مقالات

ترتيبات عديدة: التنافس الإقليمي بين أنقرة وطهران في الملف السوري

تحليل الباحث محمد صابر

تسعى “أنقرة” باستمرار إلى توسعة نفوذها ودورها إقليميًا، وتدور إستراتيجيتها حول ممارسة دورًا محوريًا في جميع الاتجاهات، وقد رأت أن سوريا هي بوابتها الأمثل لتحقيق هذا الهدف، بل وتخويلها القدرة على تحديد مستقبل المنطقة بأكملها، وتستمر تركيا في دعمها لفصائل المعارضة السورية، بينما عملت طهران على دعم نظام الرئيس السوري “الأسد”، لتستمر قدرتها على التحكم بالملف السوري وتوسيع سيطرتها على كامل الجغرافية السورية، وسعت إلى سلب هذا الدور القيادي من أنقرة، كفرصة في ذات الوقت لاستعمال الأمر كورقة ضغط عند تعثر التفاوض مع الغرب حول برنامجها النووي.

كما شعرت تركيا بقلق شديد إزاء ما أدت إليه الثورة السورية من انسحاب للحكومة السورية من الشمال السوري، وبروز دور المكون الكردي السوري وخاصة مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا ودورهم الأساسي في محاربة داعش وعلاقتهم مع التحالف الدولي، فقد رأت “أنقرة” أن ذلك قد يؤدي لتداعيات في تركيا وإلى رفع سقف المطالب الكردية في الداخل التركي، وكذلك فشل سياستها تجاه الكرد في تركيا وصعوبة قضمها للجغرافية السورية وتدخلها في الشأن السوري.

وبناءًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى دراسة مدى التقارب أو التنافر بين سياسات تركيا وإيران تجاه الأزمة السورية، وأثر مواقف الدولتين حول الملفات المرتبطة بالأزمة السورية لاسيما تدخلهم السافر وكذلك ملف القضية الكردية وإدارة مسار الحل السياسي للملف السوري.

محاور التنافس والخلاف:
ترى تركيا أن حالة الصعود الإيراني ونجاح “طهران” في ممارسة دور إقليمي محوري في سوريا، يجعل منها المنافس الوحيد لها في المنطقة العربية والإسلامية، وتختلف سياسات البلدين وتتعارض حول العديد من النقاط، التي يمكن سردها على النحو التالي:

(1) سياسات الطرفين تجاه الملف السوري: يختلف النهج السياسي الذي تنتهجه كل من “أنقرة” و “طهران” تجاه الحرب الأهلية السورية، فبينما ظلت إيران تسعى لدعم الرئيس السوري “بشار الأسد” منذ انفجار الأزمة السورية، والحفاظ على استمرار سيطرته على السلطة، كانت تركيا الداعم الرئيسي للمعارضة السورية وعملت على جني الاعتراف الدولي بها ومحاولة اخضاع المعارضة لها بشكل كلي والتحكم بقرارها وخاصة ما يسمى “الإئتلاف الوطني السوري”، كما قدمت دعمًا لوجستيًا لقواتها تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية والقضاء على الإرهاب وحجة الأمن القومي التركي.
ومن جهة أخرى، عملت تركيا على احتلال أراضي سورية وتوجيه ضربات وشن عمليات عسكرية بالشمال السوري ضد “قوات سوريا الديمقراطية” بهدف إنهاء الوجود الكردي والقضاء على مشروع الإدارة الذاتية وتغيير ديموغرافيتها السكانية وضمها لتركيا إن سمحت الظروف، مع العلم أن العلاقة بين المكون الكردي السوري والدولة السورية كانت ذات لقاءات سياسية أحياناً وتوترات سياسية أحياناً أخرى وعدم توافق بينهم حتى اليوم، ولكن لم يكن فيها السلاح والدم، كما هي حال العلاقة بين المعارضة المسلحة الموالية لتركيا والحكومة السورية.

(2) التمدد المذهبي”الهلال الشيعي”: يتضح جليًا أن للدعم الإيراني لحكم “بشار الأسد” بُعدًا مذهبيًا يتمحور حول إستراتيجية إقليمية، ترمي إلى ضم كلًا من “سوريا ولبنان والعراق” ومد النفوذ الإيراني عبر هذه المنطقة، الأمر الذي يثير الغضب التركي إزاء توسع النفوذ الإيراني ومطامع “طهران” في المنطقة، في ظل رغبة تركيا أن تنفرد بهذا الدور المحوري، كما أن سياسات “حزب العدالة والتنمية” الموالية للإخوان الإرهابيين والمناهضة لنظام الرئيس السوري “بشار الأسد” على أساس أنه من “العلويين”، قد أظهرت أنقرة بشكل ما وإن كان بشكل تضليلي كطرف فاعل في “المحور السني” وهو ما يهدد أهداف ما يسمى بــ “الهلال الشيعي” ولكن لتركيا ايضاً كان مشروع “العثمانية الجديدة” الذي يرتكز لحركات الإخوان والمجموعات القريبة منها، لكن الملاحظ أيضاً وجود توافقات مرحلية بين المشروعين التركي والإيراني حال استهدافهم الشعوب العربية والكردية في العراق وسوريا.

(3) التنافس الاقتصادي ومشاريع تصدير الطاقة: تتمتع سوريا بمكانة جيوسياسية محورية بالشرق الأوسط، جعلتها تمثل نقطة الوصل بين مناطق الجزيرة العربية الغنية بمصادر الطاقة وأوروبا، كما تشكل الدولة السورية معبر حيوي يتدفق عبره الغاز والنفط إلى أوروبا، وفي هذا الصدد، تتطلع “أنقرة” للعب دورًا هامًا في نقل الطاقة لدول الإتحاد الأوروبي، وهدفت قطر وتركيا لذلك بمشروع اقترحته “الدوحة” على الرئيس السوري عام 2009، مفاده نقل الغاز منها إلى أوروبا مرورًا بسوريا وتركيا، ولكن هذا الاقتراح القطري قوبل بالرفض، بينما كان الطرح المنافس لذلك المشروع هو “اقتراحًا إيرانيًا”، حيث رغبت “طهران” بنقل الغاز من حقل القبة الشمالية، عبر مد أنابيب تمر عن طرق العراق مرورًا بسوريا ثم البحر المتوسط، وتم التوقيع على هذا المشروع منذ 2012، إلا أن التنفيذ الفعلي له لم ينجح وتأخر بسبب تداعيات الأزمة السورية، وقد حاولت تركيا ممارسة الضغط على الرئيس السوري “بشار الأسد” باستمرار لكى يرفض مشروع خط الأنابيب الإيراني، ويقبل بالطرح القطري – التركي، الذي يحقق مصالح “أنقرة” بلا شك، للهيمنة على خطوط نقل الغاز لأوروبا، وامتلاك المزيد من أوراق الضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل القبول بالحلم التركي المتعلق بانضمام تركيا له.

عوامل التعاون والالتقاء:
على الرغم من تعدد الخلافات بين مساعي البلدين، ترتبط أهداف تركيا بمطامع إيران في العديد من الاتجاهات، لاسيما العلاقات البينية والروابط الثقافية التي تجمعهم، كما أنه يوجد نوعًا من التفاهم بشكل نسبي بينهما حول عدة نقاط، ومن أهمها على سبيل المثال لا الحصر:

(1) مصالح مشتركة بالملفات الإقليمية في الشرق الأوسط: حيث أن التفاهم بين واشنطن وموسكو في الملف السوري خلال أول قمة جمعت بين الرئيس الأمريكي “جو بايدن” ونظيره الروسي “فلاديمير بوتين” في شهر يونيو من عام 2021، أدى إلى مزيد من الضغط على النفوذ التركي والإيراني أيضًا، ورغبة في تقليص تواجد الدولتين في سوريا، عن طريق التنديد الروسي بالاحتلال التركي في شمال سوريا، والتنديد الأمريكي بتواجد الميليشيات الإيرانية في مناطق سيطرة الحكومة السورية، بما يشير إلى وجود فرص للتعاون بين أنقرة وطهران والحفاظ على نفوذهما بالمنطقة، وهناك استعداد للتعاون العميق بين البلدين حول الملف السوري وكذلك العراقي، فيمكن لطهران الضغط على الحكومة السورية إلى مستوى معين نحو المصالحة التركية – السورية، وتقييد المشروع الكردي مع المكونات الأخرى بالإدارة الذاتية، كما أن تركيا وإن كان ظاهراً لا تزال تقف داعمة لطهران في التوصل لاتفاق نهائي بالملف النووي، رافضة اتهام الغرب لها بدعم الإرهاب، وهذه المؤشرات توحي إلى إمكانية التنسيق لتحقيق المصالح المشتركة، وإيجاد المزيد من نقاط الاتفاق المتبادل وبناء الأرضية المشتركة بشكل مستمر، حتى في تحقيق المصالح الأحادية من جهة وأخرى عبر التعاون، وفي الوقت نفسه يقول الكثير من المتابعين أن تركيا أكثر ماتستفيد من التوتر الغربي مع إيران وخاصة من العقوبات الأمريكية والغربية على إيران والتي استفادت منها تركيا اقتصاياً وسياسياً على الأقل وهناك دعوة في المحاكم الأمريكية ضد تركيا وأشخاص قريبين من أردوغان بسبب دورهم في كسر العقوبات على إيران.

(2) الهاجس الأمني تجاه التدخل الأمريكي في سوريا: شهدت الساحة السورية تكرار حالات من الصراع في فترات متفاوتة بين قوى عديدة منها الجيش السوري والميليشيات الموالية لإيران والمجموعات المعارضة الموالية لتركيا، وكذلك قوات سوريا الديمقراطية التي لها علاقة تعاون عسكرية مع التحالف الدولي والولايات المتحدة، منذ 2014 على محاربة تنظيم “داعش”، فقد حصل التعاون بين التحالف الدولي والأمريكيين مع الكرد وقوات سوريا الديمقراطية منذ أيام وجود الرئيس الأمريكي أوباما وترامب وحتى اليوم بوجود بايدن وقد أكد قبل أيام أخر سفيرأمريكي في سوريا أن هذه العلاقة سوف تستمر نظراً لوجود تهديد داعش، مما شكل صدامًا مع المطالب التركية وسياساتها المتشددة تجاه الشعب الكردي في أي دولة ومكان، وعلى الرغم من أن تركيا وهي من أعضاء “الناتو” فهي تصنف قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على أنها تنظيم إرهابي، رغم أن قوات قسد هي التي حررت مدينة الرقة عاصمة داعش بالتعاون مع التحالف الدولي الذي كان يضمن حوالي 75 دولة حينها ومنها دول عربية ، و الملاحظ أن تركيا تعمل لحرمان الأكراد من أي تطلعات لحقوقهم الطبيعية بالمنطقة، فهي ترى أن حصول أكراد سوريا على حقها في الإدارة الذاتية لمناطقهم ضمن حدود الدولة السورية، قد يشجع أكراد تركيا وأكراد إيران بالتالي، إلى المطالبة بحقوقهم وبالإدارة الذاتية، مساواة بأكراد سوريا ومن قبلهم أكراد العراق أو كردستان العراق، الذي تمكن من تحقيق ذلك الهدف بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003.

(3) العلاقات الإستراتيجية البينية: يتخطى تصدير طهران لأنقرة ثلث احتياجاتها من الطاقة، خاصًة بعد توقيع البلدين لصفقة الغاز المُقدرة بـ 22 مليار دولار، كما أن حجم التبادل التجاري بين البلدين حسب تقارير عام 2019 وصل إلى 6 مليار دولار، وعلى الرغم من انخفاض هذا المعدل تأثرًا بتداعيات فيروس كورونا خلال عام 2020، إلا أن السلطات الإيرانية قد أعلنت عن توقيعها 6 مذكرات للتفاهم مع “أنقرة”، هدفت إلى تعزيز مستويات التبادل التجاري بينهما، وصولًا إلى 30 مليار دولار، علاوة على تعاونهما في العمل ضد التيارات والأحزاب الكردية الفعالة.

رؤية المنافسة والصداقة اللدودة:
يمكن أن نستنتج مما سبق أنه يوجد الكثير من التحديات والإشكاليات وكذلك الفرص لخلق الممارسات التعاونية بين تركيا وإيران في سوريا وإن كان على حساب السيادة ومصالح الشعب السوري، بينما تتعدد أيضًا نقاط الخلاف المحفزة للتنافس، إلا أن واقع العلاقات الدولية يفرض على الطرفان العمل على التوصل إلى تفاهم في بعض الأحيان، في ظل حرص كليهما على دورهما الإقليمي ومكانتهما ونفوذهما الممتدان إلى بعض المناطق في الشرق الأوسط، إضافًة إلى أن الخلاف بينهما سواء كان سلطوي للهيمنة أومذهبي أو صراع اقتصادي حول مشاريع تصدير الطاقة إلى دول أوروبا، يحول دون تحقيق أي تقدم في الملف السوري، كما أنه لا يمكن تصور تحقيق أي تقدم ملموس في العلاقات الدولية دون استمرار التقدم على طاولة التفاوض وإن كان مع العدو.

وفي النهاية، يمكن القول أن التفاهم بين تركيا وإيران قد يسانده دعمًا روسيًا كما حصل منذ 2016 وحتى الآن، فعلى الرغم من أن العلاقات بين موسكو وأنقرة تصل في بعض الأحيان لوضع غير مستقر، وبالأخص فيما يتعلق بترتيبات الوضع في شمال سوريا وخاصة “إدلب” السورية، فأن “بوتين” بحاجة إلى “أنقرة” و “طهران” معًا، خاصًة في ظل تزايد الضغط الغربي على الروس من عدة جبهات، منذ بدء العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، مما قد يؤدي إلى تقديمه مزيد من التنازلات في الملف السوري لصالح تركيا وإيران بالتنسيق مع الحكومة السورية، لكن هل ينجح هذا الثلاثي في فرض رؤيته في ظل وجود أمريكي داخل المشهد السوري وهو رافض إلى حدا كبير لهذا الثلاثي وتفاعلهم المشترك ورغبتهم في إخراج أمريكا من الملف السوري، وأين هي السيادة السورية ومصالح الشعب السوري وألوياته في ظل هذه التدخلات التركية والإيرانية وغيرهم، وماهو الدور العربي الذي هو غالباً في مصلحة الشعب السوري وضد التدخلات الإقليمية فيه، وخاصة بعد تشكيل لجنة التواصل وعودة الحكومة السورية للجامعة العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى