
تواصل تركيا تنفيذها عدوانًا قويًا على مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، أخذ يتصاعد بشدة منذ الخامس من شهر أكتوبر المنقضي 2023، بعد إعلان وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” أن منفذي هجوم “أنقرة” الذي استهدف وزارة الداخلية التركية آنذاك جاء من سوريا وتدربا هناك، معلنًا أنه بعد ذلك الحادث تعتبر تركيا أن البنى التحتية ومنشآت الطاقة في شمال شرقي سوريا “أهدافًا مشروعة” للجيش التركي. وبشكل خاص قبل أيام بعدما مقتل جنود للجيش التركي في إقليم كردستان العراق، حيث تزايدت وتيرة هذه الاستهدافات بشكل كبير على شمال سوريا.
وتستهدف تركيا في هجماتها عبر الطائرات الحربية والقصف المدفعي والمسيرات البنية التحتية والمنشآت النفطية والحيوية، كالمراكز الخدمية ومحطات المياه والكهرباء والمنشآت التعليمية والمستشفيات ومخيمات النازحين، دون مراعاة لقواعد القانون الدولي، والحفاظ على أرواح المدنيين، ويؤكد الجنرال “مظلوم عبدي” القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية أن الهجمات التركية تأتي لتوسيع رقعة احتلالها للشمال السوري، لأهداف تتعلق بشئون وتخوفات تركية داخلية، وعلى تركيا أن لاتصدر مشاكلها للخارج.
في ذلك الإطار، يهدف التحليل الآتي إلى توضيح تداعيات العدوان التركي على الأراضي السورية، وبحث أهداف “أنقرة” من هذا القصف، بالتزامن مع التصعيدات الأخيرة في الملف السوري.
أسباب التصعيد:
بدأت حملة القصف التركي على مواقع سيطرة قوات سوريا الديمقراطية مجددًا في 23 ديسمبر الجاري 2023، بعد تنفيذ “حزب العمال الكردستاني PKK” هجومين على قاعدتين للجيش التركي في منطقتي خاكورك والزاب في شمال العراق أسفرا عن مقتل 12 جندي تركي حسب البيانات الرسمية فيما أكد الجانب الكردي مقتل 88 جندي تركي، وهناك العديد من الدوافع الواضحة لدى “أنقرة” في تنفيذها هجمات على أراضي سوريا، من أهم هذه الأسباب والدوافع:
() استغلال الضوء الأخضر الأمريكي: باعتبار أن رفع مستويات التصعيد في سوريا الآن مناسبًا لدى “واشنطن”، في ظل تداعيات حرب غزة على المنطقة، واستمرار “تل – أبيب” في قصف مناطق سيطرة الحكومة السورية، بالإضافة إلى استغلال رغبة الولايات المتحدة في تغيير موقف “أنقرة” إزاء مسألة انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، بما يسمح لتركيا بمزيد من الضغط، وضمان الصمت الأمريكي عن الاعتداءات التركية على الأراضي السورية. () رغبة تركيا في ضمان الحد الأدنى من تقويض قدرات الكرد: رأت “أنقرة” في هذا الاتجاه بديلًا عن تنفيذ عملية عسكرية في الوقت الحالي ترفضها “واشنطن” و”روسيا”، فهي ترغب في تكبيل الجناح العسكري لقوات سوريا الديمقراطية “وحدات حماية الشعب الكردية YPG”.
() العمل على تحقيق الهدف التركي المتعلق بإنشاء منطقة أمنة: حيث تسعى تركيا منذ بداية التدخل العسكري في سوريا واحتلال مناطق واسعة في الشمال السوري، إلى توسيع السيطرة التركية باحتلال الأراضي السورية بعمق يتجاوز 30 كم، بهدف معلن متعلق بإنشاء منطقة أمنة، وأهداف أخرى مبطنة تتعلق بتهجير الكرد السوريين من المناطق الحدودية وتتريك هذه المناطق وبفرض السيطرة والنفوذ الإقليمي، وفي هذا الإطار نفذت تركيا اعتداءات بالقصف على مناطق واسعة بالشمال السوري، أودت بحياة مدنيين من بينهم نساء وأطفال. () مخاوف تركية من إنشاء حكم ذاتي: حيث أثار الإعلان عن مصادقة “الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا” على الصيغة المعدلة لـ “عقدها الاجتماعي” غضب “أنقرة”، ومخاوفها من إنشاء إدارة يكون للكرد فيها نفوذ قوي مجاورة لها، خوفًا من مطالبة كرد تركيا بحقوق سياسية مماثلة لكرد العراق وسوريا.
تداعيات القصف:
تنتهك تركيا مجموعة من القواعد والقوانين والأعراف الدولية المتعلقة بشئون اللاجئين السوريين بها، والذين تعمل على إعادتهم قسريًا إلى سوريا، وشروط استخدام حق الدفاع الشرعي وشروط إقامة المناطق الآمنة في تعديها على الأراضي السورية، إلى جانب تعاملها غير المشروع مع التنظيمات الإرهابية لاسيما تنظيم الدولة الإرهابي “داعش”، و”جبهة النصرة” وقد أدى التصعيد الخأخير في الأراضي السورية إلى جملة من التداعيات السلبية، ومن أهمها:
() تهديد حياة المدنيين: فقد أدى القصف التركي في الخامس والعشرون من ديسمبر الجاري، إلى استشهاد 10 مدنيين بينهم امرأتان، وإصابة نحو 22 آخرين، حيث يستهدف القصف التركي أهدافًا مدنية، من بينها مستشفيات ومدارس، ومحطات كهرباء ومياه. () تخريب البنية التحتية والحياتية: مما أدى إلى انقطاع الكهرباء والمياه عن أكثر من مليون شخص في سوريا، على آثر استهداف منشآت مدنية وحيوية ومحطات المياه والكهرباء إلى جانب تعطيل المنشآت الخدمية عن وظائفها لأكثر من مرة، بعد تكرار القصف التركي لمناطق واسعة بشمال وشرق سوريا 3 مرات خلال عام 2023.
(*) عودة خطر تنظيم “داعش”: يؤدي التصعيد التركي في الشمال السوري إلى تعاظم التهديد الداعشي، على آثر توقف عمليات “قسد” للقضاء على التنظيم بالمنطقة، للتركيز على صد هجمات الجيش التركي، مما قد يؤدي إلى إنعاش الجماعات المتطرفة بالمنطقة، إضافًة إلى مخاوف من هروب عناصر التنظيم وأسرهم من مخيم “الهول”، في ظل استمرار القصف التركي، ومحاولات استغلال عناصر “داعش” ذلك التصعيد في تحركها بمرونة أكثر على الأراضي السورية، كما أن استهداف الجيش التركي للبنية التحتية لشمال وشرق سوريا وضرب الأهداف الاقتصادية، قد يؤدي إلى دفع بعض المدنيين للانضمام إلى التنظيمات المتطرفة لضمان متطلبات المعيشة الضرورية، في ظل سوء الأوضاع المعيشية، مع تعسر وصول المساعدات الإنسانية، على أثر الضغوط التركية.
تأسيسًا على ما سبق، يبقى الاحتلال التركي للشمال السوري شديد الخطورة، في ظل عدم احترام “أنقرة” للقوانين والأعراف الدولية، واستمرار استهداف الجيش التركي لأهداف مدنية في الشمال السوري، وعدم احترام المبادئ المتعلقة بعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، ويجب العمل على إنهاء التصعيد الغير مبرر في سوريا، وإنهاء تواجد أي قوات أجنبية بما يهدد وحدة الشعب والدولة السورية، فقد باتت تركيا تمارس نشاطًا عدائيًا منذ البدء في مشاريع الاحتلال بالشمال السوري، مما يتطلب إتباع وسائل مختلفة منها سياسية وقانونية تدفع المجتمع الدولي والمنظمات الأممية لحماية المدنيين والمنشآت المدنية، وإنهاء الاعتداءات التركية عليها، وهنا يقع على عاتق التحالف الدولي لمحاربة داعش بقيادة أمريكا وروسيا الذين يتواجدون في هذه المناطق وفي سوريا عامة بالقيام بدور وضغط على تركيا لوقف هذه الممارسات والتجاوزات على السيادة السورية.
ومن جهة أخرى، فإن هذه الحالة من الغطرسة واستخدام القوة الغاشمة تهديدًا في حد ذاته، خاصًة في أراضي لم تستعيد توازنها بعد انقضاء حرب طويلة مع عناصر التنظيم الإرهابي “داعش”، ومنافسة المصالح والنفوذ بين الفاعلين المحليين أو الأطراف الدولية المتدخلة بالصراع، ويجب على المجتمع الدولي الحفاظ على ما نجح به من تقدم في مواجهة الإرهاب، وعدم السماح بعودة تلك التهديدات مرة أخرى، على أثر تحركات محسوبة سواء كانت أو غير محسوبة. ويبقى حل الأزمة السورية وفق القرارات الدولية 2254 وتضافر جهود كافة السوريين أولاً في الحفاظ على الوطن السوري موحداً وقوياً ضد التدخلات الخارجية مدخلاً صحيحاً لوقف الاعتداءات والممارسات السلبية بحق الشعب السوري بكافة مكوناته.