بالرغم من بعض الاختلافات بين القضيتين العادلتين(القضية الفلسطينية والقضية الكردية)، من حيث حجم وزخم التدويل والتناول الدولي والإقليمي، وطبيعية القوى الكردية والفلسطينية وفلسفتهم النضالية ورؤيتهم للحل، إلا أن القضيتين والشعبين لهما قيم مشتركة عديدة بدءاً من الناصر صلاح الدين الأيوبي وشهداء قلعة شقيف وصولاً لما يطرحه المفكر والقائد عبدالله أوجلان لحل القضيتين.
تتشابهان القضيتان في عديد من النواحي من حيث أن القوى الدولية المهيمنة هي نفسها التي قسمت الكرد وجغرافيتهم التاريخية بين أربع دول وكذلك أوجدت الكياني الإسرائيلي وقسمت الشعوب العربية، ووضعوا بذلك الشعبين الكردي والفلسطيني أمام تحديات متماثلة وصعبة، تظهر أهمية وجود قراءة وتشخيص دقيق وكذلك طرح حلول صحيحة وواقعة وممكنة. لقد أهتم وناقش المفكر والقائد عبدالله أوجلان القضية الفلسطينية في مرافعاته طارحاً حلاً لحل القضية الفلسطينية والكردية وفق رؤيته المتجسدة في مشروع الأمة الديمقراطية.
بداية الأزمة: نشأة إسرائيل وارتباطها بالقومية والحداثة الرأسمالية
يرى أوجلان في تشخيصه للصراع العربي الإسرائيلي وبداية ظهور الأزمة وتبلور القضية الفلسطينية، أن نشأة إسرائيل كانت قد ارتبطت بخدعة استخدمت فيها انجلترا الشيوخ العرب ككبش فداء، وذلك عندما باشرت تمشيطاتها العسكرية على الإمبراطورية العثمانية في القرن الـ19 ، وكذا استخدمت رجال الدين الأرثوذكس ذوي الأصول الإغريقية في البلقان لهدم الإمبراطورية العثمانية هناك، وبناء الدولة القومية اليونانية، وبالتالي فإن إسقاط الإمبراطورية العثمانية وتحويلها لدولة قومية “الدولة التركية” كان أحد أهم العوامل التي أسهمت في تواجد إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما مع ما أحدثته هذه التغيرات الجيوسياسية في المنطقة وقتذاك من فراغ وعدم وجود قوة منافسة وقتها تحل محل الإمبراطورية العثمانية، وفي سياق متصل يؤكد “أجلان” أن تحويل الأنظمة العربية تحت الانتداب إلى دول قومية متشابهة سواءً تحت مسمى (مملكة أو جمهورية) أوجد مناخًا خصبًا لزرع الكيان الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، كما يذكر “أوجلان ” بأن إسرائيل في جوهرها نتاجًا لحروب الدولة القومية التي اندلعت في 1550 واستمرت قرابة 4 قرون محولة أوروبا إلى حمامات دم، وفي هذا الإطار قرن بين المسألة اليهودية ونشوء الدولة القومية، فاليهود عمومًا كانوا يعيشون بسلام ضمن الدول العربية والإسلامية، على عكس حياتهم في أوروبا حيث تم التمييز ضدهم وإقامة المجازر لهم، وحبسهم ضمن جيتوهات مخصصة للعيش فيها، لاسيما بعد تصاعد الخلاف بين المتدينين معتنقي الموسوية وأوروبا العلمانية، خاصة مع سيطرة اليهود على الجانب الثقافي من خلال المثقفين والمفكرين اليهود في المجالات المختلفة الذين برزوا في أوروبا، وسيطرتهم على الجانب المادي، ولتتخلص الدول الأوروبية من اليهود ومساوئهم، وتأثيرهم السلبي على السياسة والاقتصاد نظرًا لحرصهم على التواجد الدائم بالقرب من مراكز السلطة، ومحاولاتهم الدؤوبة لإحكام سيطرتهم على المال وعناصر الانتاج تم التفكير في محاولة إنهاء تسلطهم على المجالات المختلفة بأوروبا، وذلك بتأسيس وطن قومي بديل لهم في فلسطين حسب وعد بلفور عام 1917، مما يؤكد هنا أن ظاهرة الدولة القومية هي أحد الأعمدة الرئيسية للإمبريالية الرأسمالية، وهي التي أدت لنشأة إسرائيل.
كما قال “أوجلان” أن الميول الفكرية اليهودية والرأسمالية اليهودية لعبت دورًا رياديًا في تشييد الدولة القومية من منطلق فكري متجذر لدى اليهود مفاده: “أنهم لن ينالوا حريتهم ويستطيعوا تأسيس دولة إسرائيلية يهودية على خلفية الأيديولوجية الصهيونية للقومية اليهودية المتصاعدة مع الوقت، إلا من خلال تمزيق أوصال الإمبراطوريات الكاثوليكية والأرثوذكسية والإسلامية”، وأن إسرائيل وجدت كنواة لترسيخ هيمنة الحداثة الرأسمالية لتملأ فراغ السلطة الناجم عن تحويل الإمبراطورية العثمانية والملكية الإيرانية إلى دول قومية صغرى تابعة، ومن ثم يتم الضغط على الدول العربية القومية والدول الشرق أوسطية القومية بضرورة الاعتراف بإسرائيل مقابل الاعتراف بهذه الدول، وتقديم الدعم لها.
وبالتالي فإن هذا الأمر يؤكد لنا يقينًا أن زرع الدول الاستعمارية الغربية الرأسمالية إسرائيل في قلب الوطن العربي والشرق الأوسط لم يكن من باب المصادفة، كما حرصت هذه الدول على استمرار هذا الكيان للحفاظ على تبعية دول المنطقة للدول الغربية واختراق أمنها بشكل مستمر ونهبها مواردها كذلك.
مشروع الأمة الديموقراطية كحل للأزمة
هنا نجد “أوجلان” يذكر بأن القومية فشلت في إيجاد حل للقضية الفلسطينية وللأزمة المحتدمة بين إسرائيل من جهة وفلسطين والدول العربية من جهة أخرى، وأن استمرار التمسك بهذه الرؤية هو ضرب من ضروب المماطلة والإلهاء للدخول في دوائر مفرغة، ومضيعة الوقت لتحقيق مكاسب تفرض على أرض الواقع لصالح إسرائيل، لاسيما وأنه لا يخفى على الجميع أن إسرائيل التي تقوم على الصهيونية ونظام الأبارتيد العنصري الفوقي، لن ترضى بإنشاء دولة قومية للفلسطينيين، وعليه فإن “أوجلان” أوجد الحل الممكن للقضية الفلسطينية، والذي يكمن في مشروع (الأمة الديمقراطية ) التي تُذيب الفوارق بين طبقات الشعوب، وبين الطبقات داخل كل دولة، وهذا المشروع غير مرسوم بحدود سياسية قاطعة، وغير مقتصرعلى منظور واحد للدين أو اللغة أو الثقافة أو التاريخ، ويعبر عن الحياة التشاركية التي يسودها التعاضد والتعاون بين المواطنين والمجموعات على خلفية التعددية والحرية والمساواة، وتهدف إلى تحقيق التحول الوطني للشعب عبر التسيس دونما الاعتمادية على السلطة أو الدولة، ولكن من خلال مؤسسات الاستقلال الذاتي المعنية بحقل الدفاع الذاتي والميادين الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية والثقافية دون اللجوء إلى التدول أو التحول السلطوي.
وهنا يبين “أوجلان” أن الشرق الأوسط والوطن العربي وإسرائيل إذا لم يتخطى تبعيتهم للحداثة الرأسمالية، فإنهم لن يتخلصوا من الصراع العربي الإسرائيلي على النطاق الأضيق، وكذا سيفشلون في التحرر من أزماتهم جميعًا على النطاق الأوسع، وبناءً عليه فإن التحرر من نير الاستعباد الرأسمالي الحداثي لن يتحقق إلا بالتخلي عن منطق الحل القوماتية والتدول. أما الاستمرار في طرح الحلول القومية أو الدينية أو حتى حل الدولتين، فلا يفيد بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولا حل أية قضية عالقة في المنطقة.
وأخيرًا فطالما أن المظلوميتان الفلسطينية والكردية تستمران سيتواصل التوتر والصراع في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة إذا كان منطق ومقاربة الحل يكمن في تشكيل وبناء الدول القومية بالميل والتوجه الديني أو القومي، وهو ما يصب في استمرار الصراع بما فيه مصلحة الغرب الرأسمالي وتوابعهم الإقليميين، ويتهدد بذلك حقوق شعوب هاتين الأمتين في الحياة الآمنة المستقرة، وسبيل الخلاص يكمن في “الأمة الديموقراطية” ليتحقق التعايش السلمي والاستقرار في الشرق الأوسط وبين شعوبها ومكوناتها الاثنية والدينية، على اساس من الاحترام والاعتراف المتبادل، وتهدأ النزاعات العرقية التي تعد وقودًا فعالاً لتحقيق مطامع الدول الرأسمالية في الشرق الأوسط.