من كافة المكونات المشكلة للمجتع في شمال وشرق سوريا مثل الكُرد والعرب والسريان والأرمن والجركس والتركمان، وقد تمثل الهدف المعلن لهذه المنظمة في “بناء المجتع الديمقراطي التحرري النسوي في غربي كردستان سوريا، وإزالة كافة أشكال اللامساواة النابعة في العلاقة المبنية على أساس الملكية بين الجنسين، ومناهضة ثقافة الاغتصاب المطبقة بحق المرأة والمجتمع. كما يسعى التنظيم إلى توعية وتنظيم النساء من النواحي الاجتماعية والحقوقية والاقتصادية والسياسية لإعادة بناء مجتمع سياسي أخلاقي حُرّ. ويضع التنظيم في مقدمة أهدافه حَلَّ القضية الكردية بالسبل الديمقراطية ضمن إطار مشروع الإدارة الديمقراطية وتنظيم المرأة بشكل مستقل. وصولا إلى بناء النظام الكونفدرالي للمرأة وترسيخ أيديولوجية المرأة في المجتمع. وفي هذا ينطلق التنظيم من الرؤية الأيديولوجية لعبد الله أوجالان التي يقترح فيها وجود وحدات كونفدرالية في كل قرية أو حي أو مدينة، أي أن كل حي أو قرية يمكن أن تكون وحدة كونفدرالية موضوعية مثل وحدات المرأة ووحدات الدفاع الذاتي، والصحة …إلخ. وفي إطار هذا التصور الكونفدرالي تمثل المرأة أحد عناصر المجتمع من خلال الوحدات الإدارية الخاصة بها. وعلى هذا فقد تشكَّل الهيكل التنظيمي لاتحاد استار من قواعد نسوية من أدنى لأعلى وذلك على النحو التالي:
أولا. الكومون النسائي: ويتمثل في الشارع أو القرية أو الحي
ثانيا. المجلس النسائي في المدينة أو المنطقة: ويتألف من 3 كومونات، ويعنى بمناقشة قضايا المرأة والمجتمع وصلاحيات المجلس واللجان النوعية المختلفة (التعليم، والثقافة، والفن، والصحة …إلخ)
ثالثا. الهيئة التنسيقية للمجلس النسائي في المدينة أو المنطقة: وهي هيئة منتخبة، حيث تعنى بمتابعة قرارات المجلس النسائي، يقوم بإعطاء التوجيهات للجان والكومونات التابعة لها، ويرفع التقارير للمجلس النسائي.
رابعا. مجلس اتحاد ستار العام: وهو مجلس تشريعي يعني باتخاذ القرارات المعنية بالنساء والمنظمات المشكلة لها. وتترشح له النساء من خلال المجالس المحلية والمنظمات النسائية القاعدية في المناطق المختلفة، ويتشكل من مائة عضوة.
خامسا. الهيئة التنفيذية: وهي الجهاز التنفيذي لمجلس الاتحاد، وهي هيئة مسؤولة أمام المؤتمر العام والمجلس التنفيذي لمتابعة القرارات التي يتم اتخاذها.
سادسا. المؤتمر العام: أعلى سلطة في الاتحاد، وينعقد مرة كل سنتين، ومن بين اختصاصاته تعديل أو قبول ميثاق الاتحاد ووضع المخطط السنوي وتحديد التوجيهات المناسبة للعمل التنظيمي للاتحاد، وتتخذ قراراته على أساس قاعدتي الأغلبية والسرية في التصويت والعلنية في الفرز.
بجانب ذلك هناك العديد من المنظمات النسائية في شمال شرق سوريا مثل:
الاتحاد النسائي الكردي في سوري – رودوز: تأسَّس سنة 2015
اتحاد نساء كردستان: تأسَّست في ديسمبر 2012 بمحافظة القامشلي، وتعمل على دمج المرأة في عملية التنمية الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وتوعية المرأة.
شبكة المرأة السورية (نساء شمس): تأسست في ديسمبر 2014، وتضم العديد من المنظمات والشخصيات المستقلة العاملة في مجال تمكين المرأة.
شبكة المرأة الديمقراطية: تأسست في مارس 2013 بمحافظة القامشلو، وتهدف لتأهيل وتثقيف المرأة.
منظمة سارة مناهضة العنف ضد المرأة: تأسست في 2013، حيث تعمل على تمكين المرأة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً والحد من العنف الممارس ضدها من قبل المجتمع من خلال تنفيذ برامج لتمكين المرأة والدفاع عن المعنفات في المحاكم المختصة وإعداد الإحصاءات والبيانات ذات العلاقة ونشر تقارير وأبحاث تهم قضايا المرأة[14].
تجمع نساء زنوبيا: تأسس في أول يونيو2021 كتجمع سياسي بيئي وثقافي واجتماعي، في مدينة الرقة، والطبقة ومنبج ودير الزور. ومنذ تأسيسه عقد عدداً من المؤتمرات، التي أكد خلالها على الهدف الأساسي من تأسيسه وهو “المساهمة في رفع وتيرة النضال للحد من العنف ضد المرأة وتحريرها من الذهنية الذكورية، بالإضافة لنشر أفكار وفلسفة القائد عبد الله أوجالان، وإعداد البرامج والحملات ضد الهجمات التركية على مناطق شمال وشرق سوريا”[15].
في ضوء ذلك، يلاحظ على التوجه العام لمنظمات المجتمع المدني التي انتعشت حركتها في مناطق الإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا، أنها لم تقف عند حدود النشاط الثقافي والعمل الخيري كما يغلب على معظم منظمات المجتمع المدني في الدولة العربية، بل انخرطت المنظمات النسائية في ظل الإدارة الذاتية في آتون العمل المجتمعي بشكلٍ عامٍ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وذلك تأثراً بفلسفة عبد الله أوجالان التي تربط بين السلطة كبنية فوقية للمجتمع والأسرة باعتبارها بنيته التحية تتشكل فيها ملامح العلاقة بين الرجل والمرأة، ولهذا تدور أنشطة منظمات المجتمع المدني في شمال وشرق سوريا في فلك تحرير تلك العلاقة من من سيطرة الذهنية الذكورية، وهو ما تجلَّى في انخراطها في القضايا والاجتماعية والسياسية والبيئية والاقتصادية بلا حدود فاصلة.
الخلاصة
مثَّلت تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ميداناً لتطبيق أطروحات وأفكار المفكر عبد أوجالان، والتي سَعَى من خلالها لإحداث ثورة ذهنية ضد منظومة القيم والممارسات السلطوية التي رأى فيها أوجالان انحطاطا من شأن المرأة بما رد الاعتبار لها من خلال العودة إلى “المجتمع الطبيعي” بقيمه ومضامينه المشاعية التي تقوم على المساواة والعمل التشاركي، في إطار مع يسميه أوجالان “أخوة الشعوب”. ورغم التحديات التي تواجه الإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا من جانب القوى الإقليمية، “القومية”، في كل من دمشق وطهران وأنقرة وبغداد بل، وبدرجة ما كردستان العراق أيضا، رغم هذه التحديات، إلا أن تقبل المكونات المجتمعية غير الكردية لنموذج الأمة الديمقراطية والطرح الثوري الذي تقوم عليه تجربة المرأة في ظل الإدارة الذاتية، إنما يعد نجاحاً في إنزال هذا النموذج الذي يقدمه أجالان على أرض الواقع، بل ولقي استجابة من تلك القوى غير الكردية التي سعى نموذج “الأمة الديمقراطية” لاستيعابهم فيما يعرف بـ “أخوة الشعوب، أو من غير النساء، وهم الرجال الذي انخرطوا في إطار هذه الثورة الذهنية التي أطلقها عبد الله أوجالان، وهو ما يكسب هذا الطرح الفكري قدرا من التفرد.
المراجع
[1] عبد الله أوجالا، تحرير الجنسوية الاجتماعية، ص 8