من الاشتراكية إلى التشاركية: قراءة في المنظور الاقتصادي لنموذج الأمة الديمقراطية
تحليل دكتور/ طه علي أحمد ..
مع اتساع الإطار العام لمنظور “الأمة الديمقراطية” الذي يقدمه المفكر عبد الله أوجلان، كطرحٍ عامٍ لإدارة شؤون المجتمع، كونه يتناول فيه كافة ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع …إلخ، فقد أضحى الاقتصاد، بطبيعة الحال، أحد الركائز الأساسية التي يسعى من خلالها أوجلان لاستعادة المكانة المحورية للمجتمع، مُتجاوزاً نموذج “السلطة الهرمية” التي قامت عليها بُنية الحداثة الرأسمالية وما تمخَّضت عنها من إشكاليات يراها أوجلان المصدر الرئيس لأزمات البشرية منذ انتقالها من مرحلة “المجتمع الطبيعي” وتَشَكُّلِ هذه الـ “السلطوية الهرمية” القائمة على الاستغلال والهيمنة كركيزةٍ أساسيةٍ للمجتمع في ظل هذه الحداثة المزعومة من جانب أنصارها بكافة مستوياتها الفوقية، أي عند مستوى السلطة المُسيطرة على المجتمع، أو التحتية وذلك عند مستوى مستوى التكوين الأُسَري الذي يتحور حول سيادة الرجل وهيمنته على كافةِ مفاصل الحياة في مُقابل قَمْعِ المرأةِ التي يَنْظُر إليها أوجلان كمصدرٍ للحياة.
يندرج الطرحُ الذي يقدمه أوجلان في إطار الجدلِ القائم حول العلاقةِ المتوترةِ بين الإنسان والحداثة، والتي يشوبها قدرٌ كبير من اللَّبْسِ، لاسيما وأن هناك من يدعو للتخلي عن قيمٍ متناقضة عادةً ما يتم تقديمها في إطار الخصوصية الثقافية أو الدينية أو الوطنية وذلك على سبيل تبرير العداء مع التحديث في المجتمعات الجامدة حتى تصبح بصدد “حداثةٍ موهومة”، أو ما يُمكن أن نُسَمِّيه “حداثةً مُتخيلة”، وهو ما يظهر بوضوح في جوهر المشروعات الحضارية الانفتاحية التي حملتها الرياح الثقافية الوافدة من الغرب تحت مُسَمَّى “التغريب”، والتي أسفرت عمَّا يُسَمِّيه عزمي بشارة بـ “النهضة المُعَاقة”[1]. ورغم إغراق بشارة وغيره في ظروفِ تَشَكُّلِ الدولة في الشرق الأوسط وخصائصها السوسيو – ثقافة Socio-cultural، إلا أن أوجلان يبحث في عُمْقِ البُنية التاريخية السحيقة للبشرية بغرض تتبع مصادر الخَلَلِ الذي يرى أنه أصاب البشرية مع انتقالها من “المجتمع الطبيعي” أو المجتمع الأمومي الذي أعقب انفصال الإنسان عن فصيلة الثديات البدائية السابقة له، إلى التَدَرُّجِ عبر العصور وصولاً إلى مرحلة الحداثة التي يصفها فريدريك نيتشه بـ “الانتقال من موت الإنسان إلى موت الإله”[2]؛ وهي الفكرة التي ترجع إلى الثقافة الألمانية منذ القرن السابع عشر، حيث وردت في كتاب الفيلسوف فريدريك نيتشه بعنوان: “العلمُ المَرِح” الذي نُشِر عام 1882م وقال فيه “لقد مات الإله. ونحن الذين قتلناه. كيف لنا أن نعزي أنفسنا ونحن قتلة؟، وكان نيتشه يتمرد في هذه العبارة على البشاعة التي أظهرها الغرب في الحروب الصليبية التي كانت باسم الإله[3].
أوجلان ونقد الرأسمالية
ترتبط نظرة أوجلان للاقتصاد بالمنظار الشمولي الذي يتناول من خلاله قضايا المجتمع، كون الاقتصاد لا ينفصل عن التحولات التي تطرأ على المجتمع ثقافياً وسياسياً …إلخ، ولهذا فإنه ينظر للاقتصاد باعتباره عملية لتلبيةِ الاحتياجاتِ الماديةِ الضروريةِ للمجتمعِ والتعبيرُ المؤسَّسَاتي والإجرائي اللازم لذلك، أو أنه يُمَثِّل عملية تبادل الاحتياجاتِ المادية المتمحورة حول السوق[4]. وهو ما يتناقض مع المنظور الرأسمالي الذي يُعَرَّفُ الاقتصاد وكأنه صُلب نشاطات احتكارات رأسِ المالِ بشأنِ الأسواقِ المنضويةِ تحت سقفِ الدولةِ القومية. الأمر الذي يعتبره أوجلان إنكاراً للاقتصاد، وإقامةً لنظام الربح التجاري والصناعي والمالي الاحتكاري المفرط محل الاقتصاد، وبالتالي فما ذلك إلا إنكارً لاقتصادِ الاحتياجاتِ الحقيقية، بل يذهب أوجلان لأبعد من ذلك حينما ينعت المنظور الرأسمالي للاقتصاد بأنه “إرهاب إقتصادي”، يقود لا محالة إلى هدم المجتمع اقتصادياً ودفع السوق لأن يصبح ساحة لتحقيق الأرباح وتراكمها[5]. وفي هذا الإطار تقوم رؤيةُ أوجلان للاقتصاد على نقدِ فلسفةِ النموذج الرأسمالي بشكلٍ جذري، وهو النموذج الذي يرى أوجلان أنه قد قام بإفراغ المجال الاقتصادي من محتواه من خلال سياسات الإخضاع والسيطرة والتحكم في رأس المال.
ورغم تأثُّرهِ بالتحليل الماركسي، إلا أن أوجلان يتجاوز المنهاجية الماركسية التي لم تُقْنعه بمعطياتها فيما يَخُصُّ التفسيرات المعنية برأس المال، والتي تقوم على الطبيعة العلمية، والتي عرض من خلالها كارل ماركس الرأسمالية باعتبارها نظاماً تاريخياً حتمياً، بما يعني انصهار الماركسية في بوتقةِ الحداثةِ في نهاية المطاف، وقد استدل في ذلك بحالتي الاتحاد السوفيتي – سابقا – والصين التي حفظت لها خصوصيتها وطبائعها الفريدة إمكانية الانتقال من الشيوعية إلى الرأسمالية في إطار من الخصوصية المحددة[6].
بجانب ذلك، ففي حين ينطلق ماركس من مقارباتٍ وضعيةٍ لا يتناول فيها موضوعَيِّ السُلطة والدولة والعلاقة بينهما، نجد أوجلان يُبْحِر في نقد الرأسمالية من خلال مقاربةٍ مجتمعية ٍ تضرب بجذورها في عمق التاريخ البشري ومراحله الأولى، حيث يعتبر أوجلان أن خروجُ الاقتصادِ عن كونه نسيجاً اجتماعياً قد مثَّل البداية الحقيقية للانقطاعِ الجذري عن الطبيعة. فعلى سبيل المثال، يرى أوجلان بأن قياسَ قيمةِ المقايضة لسلعة ما عَبْرَ كَدْحِ العامل قد أسفر عن مخاطرٍ جسيمةٍ، من بينها أن انتقل التُّجَّارُ ليصبحوا فئةً مهمةً جداً للتحضرِ والمدنية بل ولديهم الحظوة والتسلط في المجتمع، إذ لم تبقى قيمةٌ إلا وأصبحت سلعة، وهو ما يعني التَخَلِّي عن كينونةِ الإنسانِ كإنسان. وبهذا، تكون المادية قد قَضَت على الحياة الطبيعية التي يطلق عليها أوجلان “الحياة الأيكولوجية”، والتي تكتسب فيها البيئة كافة اعتبارات الإنسانية. وعلى هذا، يعتبر أوجلان أنه في ظِلِّ الرأسمالية قد وصل “النهبُ” و”اللصوصيةُ” أبعادَهما القصوى ضمن الفعاليات التي تُنَظِّمُها تحت اسمِ “الاقتصاد”. إننا في هذه الحالة لا نكون بصدد اقتصاد بل نظام قائم على الربح التجاري والصناعيّ والماليّ الاحتكاريّ الُمفْرطِ، أي انه انكار للاحتياجات الحقيقية، وهو ما يعني هدم المجتمع اقتصاديا وتطويق السوق وتحويلة إلى ساحة مربحة. ولهذا يقول أوجلان: “الرأسماليةَ نظامٌ مَحكومٌ بالبقاءِ دوماً على الهامش، وهي نهبٌ وسلبٌ لامجتمعيّ، لا يستطيعُ بسطَ نفوذِه إلا بالطغيانِ الفاشيّ؛ إنها نظامُ الأربعين حرامي”. بل ينظر أوجلان إلى الرأسمالية باعتبارها “مرضٌ اجتماعيٌّ قاتل، وتَضَخُّمُ وَرَمٍ اجتماعيٍّ من النوعِ السرطانيّ”. ولهذا فإنه يقارب بين قادة الرأسماليين، أو من يطلق عليهم “الرهبان العصريون” في عصر الحداثة الرأسمالي وكهنة العصر السومري ودورهم في شرعنة النظام القائم كما جسَّدتها الميثولوجيا، بل إن الرأسماليين ومن بينهم المدراء التنفيذيون في الشركات الكبرى، يقومون بأضعاف ما فعله الكهنة السومريون تحت مُسَمَّى “علم الاقتصاد السياسي”.
الحال نفسه بالنسبة لسمير أمين، ورغم تأثر أوجلان بالطرح الذي يقدمه أمين، على أنه ليس ثمة انتقال إلى الاشتراكية من دون فَكِّ الارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي، بما يعني ضرورة أسبقية نمو قوى الانتاج على تغيير علاقات الانتاج، والانتقال التدريجي – غير المحسوس – من الرأسمالية إلى الاشتراكية، حيث لا يُتَوَقَّع أن تتخلى البرجوازية الرأسمالية عن السلطة دون قتال، كما يرى أمين بأن الاشتراكية لطالما عجزت عن تحقيق الحريات المطلوبة وعن تجسيد مبادئ الملكية الجماعية لوسائل و أدوات الانتاج، وهو ما يفرض ضرورة التحول نحو نموذجٍ اشتراكيٍ شموليٍ[7]. لكن تحليل سمير أمين، هو الآخر، لا يتجاوز إطار الدولة الرأسمالية التي تدور في فَلَكِها تحليلاته الاشتراكية، وهو ما يعني أن أوجلان قد خرج عن الإطار العام للاشتراكية بتجاوزه حدود الدولة والسير في فلك المجتمع.
شبه الاستقلال الذاتي والانتقال من الاشتراكية إلى التشاركية
رُغم النقد الصارم للرأسمالية إلا أن الاشتراكيين لم يسلموا من النهج النقدي لعبد الله أوجلان، غير أنه ينطلق في ذلك من أرضيةٍ يسعى من خلالها لتجاوز الثورة الاشتراكية كي تصبح في نمطٍ ديمقراطيٍ على أُسُسٍ واعيةٍ ضد الرأسمالية. ففي حين يرفع الاشتراكيون شعار “الثورةُ أولاً ثم الحياةُ الاشتراكية”، إلا أن أوجلان يختلف مع ذلك حيث يرى في الاشتراكيةُ تاريخاً من الكفاحِ الاجتماعيِّ المتراكم مع الوقت. كما أن أوجلان يرصد في الاشتراكية عجزا عن تَخَطّي ذهنيةَ الحداثةَ الرأسمالية وعالَمها العلميِّ وبُنى ثقافتِها المادية من خلال المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما يرى أوجلان في الاشتراكية مجتمعا راقيا ينبغي ألا يكون ترياقاً للرأسمالية بقدر ما يتطلع إلى تكوين ذاته في صورة مفعمة بالحرية والمساواة أملا في إنقاذ المجتمع من أمراض الرأسمالية و”السياج الحديدي” الذي تفرضه على المجتمع. ولهذا ينظر أوجلان للاشتراكية كمشروع ينطوي إلى إطار أخلاقي وسياسي يُؤَمِّنَ الحرية والمساواة والعدالة.
الأمة الديمقراطية والتحرُّر من الاستعمار الاقتصادي
في هذا السياق، يرى أوجلان بأن “الاحتلال الاقتصادي” الذي يعاني منه البشر من خلال الدولة القومية وهي أداة للرأسمالية، إنما يهدف لإخضاع الانسان واستغلاله في إطار من الرقابة المُشَدَّدة، الأمر الذي لا يمكن التخلص منه بدون التحكم في أدوات الإنتاجِ والسوق والتجارة، وبعبارة أخرى فإن ذلك لن يتحقق بعيدا عن ضمان حرية الإنسان في تملك أدوات انتاجه وأنماط استهلاكه. وفي إطار الإطار يقدم أوجلان أطروحة “الأمة الديمقراطية” كنموذجٍ يتجاوز حدود الدولة، ويقوم على المجتمع كوحدةٍ مركزيةٍ ووعاءٍ يقوم على الاعتماد المتبادل بين أفراد المجتمع بصرف النظر عن تنوعاتهم العرقية والعقائدية.
الأمة الديمقراطية وشبه الاستقلال الاقتصادي(الاقتصاد الذاتي)
في إطار الأُمَّةِ الديمقراطية يتشكل الاقتصاد من خلال ما يُسَمِّيه أوجلان بـ “شبه الاستقلال الذاتي” الذي يضمن من خلال الإنسان إعادة بسطِ المجتمعِ لسيطرتِه على الاقتصاد. وفي هذا النموذج يتحقق قدرٌ من الوفاقِ بين الدولةِ القوميةِ والأمةِ الديمقراطية. غير أن هذا الوفاق المذكور يمثل الحد الأدنى الذي لا يمكن النزول عنه وإلا يعد ذلك استسلاماً يدلل عليه أوجلان بالعبارة “انتَهِ!”.
هنا يُمَيِّز أوجلان بين الاقتصاد التشاركي في إطار “شبهِ الاستقلالِ الاقتصادي” ورأسماليةِ الدولةِ واقتصادِها؛ حيث يرى بأن التشاركية هي النموذج الاقتصادي الأنسب لطبيعةِ الإنسانِ والبيئة أيضاً، بل يعتبرها، أي التشاركية، نموذجاً وجوهرا للحياة الذاتية التي تدور في فَلَكِ المجتمع المتجانس، وهو المجتمع الذي يراه أوجلان مُباركاً بفضل تلك الروح التشاركية إذ يغيب عنه الكدح أو العمل الشاق الذي لا يُثْمِرَ الحرية. مع ملاحظة أن هذا الانتقال يتعين أن يبقى عند مستوى الـ “شبه” الاستقلالِ الاقتصاديِّ، وألا يصل إلى منزلة “الاستقلال”، وإلا نكون بصدد ” دولةٍ قوميةٍ” الأمر الذي يعني، وبشكلٍ مباشر، الاستسلام للحداثة الرأسمالية وهو “الفخ” الذي سقط فيه التحليل الماركسي.
شبه الاستقلال الاقتصادي وإنقاذ البيئة
وفي ظل هذا الـ “شبه الاستقلالِ الاقتصادي” يرتبط مصير المجتمع بحتمية الاهتمام بالأيكولوجيا التي هي الإطار البيئي الذي يحيا فيه المجتمع، والذي يرى أوجلان أنه أحد ضحايا الاستغلال الرأسمالي بجانب المرأة، فالتنمية والاستقرار الريفي كجوهر للمجتمع الأيكولوجي الذي لا يعنيه مراكمة الربح وتكديس رأس المال بل يختزله في أدنى حدوده. وفي هذا يرى أوجلان بأن العودة إلى الأرضِ والزراعة وتأمين المواد الغذائية كجزء من مظاهر الحياةِ الأيكولوجية من شأنها إنقاذ البيئة من آفات المدنية وليس مجرد القضاء على البطالة.
وفي هذا يجادل أوجلان، بأن الرأسمالية لا تُشَكِّل الهيكل الكلي للاقتصاد إذ تظل ثمة قطاعات تتجاوز حدود التاريخ الرأسمالي كالتجارة والزراعة والصناعة رغم تعرضها لسيطرة الممارسات الرأسمالية والعديد من الأزمات المتجذرة في بنية المجتمع في ظل الرأسمالية. وهو ما يفسره أوجلان من خلال انتقال رأس المال المُتَكَدِّس من فائض الانتاج الزراعي، حيث أن الزراعة هي عماد الحضارة الأولى التي شهدتها البشرية، ثم انتقلت إلى عصر التجارة الذي يعد أطول عُمْراً من المدينة، فالمدنية التجارية قد احتلت المرتبة الثانية بعد الحضارة الزراعية، غير أنه مع الثورة الصناعية والتصنيع في القرن التاسع عشر، بات التصنيع حاجة أولية لرأس المال، وقد مَهَّدَ ذلك الوضع الطريق أمام ظهور الصراع الطبقي داخليا والحروب التحررية الوطنية خارجياً. وعلى هامش الحقبة الصناعية تولدت أزمات عديدة على رأسها مشاكل المدنية والبيئة حتى صارت ذات طابع بنيوي في القرن العشرين؛ أي عصر المال.
هنا يرصد أوجلان دخول البشرية في العصر الرأسمالي ما ينعته بعصر الأزمات الاجتماعية كالإرهاب والخلل الطبقي والبطالة وتصنيع الفن والجنس والرياضة وتغلغل السلطة كافة مفاصل وشرايين المجتمع، وهو ما يتناغم مع نظرة أوجلان للاقتصاد باعتباره ساحة لتأمين احتياجات المجتمع من خلال النظام التشاركي. فالاحتياجات تنقسم إلى قطاعات مختلفة كالمأكل والمَلْبَس والمَسْكن وشبكة المواصلات والترفيه وكلها نشاطات اقتصادية ذات قيمة. ما سبق يتكامل مع العديد من النشاطات الرأسمالية التي تخرج عن جوهر الاقتصاد والتي ينظر لها في المنظور الرأسمالي كمقدسات اقتصادية لا غِنَى عنها؛ مثل أنشطة البورصة والربا وأسعار المبادلة والصرف والحَوالاتِ والفوائدِ الماليةِ وغيرها من الوسائل التي تعمل على مضاعفة مستوى الربح لأعظم درجة بدون عمل أو حتى اللجوءِ إلى أفكارٍ أو أساليب إنتاجيةٍ جديدةٍ خلاّقة.
الشرق الأوسط والحاجة لثورة زراعية
في هذا السياق، يدعو عبد الله أوجلان إلى ثورةٍ زراعيةٍ تستمد عُمْقها من خصائص مجتمعات الشرق الأوسط المعروفة بتنوعها البيئي والمناخي الذي أثراها تاريخياً بالثروة النباتية والثروة الحيوانية التي ترامت في المنطقة وخاصة منطقة الهلال الخصيب حيث سلسلة جبال زاغروس وطوروس، وأنهار دجلة والفرات وبالإضافة لنهر النيل والتنوع من البيئات المطيرة والمعتدلة وغيرها، وهو ما لعب دوراً تاريخيا في الثراء الحضاري الذي عرفته المنطقة. وهنا تجدر الإشارة إلى الخبرة التاريخية التي تؤكد على دورٍ مهم لعبته المرأة في تحقيق الثورة الزراعية في منطقة زاغروس – طوروس، والحال نفسه بالنسبة للحضارة المصرية التي قامت على هامش وادي النيل[8].
بجانب ذلك، فرغم الدور السلبي الذي لعبه النفط في الشرق الأوسط كونه أسهم في تقسيم المنطقة وتفتيتها، إلا أن إحداث ثورةٍ زراعية من شأنه أن يدفع المجتمع التجاري إلى مراحل اجتماعية اكثر تقدما[9].يعتبر أوجلان الثورة الزراعية مصيراً حتمياً للشرق الأوسط، ذلك أنه يعتبرها سبيلاً لصون المجتمع من أضرار الحداثة الرأسمالية أو ما يُسَمِّيه بالـ “الصناعوية”. وفي هذا يقول أوجلان: “لو تحركت الشعوب عبر مؤتمراتها الممثلة لإراداتها بالشكل الأعم، وعبر مختلف انواع المنظمات المعنية بالمجتمع المدني والتعاونيات، فستجد أنه ما من قضية معنية بالمجتمع إلا وستكسبها”[10].
وعليه، يرى أوجلان بأن ثمة حاجةً ماسةً إلى الاقتصادِ المحليِّ وآلياتِه شبهِ المستقلة، بمعنى ان يكون هناك قانونٌ اقتصاديٌّ لا ينكر ظاهرةَ السوقِ الوطنية، ولكنه يضعُ ديناميّاتِ السوقِ المحليةِ أيضاً في الاعتبار. وهنا تنشأ الحاجة إلى قوانين اقتصادية تعنى بشؤون ترتيبِ المُلكِيّة، والشركات، والري والاستفادة الموارد المعنية في باطن الأرض، ونظيم الأسواق، والنظم المصرفية، والضرائب، بما يضمن تحقيق التناغمِ بين قوانينِ الاقتصادَين الوطنيِّ والمحليّ[11].
وقد تجلَّى ذلك على التجربة التي شهدتها مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، التي استمدت أساسها الفكري من طرح الأمة الديمقراطية الذي يقدمه عبد الله أوجلان والذي آثر فيه أن يغطي كافة ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماعي وغيرها. فقد قام الاقتصاد في الإدارة الذاتية بدرجة كبيرة على التعاونيات الزرعية باعتبارها نظاماً أيكولوجيا يتوافق مع خصائص المجتمع الأيكولوجي الذي يقترحه أوجلان. فقد تشكَّلت التعاونيات في شمال وشرق سويا، في عام 2013 بالمناطق الريفية بمحافظة الحسكة، من مؤسسات يملكها أعضاء متساوون يديرونها في إطار اقتصادي مشترك، وقد لعبت المرأة دورا كبيرا في هذه التعاونيات، ويتألف هؤلاء الأعضاء من عملاء أو موظفين أو سكان يتشاركون في حقوق اقتراع متساوية بغض النظر عن مقدار رأس المال الذي يستثمرونه في هذه المؤسسة. ويتولى تنظيم هذه التعاونيات مجلس التعاونيات الذي تنتخبه جمعية عمومية مكونة من كافة تعاونيات الإدارة الذاتية.
خاتمة
أخيرا، يمكن القول بأن الطرح الاقتصادي الذي يقدمه عبد الله أوجلان، كجزءٍ من نموذج الأمة الديمقراطية، ينطوي على اجتهادٍ تجاوز فيه الأُطُر التقليدي للتحليل، فرغم بدايته الماركسية إلا أنه حدودها حيث تمركزت تحليلاته حول المجتمع ولم يقع في “فخ” السلطة مثل التحليلات التي دارت في فلكها سواء كانت ماركسية أو غيرها.
كما أنه، وبالنظر إلى النطاق الشرق أوسطي الذي نبعت منه تحليلات عبد الله أوجلان، نجد أنها قد غلبت عليها الطباع الشرق أوسطية كونها نبعت من رحم المنطقة فحملت خصائص ومميزاتها، ففي حين كان الشرق الأوسط مهداً لحضارات أثرت في تاريخ العالم، ما يجعلها محورية في رسم ملامح مستقبل العالم، فإنه من غير المستبعد أن يتوافق الإطار العام لرؤية أوجلان الاقتصادية لاسيما فيما يتصل بالدعوة للعودة للحياة الطبيعية وحماية البيئة من خلال الثورة الزراعية التي يدعو إليها أوجلان. تلك الثورة التي تنطوي رد الاعتبار لكل من المرأة والبيئة كونهما في مقدمة المتضررين من الإشكالات المترتبة على الحداثة الرأسمالية، وفي الوقت نفسه فإنها، أي الثورة الزراعية، تقدم حلولا لمشكلات اجتماعية كالبطالة والعدالة الاجتماعية وغيرها.
بجانب ذلك، فإن الطرحَ الاقتصادي لعبد الله أوجلان قد اكتسب ثِقَلاً أكبر حينما نزل إلى حيز التطبيق في إطار الإدارة الذاتية لمناطق شمال وشرق سوريا، التي عملت لأكثر من عشر سنوات في إطار مجتمعي تشاركي تجسد في جانب كبير منه في منظومة التعاونيات التي لعبت فيها المرأة دوراً محورياً فيها سواء على المستوى الإداري أو التنفيذي. غير أن ثمة تحديات عميقة تنبع من الواقع المتأزم سياسياً وأمنياً وحتى على مستوى الندرة النسبية للموارد، الذي تعيشه المنطقة، لكن ذلك لا يمنع أهمية الطرح الذي يقدمه عبد الله أوجلان سواء على المستوى التحليلي النقدي أو حتى على المستوى العملي التطبيقي كما تجلى على مدار العقد الماضي ما يجعله قابلاً للاستمرار وبديمومة أفضل متى تراجعت التحديات.
المراجع
[1] عزمي بشارة، طروحات عن النهضة المعاقة، (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2003)، ص 62.