رغم التحديات المختلفة والظروف الصعبة التي مر وتمر بها العراق وأهمها غياب الديمقراطية الحقيقية واستمرار التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية فيها بشكل كبير، ووجود تداعيات ظهور داعش عام 2014 وأثارها التخريبية على مختلف مجالات الحياة في العراق، كان نجاح الحكومة العراقية في إجراء انتخابات مجالس المحافظات في ديسمبر من العام 2023 إنجازًا ملموساً، بعد تعذر إجراءها على مدار 10 سنوات متتالية، خاصًة بعد ما شهده العراق من موجات احتجاجات شعبية في 2019، نتيجة فشل المجالس المحلية في إدارة وحل المشكلات اليومية التي تواجه المواطنين، بالإضافة إلى ضلوعها في قضايا فساد مالي وإداري، وتوظيفها الموارد المالية الضخمة التي كانت تحت سيطرتها لصالح ضمان نفوذ القوى السياسية المهيمنة عليها آنذاك وكذلك تأتي الانتخابات بعد تحدي ظهور داعش وكفاح الدولة والشعب العراقي ضدها بالتعاون مع التحالف الدولي لمحاربة داعش وظهور الحشد الشعبي.
وتحظى هذه الانتخابات بقيمة كبيرة لأنها تحدد خريطة القوى العراقية وحصص الأحزاب والقوى السياسية من مجالس المحافظات، والتي تتمتع بدور في التشريع والرقابة داخل المحافظات أو الحكومات المحلية، وهذه المجالس لها مجال وساحتها الخاصة للعمل في المحافظة وفق الدستور العراقي الاتحادي ولا تخضع بشكل كبيرلإشراف كامل لأي جهة تنفيذية لاسيما الوزارات ، وقد تميزت هذه الانتخابات عن سابقاتها في ثلاث مظاهر رئيسية، أولها هو مقاطعة تيار الصدري لها، وثانيها نجاح إجراء انتخابات مجلس محافظة “كركوك” المهمة وذات التعدد الأثني والديني، وثالثها بتصدر النتائج قوائم لقوى تقليدية غالبيتها قوى قريبة من الحشد الشعبي وإيران و كذلك بعض المحافظون أمام بعض القوى والأحزاب.
ويمكن القول أن هناك العديد من الأسباب والعوامل التي أعطت زخماً لهذه الانتخابات وما تقوله الحكومة من نجاحها في إجراء الانتخابات بموعدها دون تأجيلها، ومن أهمها:
(1) مقاطعة التيار الصدري للمشهد السياسي، وقلق الحكومة من أية توترات، فسارعت بإجراء الانتخابات في موعدها لخوفها من أي فراغ يتم استغلاله ضدها من قبل القوى المعارضة لها.
(2) إقرار البرلمان الاتحادي الميزانية والمخصصات المالية لمجالس المحافظات في يونيو من العام 2023.
(3) إصدار المحكمة الاتحادية العليا قرارات تجيز عودة انتخابات المجالس المحلية.
(4) إقالة رئيس البرلمان العراقي، محمد الحلبوسي قبل الانتخابات بفترة وجيزة.
إلا أنه وعلى الرغم من اجتياز العراق انتخابات مجالس المحافظات في حل هذه المعضلة القانونية والدستورية، لم يتمكن من حل المشكلة الأكثر عمقًا، والمتعلقة بضعف الشرعية للنظام السياسي والمقاطعة المتزايدة له، مما يتيح الفرص لتقويضه عبر الشارع وتزايد عوامل الاضطراب في المستقبل من جديد.
ضعف مستويات المشاركة الانتخابية:
على الرغم من وصول نسب المشاركة الانتخابية في انتخابات مجالس المحافظات العراقية، التي أجريت في 18 ديسمبر 2023 إلى 41% – حسب مفوضية الانتخابات – كانت هذه النسبة مبنية على أساس الناخب المحدث لبطاقة “البايومترية”، بينما يوجد ما يزيد عن 9 ملايين من الناخبين يحق لهم المشاركة وهم غير محدثين لبياناتهم، الأمر الذي يؤكد أن نسبة المشاركة الحقيقية قد لا تتخطى 22% من إجمالي مجموع الناخبين.
بالتالي، يتضح تزايد العزوف الانتخابي والمقاطعة السياسية، الذي يمثل أبرز علامات تأزم النظام السياسي وفعالياته المختلفة، فعلى أساسها يمكن تقييم النظام السياسي القائم وأهليته في إدارة شئون البلاد، وبذلك يمكن القول أن ظروف انتخابات مجالس المحافظات بالعراق لم تختلف عن سابقاتها كثيرًا، خاصًة فيما يتعلق بالمشاركة الشعبية في التصويت.
الأمر الذي يعكس حالة من عدم ثقة وعدم الرضا والقناعة من قبل المواطنين بنتائج الانتخابات، أو قدرة هذه المجالس على أداء دور مؤثر فعال يحقق التطلعات الشعبية لمعالجات المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بالأخص، وتلبية حقوق المواطنين، وفقدان الثقة قد يكون قائمًا على الصورة الذهنية المعتادة حول دور مجالس المحافظات العراقية، والتي كان يراها المواطنون أنها سبب رئيسي في معاناتهم الحياتية، وما تردد حولها فيما يتعلق بالفساد المالي والإداري.
نتائج تقليدية غير مفاجئة:
على صعيد المكون الشيعي تصدر تحالف نبني المؤلف من منظمة بدر بزعامة هادي العامري، وحركة عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، وحركة عطاء التي يتزعمها من الناحية الفعلية رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، وقوى أخرى صغيرة، النتائج في عدد من محافظات الجنوب والفرات الأوسط، فيما تصدر ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي النتائج في محافظات أخرى، في حين حل تحالف قوى الدولة الوطنية المتشكل من تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، وائتلاف النصر بزعامة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وحركة إنجاز بزعامة الوزير السابق باقر جبر الزبيدي، بالمركز الثالث في بعض المحافظات، فيما حصل كل من ائتلاف الأساس العراقي بزعامة النائب الأول لرئيس البرلمان محسن المندلاوي، وتحالف أبشر يا عراق بزعامة رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي همام حمودي، وتجمع أجيال بزعامة النائب السابق محمد الصيهود السوداني، وتحالف قيم المدني، على مقاعد متفرقة في بعض المحافظات.
وأغلب هذه القوى هي في الواقع تشكل الإطار التنسيقي الشيعي، وقد قررت خوض الانتخابات المحلية منفردة أو من خلال تحالفات ثنائية وثلاثية، لتعود إلى التحالف من جديد بعد الانتخابات، مثلما حصل في الانتخابات البرلمانية في تشرين الأول – أكتوبر 2021، لتتولى تشكيل الحكومات المحلية الجديدة فيما بينها أو مع الأطراف الأخرى، وفق معطيات الأرقام الانتخابية.
وبالنسبة إلى المكون السني فإن قواه التقليدية الرئيسية الأربع حصدت القسم الأكبر من مقاعد المحافظات ذات الأغلبية السنية، مثل الأنبار ونينوى وصلاح الدين، حيث تصدر حزب تقدم بزعامة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي النتائج في الأنبار، بينما حصد كل من حزب الجماهير الوطنية برئاسة أحمد الجبوري، وحزب السيادة برئاسة خميس الخنجر، والعزم الوطني برئاسة مثنى السامرائي، وتحالف الحسم الوطني برئاسة وزير الدفاع الحالي ثابت العباسي، نتائج متفاوتة في نينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى، وكذلك العاصمة بغداد التي نجح حزب تقدم في إحراز مراتب متقدمة فيها.
أما بالنسبة إلى القوى السياسية الكردية التي خاضت غمار التنافس الانتخابي بعدد من المحافظات التي فيها وجود اجتماعي متفاوت للمكون الكردي من حيث حجمه وتأثيره، مثل كركوك ونينوى وديالى وصلاح الدين، فإنها – أي القوى السياسية الكردية – وبسبب انقسامها وتشظيها لم تحقق النتائج المرجوّة، بل إنها تراجعت بشكل واضح. فمن بين خمسة وسبعين مقعدا للمحافظات المشار إليها، لم يحصل الأكراد وفقا للنتائج الأولية إلا على خمسة عشر مقعدا، سبعة في كركوك، وستة في نينوى، وواحد في ديالى ومثله في صلاح الدين.
وفي كركوك، التي تشكل أحد المحافظات المهمة سياسياً لما لها من مكانة بين القوى السياسية وكذلك لتدخل تركيا فيها مع حزب الديمقراطي الكردستاني لإبعاد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني عن منصب المحافظ، إلا أن النجاح كان لغير صالح حزب الديمقراطي الكردستاني وتركيا، فحصل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني على المركز الأول ويحتمل أن يكون محافظ كركوك منها كما كان قبل 2017.
أما مقاعد الكوتا المسيحية الأربعة، فذهبت إلى تحالف بابليون بزعامة ريان الكلداني القريب من فصائل الحشد الشعبي بعد توقع الكثيرين أن يتم ذلك بعد دعم جمهور الإطار التنسيقي له لأن القانون يقبل تصويت غير المسيحيين للكوتا أو المرشحيين المسيحيين.
واللافت في الانتخابات المحلية الأخيرة أن بعض القوائم الانتخابية التي يرأسها محافظون حققت نتائج متقدمة جدا، كما هو الحال مع تحالف تصميم برئاسة محافظ البصرة أسعد العيداني، وتحالف إبداع كربلاء برئاسة محافظها نصيف جاسم الخطابي، وقائمة واسط أجمل برئاسة محافظة واسط محمد جميل المياحي، وقائمة نينوى لأهلها برئاسة المحافظ المستقيل نجم الجبوري. وهذا يؤشر على أن هناك قدرا من الرضا والقبول الشعبي عن أداء هؤلاء المحافظين، مما سيتيح لهم البقاء في مناصبهم بعيدا عن اشتراطات القوى التقليدية الكبيرة. ولعل هذه إحدى أبرز حقائق الانتخابات الأخيرة ومعطياتها.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول أن نتائج الانتخابات المحلية وما عكسته من تفوق الإطار التنسيقي، في مقابل هزيمة القوى المدنية وغياب التيار الصدري عن المشهد السياسي، وهزيمة الحزب الديمقراطي الكردستاني في كركوك، تشير إلى أنه قد لا يكون هناك اختلاف أيضًا أو نتائج مغايرة في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي من المقرر انعقادها في العام 2025، فقد باتت قوى الإطار التنسيقي قادرة على تشكيل كتلة موحدة بما يمكنها من الهيمنة والتمتع بالأغلبية مجددًا مع وجود احتمالات تشظيها في أي وقت نتيجة للصراعات الداخلية على السلطة وموقع العراق من الصراعات الدولية في المنطقة بين مختلف القوى الإقليمية والدولية.