المجتمع المدني الكُردي: من العشائرية إلى عالمية منظومة المجتمع الكردستاني
تحليل د. طه علي أحمد
رُغم الجدل المستمر حول المجتمع المدني في كافة مستوياته بين المفاهيم والدلالات والمضامين والسياقات التاريخية، وصولًا إلى إشكالية العلاقة معًا لدولة وأيهما يمثل الأساس، رُغم هذا الجدل، يظل المجتمع المدني ظاهرةً إنسانية في المقال الأول تتصل بالعمران البشري منذ بدايته وفي كافة صوره. فعلى مستوى الدلالة اللَّفظية، ينطوي مصطلح “المجتمع المدني” على شقين: الأول هو المجتمع، والذي يعكس تآلفا مُعقَّدا بين العديد من المقومات الأساسية (الوطن، والبيئة، والسكان، والتنظيم الاجتماعي، والبِنى) وتفاعلها مع المجتمعات المحيطة كما يقول حليم بركات.
وبالتالي، فإن ممارسة المجتمع المدني تسبق أية محاولة للتنظيم، فمهما تباينت أصداء هذا المجتمع المدني بين جنبات السياسة والاقتصاد والمجتمع، إذ يشوب علاقته مع الدول قدرٌ من الإقصاء المتبادل كما يقول بعض الباحثيين. غير أن أهم ما يميز هذا المجتمع المدني كونه أحد روافع التحول الديمقراطي (الدمقرطة) وطرق الوصول إليها. وعليه، يتمثل قوامه في منظومة القيم التي تستند عليها الديمقراطية. فما بين الحرية والإرادة وإعلاء قيمه وصولاً إلى مركزيةِ مكانة المجتمع كما يذهب عبد الله أوجالان. بين هذا وذاك يمكن القول بأن وجود المجتمع المدني يُمَثِّل أحد متلازمات الوجود الإنساني.
كجزء أصيل من بيئة الشرق الأوسط، لا يعد المجتمع الكردي بعيدا عن ممارسة التنظيم المجتمعي والتي تطورت حتى وصلت إلى الصورة الراهنة للمجتمع المدني، فقد انتظم الكرد تاريخيًا في أطر عديدة من التنظيم الذاتي، وقد اتخذت هذه الممارسة في المجتمع الكردي أشكالاً عديدة امتزجت فيها مع التحولات التي طرأت على المجتمع البشري المحيط بها، غير أنه خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين قد تسارعت ويرة التحولات التي طرأت على شكل الإطار العام للمجتمع المدني الكردي وبنيته والدور الذي يقوم به كونه أحد ميادين السعي نحو تأكيد الذات الكردية.
ورُغم أقدمية الممارسة المدنية في عُمْق التاريخ الكردي منذ آلاف السنين، إلا أن بروز الأطر التنظيمية الكردية على النسق الجمعوية (جمعيات ومنظمات) إنما جاء في سياق التطور المجتمعي والتراكمات التي تحقَّقت على مدار القرنين الأخيرين، والتي غلب عليها الطابع النضالي أملًا في الخروج من حالة الاغتراب التي تراكمت عبر قرون من الاقصاء والقمع الذي عانى منه الكرد على يد القوى المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط حيث يعيشون منذ آلاف السنين. ومع تأسيس الدولة القومية Nation state بإرادة من القوى الغربية في المقام الأول، تعاظم الدور النضالي لهذه التنظيمات، بل إنه اتخذ محطات تطورت خلالها أشكال الممارسة والهياكل التنظيمية.
فخلال القرن العشرين ارتبط تطور العمل التنظيمي المدني الكردي بظروف حركة تطور المجتمع الذاتية والموضوعية للكرد؛ فنتيجة لنمو الفئة المثقفة الكردية في المدن التركية والأوروبية بدأوا يهتمون بمسألة الصحافة والتنظيم السياسي اهتمامًا متزايدًا. فقد ساعدت عوامل أساسية داخلية وأخرى خارجية على ظهور الصحافة الكردية، فمن بين هذه العوامل كان ظهور المدارس الرسمية في العديد من الأقاليم الكردية. أما العوامل الخارجية فتتلخص في اهتمام الشعوب المجاورة للشعب الكردي، وبشكلٍ خاص الأرمن والعرب والتُرك، بصحافتهم الوطنية مما أوجد انعكاسات واضحة على فكرة “الفئة المثقفة” الكردية، وبالطبع يضاف لذلك نشاط المعارضة التركية المناوئة للسلطات الحاكمة في الدولة العثمانية خلال عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909)، حيث أثَّرت بشكلٍ واضح على أذهان المثقفين الكرد. فكما تشير الباحثة وصال نجيب العزاوي في دراسة حول “القضية الكردية في تركيا” إلى أنه قبل الحرب العالمية الأولى بلغ عدد الطلاب في مدن كردستان العراق – على سبيل المثال – كالآتي: في عقرة (30) وفي زاخو (40) طالبا، وفي العمادية (45) طالبا، وفي السليمانية (140) طالبا، وفي أربيل (155) طالبا. وفي عام 1893 كانت توجد في السليمانية مدرسة رشيدة عسكرية بلغ طلابها (110) طالبا. وقد تم ابتعاث هؤلاء إلى بغداد والقسم الأكبر إلى اسطنبول. ونتيجة لارتباط غالبية مناطق وجود الكردي، وتحديدا في تركيا والعراق وسوريا بسلطة مركزية وظروف متقاربة تحت حكم الدولة العثمانية، فقدتشابهت ظروف نشأة الوعي الكردي في هذه المناطق نظرًا لكونها امتزجت مع السياق العام لشعوب الشرق الأوسط بين اتساع نطاق التعليم والمعاناة من هيمنة القوى الاستعمارية، والاحتكاك بالغرب خلال القرن الثامن عشر وما بعده، وهو ما نرصده فيما يلي.
أولا. تركيا:
تبلورت التنظيمات الكردية في إطار التحولات التي كانت تطرأ على المجتمع التركي خلال العقود الأخيرة من العهد العثماني والتي غلب عليها الصدام بين الفئات المثقفة والسلطة الحاكمة، فعلى سبيل المثال، تأسَّست في سنة 1889، جمعية سرية في الكلية الطبية العسكرية في اسطنبول باسم “الاتحاد العثماني” على يد كل من عبد الله جودت واسحاق سكوتي الديار بكري وهم كرديان، وابراهيم تمو الأرناؤط (أي الألباني) ومحمد رشيد شركسي. وقد مثَّلت هذه الجمعية الأساس لما عُرِفَ لاحقاً بـ “جمعية الاتحاد والترقي” التي قامت في 1908 بانقلاب أجبرت خلاله السلطان عبد الحميد على إعادة العمل بالدستور العثماني لسنة 1876 الذي كان السلطان عبد الحميد نفسه قام بتعليقه منذ سنة 1878، وهو ما يعني أن حركة المجتمع المدني الكردي ظهرت بداية كإطار يشمل هموم وقضايا مجتمعية تتجاوز النطاق الكردي.
:
في هذا الإطار، لم ينفصل الكرد على الجدل الثقافي الذي ساد تركيا والذي قادته حركة “تركيا الفتاة” والذي تركز حول التأكيد على العلمانية والدستورية محل التأكيد على الإسلام. وفي هذه الأجواء نشطت الحركة القومية الكردية في تركيا حينما وجد الكرد فرصةً متاحة في الحركات الليبرالية العثمانية والإصلاحات الدستورية بوصفها أفضل السبل لتحقيق مكتسبات على مستوى تأكيد ذاتهم القومية ورد الاعتبار لهويتهم. وفي هذا الإطار، انتشرت الجمعيات السياسية والثقافية الكردية ليس في العاصمة اسطنبول فحسب بل أيضا في المدن الكبرى في الجنوب الشرق الكردي. فتشكَّلت أول منظمة قومية كردية في اسطنبول في 1908 تحت مُسَمَّى “جمعية النهضة وتقدم الكرد”. وفي عام 1910 قام الكُرد بتأسيس جمعية (الرجل الكردي) وكانت تضم بين أعضائها الوطلاب ورجال القانون.
لكن هذه الطفرة في تأسيس التنظيمات الكردية، قد اصطدمت بأجواء الحرب العالمية الأولى، حيث شرعت السلطات التركية بتعطيل الجمعيات الكردية بحجة (اعلان الجهاد المُقَّدس ضد المشركين)، كما قامت السلطات التركية بِسَوْقِ مؤسسي الجمعيات الكردية إلى جبهات القتال. بجانب ذلك، فقد تركت الحربُ ذاتها آثارها السيئة الواضحة في القرى الكردية التي شملها الدمار والخراب. ولهذا، كان من الصعب على الجمعيات والنوادي الكُردية أن تحصل على الدعم اللازم بين السُكان الكُرد الذين كان يغلب عليهم الطابع المتدين، والخضوع لزعاماتهم القبليين، ولعل في ذلك ما يفسر استجابة قطاعات واسعة من المجتمع الكردي بحماس للدعوة التركية للجهاد.
لكن ذلك لم يمنع ظهور جمعيات عدة في المناطق المختلفة من تركيا باسم “جمعيات الدفاع عن حقوق الأناضول والروميلي” ولم تكن هذه الجمعيات مرتبطة فيما بينها، وكانت أهدافها إقليمية في الغالب، حيث قامت للدفاع عن حقوق الولايات الشرقية. وأبرز تلك الجمعيات “جمعية الدفاع عن الحقوق الوطنية للولايات الشرقية” وَدَعَت هذه الجمعية إلى إطلاق الحريات العامة بما فيها الحرية الدينية للديانات كافة والمساواة بين مختلف الفئات في البلاد.
لكن مع انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة “الاتحاد والترقي”، وجدت حركة المجتمع المدني الكردي انتعاشة في بعض المدن التركية الكبرى مثل اسطنبول التي عادت الجمعيات الكردية فيها للنشاط وإعادة تشكيل نواديهم وجمعياتهم، وقد ارتبط ذلك بدرجة ما برغبة الكرد في مواجهة بعض الفعاليات التي ظهرت في هذه الأثناء من جانب البعثات الروسية والألمانية والأمريكية والبريطانية التي كانت تتحرك بنشاط في كردستان. ولهذا، تأسَّست “جمعية تعالي كردستان” التي أسَّسها العديدُ من المثقفين الكرد ونادوا من خلالها بتكوين دولةٍ كرديةٍ مستقلة، حيث كانت أصداء دعوة الرئيس الأمريكي ويلسون بـ “حق تقرير المصير” قد وصلت إلى الكرد المتطلعين لتقرير مصيرهم. كما تشكَّلت جمعية “الشعب الكردي”، وجمعية “التعالي لنساء الكرد”، وقد توازى ذلك مع تأسيس العديد من التنظيمات السياسية الكُردية في اسطنبول مثل “اتحاد أصدقاء كردستان”، و”حزب التجديد”، وفي عام 1922 تأسَّست جمعية سرية باسم “استقلال كردستان” التي نشطت في إقامة العلاقات بين قادة العشائر الكردية. كما شهدت هذه المرحلة الحركة الثورية التي قادها الشيخ سعيد بيران عام 1925، لكن فشل هذه الحركة الثورية أسفر عن قيام السلطات التركية بحل جميع التنظيمات الكردية، وتنفيذ حكم الاعدام بحق عدد من قادة جمعية استقلال كردستان. وقد جاء ذلك كجزٍ من النهج الذي سلكته الجمهورية التركية، التي تأسَّست في عام 1923. ففي ظل هذه الجمهورية، ومع سيطرة “الكماليين” (نسبة إلى مصطفى كمال “أتاتورك”) على مفاصل السلطة تأكدت الملامح القومية المتطرفة للنخبة الجديدة الحاكمة والتي عبَّر عنها عصمت إينونو İsmet İnönü (24 سبتمبر 1884 – 25 ديسمبر 1973) صديق أتاتورك الحميم وخلفه الذي قال في سنة 1925: “نحن بصراحة قوميون، والقومية هي عامل تماسكنا الوحيد. وليس للعناصر الأخرى أي نوع من التأثير في وجه الأغلبية التركية”. يجب أن نعمل على تتريك أرضنا بأي ثمن ، وسنمحق أولئك الذي يعارضون الأتراك والنزعة التركية”. وعلى هذا أضحت مصطلحات “المواطنة” و”المواطن” في دستور 1924 مساوية للانتماء التركي. وقد كرَّست هذه الوثيقة الدستورية بذور الطَمْس الذي تعرضت له الهوية الكردية في تركيا حتى اليوم. وعليه أضحت حركة المجتمع المدني الكردي في تركيا تمضي في مسارٍ ضيقٍ ومحفوف وبخاصة مع سيطرة التيار القومي على مفاصل الدولة التركية بما يجعل تطور المجتمع المدني مهمةً شبه مستحيلة.
ثانيا. العراق:
كواحدٍ من الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية في الشرق الأوسط انطلقت، وفي إطار تشكَّل الوعي القومي الكردي في العراق في مطلع القرن العشرين، قام عددٌ من الشباب المُثَقَّف، من أبناء الطبقة الأرستقراطية في مدينة السليمانية، بتأسيس عددٌ من الجمعيات التي انضم إليها الطلبة والموظفون مثل جمعية “تعالي كردستان “، و”جمعية كردستان”، و”جمعية الدفاع الوطني” خلال الفترة 1921 – 1924. وقد كان لهذه الجمعيات دورٌ في تنشيط الحركة الثقافية والنشاط السياسي وبخاصة أنها جميعا كانت تطالب ببقاء الموصل ضمن حدود العراق والمطالبة بتحرير العراق من سيطرة بريطانيا. حيث قامت جمعية كردستان بإرسال مذكرة إلى عصبة الأمم في اكتوبر 1924 تعارض فيها مطالبة تركيا بولاية الموصل.
ومع انتشار الأفكار الديمقراطية واليسارية بين الشباب الكُردي في العراق، بداية من عام 1935، بدأ الطابع الايديولوجي يتسلَّل نحو المجتمع المدني الكردي، فظهرت التنظيمات المدنية التي انقسمت على أساسٍ أيديولوجي مثل “جمعية الأهالي الديمقراطية”، التي تأسَّست في عام 1932، والتي كانت بمثابة الأساس للحزب الوطني العراقي الذي تأسَّس عام 1946. وفي المقابل ظهر “الحزب الشيوعي العراقي”، الذي تأسَّس في 31 مارس 1934، والذي لعب دورًا ملحوظًا في نشر الوعي بين الجمهور الكردي والعربي بضرورة الكفاح المشترك لتخلص من سيطرة الاستعمار. وفي هذا الإطار صدر كتاب “الأكراد والعرب” للناشط ابراهيم أحمد الذي سلَّط الضوء على الأخوة الكردية والكفاح المشترك ضد الاستعمار و”الرجعية”. وقد كان لهذه الجمعيات دور في نشر الوعي الثقافي والسياسي بين الشباب الكردي، وخَلْقِ أرضيةٍ سياسية لإنشاء أحزاب كردية أكثر نُضوجاً استطاعت استقطاب المجتمع الكردي وذات أهداف وبرامج سياسية واجتماعية واضحة خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية وانتشار الأفكار اليسارية بين الشباب.
ثالثا. إيران:
ارتبط النشاط المدني الكُردي في إيران بالأوضاع العامة التي عاشها كُرد إيران، والتي أثَّرت فيها سياسات الحكومات الإيرانية المتعاقبة منذ بداية حكم الأسرة الصفوية في 1501 حيث مورست ضد الكرد سياسات قمعية أسفرت عن تهجير الآلاف من أبناء الكرد باتجاه مناطق طرفية أو هامشية Peripheral لاسيما شمال إيران، وبخاصة من الكُرد الكرمنج (الذين يتحدثون اللهجة الكرمنجية)، حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة 32 – 35% من كرد إيران ( أو شرق كردستان) يتكلمون اللهجة الكرمنجية، بينما يتكلم الباقون السورانية وغيرها، أي أن الكرد في إيران يتركزون في المناطق الواقعة بين نهر أراس وجبال أغري حتى وادي قاسملو ودشت بيله، حيث يوجدون في ولايات مثل قزوين وكيلان ورودبار ونجان وملابير، وهمدان، وقم، وشاهرود، وولاية فارس.
في هذا السياق، نشأت مسيرة الوعي بالذات القومية بين الكرُد كجزء من الحركة الثقافية وازدهار التعليم في المجتمع الإيراني، والتي تجلَّت في الحركة الأدبية التي قادها المثقفان الكرديان سمكو شكاكي وعبد الرزاق بدرخان، حيث لعبا دورًا مُهِمًا في تنشيط حركة المجتمع المدني الكردي فأصدرا أول جريدة كردية في إيران بعنوان “كردستان” بمدينة “خوي” الواقعة غرب أذربيجان إيران (تقع بين مدينتي ماكو وأرومية على الحدود التركية الإيرانية)، وفي سنة 1913 تأسَّست جمعيةٌ ثقافيةٌ كانت بمثابة ديوان أدبي يلتقي خلاله الوطنيون والمثقفون في مدينة خوي، وقد سُمِّيَت بـ “الجمعية الكُردية الثقافية” (جيهانداني)، والتي تَعني (التربية أو التنشئة)، وفي مطلع القرن العشرين، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، صدرت صحيفة “Rja” (معناها شمس الكُرد) بمدينة أرومية التي تمَّت تسميتها في وقت لاحق بمحافظة آذربيجان الغربية، وكان ذلك في عام 1919، ثم أسَّس عبد الرزاق بدرخان وآخرون جمعية “الوعي”. وقد اضطلعت هاتان الجمعيان بنشر الثقافة الكردية (الأدب واللغة وغيرها) بين الأطفال بجانب إصدار المجلات والجرائد الكردية وإرسال الشباب الكردي إلى روسيا للتعليم.
وفي عام 1942، تأسَّست في مدينة مهاباد جمعية جمعية “كومة له” (تعنى الجمعية)، واسمها بالكامل هو “كومه له ي زيانه و ه ي كوردستان” أي جمعية بَعْث كردستان. وقد تحولت لاحقا إلى “الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدكا)، وقد انتسب لهذه الجمعية “قاضي محمد” الذي قاد تجربة “جمهورية مهاباد” في 1964.
وقد أحدث تأسيسُ هذا الحزب نقلةً نوعيةً تحولت بموجبها حركة المجتمع المدني الكردي من الشأن الثقافي إلى آفاق العمل السياسي حيث كان له دورٌ في تأسيس تجربة جمهورية مهاباد في عام 1964 بقيادة “قاضي محمد” الذي لقي دعما من الاتحاد السوفيتي، إذ كان ذا صبغةٍ ماركسية، وتبنَّى الدعوة لتأسيس حكم ذاتي للكرد في إيران. لكن هذه التجربة أُجهِضَت بسبب ظروف البيئة الصراعية الدولية التي كان يغلب عليها الصراع بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفي والغربي بقيادة الولايات المتحدة، وفي هذا السياسي كان من الطبيعي ان تلقى الحكومة الإيرانية دعمًا غربيًا وبخاصة من بريطانيا والولايات المتحدة لمواجهة جمهورية مهاباد، حتى تم إسقاط جمهورية مهاباد بعد إحدى عشر شهرا فقط. لكن حركة المجتمع المدني الكُردي لم تتوقف، لاسيما وأنها ترتبط بحركة عامة بين الرأي العام الكردي الذي كان منتفضاً طوال الوقت في مواجهة سياسات الحكومات الإيراني الرامية لطَمْس كافة الهويات الفرعية بداخل المجتمع الإيراني لصالح الهوية الفارسية فيما يُعرف بـ “التفريس”.
ولهذا، فقد توازى الشِقُّ السياسي مع الثقافي كركيزتين أساسيتين متكاملتين للمجتمع المدني الكردي المتحرك والثائر طوال الوقت لاسيما وأن تجربة جمهورية مهاباد، وقد أسفرت عن تنشيط الحركة الثقافية الكردية في إيران، فازدهر الأدب الكردي الذي كان يُكْتَب بدايةً باللهجة السورانية ثم بفضل حركةِ سمكو شكاكي بدأ الأدب المكتوب بالكرمنجية في الازدهار وكانت أولى الروايات المكتوبة بها هي “بشمركة” لمؤلفها رحيم قاضي. وفي ربيع 1984 أصدر الشاعر الكردي “هيمن موكرياني” مجلة أدبية بعنوان “سيروه” في مدينة أرومية. وقد أسهمت هذه المجلة في إحداث طفرة في الكتابات الكردية التي لَمَعَ من خلالها أسماء عديدة مثل جلال الدين نظامي وسرتيب منصوري وسيد علوي وكافي علوي وغيرهم. وقد اهتموا جميعهم بإحياء اللهجة الكرمنجية في واجهة مساعي الحكومة الإيرانية لطَّمْسها. وفي عام 2004، تأسَّس حزب الحياة الحرة الكردستاني PJAK ليمثل أحد المحطات في نضال الكرد ضد الحكومة الإيرانية التي كانت قد اغتالت أكثر من 600 من قادة وكوادر التنظيمات الإيرانية وبخاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني. لكن حزب الحياة الكردستاني قد أسهم في نقل القضية الكردية لمرحلة تجاوزت العمل الثقافي والسياسي حيث تبنَّى الكفاح المسلح والسياسي في مواجهة الحكومة الإيرانية.
رابعا. سوريا:
ارتبطت حركة المجتمع المدني الكردي في سوريا بالنشاط الذي شهدته حركات التحرر في الشرق الأوسط بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لاسيما مع الثورة الثقافية التي أحدثها وزدهار التعليم وعززتها انتعاشة الصحف في سوريا ولبنان، والتي ظهر في القلب منها الصحف الكردية بما أسهم في تطور الفكر السياسي والاجتماعي الكردي وبروز طبقةٍ من المثقفين الكرد الذين اهتموا بالأحوال السياسية العامة في المنطقة، حيث اتخذوا من صحف “كردستان”، و “روزي” و”يكبون” و”زين” و”روناهي” و”ستير” و “روزا نو” منبراً للتعبير عن طموحاتهم في إحياء ثقافتهم الكردية وإدراج هويتهم في منظومة التفاعلات السياسية خلال التحولات التي كانت تجري آنذاك. وفي هذه الأثناء نشطت الجمعيات والمنظمات الكردية السورية في تأسيس مجلات وصحف فأصدر الأمير جلادت عالي بدرخان مع عددٍ من المثقفين مجلة هاوار كمنصةٍ تُعنَى في المقام الأول بالأدب الكردي، وقد صدر عن هذه المجلة سلسلة من الكتب التي تهتم بالثقافة والتاريخ واللغة والأدب الكردي، ونتيجة لنشاط هذه المجلة في دعم الحركة الوطنية السورية ضد الاستعمار الفرنسي فقد قامت السلطات الفرنسية بمنعها عدة مرات. ولهذا أصدر جلادت بدرخان مجلة أخرى في الفترة (1942 – 1945) هي مجلة روناهي، كمجلة متنوعة.
في هذا الإطار بدأ ظهور الجمعيات الكردية مثل جمعية “خويبون” التي تأسست في 5 أكتوبر 1927 في إطار تنامي الوعي القومي الكردي بالتوازي مع الوعي بروابط الكرد مع الوطن السوري. لكن جمعية خويبون قد اقتصرت على الطابع الثقافي حيث لم ترفع مطالب سياسية. فنجد مثلا أعضاء الجمعية يرفعون لسلطات الانتداب الفرنسي مطالب هوياتية كُردية تشمل حق استعمال اللغة الكردية مع اللغات الرسمية الأخرى، وتدريس اللغة الكردية في المدار التي تقع في نطاق “كردستان”.
في عام 1932 تأسَّست بمدينة الحسكة جمعية بمسمى “التعاون ومساعدة الفقراء الأكراد”، وفي منتصف الثلاثينات تأسس “نادي شباب الكرد” في مدينة عامودة، وفي عام 1939 تأسست في دمشق، جمعية باسم “يكيتيا خورتان” (وحدة الشباب) ضمَّت عدداً كبيراً من الشباب وخاصة بعد انضمام نادي صلاح الدين الثقافي إليها، ونادي هنانو وتغير الاسم الى (نادي كردستان) وهو نادي رياضي ساهم في جمع شمل الشباب الاكراد واستنهاض الشعور القومي فيهم من خلال دورات اللغة الكردية. وفي عام 1951 تأسَّست في مدينة حلب “الجمعية الثقافية”، ورفعت شعار نَشْر الثقافة الكردية، وفي عام 1953 تأسَّست جمعية “وحدة الشباب الديمقراطيين الكرد” في القامشلي، وحملت أهداف تحرير كردستان وتوحيدها والسماح بفتح المدارس الكردية والأندية، وفي 1955 نشطت جميعة إحياء الثقافة الكردية في دمشق وهي الجمعية التي مثَّلَت طليعة تأسيس الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا PDK عام 1956. وفي مدينة حلب تأسَّست جمعية باسم المعرفة والتعاون الكردي في يونيو 1955. وفي 1957 تأسَّس حزب كُردي يدعى (آزادي) في القامشلي. وفي العام نفسه تأسَّست رابطة للطلب الكُرد في جامعة دمشق، ثم تأسَّس الحزب الديمقراطي الكردستاني.
في التسعينات تشكَّلت في سوريا المنظمات الحقوقية الكردية في إطار حركة الدفاع عن حقوق الإنسان السوري بشكل عام والكردي بشكل خاص، حيث تشكَّل الخطاب العام لها في البيانات والتقارير والمنشورات التي اعتادت هذه المنظمات على نشرها بجانب أشكال مختلفة من الحراك مثل الاعتصامات والمظاهرات وتعبئة الشارع الكردي للانخراط في مسيرة تحقيق المكتسبات في مجال حقوق الإنسان وفي هذا الإطار ظهرت المنظمات التالية:
لجنة حقو الإنسان الكردي في سوريا (ماف): تأسَّست في 5 أكتوبر 1996 بواسطة عدد من الشباب الكردي، ونتيجة للانغلاق الذي كانت تعيشه الحياة السياسية السورية في هذه المرحلة، فقد عملت هذه الجمعية كمسارٍ بديلٍ للحياة الحزبية، حيث رفعت شعار “الدفاع عن حق الانسان الكردي من أجل الاعتراف الدستوري بوجوده، وتمتعه بحقوقه القومية الديمقراطية في إطار وحدة البلاد”. كما عملت على رصد وتوثيق أشكال الاضطهاد التي يواجهها الانسان الكُردي في سوريا، والدعوة لإعادة تداول الأسماء التاريخية للقرى والمدن والبلدان والمحلات التجارية الكردية بدلا من الأسماء التي خضعت للتعريب، والمطالبة بإطلاق سراح كافة السجناء السياسيين ومنهم المعتقلين السياسيين الكرد في السجون السورية، والمطالبة باعتماد خطط تنمية فاعلة في المناطق الكردية.
اللجنة الكردية لحقوق الإنسان: تأسَّست في 9 أبريل 2006. ووفقا لميثاقها التأسيسي فقد اعتبر مؤسسوا هذه الجمعية أنها جزءا لا يتجزأ من الحركة العالمية لحقوق الإنسان، فاعتبروا أن مرجعيتها الفكرية هي العهود والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان. النادي الثقافي الكردي في سوريا: تأسَّس في أول اكتوبر 2004، حيث تمحورت اهتمامات هذا الكيان في التأكيد على اللغة الكردية، وتوعية الشباب الكردي بتاريخه وثقافته القومية، ورفع المستوى الثقافي والعلمي بين الشباب الكردي، ومعالجة المشاكل الاجتماعية وحماية الشباب من الانحراف.
الجمعية الكردية لحماية البيئة (كسكايي): تأسَّست في عام 2004، حيث ركَّزت في المقام الأول على نشر الثقافة البيئة وقد انضم إليها عدد من الجيولوجيين والأطباء والمهندسين وغيرهم.
جمعية الاقتصاديين الكرد – سوريا: تأسَّست في 26 يونيو 2006، لتكون حاضنة للاقتصاديين الكرد ممن يُعنَى بالبحث العلمي في سوريا.
حركة المجتمع الديمقراطي(TEV-DEM): وهو الإطار الذي تبلور بعد 2012 في سوريا وخاصة في شمال وشرق سوريا، حيث يمثل حالياً أكبر وأهم مظلة لتنظيمات المجتمع المدني في المجتمع الكردي وبل تجاوز ذلك لتكون المجتمعات العربية أيضاً حاضرة فيها بقوة.
منظومة المجتمع الكردستاني وتجاوز حدود العشائرية
منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين، وبانتقال القضية الكردية لمرحلة أكثر جدية، مع تنامي الفعل المسلح كسبيل لرد الاعتبار للهوية الثقافية الكردية، وكما سبقت الإشارة عند تأسيس حزب الحياة الحرة الكردستان، وحزب العمال الكردستاني الذي تأسَّست عام 1978، ونتيجة لدخول البُعد الأيديولوجي لاسيما الأيديولوجية الماركسية، انتقل المجتمع الكردي إلى مرحلة جديدة استمدت روافدها من رؤى وأطروحات أوجالان التي سعى من خلالها لنقل العقل الكردي من المستوى العشائري إلى مستوى التنظيم القائم على النهج الديمقراطي. وفي هذا الإطار، تأسَّس ما يُعرَف بـ “منظومة المجتمع الكردستاني” (KCK) عام 2015، كنظام وكنموذجٍ للتنظيم الاجتماعي والسياسي يسعى لتجاوز منطق “الدولة القومية” Nation state، ويوفر في الوقت نفسه نظاماً وتنظيماً يجمع في إطاره مختلف المجتمعات ذات الخلفيات العرقية والدينية المتنوعة. ويقوم هذا التنظيم على تحليل للبنية السياسية والاجتماعية للشرق الأوسط في ضوء سيرورته التاريخيا. وتعد “منظومة المجتمع الكردستاني تجسيدا” لفكر “الأمة الديمقراطية” التي يسعى من خلالها أوجالان لتجاوز أزمات الشرق الأوسط التي يعتبرها ناجمة عن سوء إدارة النخب الحاكمة لملف التعددية والتنوع العرقي والديني ، ولهذا تنطلق من خلال هذا التنظيم عملية تحول أيديولوجي وفكري للمسار العام للقضية الكردية بما يتجاوز النهج القبلي والعشائري الذي لطالما سيطر على تفاعلاتها السياسية والاجتماعية، فلطالما خرجت الحركات السياسية الكردية وانتفاضاتها وثوراتها من العباءة العشائرة، وهي “منظومة المجتمع الكردستاني” لتجاوزه في إطار مؤسسي يتجاوز الحواجز العرقية والدينية والعشائرية. ولهذا فقد جاء هذا التنظيم كمظلةٍ جامعةٍ تشمل مجالات مختلفة كالاقتصاد، والثقافة، والدفاع عن النفس، والعدالة، والحياة الاجتماعية، والدبلوماسية والسياسة، وذلك تحقيقاً لمهامٍ أساسية تتمثل في في دعم وبناء هياكل الإدارة الذاتية من خلال المئات من المنظمات والأعضاء من النشطاء والمشاركين في كافة المجالات.
ويقوم هذا الإطار التنظيمي على عدد من الهيئات التي أهمها المجلس التنفيذي والرؤساء المشاركون، والمجلس الرئاسي، ومؤتمر الشعب، وعدد من اللجان المختلفة التي تركز على مجالات عمل محددة مثل الصحة والدبلوماسية والاقتصاد وغيرها. وينسق المجلس التنفيذي لمنظمة المجتمع الكردستاني عمل فروعها المختلفة حتى يضمن انضباط سير عمل كافة فروعها بشكل تكاملي. ويشكل المجلس الرئاسي أعلى هيئةٍ تمثيليةٍ.
وكجزءٍ من إطار فكري لا يقتصر على الإطار الكُردي بل يتسع للسياق الإقليمي والدولي، فقد عُنيَت منظومة المجتمع الكردستاني بالبحث في سُبُلِ حل أزمات الشرق الأوسط، فقدمت “نظام الكونفدرالية الديمقراطية” كآليةٍ لحل مشاكل المنطقة وذلك من خلال خلق شبكة واسعة من العلاقات التي تربط مجموعة من القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على المستوى الدولية.
المؤتمر الوطني الكردستاني (KNK)
مع انطلاق العمل التنظيمي الجمعوي الكردي إلى المستوى الدولي، وذلك بفضل الوجود الكُردي النَشِط في دول أوروبا، ومع تزايد الجمعيات التي أسَّسها الكُرد في المهجر (في أوروبا)، اتَّسع نطاق “التشبيك” بين العديد من هذه الجمعيات، وفي هذا الإطار اجتماع ممثلون من 89 حزباً سياسياً كردياً ومنظمات غير حكومية وأفراد في العاصمة الهولندية (أمستردام) يومي 24 – 26 مايو 1999 وأعلنوا تأسيس “المؤتمر الوطني الكردستاني”، وهو ائتلاف من الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والأفراد من جميع أنحاء كردستان والمهجر. وقد عمل هذا الائتلاف على نقل القضية الكردية إلى دوائر صنع القرار الفاعلة على المستوى الدولية، وذلك من خلال الترويج وممارسة الضغط من أجل التوصل لحلٍ سياسي سلمي للمسألة الكردية. وقد تعددت المكاتب الفرعية لهذا التنظيم في وأربيل (كردستان العراق) وقامشلو (القامشلي) في شمال وشرقي سوريا والعديد من المدن الأوروبية الكبرى للممارسة أدوار المناصرة Advocacy والضغط Lobbying على الحكومات الوطنية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، ورفع الوعي بالوضع في كردستان من خلال وسائل الإعلام والمنتديات العامة، والعمل جنباً إلى جنب مع السياسيين وجماعات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية للفت الانتباء القضايا السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان في كردستان.
لقد مثَّل المؤتمر الوطني الكردستاني حدثًا مُهما على مستوى الحضور السياسي الكردي في العقود الأخيرة، إذ يعتبر بمثابة “برلمان كردستان” في المنفى، كونه يضم أكبر تجمع تمثيلي كردي في المهجر (أمريكا الشمالية وأستراليا والعالم العربي ودول الاتحاد السوفيتي سابقاً)، كما أنه يتضمن كافة الطيف الكردي بمختلف تنوعاتهم وانتماءاتهم المذهبية.
فوفقاً لديباجة الميثاق التأسيسي للمؤتمر الوطني الكردستاني KNK فإن “الكُرد أمةٌ واحدة”. كما تضيف الديباجة أنه “تمَّت صياغة هذا الميثاق لحماية الهوية القومية للكرد، ولتعزيز إرادتهم في الوحدة الوطنية وتقرير المصير. ويستند إلى تمسكهم بالمبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحق جميع الشعوب في تقرير المصير”. وبموجب هذا الميثاق، وفيما يخص تعريف كردستان وشعب كردستان، تقول المادة 2 بأن “كردستان هي بلد جميع الكرد، بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم أو لهجبتهم، الذين يقيمون فيها هم مواطنون. وتتألَّف من جميع المناطق ذات الغالبية الكردية. كردستان دولة واحدة لكنها مُقَسَّمة بشكل مصطنع”. وفي الفقرة الثانية من المادة نفسها فإن “التغييرات الديمغرافية في كردستان التي أحدثتها سياسة التطهير العرقي والترحيل القسري وتوطين العناصر الأخرى من قبل الدول المحتلة غير قانونية وغير مقبولة”. وفي الفقرة الثالثة جاء أن “شعب كردستان يتكون من الكرد – الآشوريون – الكلدان – والأرمن والتركمان وغيرهم ممن سكنوا هناك تاريخا والذين يقبلون أنفسهم كجزءٍ من شعب كردستان”. وأضافت المادة نفسها “يحق لمن ليسوا كردا من شعب كردستان الحفاظ على خصوصيتهم الوطنية، وتطوير لغتهم وثقافتهم بحرية، وإنشاء مؤسسات تعليمية خاصة بهم”، وفي الفقرة هـ من المادة الثالثة من الميثاق جاء أنه “في المناطق التي يُشَكِّلُ فيها الآشوريون الكلدانيون الأغلبية، تستخدم لغتهم رسميًا جنبًا إلى جنب مع اللغة الكردية”.
اتحاد الجمعيات الكردية في أوروبا
بجانب ذلك، تأسَّس “اتحاد الجمعيات الكردية في أوروبا (KCDK-E)، في عام 2015، ويقع مقره الرئيس في ليبج، بلجيكا. وقد تم قبول وضعه القانوني بموجب التشريعات البلجيكية ذات الصلة. ويعد هذا التنظيم أكبر مظلة جامعة حيث يتكون من 26 اتحاداً ومؤسسة للكُرد في المهجر (الدول الاوروبية، كندا، أستراليا، واليابان). وكذلك يتألف من 409 من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، ومن بين هذه الجمعيات هناك منظمات نسوية وشبابية، وكذلك مؤسَّسات من روج آفا/ شمالي وشرقي سوريا، روجهلات/ كردستان إيران، باكور/ كردستان تركيا والجمعيات العلوية والأزيدية. أما الهدف من تشكيل اتحاد الجمعيات الكردية في أوروبا (KCDK-E) فقد أُعلِنَ على النحو التالي: في إطار مجتمع غني ومتعدد الثقافات، ولمحاولة ضمان حماية وتطوير والاعتراف بثقافة وهوية الشعب الكردي، وتشجيع الاندماج وإقامة علاقات ودية مع وبين مجتمعات ومؤسسات المهاجرين داخل الهياكل الاجتماعية المشتركة في أوروبا والمجتمعات والمؤسسات الكردية.
ولهذه الغاية يقوم الاتحاد بتطوير حوارات ونشاطات ودية مع المنظمات المدنية في مختلف الدول الأوروبية، وجميع الأحزاب السياسية الكردستانية والأوروبية والمنظمات الديمقراطية والمؤسسات والمنتديات والمبادرات والأفراد، الذي يعملون من أجل حل المشاكل الاجتماعية، مما ينشر ويُمَكِّن التسامح والسلام الدائم. وكذلك تبني ودعم القيم الديمقراطية العالمية، حيث ينشط مع المنظمات والجمعيات المدنية الأخرى، إن كانت ثمة حاجة لذلك، سواء من خلال إنشاء منظمات مظلة جديدة أو الانضمام إلى المنظمات الموجودة.
المجتمع المدني الكردي والمرأة
كجزءٍ من التطور المجتمعي الذي شهدته شعوب الشرق الأوسط، أخذت المرأة طريقها نحو المشاركة في هذه الحركة التطورية، سواء على مستوى المساهمة في القضايا العامة مثل حقوق الإنسان والكفاح ضد الاستعمار، أو قضايا خاصة كالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمرأة، أو قضايا قومية مثل الدور الذي لعبته المرأة الكردية كجزء من حركة الوعي الثقافي الكردي في مناطق الوجود الكردي (كردستان)، أو حتى الدور العسكري الذي عبرت عنه تجربة “وحدات المرأة الحرة-ستار” في مناطق الدفاع المشروع و “وحدات حماية المرأة ” التي تأسَّست ونشطت في شمال وشرق سوريا بعد عام 2012.
وقد كانت المشاركة النسائية الكردية ترتبط في المقام الأول بالأطر التنظيمي النسائية مثل الاتحادات النسائية العامة، وروابط النساء كرابطة النساء السوريات (1948)، وغيرها من الجمعيات التي دأبت على تجاوز الطابع الكردي. لكن ذلك لم يمنع وجود تنظيمات نسائية مستقلة مثل منظمة المرأة الكردية الكردية الحرة (تأسَّست في قامشلو – سوريا) وجمعية المرأة الكردية (2006/ قامشلو)، وجمعية النساء الكرديات السوريات (2011). لكن أبرز هه التنظيمات قد تمَّثل في تنظيم “اتحاد ستار” وثم “كونكرا ستار” الذي تأسَّس في عام 2005، وقد مثل هذا التنظيم نقلةً نوعيةً في صيرورة المجتمع المدني النسائي الكردي، فقد انبثق عن رؤية ومنظومة بالجنب والتزامن مع مؤسسة سياسية وهي “حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، ويستند على ركيزة أيديولوجية ممثلة في الطرح الذي يقدمه عبد الله أوجالان، كما قدم التصور التنظيمي الذي اتبعه اتحاد ستار حيث تمثل أدنى مراحله في “الكومون” النسائي (على مستوى الشارع أو القرية)، ويعلوه المجلس النسائي في المدينة أو المنطقة، ثم تعلوه الهيئة التنسيقية للمجلس النسائي في المنطقة أو المدينة، وفي مستوى تنظيمي أعلى يوجد مجلس اتحاد ستار العام (يتشكل من 100 عضو يجري انتخابهن مرة كل عامين)، ثم تعلوه الهيئة التنيفيذة، وفي أعلى مراحله يوجد المؤتمر العام وهو أعلى سلطة قرار في اتحاد ستار.
تجدر الإشارة إلى أن حركة التنظيمات النسائية الكردية قد ارتبطت بخصوصية المجتمع الكردي الذي تُشَكِّل العائلة واحدة من أهم مصادر القيم السائدة فيه، وهي المنظومة الثقافية التي تتميز في إطارها مكانة المرأة، وهو ما سهَّل اندماج المرأة الكردية في الحركة المتنامية للمجتمع المدني الكردي. بجانب ذلك، فقد تعززَّت وتيرةُ حركة المجتمع المدني النسائي الكردي بالأحداث التي شهدتها سوريا بعد عام 2011، إلا أن أهم العوامل التي عزَّزَت هذا الدور قد تمثَّل في التغذية الفكرية التي قدمتها أطروحات عبد الله أوجالان والتي احتلَّت المرأة مكانة محورية فيها. فبعد تحليل سوسيولوجية تاريخي عميق لمجتمعات الشرق الأوسط، رصد أوجالان من خلاله ما اعتبره انكسارات متتالية لوضعية المرأة وفقدان مكانتها العظيمة في المجتمعات الطبيعية في المراحل الأولى لهذه المجتمعات (يرجعها أوجالان إلى نحو خمسة آلاف عام قبل الميلاد فيما يعرف بـ “العصر النيوليتي” وهي تسمية للعصور الحجرية الوسطى)، وهي مرحلة بلغت خلالها مكانة المصدر للحياة ومنبع الحكمة والقيم والإلهام والإله أيضا، وقد خَلُصَ أوجالان لنتيجة مفادها أن تحرير المجتمع من استغلال الأنمة السلطوية التي زرعتها منظومة الرأسمالية العالمية لا يمكن أن يتحقق بعيدا عن تحرير المرأة عند مستوى البنية التحتية للمجتمع (أي الأسرة) وتخليصها من هيمنة الرجل (أي السلطة الذكورية)، أو بعبارة أخرى فقد اعتبر أوجالان أن أنظمة الحكم وهي البنية الفوقية بكل سوءاتها ما هي إلا انعكاسا للبنية التحتية للمجتمع ممثلا في الأسرة.
كل ما سبق، عزَّزته التحولات التي شهدتها سوريا بعد عام 2011، حيث توازت مع الحراك الثوري طفرةٌ ثوريةٌ في عمل المجتمع المدني النسائي الكردي في سوريا وقد انعكس ذلك على الكثرة العديدة للتنظيمات التي تأسَّست في تلك الأثناء مثل “منظمة الاتحاد النسائي الكردي في سوريا (2012)، و”الاتحاد النسائي الكردي” (2015)، اتحاد نساء كردستان – سوريا (2012)، شبكة المرأة الديمقراطية (2012 – قامشلو)، و”منظمة جيان للمرأة (2013)، ومنظمة سارة لمناهضة العنف ضد المرأة(2013) و”جمعية المرأة الكردية في سوريا (2012)، و”مبادرة نساء سوريات من أجل السلام، و”توليب لدعم المرأة والطفل”، و”شبكة الصحفيات السوريات”، وتجمع نساء زنوبيا(2021)، ويلاحظ على هذه التنظمات تنوع مجالات عملها بين الشق السياسي والتنموي والحقوق وغير ذلك.
خاتمة
تكشف الصيرورة التاريخية للمجتمع الكردي، منذ فجر تاريخه، عن تجذر الممارسة التنظيمية التي اتخذت أشكالاً متنوعة بداية من العصور التي مثَّلت الأسرة حجر زاويتها وتبوأت المرأة مكانةً محوريةً طالت كافة جوانب الحياة، ثم مع تطور أشكال التنظيم الحديثة. ونتيجة لتجذَّرِ القيم التي يقوم عليها التنظيم المدني في التركيبة السوسيولوجية للمجتمع الكردي، فقد كان من اليسير على الكُرد أن يواكبوا تطور الأشكال التنظيمية (الجمعوية) وبخاصة على مستوى المرأة الكردية التي مارست دوراً تاريخياً في الحياة العامة، أو على مستوى الاشتباك مع القضايا المجتمعية بداية من النضال ضد الاستعمار أو المساهمة في تنمية المجتمع وتطويره، أو نشر الوعي بالذات الكردية والدفاع عن الهوية في مواجهة سياسات الطَمْس التي مارستها النخب الحاكمة لصالح الهوية الفارسية (في إيران)، أو التركية (في تركيا)، أو العربية (في العراق وسوريا)، وهو ما يؤكد تجذُّر الممارسة التنظيمية وتغلغل ثقافة المجتمع المدني الذي تقوم على قيم ديمقراطية بين المجتمعات الكردية.
كما تكشف هذه الصيرورة أنه رغم تجذر المنطق العشائري بين الكُرد، وبحكم تجذر المنطق العشائري المرتبط ببنية المجتمع الكردي وواقعه الجغرافي، إلا أنه خلال العقود الأخيرة، ونتيجة لانخراط الكرد مع التحولات التي شهدتها بيئة الشرق الأوسط، فقد تطورات الممارسات التنظيمية للكرد. وقد تجلَّى ذلك تدفق الجمعيات تأسَّست في مناطق تواجدهم، في أوربا وتركيا منذ التسعينات رغم التحديات، وفي سوريا بعد عام 2011، وإزالة القيود التي التي كانت مفروضة من جانب السلطات السورية الحاكمة وبخاصة في المناطق التابعة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
أخيراً، فقد استفادت هذه الطفرة في العمل التنظيمي للكرد بالطرح الفكري الذي قدمه عبد الله أوجالان، والذي دفع القضية الكردية لآفاق تجاوزت حدود الشرق الأوسط، حيث لعب كُردُ المهجر دورًا حقيقياً داعما للقضية الكردية، فبرزت الجمعيات والاتحادات المظلية، التي تضم في عضويتها العديد من الجمعيات والمؤسسات الكردية لينتقل معها المجتمع المدني الكردي من المنطق “العشائري” إلى المؤسسية Institutionalism التي تتجاوز الحدود العرقية والقومية الكردية وتستوعب قوميات وأعراق تحت شعارات مثل “التشاركية” و”أخوة الشعوب” وذلك استلهاماً من الطرح الفكري الذي يقدمه عبد الله أوجالان والذي عبرت عنه منظومة المجتمع الكردستاني.
المراجع
1. حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر بحث استطلاعي اجتماعي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984).
2. عبد الله أوجالان، مانفيستو الحضارة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، (لبنان: داتا سكرين، 2018).
3. عبد الله أوجالان، مانفيستو حرية المرأة في القرن الحادي والعشرين، (شمال وشرق سوريا: مطبعة روناهي، منشورات أكاديمي المرأة الحرة، أبريل 2003)
4. عبد الله أوجالان، تحرير الجنسوية الاجتماعية، منشورات قسم الترجمة العربية والإعلام في لجنة الإعلام والتنوير.
5. عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية مع إشارة للمجتمع المدني العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 2000).
6. وصال نجيب العزاوي، القضية الكردية في تركيا دراسة في التطور السياسي للقضية منذ بدايتها وحتى 1993، رسالة دكتوراة، (بغداد: جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، 1994).
7. جاوان حسين فيض الله، جمعية جيهانداني: نشاط عبد الرزاق البدرخاني 1913 – 1914، مجلة كلية الآداب، العدد 101.
8. كاكشار أومار، الكرد تاريخهم وأصولهم، دراسة منشورة.
9. رانيا مكرم، طموح الأقليت ومستقبل الدولة في إيران، مجلة الدراسات الإيرانية (القاهرة: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، السنة 2، عدد 6، مارس، 2018).
- كافي سلمان مراد الجادري، الجمعيات والأحزاب الكردية في العراق 1921 – 1947 دراسة تاريخية، مجلة الأستاذ، عدد 221، المجلد الثاني، 2017.
- بيمان قاسم، المنظمات النسائية الكردية وتحديات المجتمع المدني في سوريا، دراسة منشورة على موقع مدارات كرد، على الرابط: https://www.medaratkurd.com/2018/10/23/2821/