
يَزْخَرُ تاريخُ الشرق الأوسط بإرثٍ غَنيٍ بالتجارب والخبرات المُتراكمة للتعايش العربي الكردي، والتي تؤكد على هذا التعايش، بل وتُزَوِّدَه بالفرص؛ فلطالما لَعِبَ الإسلامُ دوراً في تعزيز هذا التعايش من خلال قدرته على استيعاب كافةِ المتنوعين عِرقياً ودينياً ولُغوياً بما أسهم في نَسْجِ مشروعٍ حضاري قائم على التنوع والتكامل. فرُغم سيادة الثقافة الإسلامية على مدار أربعة عشر قرناً، تمَكَّن أتباعُ الديانات والقوميات المتنوعة (يهود، ومسيحيين، وصابئة، وأيزيديين، وأكراد، وتركمان، وأشوريين) من المحافظة على هوياتهم الدينية. وبجانب سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصُهَيْب الرومي، كان بين صحابة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الصحابي “جابان” وشهرته أبو ميمون الكُردي، وهو من رواة الأحاديث النبوية، وابنه التابعي “ميمون”، وهناك أيضاً “دَيلم” الكُردي الذي كان رئيساً للحرس الكِسرَوي في معركةِ القادسية، والذي كان في مقدمة الكُرد الذين دخلو الإسلام في عام 18 هجرية.
كما يذكر التاريخ الإسلامي أن الكُرد قد انخرطوا في حركةِ الفتوحات الإسلامية بدايةً من فتح مدينة تكريت عام 16 هجرية/ 673 ميلادية بقيادة سعد بن أبي وقَّاص. وقد لعبوا دوراً مُهماً في المسار العام للحضارة الإسلامية، فعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى “أبو مُسْلِم الخراساني” مُؤسِّس الدولةِ العباسية، وصلاح الدين الأيوبي، مُؤسِّس الدولةِ الأيوبية في مصر والشام وكردستان، ومولانا إدريس البدليسي المعروف (20 -1592م) أول من قام بتأسيس إدارةٍ داخل كُردستان من خلال تطبيق نظام الولايات (الفيدرالية)، وترك منظومةً ضخمةً كُتِبَت باللغة الفارسية عنوانها “هشت بهشت” وجَمَع فيها تاريخ ثمانية من السلاطين العثمانيين، وجميعهم مع آخرين من العلماء والأدباء الكُرد قد أسهموا في تشكيل الإطار العام للفكر الإسلامي. وقد ازدهر الأدب الكردي في هذه المراحل التاريخية بشكل كبير وحصل حالة من التلاقح الفكري واللغوي جسده الأديب والشاعر الكردي أحمد خانيه في كتاباته وأشعاره.
وفي القرنين الأخيرين، ومع سقوط الشرق الأوسط في براثن الاستعمار، برز دور الكُرد في المسيرة النضالية لشعوب المنطقة، حيث تزامن الوعي المتنامي بالذات الكردية مع الرغبة في التخلص من الاستعمار، فظهر الكثير من الأسماء التي لعبت دوراً مهماً في إلهاب الروح النضالية ضد الدول المستعمرة، ومنهم – على سبيل المثال – الأمير الكُردي مير محمد الرواندزي المُلَقَّب بـ “ميري كورة” أو الأمير الكبير محمد باشا رواندزي، والشيخ عبد عبيد الله النهري (1831م – 1900م) الذي قاد حراكاً ثورياً كردياً في عام 1880م. وهناك أيضاً الشيخ محمود الحفيد (1880م – 1924م) والشيخ سعيد بيران افندي النقشبندي الذي قاد ثورة 1925م حيث ناهَض القوانين التي أقرَّها مصطفى كمال أتاتورك والتي تُنْكِر وجود الكُرد وحقوقهم القومية.
كما أن بعضاً من هذه الأسماء قد ضربت أمثالاً إيجابية في دعم التعايش ونذكر على سبيل المثال الشيخ عبد القادر النهري، ابن الشيخ عبيد الله النهري، الذي قام في خريف 1909م بعقد مؤتمر كُردي – أرمني، وألقى فيه خطبة جاء فيها: علينا أن نتعايش مع الأرمن كأخوة، علينا أن نعيد لهم تلك الأراضي التي يدعون بها، والتي لم تتم استعادتها بعد، سنعمل معاً على تقوية التفاهم والاتحاد مع اخواننا العثمانيين الآخرين. بجانب ذلك، فعندما خُيِّرَ الكُردُ بين التعايش مع العرب في إطار “مملكة العراق” والبقاء مع الأتراك عند الخِلاف على مشكلةِ “ولاية الموصل” في عام 1918م انحاز الكُرد للتعايش، كما استوعبت الفرق العسكرية التي تَشَكَّلَت من العرب والكِلْدَان والآشوريين والكُرد في إطار المنظمات والأحزاب العراقية في مطلع القرن العشرين.
رُغم الدور الذي لعبه الاستعمار في تعميق المظلومية التاريخية للكرد، إلا أنه لا يمكن تغافل دور النُخَب القوميةِ التي حَكَمَت دول الشرق الأوسط بعد الاستقلال، وهو ما أسهم في توسيع الفجوة بين العرب والكُرد، الأمرُ الذي فَرَضَ الحاجةَ لتجاوز هذه الفجوةِ عن طريق الحوار بكافةِ أشكاله، وقد بدأ الاهتمام بذلك في مطلع تسعينات القرن العشرين، حيث أطلقت المنظمةُ العربيةُ لحقوقِ الإنسان جولة أولية للحوار بين العرب والكرد، وكان ذلك في العاصمة البريطانية، لندن، ثم أعقبتها جوالات مماثلة، وإن تباينت أجنداتها بشكلٍ ما. فعلى مدار يومين (17-18 اكتوبر 1992) انعقد ملتقى فكرياً حضره نحو 50 مفكراً ومُثَقَّفاً عربياً وكرُدياً بينهم قادةٌ وسياسيون وكتاب وباحثون من اتجاهات شتى. وقد ناقش المشاركون في هذه اللقاء الحواري بعض الجوانب الفكرية والدستورية للقضية الكردية وغيرها من قضايا الأقليات في الشرق الأوسط مثل قضايا المواطنة والحكم الذاتي والفيدرالية والكونفدرالية وحق تقرير المصير وإمكانات قيام دولةٍ أو أكثر، ونطاق الالتزامات المتبادلة والحلول المطروحة والعقبات التي تواجهها. وقد سعى المشاركون إلى وضعِ هذه القضايا في إطارٍ عامٍ لحقوق الإنسان وليس الاقتصار على فئةٍ بعينها، ورغم المؤشرات الإيجابية التي انطوت عليها كلمات وأفكار المشاركين، إلا أن بارقةَ الأمل التي اكتنفتها هذه الفعالية قد اصطدمت بالظروف الإقليمية والدولية وبصخرةِ الواقع الذي شهد اندلاع خلافات بين الفصيلين الكرديين في العراق وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK والاتحاد الوطني الكردستاني PUK.
استضافت العاصمة المصرية (القاهرة) في العام 1998م جولةً ثانيةً وموسعة من الحوار العربي الكُردي وقد شارك فيه عددٌ من المثقفين والحوار العرب مثل محمد فائق، وأحمد حمرو وسعد الدين ابراهيم وحلمي شعراوي ومحمد السيد سعيد، وعبد الحسين شعبان وغيرهم، ومن الجانب الكردي شارك عدد من القيادات في مقدمتهم جلال طالبان، وفؤاد معصوم، وأخرين كما أرسل المفكر والقائد عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني PKK رسالة مكتوبة أثنى على المؤتمر وأكد على أهمية تناول الكرد في تركيا وإيران وليس فقط في العراق طالما المؤتمر يتناول العلاقات العربية الكردية.
إن اللقاء الحواري السابق، كان قد سبقته فعاليةُ علميةُ عُقِدَت في العاصمة القطرية (الدوحة) في عام 1997، تحت عنوان “العرب والكُرد: المصالح والمخاوف والمشتركات”، غير أنه بجانب الصِبْغَةِ الأكاديمية لهذه الفعالية التي نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، فقد تركز الجزء الأكبر من الاهتمام على الزاوية العراقية من العلاقات العربية الكردية، بمعنى تناول العديد من الأوراق المقدمة فيها لتجربة إقليم كردستان العراق؛ فالباحثان خالد حنتوش ومحمود الشواني تناولا في ورقة مشتركة “صورة الآخر في المُتَخَيَّل: العرب والكُرد في العراق”، بينما تحدث الباحث هشام داوود عن خيارات حل القضية الكردية، وتحدَّث الباحث باسل حسين عن “مستقبل العلاقات بين المركز والإقليم: دراسة في سيناريو استقلال إقليم كردستان العراق” وتحدَّث الباحثُ رشيد الزايدي عن “احتمالات الصراع والتوافق بين العرب والكرد في العراق”. وهو ما جعل هذه الفعالية التي سَعَت لدراسة العلاقات العربية الكردية وإمكانات العيش المشترك ذات رؤية محدودة بحكم تركُّزِ الاهتمام فيها على الزاوية العراقية.
ومع اندلاع الانتفاضات الجماهيرية وما تبعها من حراكٍ وتغيُّرات سياسيةٍ في الشرق الأوسط في عام 2011م، اتَّسعَت الآفاق وتوالت فُرَص التواصل الثقافي والسياسي من الحالة الشعبية إلى الحركةِ السياسيةِ العربية والكُردية، لاسيما وأنهما قد تشاركا في مواجهة أنظمة الحكم القومية؛ ففي سوريا بالأساس تشاركت القوى العربية والكُردية الثائرة في مواجهة ممارسات قمعية للنظام، وبجانب الدعم الدولي والأجندات الإقليمية والدولية التي لا يمكن تغافلها، فإن هذا الحراك قد عبَّر شكلاً ومضموناً في الجانب الأكبر منه على هذا التضامن العربي الكردي. وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال على دعم مسارات الحوار العربي الكردي، حيث طرأت على الساحة السياسية والثقافية معطيات جديدة كان أهمها بروز دور الإدارة الذاتية لمناطق شمال وشرق سوريا، التي اضطلعت بدور هام في مواجهة الاحتلال والإرهاب وتحقيق التعايش بين الشعبين، وأضحت تمثل قطاعاً صاعداً في الفضاء العام الكردي، لاسيما وأنها تستند على رؤية سياسية وفكرية انطوت عليها أطروحات القائد والمفكر عبد الله أوجلان مثل أطروحة “الأمة الديمقراطية” التي مثلت المرأةُ والمجتمع الديمقراطي وأخوة الشعوب أحجار الزاوية فيها، وهو ما بدا واضحا في الجولة الحوارية التي عقدت في العاصمة الأردنية (عَمَّان) بتاريخ 22 يناير 2022، والتي جاءت تحت عنوان: “العرب والكرد … الحوار طريق المستقبل المشترك”، بمشاركة عدد كبير من السياسيين والمثقفين العرب والكرد من لبنان والعراق وسوريا والأردن ومصر وأوروبا وغيرها، وتركزت حول ثلاثة محاور؛ تناول الأول تاريخ العلاقات العربية الكردية والمخاوف والهواجس المشتركة بين العرب والكرد وسبل مواجهتها، وتطرق الثاني لدور المرأة في دمقرطة الجتمع، والثالث تناول كيفية التواصل لخارطة طريقٍ لمستقبلٍ قائمٍ على التعايش بين الشعبين، وقد مثلَّت هذه الموضوعات إضافةً نوعية للمحاور النقاش التي تضمنها الحوار العربي الكردي، حيث لم تعد القضايا السياسية وحدها محل النقاش مثل قضايا الحكم والسياسي هي محاور النقاش وحدها كالاتحادية والإدارة الذاتية، بل تناول مؤتمر عَمَّان قضايا مجتمعية أكثر تطوراً مثل قضايا المرأة والديمقراطية.
الحوار العربي الكردي في مواجهة التحديات الأمنية
تعيش منطقةُ الشرقِ الأوسطِ على وقعِ أزمةٍ أمنيةٍ حادةٍ تنطوي على تهديداتٍ وجوديةٍ لدول المنطقة، وتتركز هذه الأزمة في مناطق تواجد العرب والكرد؛ ففي العراق تعيش الدولةُ على وقعِ أزمةٍ بنويةٍ عَميقةٍ ترجع جذورُها إلى عام 2003 حينما تم إسقاط نظام صدام حسين وانتقال العراق من قبضةِ الدولةِ القوميةِ إلى براثن الطائفية، وصولاً إلى سيطرة تنظيم داعش على عددٍ من المحافظات العراقية ثم إسقاطه مع بقاء بعض الجيوب التابعة له في العراق وسوريا، فضلا عن الأزمة السياسية الكامنة في إقليم كردستان العراق، والانتهاكات التركية المُتكررة بين حين وآخر للأراضي والسيادة العراقية. وفي سوريا، يقع نحو 10% من الأراضي السورية للاحتلال التركي مع استمرار العمليات العسكرية التركية والضربات الإسرائيلية لمواقعٍ سوريةٍ بين الحين والآخر، في ظل تقسيم البلاد بين مناطق نفوذ لقوى أجنبية، وأخيراً اندلاع حراك جماهيري ينطوي على تهديدات عميقة في منطقة السويداء بما يفتح الباب أمام سيناريوهات اتجاه الدروز في السويداء لإقامة دولة درزية تدعمها بعض القوى الأجنبية كإسرائيل وفرنسا، الأمر الذي يعني أننا لسنا بصدد دولةٍ متماسكةٍ في سوريا.
بجانب ذلك، فمع تكالب العديد من المشاريع الأجنبية الرامية للسيطرة على مفاصل الشرق الأوسط كالمشروع الإيراني والتركي والإسرائيلي وغيرها، يمكننا القول بأن الخطر الذي يواجه الشرق الأوسط لا يُمَيِّز بين العرب والكُرد وغيرهم من شعوب المنطقة، الأمر الذي يجعل الحوار العربي الكُردي أفضل السُبُل لمواجهة التحديات الأمنية التي سبقت الإشارة إليها.
آفاق المستقبل
في ضوء الإدراك المتنامي لأهمية الحوار الجسر الذي يربط بين الشعوب ويقودها نحو الاستقرار والتعايش، يبدو من الأهمية بمكان البحث في إمكانية جعل ثقافة جعل الحوار بمثابة ثقافة عامة تستوعب الإشكاليات الثقافية والسياسية بعيدا عن المسارات الصراعية والتناحر الذي يُعيق التعايشَ ويُهَدِّد مستقبل الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط بشكل عام، وهو ما يمكن التعامل معه في ضوء ما يلي:
أولا. الحوار ودور المعرفة الموضوعية
للمعرفةِ الموضوعيةِ دوراً هاماً في تعزيز الفَهْمِ المُشْتَرك بين الشعوب، فكما يقول إدوارد سعيد “إن المعرفةَ بمعانيها السياسية والانسانية ينبغي كسبُها لمصلحةِ العيشِ المشترك وخيرِ المجتمع، أي مجتمعٍ كان، وليس أعراقاً أو قوميات أو طبقات أو أديانٍ بعينها”. غير أن واقع الإدراك المشترك بين الشعبين العربي والكردي في حاجةٍ إلى تعزيز دور المعرفة الموضوعية، حيث لا يحتاج المرءُ جهداً كبيرا لكي يدرك كَمَّ الجهلِ المتبادل المتبادل بين شعوب الشرق الأوسط فيما يخص التداخل والتفاعل الذي جمعهم تاريخياً، بل إن المعرفةَ السائدةَ فيما بينهم تتسم بقدرٍ كبيرٍ من السَطْحية، حيث تقتصر معارف الكثير من العرب حول جيرانهم الكُرد على شخصيات عامة مثل صلاح الدين الأيوبي وبعض الشخضيات التي أبرزها الإعلام، في حين يغفل الكثيرون دور الكرد في الحضارة الإسلامية، والحال نفسه بالنسبة للقواسم المشتركة التي فرضتها الجغرافيا، كونهم تعايشوا على ارضٍ واحدةٍ، والتاريخ، إما على صعيد التاريخ الإسلامي الذي جمع الإسلام كافتهم تحت مظلته، أو مقاومة الاستعمار وحروب التحرير التي انضوى تحت لواءها الجميع، ولعل المسؤولية التاريخية في هذه الإشكالية، تقع على عاتق النخب القومية التي تعصبت لتاريخها القومي وتجاهلت القواسم المشتركة تاريخيا مع غيرهم. كما تأثَّر ذلك بطرقِ الحصولِ على المعرفة بين الباحثين والمثقفين العرب للتعرف على الكُرد تاريخهم وثقافتهم، حيث اعتمدا بالأساس على الكتابات الاسْتِشْراقية التي زَوَّدَتْهُم بمعارفٍ مُشَوَّشةٍ ومُوَجَّهةٍ فيما يخدم الرؤيةَ الغربية في المقام الأول. لذلك لابد للمعرفة التاريخية الموضوعية بالتاريخ المشترك بين العرب والكُرد أن يبدأ بالمصادر العربية والكردية الأم التي أبرزت هذه العلاقة العضوية القابلة للتطوير والتحسين، وكذا الانخراط في المصادر الكردية والعربية البحتة بعيداً عن أية مؤثرات أيديولوجية.
ثانيا. مَأْسَسَةُ ودمقرطة الحوار العربي الكُردي
يُعدُّ العملُ المؤسسيُ القائم على أسُسٍ ديمقراطيةٍ أحد القنوات اللازمة لمواجهة الإشكاليات المجتمعية، حيث تُوَفِّرُ الأدوات والضوابط الحاكمة للحوار بما يُرَسِّخَ القيم الديمقراطية من خلال الممارسات المحددة بأهداف وآليات ومناهج تراعي الخصوصيات والفروق المتعددة بين الجمعات المتحاورة. وعليه، فإن تدشينَ إطارٍ مؤسسي دائم باستراتيجيات وغايات وأدوات محددة من شأنه ضمان انسيابية الحوار وديمومته وصولاً إلى تضمينه كقيمة عامة في المجتمع. ومن شأن هذا الإطار المقترح أن يوفر بيئةً سياسيةً ملائمةً تخدم التعايشَ السلمي في مجتمعات الشرق الأوسط التي أنهكتها الصراعات القائمة على أساس الهوية، إذ يستوعب هذا الإطار المؤسسي القيم الديمقراطية مثل قبول الآخر، واحترام التعددية واحتضان الأفكار البنَّاءة لنهضة المجتمع بعيداً عن أيةِ تمايزاتٍ عرقيةٍ أو دينيةٍ …إلخ، وهو ما يعني تعزيز مبدأ المواطنة وتفعيله ما دامت الفئات المُتَشاركَة، أي العرب والكرد وبالطبع غيرهم من شعوب الشرق الأوسط، تتفاعل في ثقة متبادلة وممارسة عادلة تضمنها ضوابط هذا الإطار المؤسسي. ويمكن أن يتخذ هذا الإطار شَكلاً اتحاديا نظراً لكون الإطار الاتحادي يمثل أحد الأشكال التي تستوعب التنوع (العرقي والديني واللغوي وغيره) بشكلٍ وظيفيٍ يضمن لمنتسبيه المساهمة بحريةٍ وإبداع في الحفاظ على الترابط والاندماج الاجتماعي.
ثالثا. الحوار كقوة ناعمة دائمة
إن أحد معايير نجاح مَأْسَسةِ الحوار العربي الكردي هو استمرايته بشكلٍ منتظم، الأمر الذي يجعل آليات الحوار وثقافته أحد أشكال القوة الناعمة لكونه بديلاً عن سلسلةِ الإجراءات القهرية التي دأبت عليها الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط عند التعامل مع إشكاليات التنوع وإدارة الاندماج الوطني، ولم تقتصر هذه الإجراءات على القرارات السياسية التي سَلَبَت الفئات غير الحاكمة حقوقهم الثقافية والسياسية وفي مقدمتهم الكُرد بل وصل الأمر في كثيراً من الأحوال إلى الأدوات العسكرية والقمع والتنكيل بالأصوات الراغبة في رد الاعتبار لهويتها الثقافية، وهو ما تعبر عنه الخبرة التاريخية لتعامل الدول القومية وسلطاتها مع القضية الكردية والتي لا يمثل اعتقال المناضل والمفكر الكردي عبد الله أوجلان في سجونٍ تركيةٍ مشددةٍ لمدة 25 سنة، أولها ولا آخرها.
وعلى هذا الأساس، فإن التعامل مع الحوار من منظور “القوة الناعمة” Soft Power إنما يعكس مقاربة جديدة وغير تقليدية تبدو الأنظمة الحاكمة مطالبة بالاعتماد عليها، حيث لم تجني هذه الأنظمة من أساليبها التقليدية (القهرية) إلا انخراط الدول في آتون العنف الهوياتي واضطرابات سياسية واجتماعية بما يؤثِّر على مستقبل بقاء الدولة القومية بشكلٍ عام.
وفي إطار هذه المقاربة، فإن التوسع في الأنشطة الأكاديمية، والثقافية، والإعلامية، والدرامية، والإبداعية، والرياضية المشتركة التي تستهدف تغيير الذهنية التقليدية التي يشوبها المدركات السلبية المتبادلة بين العرب والكرد، وخلق ذهنية يسودها قيم احترام الآخر وقبوله. وبطبيعة الحال، فإن التركيز على مطلب “الكرامة” كأحد مفردات الخطاب الحقوقي المناصر للحق الكردي وغير الكردي أيضا. إن ذلك يفرض إعادة النظر في الطريقة التي تَتَشَكَّل من خلالها الصورة الذهنية المتبادلة حول الكرد، والتأكيد على دورهم الحضاري في تاريخ الشرق الأوسط، وليس التعامل معهم كمتمردين أو انفصاليين، بل إن حقائق الجغرافيا والتاريخ تؤكد أنهم جزءً أصيلاً من نسيج شعوب المنطقة وأسهموا بفاعليةٍ في تاريخها الحضاري.
الخلاصة
ما سبق يعني السيرة التاريخية لشعوب الشرق الأوسط، وخاصة العرب والكُرد، قد تَشَكَّلت في ضوء تعايشٍ إيجابيٍ فيما بينها، وأن بعض المنعرجات قد أضفت العديد من الأزمات على واقع العلاقات فيما بينها، سواء على مستوى التاريخ الاستعماري والمخططات الرامية لضمان تبعية الشرق الأوسط لخدمة المصالح الغربية، أو على مستوى النخب القومية الحاكمة التي فشلت في ضمان الاندماج الوطني فأصبحت على آتون حروب وويلات باتت تهدد مستقبلها، الأمر الذي يعني أن الحوار والتعايش العربي الكردي قد أضحى حتميةً لازمةً لضمان بقاء المنطقة واستقرارها.