سكينـة جـانسيـــز: محطات فارقة في سيرتها ومسيرتها
تحليل د. محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر

الميلاد والمنشأ: من ديرسم إلى ديرسم
في 9 يناير – كانون الثاني 2013، اغتال الطغاة البغاة المناضلة الثورية الكردية سكينة جانسيز (1958-2013) بعد رحلة حياة زاخرة عامرة وصفتها بكونها كلها صراع. وفي الواقع، تُعد حياة الست سكينة نموذجًا ثريًا لنضال المرأة عمومًا والكُرد خصوصاً على درب مقاومة الاستبداد والرجعية والطغيان. وبين ذكرى رحيلها الحادية عشرة وذكرى ميلادها السادسة والستين في 12 شباط – فبراير 1958، نُحلِّق بشكل بانورامي وبنظرة طائر سريعة على سيرة ومسيرة سكينة (سارة) جانسيز من خلال الجزء الأول من ذكرياتها الموسومة بــ “حياتي كلها صراع”، ترجمة المترجمة الكُردية السورية بشرى على، ونشرتها بالعربية دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة بالقاهرة عام 2022م.

قرية عرش الخليل
وُلِدت سكينة جانسيز مطلع عام 1958 بقرية عرش الخليل التابعة لمحافظة ديرسم شمال كردستان (تركيا). وتُعد هذه المدينة معقل الحركة الكردية. ونظرًا لأن والدها كان متغيبًا لأداء الخدمة في الجيش التركي، فقد سجل ميلادها الرسمي يوم 12 شباط – فبراير 1958. وقد تكوَّنت قرية عرش الخليل من عشرين حيًا. وفي ذكرياتها الثرية، قدمت سكينة صورة بانورامية عن سمات المرأة في قريتها: ” وبصورة عامة، لم يكن ثمة انغلاق أو تزمت أو قمع بخصوص النساء. لكن العرائس كن عمومًا مُلزِمات بالتقيد بمعايير محدودة في تعاملهن مع النساء والرجال المسنين… ومن أعراف قريتنا أيضًا أن النساء لا يتحدثن بصوت عال، ولا يصرخن، بل ولا يتكلمن إلا في المكان والزمان المناسبين… في حين أن النساء المسنات أو اللواتي في منتصف العمر، كن يتمتعن بفسحة أوسع من الراحة في هذه الأعراف” (ص18).
وقد تأثرت سكينة جانسيز جدًا بشبكة العلاقات الاجتماعية في قريتها؛ إذ عدا حالات استثنائية قليلة، فقد تميزت قرية عرش الخليل بــ “التناغم والعلاقات الحميمية والاحترام المتبادل وقلة الشجار بين أهلها. ولم تشهد الحوادث التي تُفسِد عليها نظامها هذا” (ص19). ولم تنس الطفلة سكينة تأثير الأغاني الكردية القديمة ومواويل الفنانة الكردية عائشة شان في تكوين وجدانها الوطني وتجذير هويتها الكردية.
ولاريب أنها قد انفعلت وتفاعلت بقوة مع تجربة والديها. ولاغرو؛ إذ إنهما من “أبناء مجزرة ديرسم” التي اقترفها النظام التركي بحق الكُرد وقد تأثرت الابنة سكينة بالمصاعب وحالات القمع التي شهدها الأب بعد المذبحة، ورواها عليها. ورغم أنها سمعت ذكريات المذبحة من أخوالها، فقد انجذبت أكثر وتأثرت أكثر بروايات الأحداث من أبيها الذي كان يقصها وكأنه “يعيشها مرة ثانية”. كما كانت ذاكرته “قوية ومنتعشة للغاية”، لدرجة أنها انعكست على أشعاره وأغانيه وعزفه على آلة البزق ( ص ص 20-21).
وقد روى الأب على ابنته الطفلة سكينة ذكريات مذبحة ديرسم (1938-1945) الأليمة وتداعياتها. فقد كانت الشرطة التركية تبحث بينهم عن أبناء قبيلة دامانان، وتقبض على الشباب والرجال القادرين على المقاومة وتُودعهم غيابات السجون حتى تشل قدرات المقاومة الكردية. وقد ارتكبت هذه القوات موبقات بحق الكرد بحجة اختباء آل دامانان في قرية عرش الخليل؛ إذ كان الكُرد يُجمعون ويُقَيَّدون ويُحتجزون ويُعتقلون ويُعذبون لمجرد “الشك” فقط. وتتساءل سكينة بمرارة: فماذا لو كانوا فعلاً مختبئين في القرية؟ تصوروا ما الذي كان سيحدث حينها؟
وعلى نحو ما تأثرت الابنة سكينة بأبيها، فقد تأثرت بشدة بشخصية جدتها لأمها خديجة (أزي) ذات الشخصية البهية والكارزمية. وبجانب الأوصاف التشريحية والجمالية والروحية، كانت الجدة “مسيطرة” ضمن العائلة والقبيلة. وكانت تفرض “الاحترام” على الأغيار بصورة طبيعية وتلقائية، وملتزمة في أحكامها بين الخصوم بالعدالة والمساواة. وكذا، كانت الجدة ضليعة بموضوعات شتى، نافذة، موهوبة، وكانت حساسيتها بأدق الأمور تُؤثر في الجميع وتُزيد من الاحترام لها.
وقد أبدت سكينة إعجابًا شديدًا بنجاح جدتها (أزى) في التوفيق المتناغم بين تقاليد وقيم الإرث الكردي الزرادشتي لاسيما حفظ جمرات النار والتضرع إلى الشمس والارتباط بالأرض وبين السلوك العلوي الذي يُقَدِّر المرأة ويحترمها ويوليها مكانة مرموقة. وفي كلمة، انبهرت الحفيدة بكون الجدة شخصية تراكمية مركبة دون تناقض بدءًا من البذور مرورًا بالجذور وانتهاءً بالثمار.
ورغم أن والدة سكينة كانت سيدة أمية، فقد كان والدها متعلمًا تخرج في مدرسة الفنون الجميلة وأجاد اللغة التركية. وقد بدأت سكينة تتعلم التركية بمحض إرادتها في طفولتها المبكرة التي وصفتها بأنها أكثر فترات طفولتها المنتعشة في ذاكرتها. وبدأت الطفلة تتعرَّف لأول مرة على المدينة عندما التحقت بالمدرسة الابتدائية.
مدينة ديرسم
ورغم صعوبة الانتقال من القرية إلى المدينة زمن تعلَّم الأب، فقد كانت رحلة الذهاب إلى المدرسة والإياب منها أسهل نسبيًا زمن تعليم الابنة سكينة بعد بناء الجسر المعلَّق على نهر منذر الذي كان على والدها عبوره شتاءً وصيفًا.
وفي لوحة ساخرة، تُعلِّق الطفلة بوعي مبكر لافت للنظر: “….. فنحن نُعدُّ أوفر حظًا. هذا إن جاز لنا أن نصف ذلك بالخط طبعاً. فهل ذهابنا إلى مدرسة المحتلين (الأتراك) لأراضينا هو أكثر راحة لنا، نحن أطفال المجتمع الذي لا يتعلم بلغته الأم، بل وتَعرَّض للإبادة ولحظر لغته الأم؟ لقد سهلوا علينا طريق الذهاب إلى المدرسة لتسهيل عملية صهرنا” (ص ص 25-26).
وبغض النظر عن العراقيل الناجمة عن الثلوج والمخاوف الناتجة عن انتشار قطعان الذئاب، فقد استاءت التلميذة سكينة من تعلُّم اللغة التركية التي اعتبرته “عذابًا بحد ذاته”. ورغم رغبة التلميذة الصغيرة في تعلُّم التركية بإرادتها، فإنها امتعضت بشدة جراء فرضها قسريًا عليهم لدرجة أن المعلمة هدَّدت التلاميذ الكُرد بالضرب إذا تحدثوا بالكردية خارج المدرسة. وفي تلك الأيام أيضًا، اكتشفت التلميذة الصغيرة سكينة آفات “الطبقية”؛ إذ ثمة شرائح اجتماعية محدودة تأكل الخبز الأبيض في مقابل شرائح أخرى تأكل الخبز الأسمر. وفي السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية، انتقلت سكينة للعيش في المدينة شتاءً والعودة إلى القرية صيفًا. وتُعد هذه الخطوة نقلة نوعية في حياة مناضلتنا.
وفي مدينة ديرسم، أقامت أسرة بطلتنا سكينة في بيت من المساكن التي خصَّصتها الحكومة (التركية) للموظفين العاملين في دوائرها. ومن المفارقات، كان سكان هذه الأماكن تلقائيًا يُصنفون بأنهم “أبناء السلطة” ومقربون إلى النظام الحاكم. وكانت الإقامة مع عائلات الشرطة والموظفين الأتراك تُزيد من “وتيرة التتريك”، استكمالاً لخطة التتريك في المدارس. وكانت سكينة في مطلع شبيبتها تعتقد أن إجادة التركية ميزة فائقة، وكانت تُطالب والدتها بإجادتها حتى لا يسخر منها الجيران. بيد أن الأم في واحدة من التأثيرات القليلة جدًا على ابنتها، نهرتها بالقول: “لا تخجلي من هويتك الكردية”. وفي السنوات اللاحقة، اعترفت سكينة باغترابها وابتعادها عن لغتها الأم؛ الكردية (ص 33) وخجلها من هذا السلوك.
وفي مدينة ديرسم، اكتشفت الصبية سكينة عوالم أوسع وأكثر تشابكًا وتداخلاً من القرى. ومثل معظم القرويين، انبهرت سكينة بالبنايات العالية والطرق المعبدة والممرات الجانبية المنبسطة والمدَّرجة والحدائق الخلابة والمستشفيات والمدارس المتباينة. وقد لفت انتباهها وجود سينمات ومطاعم فاخرة مخصصة فقط للأثرياء وكبار الزوار. ووقع منزل المحافظ على حافة نهر منذر، وسكن كبار موظفي الدولة بالقرب منه. وحسب تعبير أيقونتنا الثائرة: “وكأن ذاك الحي حد فاصل بين ديرسم (الكردية) والدولة (التركية)؛ إذ يسكنه المحافظ والقائمقام ومدير الأمن والكثير من بيروقراطيي الدولة وموظفيها الرفيعين” (ص 34). وفي كلمة: تركيز أدوات ورموز وآليات السلطة الرسمية في هذا الحي.
وفي تلك الفترة، انشغلت الصبية سكينة بالروحانيات وعوالمها وتجلياتها لاسيما طقوس “بحيرة الخضر” التي يقصدها الأهالي كل أربعاء باعتبارها مكانًا مقدسًا لتلبية الحاجات والأغراض مع إيقاد الشموع وتقديم القرابين والتفاني في النذور. وعرجت سكينة إلى تأثير “الأولياء” (الطرق الصوفية) على تكوينها الديني؛ إذ كان والدها ينحدر من شريحة “بير”؛ أي الولي، ولذا، استمرت تقاليد عشيرة قريشان في هذا السياق. وأشادت الابنة بأبيها لدوامه على القيام بالأعمال الحسنة ومساعدة الآخرين عكس والدتها.
وقد اندهشت سكينة في صباها من طقوس والدها الدينية لاسيما الزيارة السنوية لمزار “بابا دوزجون” ابن السيد قريش رأس عشيرة قُريشان. وأحيانًا كان الوالد يصطحب أولاده في رحلة شاقة سيرًا حفاة على الأقدام ثلاثة أيام في عز الحر صيفًا بغية معالجة مرض عضال أو مباركة الديار أو تحقيق أية أمنيات أخرى. ورغم انتقال الأب إلى ألمانيا في عام 1969، فقد ألف أشعار وأغاني الحنين إلى “الوطن”، ولم يتخلف مرة عن زيارة مزار بابا دوزجون.
الصـدمـات الأولى
ووصلاً لبيان المحطات الفارقة في تكوين المناضلة الثائرة سكينة إبان صباها، فقد شهدت بأم عينيها حدثًا في الحادية عشرة من عمرها في ديرسم، ترك أثرًا عميقًا جدًا في نفسها. فعلى غير المعتاد، لم تعرض السينما الصيفية فيلمًا، وعرضت بدلاً منه مسرحية عن الشاعر والمتصِّوف الكردي العلوي “بير سلطان عبدال” في القرن السادس عشر. وبعد الدعايات المكثفة ونفاد التذاكر واحتشاد الجمهور لمشاهدة المسرحية، فوجئ الجميع بسيارة سوداء تُطلق صفارات الإنذار، وأعلنت إلغاء العرض المسرحي، وطالبت الجمهور بإخلاء المكان فورًا. وبمجرد سماع هذا البيان، رجم الجمهور السيارة بالحجارة، وتعالت الصيحات بمطالبة عزل الوالي مما دعا إلى اشتباك الشرطة مع الثائرين.
ورغم اختلاط نحيب النساء مع صراخ الأطفال، فقد لفت نظر الصبية سكينة اشتباكات صديق والدها العم على جول تكين العنيفة مع الشرطة، وكأنه يلعب معهم مصارعة. وتمخض عن هذه المواجهة، اصطحاب العم على جول تكين، وأركبوه سيارة الشرطة عنوة، وذهبوا به.
حاول ولي شقيق على إنقاذه، ولكن الشرطة التركية انهارت عليه ضربًا بالهراوات وقبضات الأسلحة، وقبضوا عليه قائلين له: “يابن موسكوا. أيها الشيوعي الأحمر! لن تفلت منا. فليأت أبناء موسكو لإنقاذك! “(ص40). وقد أدرك المحتشدون أن أوصاف “ابن موسكو” و” الشيوعي” شتائم. وتصاعدت الاشتباكات وتعالت الشعارات المضادة وتكاثرت الحجارة الملقاة.
وبسرعة، تَحَّول الحشد إلى تظاهرة عارمة. ورغم تألُّم الصبية سكينة مما حدث مع علي وولي، فقد تأثرت بعصيان الجماهير وغضبهم. وإذا كانت الشرطة قد اتسمت بالقوة الغاشمة، فقد تميزت الحشود الثائرة بالشجاعة.
وقد لفتت هذه الحوادث وتداعياتها أنظار الصبية سكينة إلى سلوكيات وممارسات الشرطة التركية؛ إذ أنها لم تنس أبدًا “الضرب المبرح الذي طال العم على والعم ولي والناس الآخرين، واتحاد المحتشدين ومقاومتهم كالجسد الواحد” (ص42). وتخيَّلت بألم شديد – في مهد صباها – تنفيذ تهديدات الشرطة للأخوين على وولي بنتف شعر شاربيهما وصدريهما” شعرة شعرة”.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ازدادت صورة الشرطة التركية قتامة أمام الصبية الصغيرة سكينة على خلفية مقتل “محمد قلان” الشقيق زوجة خالها حسين. وفي منزله، “كان الكل يبكي ويندب وينحب ويصرخ ” (ص43). وقد بدأت الأحداث الدامية بحرق حسن كوجول أوبا الكردي العلم التركي أمام مبنى قسم الشرطة بجوار مبنى الاستخبارات التركية (MIT). وتحججت عناصر الشرطة بهذا السلوك، وأطلقت الرصاص الحي عشوائيًا على المحتشدين. بيد أن الحشد لم يتحرك، وتفاقمت الأحداث، وعمت الأرجاء. وطالت إحدى هذه الرصاصات الهادرة محمد قلان، فأردته قتيلاً.
الشهداء أحياء دومًا
في تلك اللحظات، تصاعدت أصوات جموع المحتشدين بالقول: “محمد قلان لا يموت!”. وعندئذ، اهتزت مشاعر سكينة؛ إذ لأول مرة تسمع هذا الكلام. وتساءلت بدهشة: ما معنى أن يُقال عن الشخص الميت أنه لا يموت!. لماذا لا يموت الشهداء؟. وكأنها كانت تستشرف مستقبلها!”.
ومن ثم، توالت الإجراءات التعسفية ضد ديرسم: حظر تجوال، انتشار قوات الشرطة وعساكر الدرك، اعتقال الشباب، خلو الشوارع من المدنيين تمامًا، تفتيش كل مكان لساعات تخللها الصخب والصراخ وأصوات النعال وهرولة الجنود. وفي عبارة موجزة مُعَبِرة، وصفت سكينة المعتقلين بمثابة “إخوة كبار يلقون الود والاحترام والإعجاب من الجميع. فجميعهم ثوار حماسيون”. وتناثرت هنا وهناك كلمات لافتة للنظر من قبيل “يساري” و” شيوعي” و”ثوري” ومما أثر بشدة في نفسية سكينة، سماعها “صرخات المعذبين” في قسم الشرطة جراء “نتف” شعر شارب العم ولي بعد إطفاء السجائر على صدره. وقد أُعجبت الفتاة الواعدة بأن العذابات الشديدة لم تؤثر في العم ولي؛ إذ على النقيض تمامًا، ترك الرجل عزلته، وانخرط في دراسة الشيوعية.
ولا ريب أن هذه الأحداث قد ألقت بظلالها المريرة على عائلات ديرسم. واكتشف أهالي ديرسم أن الدولة التركية عشية سبعينيات القرن العشرين هي ذاتها دولة 1938؛ أي مجازر، قمع وحشي، نفي. ولذا، لم يعودوا يثقون بالدولة، ولا بأي أحد آخر لأنهم شهدوا الخيانات، ومن ثم، لم تعد العشائر تثق في بعضها. وبالاستعانة ببركات وتجليات “بابا دوز جون”، بعدم تكرار مذابح وأهوال وكوارث ديرسم الدموية (1938) لاسيما وأن “الدولة منظمة ومتراصة بكل أجهزتها، وأصبح الاستعمار مؤسساتيًا، واجتُث جوهر أهالي ديرسم من الجذور” (ص46). وبإيجاز، هذه الدولة خائنة، لم تثق يومًا بأهالي ديرسم، ولم تُحبهم أبدًا؛ إذ دُفِنت الهوية الكردية في شخص هؤلاء (ص 47).
بلورت المناضلة الأيقونة تداعيات حادثة إلغاء العرض المسرحي بأنها كشفت “الوجه الحقيقي للجميع تقريبًا”، وأبانت توجهات ووجهات كل طرف. وقد انعكس هذا على “كل شيء في الحياة” بدءًا من العلاقات اليومية مرورًا بممارسة الطقوس وانتهاءً بتقديم وجبات الخير. وغدا من تتوافق مواقفهم “أكثر تقاربًا” من بعضهم البعض.
بذور الوعي الثوري واليساري
وتتواصل محطات تكوين سكنية إبان فترة دراستها الإعدادية في حي الجبل بديرسم. وخلال هذه الحقبة، تنامى لديها الشعور الثوري على خلفية ما سمعته في المذياع وقرأته في الجرائد وشاهدته من ملصقات على الحوائط في الشوارع عن “الإرهابيين” أو “الشيوعيين الفارين”. وهم باختصار، جماعة دنيزكزميش. ومن المفارقات، أرادات السلطات التركية التشهير بهم، ولكنها أسهمت في ارتفاع أسهمهم في عيون ونفوس الأحرار وضمنهم الصبية سكينة. وكان أول رد فعل من الصبية ورفيقاتها الصغيرات تمزيق الملصقات المسيئة حتى لا يستطيع أحد العثور على الشباب الملاحقين!.
وحسب تعليق سكينة: “لقد كان تفكيرًا طفوليًا بحق لكن، لا! فكأنهم ينثرون بذلك بذور التمرد في طفولتنا”. (ص 56).
وشهدت سكينة أثناء مرحلة تعليمها الإعدادي قبض السلطات التركية على بعض طلاب السنة النهائية من المرحلة الثانوية. وقد اعترض بشدة الأستاذ شيناسي أسكي مدير المدرسة على هذا السلوك. وقد أثار اعتراضه عناصر الشرطة، وفي المقابل، حطم شجاعتهم، وقاطع الطلاب الدروس. بيد أن الأوامر جاءت باعتقال مدير المدرسة. ولأول مرة، تشترك سكينة في تجمعات احتجاجية ضد السلطات الرسمية. وفي اليوم التالي، نفت السلطات التركية عددًا من الطلاب والمدرسين إلى ملطية “بؤرة الفاشيين”. وكان المنفيون من “اليسار التقدميين” الذين تعتبرهم الإدارة التركية “زعماء العصابة”.
وفي السنة الثانية من المرحلة الإعدادية، استمعت التلميذة سكينة أول دروس مباشرة من معلمها يوسف كنعان دنيز الأكثر يسارية عن طبقات الكادحين والعمال المسحوقين. وبلغة مناسبة لأعمارهم، شرح الأستاذ أنه يجب على المسحوقين أن يُنظموا قوتهم، ويُناضلوا ضد الساحقين، والرهان على “اتحاد الشباب الثوري في تركيا” لأنه سيكون القوة الطليعية في هذا النضال. وعندما تعالت صيحات التلاميذ باسم اتحاد الشباب الثوري دون معرفة ماهيته، حذرهم الأستاذ بعدم المجاهرة بهذا الاسم. وبذا، تعلَّمت التلميذة “السرية” في النضال، وتكوَّن بوجدانها “نزعة يسارية، وإن كانت طفولية”.
ووصلاً لرصد مؤثرات المرحلة الإعدادية على أيقونتنا، تأثرت سكينة جدًا بإعدام دنيز ورفاقه في 6 آيار – مايو 1972. وحسب نص الست سكينة، كان دنيز “مناضلاً ثوريًا، بل وشيوعيًا خطيرًا على الدولة. لذا، لم يصدروا حكم الإعدام عليه عبثًا. حاولت تصوُّر منظر منصبة الإعداد، لأني لم أكن قد رأيتها قط “(585). وعندما حظرت الأم ابنتها من متابعة تداعيات إعدام دنيز ورفاقه في الجرائد، ازدادت سكينة صلابة أكثر في التعلُّم وفهم أمور جديدة. وفي آفاق ديرسم، انتشرت أشعار تمتدح دنيز ورفاقه. واتسم هذا الشعر بالجوهرية والشفافة والنقاء، ودلَّ على الاستياء من النظام التركي الحاكم.
ومنذ ذلك الحين، تسلَّلت الظواهر اليسارية والثورية بشكل محدود في عقل سكينة ووجدانها عبر سماع الأغاني ومشاهدة الأقلام وقراءة الكتب ذات الصلة مما زاد في حماسها وعنفوانها. بيد أن كل هذا لم يرتق آنذاك إلى مستوى تشكيل نواة تطور على أساس واع وعلمي. ورغم هذا، رسمت هذه المفردات الملامح المتكوَّنة وصقلتها لاحقًا.
وفي عام 1973، شهدت سكينة ذات الخمسة عشرة ربيعًا الحملة الانتخابية لمصطفى بولند أجاويد السياسي التركي اليساري. وقد رفعت حملته الانتخابية أنه “المُنقذ”. وآنذاك، لم تكن الظاهرة اليسارية قد تحوَّلت بعد إلى تنظيم ثوري نضالي. ورغم ذلك، أثرت المجموعة الثورية في الجماهير بشكل لافت للنظر. وقامت اليسارية الأجاويدية بدغدغة مشاعر شباب ديرسم (الكردي) لدرجة التصويت له ولحزب الشعب الجمهوري CHP في الانتخابات.
وتُعلَّق سكينتنا على هذه المفارقة بقولها: “كم كان سخيفًا أن تبحث عن الأفضل بين أحزاب النظام القائم، وأن نرى الأفضل تمثيلاً للدولة المناهضة للدولة، وبين اليسارية الكمالية الممثلة للدولة. بل وساد التطلُّع إلى دمج التيارين في اليسارية الأجاويدية ليغدو تجذيرًا للاغتراب عن الذات ولكن بشكل مختلف “(ص62).
وعندما جاء أجاويد إلى ديرسم، لم تستطع الصبية سكينة من حضور مراسم استقباله لأن والدها منعها. ولكنها تابعت الفاعليات من شرفة فندق مرتدية قمصان أجاويد الزرقاء وعلَّقت صورة على صدرها من جهة اليسار. وكتبت على عمود بالفندق: “قرة أوغلان آت! قرة أوغلان هو السلطة!؛ أي الفتى الأسمر، وهو لقب أطلقه مريدو أجاويد زمن الحملة الانتخابية. ورغم أن أجاويد قد تحدث بإفراط عن الغلاء والضرائب والفقر وأعطى وعودًا كثيرة، فإنه بدأ خطابه بــــ “أهالي تونجلي الأعزاء!” ولم يذكر اسم البلد الأصلي “ديرسم” كما يُسميه الكُرد.
في بلاد الفـرنجــة
وتتوالى المحطات المحورية في تشكيل كيانية المناضلة الأيقونة سكينة جانسيز لاسيما بعد أن أقنعها الوالد بالذهاب معه برفقة أخيها الأكبر إلى برلين. وقد تألَّمت لمغادرتها ديرسم أول مرة. وتُعد مدينة ألازج أول مدينة تراها بعد ديرسم. وعلى امتداد الطريق إلى اسطنبول، شاهدت الصبية سكينة لافتات أحزاب الحركة القومية والعدالة، ونادرًا ما رأت لافتات حزب الشعب الجمهوري.
ولأول مرة، ركبت سكينة الطائرة المتجهة من إسطنبول إلى ألمانيا. وتوقفت الطائرة في مطار صوفيا لتزويدها بالوقود. وحسب توصيف سكينة: “إذا، أصبحنا في بلد شيوعي! كنا قرأنا عن بلغاريا بنحو مختلف في درس التاريخ. فهي بلد ذو نظام اشتراكي، مما جذب انتباهي أثناء العبور منها” (ص66). وفي ألمانيا، بدأت سكينة ذات الخامسة عشرة ربيعًا في تعلم اللغة الألمانية، التي كانت لغتها الثانية في المرحلة الإعدادية.وكان بعض أصدقاء شقيق سكينة الأكبر حيدر من اليساريين والثوريين. وقد لفت نظرها أحاديثهم عن الاشتراكية والطبقات الساحقة والمسحوقة، وتعلَّمت من أحدهم أول نشيد وطني عرفته (ص72).
ورغم أن الصبية كانت منتعشة بما تَحصلَّت عليه من ثقافة وطنية واشتراكية، فقد آلمها بشدة سماع مسيرات تنشد المارش الفاشي “يهتاج البحر الأسود من رؤية العلم التركي”. وكانت الحشود تحمل لافتات مرسومًا عليها وجه الذئب. وقد غضبت بشدة لهذا المشهد. وفي صوت خافت، قالت: “أيها السفلة!”. ومن أبيها، عرفت أن هؤلاء هم “التوركيشيون”؛ أي أنصار ألب أرسلان توركيش مؤسس حزب الحركة القومية.
- نحن اشتراكيون أيها الدرك
- نحن فقط أصدقاء لك
- خلاصك سيكون بنا
- فمد يدك لنا
جدليات الهوية الكُردية
وفي أمسية فنية، شاهدت الصبية مع والدها وأخيها وأصحابه عرضًا مسرحيًا عن شاب مقيد بالسلاسل، ويئن مضرجًا بالدماء نتيجة الضرب المبرح والركل المتواصل على أياد جنود أتراك. تأثرت سكينة في الصميم، ولذا، نهضت فجأة، وصرخت ببعض أبيات قصيدة “33 رصاصة” للشاعر أحمد عارف (1927- 1991) الذي اغتالته السلطات التركية، وهي:
- اضربوا ما حلا لكم .. فأنا لا أموت بسهولة
- جمرتي مُتقدة في الموقد
- وكلمتي ملتهبة في حلقي
- لمن يفقه الأحوال!
وتعليقًا على ردود أفعال هذا الموقف، ذكرت سكينة (ص74) ما يلي: “كنتُ غريبة عن جوهر الروح الثورية، وعن أبعادها الفكرية والنظرية، وعن آلياتها التنظيمية والعملية. إذ تأثرتُ ببعض الحقائق العامة، مع افتقاري للوعي والمعرفة بها”.
ورغم وقوف الصبية سكينة على أعتاب المراهقة، فلم تُبهرها مظاهر المدنية الأوروبية. وحسب نص مذكراتها “حياتي كلها صراع” (ص 75) “كنتُ على عتبة سن المراهقة، فأتصرف حسب معاييري، ولا أُحاكي أحدًا، بل غالبًا ما أُحب مخالفة الآخرين، وأميل إلى فعل ما أنا مقتنعة به وما هو مختلف، على الرغم من مسايرة الآخرين ومراعاة أذواقهم وميولهم”.
- لمن يفقه الأحوال!
وفي أمسية ثانية، نظَّمها الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (المؤسَّس عام 1945) في ألمانيا، توسَّعت آفاق سكينة بشأن هويتها الكُردية والثورية. وفي عبارات موجزة، ولكنها مملوءة بالمرارة، تصف سكينة تداخلات الهوية وتشابكاتها وقتذاك: ” لقد كنا غرباء عن جوهر الظاهرة الكُردية؛ إذ نُعرِّف أنفسنا عمومًا بأننا علويون. لم يكن الانتماء الكردي مذكورًا في جواز السفر، ولا في دفتر السجل العائلي، ولا في الكتب الموجودة في أماكن العمل، ولا في مؤسسات الدولة الرسمية. فكل مواطن في الجمهورية التركية هو تركي… ولم يكن ثمة هكذا تمييز حتى في التيارات اليسارية والثورية المتواجدة! … وكانت مفردة كردي! تُقال على سبيل الشتم والمذمة” (ص76).
ولاريب أن فعاليات هذه الأمسية وتداعياتها ذات النكهة الكردية قد أثرت بشدة في استنهاض الروح الكردية داخل نفسية سكينة. بداية، ارتدى الحضور “الزي الوطني”، وتحدثوا باللغتين الكردية والألمانية. وتعترف الفتاة سكينة بأنها لم تستطع فهم شئ من أحاديث اللغة الكردية عدا بضع كلمات. وشاهد الحضور فيلمًا وثائقيًا عن الحركة البرزانية ومهاباد وأتاتورك وديرسم والشيخ سعيد وكوجكري وقوات البشمركة. واستعرض الفيلم الحرب والمعارك والصراع، وتطرق إلى حرب 1974 ومقاومة البشمركة ضد النظام العراقي.
وقد تأثرت الفتاة اليافعة ببيت في أغنية كردية ظلت تدندن بها مدة طويلة: ” لن ننسى طريق لينين، لن ننساه”. بيد أنها استاءت لعدم ارتدائها الزي الوطني الزاهي الدال على انتمائها الكردي شأن الحاضرين. وحسب نص الست سكينة: “لكن مشاعر الخجل التي اختلجتني كانت تعبيرًا عن البحث عن الهوية الكردية ومحاولة تبنيها. ثم إن لتداخل الهويتين الكردية والثورية معنى ثمينًا (ص78).
وفي ألمانيا أيضًا، تزايدت معرفة سكينة بالاشتراكية ممن عايشوها بعدما كانت تتحدث عنها وتُغنى لها وتتداولها بمعانيها الضيقة. وتنامت لديها إمكانية تحقيقها في حال النضال من أجلها. وقتذاك، لم تكن سكينة قد اطلعت على أدبيات الاشتراكية. بيد أن نموذجها الحي كان موجودًا أمامها في ألمانيا الشرقية.
ورغم كل هذا، لم تنجذب سكينة إلى فكرة التواجد في ألمانيا؛ إذ أن برلين الجميلة وحدائقها ومتاجرها الشاسعة لم ترو ظمأها. وحتى المياه والمرتفعات في حدائقها كانت مصطنعة، وكذا، حال الطرقات والتلال والوديان. ولذا، حنت الفتاة الكردية إلى غابات ديرسم، وإلى قراها، وإلى نهر منذر. وأمام هذا الاغتراب، اضطر الأب إلى إعادة حيدر وسكينة إلى ديرسم، لتبدأ محطة جديدة في حياة مناضلتنا بعد غياب دام أحد عشر شهرًا بالتمام والكمال في بلاد الفرنجة.