
بعد السابع من أكتوبر 2023 وتنفيذ مقاتلي حماس لعملية “طوفان الأقصى”، وفي المقابل رد إسرائيل من خلال عملية “السيوف الحديدية”، والتوسع في ضرب المدنيين وإبادتهم وانتهازها الفرصة لتنفيذ مخطط التغير الديموغرافي ومحاولة تهجير سكان غزة وإبادتهم متذرعة بما قامت به حماس، صارفة الانتباه عن الأطماع الاقتصادية لإسرائيل في استثمار ثروات قطاع غزة وعلى رأسها الغاز، وعن الطموح التوسعي الشرس الذي يراود إسرائيل لإقامة دولة إسرائيل الكبرى، ورغبتها في حفر قناة بن غوريون، وإسعاف اليهود الذين ضاقت بهم الكيبوتسات الاستيطانية، وبالتوازي مع ما تفعله إسرائيل في غزة، تحاول عمل إجراءات مشابهة في الضفة الغربية بهدف استغلال انشغال العالم ككل بما يجري في غزة، والسعي الحثيث والسريع من قبل إسرائيل لاستقطاع ونهب أراضي الضفة الغربية، وابتلاعها لصالح المستوطنين اليهود، وإجراء عملية تغيير ديموغرافي بتهجير السكان الأصليين الفلسطينيين واستبدالهم بمستوطنين يهود.
نهب أراضي الضفة جزء لا يتجزأ من طموح إسرائيل التوسعي
ومما لاريب فيه أن ما تقوم به إسرائيل في أراضي الضفة الغربية يؤكد طموحها التوسعي، خاصة وأن عمليات الاستيطان والتمدد الديموغرافي لليهود كثفت منذ بداية عام 2023 مع وصول نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة إلى سدة الحكم وتضاعفت هذه العمليات التوسعية والترويعية للفلسطينيين وإجبارهم على الرحيل من مناطقهم في الضفة ضمن عمليات انتقام جماعية، بعد أحداث 7 أكتوبر بالرغم من عدم تواجد مقاتلي “حماس” في مناطق الضفة.
ويذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تستغل فيها إسرائيل انشغال الدول العربية ودول العالم في أحداث المنطقة للتوسع على حساب الضفة الغربية، وزيادة عدد المستوطنات بها، ففي فترة انشغال الدول العربية بما عرف بـ”الربيع العربي” وانتشار الفوضى في المنطقة وانخراط دولها بمشاكلها الداخلية استغلت إسرائيل هذا الوضع، وكذا تأييد الإدارة الأمريكية لها بزعامة أوباما ، ووصول “دونالد ترامب” للسلطة في الولايات المتحدة ودعمه القوي لتل أبيب إلى حد نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة رسمية لإسرائيل، وإعلان وزير الخارجية “مايك بومبيو” أن المستوطنات في الضفة لا تخالف القوانين الدولية ، كما استطاعت إسرائيل منذ 2011 وعلى مدار 10 سنوات إنشاء ما يقرب من 5000 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية إلى جانب تطوير عملية التخطيط لـ 1400 وحدة أخرى.
عوامل حفزت التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية
تضافرت مجموعة من العوامل التي شجعت السلطات الإسرائيلية على طرد الفلسطينيين من أراضيهم في الضفة وتهجيرهم وسلب ممتلكاتهم لصالح اليهود، وتفاقم هذه الأوضاع خاصة بعد 7 أكتوبر، أبرزها:
1- رغبة نتنياهو في البقاء بمنصب رئاسة الوزراء لأطول وقت ممكن، وتمسكه بالسلطة حتى آخر رمق، ومحاولته التخلص من التهم المسندة إليه، خاصة مع انخفاض الدعم الأمريكي له مؤخرًا والانخفاض الحاد في شعبيته داخل إسرائيل بعد “طوفان الأقصى” وتأكيد كثير من الشواهد على أن أيامه أضحت معدودة في السلطة.
2- إلهاء الرأي العام العالمي بأحداث غزة وتشتيت الانتباه بفتح جبهة مع حزب الله جنوب لبنان من جهة أخرى، واستثمار هذه الأوضاع للانفراد بالضفة الغربية والتهام أكبر قدر منها تحقيقًا لقانون “القومية” ولخطة حكومة نتنياهو المتطرفة منذ قدومها للسلطة 2023.
3- استغلال معاهدات التطبيع والدفاع المشترك بين الجانب الإسرائيلي وعدد من الدول العربية والشرق أوسطية، وكذا استغلال انشغال الدول العربية بأزماتها السياسية والاقتصادية.
4- التأييد الدولي من الولايات المتحدة وأغلب حكومات الدول الغربية للسياسات العدوانية لإسرائيل، واعتبار أمن إسرائيل قضية محورية في منطقة الشرق الأوسط لها الأفضلية على أي قضية في المنطقة.
5- صمت المنظمات الدولية وأجهزتها بما فيها مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان وتحيز أغلبها للجانب الإسرائيلي.
ابتلاع الضفة الغربية وقانون القومية
ومما يجدر ذكره أن حكومة نتنياهو عمدت ضمن خطتها الاستيطانية إلى تنفيذ إجراءات تسمح بالتوسع الاستيطاني بشمال الضفة الغربية والعودة لغزة، ومنها: إلغاء قانون “فك الارتباط” في مارس 2023، والذي سن عام 2005 والذي قضى بإنهاء المستوطنات الموجودة في قطاع غزة وتفكيك 4 مستوطنات في الضفة الغربية، وتطبيق قانون “التنظيم والبناء” الذي يهدد بهدم الآلاف من بيوت الفلسطينيين، هذا إلى جانب إقرار آلاف من خطط البناء في الضفة الغربية، وضم ملايين الفلسطينيين إلى المعطيات الرسمية، وإخراج الإدارة المدنية من وزارة الأمن، وكذا انعقاد المجلس الأعلى للتخطيط والبناء في يهودا والسامرة (الضفة) في كلّ شهر، بدلاً من كلّ ثلاثة أشهر؛ بهدف إقرار بناء شقق ومؤسسات عامة، إلى جانب تشكيل لجنة “مجلس أعلى مصغر” لإقرار مبانٍ تربوية وصناعية ستنعقد كل أسبوعين، والتي كان من المتوقع أن يقر المجلس 18 ألف وحدة سكنية جديدة في الشهور القادمة واستكمال مشاريع التي أُوقفتها الحكومة السابقة.
وفي هذا الإطار تسعى إسرائيل للاستيلاء على الضفة الغربية، تمهيدًا للوصول لإسرائيل الكبرى، وتطبيقًا لما يعرف بـ(قانون القومية ) : “الدولة القومية للشعب اليهودي”، الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في 19 يوليو 2018، ويقضي القانون بأن دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي، الذى يمارس فيه حقوقه الطبيعية والثقافية والدينية والتاريخية لتقرير المصير في دولة “إسرائيل” وهو أمر حصري للشعب اليهودي، دون غيره مع عدم وضع حدود لدولة إسرائيل، بحيث لا يعترف بأي حق لأي مجموعة غير اليهود في تقرير المصير، فضلاً عن عدم الاعتراف بأن هذه الدولة موطن لشعب آخر، وبالتالي إنهاء صريح للقضية والشعب الفلسطيني.
سياسات إسرائيل للاستيلاء على أراضي الضفة:
- التهجير القسري للفلسطينيين: ذكر مركز “بتسيلم” في تقرير له أن إسرائيل منذ بدء الحرب في غزة 7 أكتوبر 2023 استغلت الوضع وكثفت جهودها لتهجير الفلسطينيين من تلال جنوب الخليل، ويهجر السكان ضمن مستويين:
1- المستوى الرسمي: ويشمل فرض قيود مشددة على البناء والتطوير، بما في ذلك تقييد عمليات توصيل شبكات البنى التحتية.
2- المستوى غير الرسمي: ويشمل أعمال العنف المنهجية والمتواصلة من قبل المستوطنين ضد السكان الفلسطينيين تحت مرئاً ومسمع من الجيش والشرطة الإسرائيلية، بما في ذلك طرد الرعاة الفلسطينيين، ومنعهم من الوصول إلى مصادر المياه وتقليص مناطق الرعي المتاحة لهم.
وبعد اندلاع الحرب في غزة وانشغال العالم بها، هجرت إسرائيل فعليًا خمسة تجمعات في منطقة تلال جنوب الخليل: خربة الرذيم، خربة زنوتا، اعنيزان، عتيرية ومقتل مسلم، وفي أغلبها هرب السكان قبل أن يتمكنوا من تخليص كل ممتلكاتهم التي قام المستوطنون بسرقتها وتدميرها، أما التجمعات الفلسطينية الأخرى في المنطقة: خربة سوسيا، مغاير العبيد، المفقرة، الركيز، أم الخير، سدة الثعلة، خربة الطوبا، خربة اصفي التحتا، خربة خلة الضبع، خربة جنبا، خربة لصيفر، قواويس وخربة صارورة، لا تزال تحت خطر التهجير القسري المماثل. - الاقتحامات والمداهمات المتكررة لمناطق الضفة الغربية: أدى اشتعال الحرب في غزة إلى اتجاه الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة إلى مزيد من التصعيد أيضاً، فلا يمر يوم دون أن تشهد مختلف المناطق بالضفة مداهمات للجيش الإسرائيلي وهجمات للمستوطنين ضد الفلسطينيين، حتى بعد إعلان الهدنة في غزة، وقد وصل عدد القتلى في الضفة الغربية وفق وزارة الصحة الفلسطينية منذ أحداث “طوفان الأقصى” إلى أكثر من 212 بعضهم قتل على يد المستوطنين، وأكثر من 2800 جريحًا، وفي هذا الإطار أكدت “مي الكيلة” وزيرة الصحة الفلسطينية أن الجيش الإسرائيلي والمستوطنون لا يزالون يمارسون عدوانًا ممنهجًا في المدن والقرى ومخيمات الضفة، والتي كان آخرها مخيم بلاطة، والذي أدى لمقتل خمسة مواطنين، وآخر في طوباس، والعشرات من الجرحى”، ويذكر أن قوات الاحتلال يوم الجمعة 24 نوفمبر اجتاحت قرية رمانة غرب جنين قبل بدء الهدنة مباشرة، حيث داهم ما يزيد عن 30 آلية عسكرية بينها جرافات اقتحمت القرية من داخل معسكر سالم، كما اقتحمت مخيم عايدة شمالي بيت لحم، وقاموا بإطلاق وابل من قنابل الغاز السام المسيل للدموع صوب منازل المواطنين.
كما هاجم الجيش الإسرائيلي مخيم نور شمس شمالي الضفة الغربية، ونفذ عملية استغرقت نحو 30 ساعة، ثم انسحب الجيش يوم الجمعة 13/11/2023من المخيم بالكامل مخلّفاً وراءه 12 شهيداً فلسطينياً على الأقلّ. - عمليات القتل والإعدام غير المبرر: تتبع الفلسطينيين في الضفة الغربية بالقتل، حيث استشهد منذ 7 أكتوبر ما يزيد عن 227 فلسطينيًا برصاص الاحتلال الإسرائيلي، وهذا إلى جانب عمليات الإعدام بدون مبرر التي ترتكبها السلطات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين والتي كان أبرزها إعدام الطفل “معتز عيد” البالغ من العمر 16 عامًا وسط صمت تام من المجتمع الدولي ومؤسساته المعنية بالطفولة وحقوق الإنسان.
- حرق وهدم بيوت الفلسطينيين وتهجيرهم بالضفة الغربية
يقدر عدد الذين أجبروا على ترك منازلهم بنحو 500 شخصًا، حسب منظمات حقوقية، ومنها مركز المعلومات الإسرائيلي “بتسليم” الذي كشف أن 16 قرية يسكنها رعاة هُجرت منذ نشوب حرب غزة، إلى جانب حرق المستوطنون لبيوت بعض الفلسطينيين في الضفة الغربية، حتى أن مستوطنة “ملآخي هشالوم” ملائكة السلام استخدمت في كأداة لتنفيذ مشروع سياسي توسعي من خلال ليس فقط بناء المستوطنات بل استخدام رعاة الأغنام من المستوطنين المتطرفين في بؤر استيطانية صغيرة في الضفة الغربية، لإبعاد الرعاة الفلسطينيين بالقوة عن قراهم، ويستولون على مناطق الرعي الخاصة بهم ويفرضوا سيطرتهم عليها. - سياسات العقاب الجماعي:
فرض الجيش الإسرائيلي حظر تجوّال على 11 حيًّا في منطقة H-2 في الخليل، حيث أغلِقت المصالح التجاريّة والحوانيت وحددت إقامة نحو 750 أسرة، تضم آلاف الأفراد في منازلها، فقط، وبعد أسبوعين من حظر التجوّال التامّ، أعلن الجيش أنّ بإمكان السكّان الخروج من منازلهم أيّام الأحد والثلاثاء والخميس لمدّة ساعة واحدة في الصباح وساعة واحدة في المساء في كلّ مرّة. - زيادة معدلات الاعتقال: أكد تقرير منظمة العفو الدولية في 9 نوفمبر 2023 أن السطات الإسرائيلية كثّفت على نحوٍ واسع استخدام الاعتقال الإداري الذي لايسمح للمعتقل بالمحاكمة أو توكيل محام للدفاع عنه في تكثيف لسياسة “الأبارتيد”، وهو شكل من أشكال الاحتجاز التعسفي، ضد الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة، كما مدّدت إجراءات الطوارئ التي تتيح معاملة الأسرى الفلسطينيين معاملة لاإنسانية ومهينة، فقد اعتقلت السلطات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر أكثر من 2200 فلسطيني وفلسطينية، وفقًا لنادي الأسير الفلسطيني، والمركز الإسرائيلي للدفاع عن الفرد (هموكيد)، حيث ارتفع العدد الإجمالي للفلسطينيين المحتجزين إداريًا، من دون تهمة أو محاكمة، من 1319 إلى 2070 في الفترة بين 1 أكتوبر و1 نوفمبر 2023، وتزايدت أعداد المعتقلين في الضفة حتى 19/11/2023 إلى 2920 فلسطينيًا، 100 امرأة و 40 صحفياً، و1464 أوامر اعتقال إداري ما بين أوامر تجديد وأوامر جديدة، حتى أنه بالتزامن مع الهدنة المعلن عنها في غزة قامت القوات الإسرائيلية باعتقال 35 فلسطينيًا في مناطق متفرقة من الضفة الغربية لتصل حصيلة المعتقلين إلى 3295 منذ الـ7 من أكتوبر.
ويؤكد لنا ما سبق أن الواقع الفلسطيني سواءً السياسي أو الجغرافي يتطلب نظرة شاملة وحلاً شاملاً لكل ما يحدث في الأراضي الفلسطينية التي تخطط إسرائيل لطمس هويتها وتهويدها لتحقيق دولة إسرائيل الكبرى، مهما اختلفت الذرائع وسواءً وجدت “حماس” أم غابت عن المشهد، فكل الحكومات الإسرائيلية من اليمين إلى اليسار تسعى لتنفيذ خطة بعينها تدون في أجندات هذه الحكومات، وتسابق الزمن لخروج هذا المخطط إلى أرض الواقع، سواءً من القوات الإسرائيلية، أو من خلال المستوطنين تحت غطاء الحرب بلا وازع ولا رادع.