سكينـة جـانسيـــز: تجليات التحرر الذاتي وصدمات الوطن المستعمر
تحليل أ.د. محمد رفعت الإمام .. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر

نواصل الغوص في بحر المناضلة الكردية سكينة جانسيز، أيقونة الهوية الكردية، ويزخر بحرها بأمواج متلاطمة وفي هذه الحلقة، نرصد المحطات المحورية والفارقة منذ عودتها من ألمانيا إلى وطنها ديرسم وانخراطها في أجواء ثورية حتى بدأت تكتشف وطنها السليب؛ كردستان، وهويتها الكردية.
ارتفعت معنويات سكينة بعد العودة إلى ديرسم؛ إذ ستعود إلى استكمال دراستها بعد مرور أحد عشر شهرًا بالتمام والكمال. ولكن خلال هذه السنة، تغيَّرت ملامح سكينة الجسدية، وتحوَّلت من طور الطفولة والصبابة إلى طور المراهقة والشباب. كما أنها ازدادت خبرات حياتية جراء تجربتها ومشاهداتها في ألمانيا. وبمجرد أن وطأت سكينة بقدميها ديرسم بملامحها الجديدة وشعرها الأشقر المستعار، ظنها الأهلون والأقربون فتاة ألمانية صديقة لشقيقها الأكبر حيدر. وقد انزعجت الفتاة لقاء البرود والحساسية التي قوبلت بهما جراء هذه التحولات الشكلية.
وعلى أرض الواقع، لمست سكينتا، وهي على أعتاب الشباب، تغيُّرات جد ملحوظة في ديرسم. بادئ ذي بدء، صار حديث المدينة عن إبراهيم كايباكايا القائد التركي اليساري مؤسس الحركة الشيوعية التركية التي اعتقلته سلطات أنقرة وأشبعته صنوف العذابات حتى لقى نحبه في 18 آيار – مايو 1973. وعلى امتداد فضاء ديرسم، انتشرت روايات التعذيب برفاق كايباكايا لاسيما على حيدر يلدز التركي الذي استُشهِد يوم 24 كانون ثان – يناير 1973. وصارت الأغاني تُنشد لهما. كما شهدت مدرسة المعلمين في ديرسم أحداثًا ضارية عندما وقعت اشتباكات بين الطلاب ممثلي النظام التركي والطلاب الثوريين المقيمين في مساكن الطلاب بالمدينة. ولذا، اتسم عام 1974 بمواجهات عنيفة.
وعندما تخطت سكينة ربيعها الخامس عشر، ووفقًا لسمات المرحلة العمرية، ازدادت تمردًا وعنادًا على المستوى الأسري على خلفية سلوكيات الأم الصارمة. بيد أن الفتاة أدركت أسباب ودوافع الأم. وحسب عباراتها (ص83): “لقد حمَّلها غياب الأب أعباء كافة المسئوليات. وهي بذلك تتحمل عبئًا، وتُوجب عليها عبء القيام بلعب بدور الأم والأب. فالمشاكل المادية، وذهابنا جميعًا إلى المدارس، وتداعيات الأحداث الجارية، كل ذلك يدفع أمي إلى فرض المزيد من الرقابة بهدف حمايتنا وإبعادنا عن العادات السيئة!”.
وإلى حد ما، بدأت المعايير والقوالب التقليدية الحاكمة في العلاقات الاجتماعية والإنسانية تتراجع رويدًا رويدًا. ومن هذا القبيل، تمكَّن الفتيات والفتية من الحديث مع بعضهم وتعميق أواصر القربى المعرفية فيما بينهم. وبدأ شباب ديرسم اليساريون الثوريون انتهاج عادات جديدة. وعلى حساب زيجات الأقارب المألوفة والمعتادة في المجتمع الكردي، أخذ المتعلمون في المدن الكبيرة الزواج من تركيات وشركسيات وقوميات أخرى. وتراجعت رويدًا رويدًا ظاهرة اتفاق العائلات الكردية على تزويج “الرُضع”. ورغم شغف الفتيات وأسراتهن بإعداد جهاز العروسين، فإن سكينة شخصيًا لم تنجذب إلى هذه المظاهر وتلك الظواهر رغم إعجاب كثيرين بها، وأصبحت يافعة لها حق اتخاذ قراراتها بذاتها.
ورغم هذا، حوصرت الفتاة سكينة بحملات الأهل والأقارب لقبول خطبة متين ابن عمها الشاب الجامعي. ولكنها لم تنجرف في الاحتفال بعادات وتقاليد ومراسم الخطوبة شأن الفتيات. وسيطرت على الفتاة “مشاعر طفولة بريئة وتلقائية وحماسية” كبلتها بسلاسل، وطغت عليها حالة من الحياء والإنكماش وكأنها في “معصرة” (ص91). ولاريب أن هذا الحدث قد أسهم في نضج سكينة وصارت أكثر انتباهًا لسلوكها ولم تعد تلقائية في تصرفاتها. وشيئًا فشيئًا، أخذ الخطيبان، متني وسكينة، يتعارفان ويتقاربان لاسيما عندما تبادلا أطراف الأحاديث عن المتناقضات المجتمعية. واكتشفت سكينة أن خطيبها الذي يكبرها بثماني سنوات تميز بالحميمية والتفاعل السريع. وعرج الخطيبان في أحادثيهما عن الأحداث السياسية آنذاك ومحاولة تحليلها رغم محدودية أفكارهما ورؤيتهما. واتسمت هذه المرحلة بزيادة ثقة الفتاة الشابة في نفسها.
إضــراب الطلبــة
وفي نفس التوقيت، خطت الفتاة الناضجة عدة خطوات على دربها الثوري الطويل إبان عام دراستها الأول في المرحلة الجديدة. وقد شاهدت بأم عينيها الفروق الواضحة بين المدرسين أبناء النظام التركي والمدرسين أبناء التيار الثوري. ودخلت مدرسة سكينة في “إضراب منظَّم” بهدف تحسين ظروف العملية التعليمية من ناحية الموارد المادية والكوادر البشرية. وقد أقتنعت ثائرتنا الشابة بأن “الإضراب” يُعد نوعًا من “المقاومة”، ولذا، قَرَّرت الاشتراك في فعالياته.
انطلقت المسيرة من أمام المدرسة في اتجاه المبنى الحكومي. وكعادتها، سعت شرطة المدينة إلى تفريق مسيرات الطلاب بإطلاق الرصاص الحي في الهواء وأسرعت جموع المتظاهرين بالتخندق وراء الجدران، ثم عاودوا المسير بعناد رافعين شعاراتهم التي طالت عنان السماء أو كادت. ولذا، اعتقلت السلطات التركية بعض الطلاب أثناء المسيرات، مما أجَّج مشاعر الغضب لدن الطلاب الثائرين.
وأثناء المسيرات، رفع الطلاب الثائرون شعارات عامة فضفاضة من شأن “شاركوا يا أبناء شعبنا!” و” الموت للفاشية!”. ولكن تم تعديل الشعارات من طابعها الثوري العام إلى شعارات بمطالب فئوية عن احتياجات العملية التعليمية من بنية تحتية (نوافذ وأبواب ودفايات) وبنية فوقية (توفير المدرسين)، وكذا، شعار “نُريد زملاءنا في الدراسة”. وقد هزَّ الإضراب كل أنحاء ديرسم عندما توافد طلاب مدرسة المعلمين رغم محاولات الشرطة عرقلتهم. وحلَّقت مروحيات لفترة في سماء ديرسم. وطالب الحاكم هاتفيًا بوصول تعزيزات من قوات الدرك (الأمن المركزي) ووحدات العمليات الخاصة (المغاوير) من المدن المجاورة. وأعلن الحاكم التركي: “ثمة عصيان. لقد تمرد الكُرد!” (ص 95).
وإبان هذا الحراك، تعلَّمَت سكينة الاحتياط من عناصر الشرطة المدنية، فربما يندسوا بين الجموع لافتعال الاستفزازات أو لاعتقال بعض المتظاهرين. ولذا، أبدت ورفاقها الحذر ممن يجهلونه. وفي تلك الأثناء، دبَّ القلق والتوتر لدى عائلات الطلاب. ولسوء حظ والد سكينة، كان عائدًا للتو من ألمانيا في أجازته السنوية. وعبثًا، حاول الوالد إرجاع ابنته إلى المنزل بحجة مرض والدتها. ولأول مرة، تنتقد سكينة والدها باستياء وسلبية. وحسب نص الفتاة الثائرة: ” أتُدرِك ما تفعله يا أبي؟ إني مع أصدقائي وسط إضراب بدأناه سوية. ولكل منهم أمه وأبوه. لن أترك الساحة لأجل أمي. ولن أتخلى عن أصدقائي في منتصف الطريق!. تضايقت كثيرًا … كنت أتصور أبي أكثر وعيًا ويقظة. ألا يُفكِر في مدى سوء التخلِّي عن أصدقائي؟ ذهب أبي مهمومًا” (ص96).
وما لبث التوتر أن تزايدت وتيرته، وغدا الطلاب مطوقين أمام المبنى الحكومي، وأُغلِقت الشوارع، وتأهبت قوات الشرطة وعساكر الدرك بسلاحها، وانتشرت على قارعات الطرق يفصل بين العسكري والآخر مسافة خطوتين. وثمة تحذير تناقله الثوار مفاده أن إطلاق رصاصة واحدة، ولو بالخطأ، من الجموع المحتشدة، فسوف تُواجهه القوات التركية بوابل من الرصاص ضد المتظاهرين.
ليسـوا متمـرديــن كُـرد
باتت الأجواء مشحونة ومتوترة وملتهبة لدرجة أن حاكم ديرسم لوَّح بمسدسه على المتظاهرين. وعندئذ، تدخل المدعى العام وانتزع المسدس من يد الحاكم قائلاً له: ” …. ليسوا متمردين أكراد، بل إنهم طلاب صغار يُركزون على مشاكل مدارسهم! …”. ورغم وعود المدعي العام بالإفراج عن الطلاب المقبوض عليهم، فإن الثوار لم يثقوا فيه كونه ابن النظام التركي. وتوالت الأحداث عاصفة حيث “ضربت قوات الدرك كل من طالته بمؤخرات البنادق. هاجمنا عناصر الشرطة بالهراوات، فرميناهم بالحجارة. استمر الاشتباك في كل حي وكل زقاق وشارع. لم يتدخل الشعب في أي شيء، بل اكتفى بالتفرُّج على الأحداث عن بُعد. وكأن قوات الشرطة والدرك قد بنت جدارًا من اللحم بيننا وبين الشعب” (ص 97).
ولاريب أن هذه التجربة غير الناضجة لطلاب مراهقين اتسمت بعدم التنظيم الدقيق وبالعشوائية. وقد فوجئ الشباب “البرئ” و ” الطاهر” بممارسات السلطة القمعية والعنيفة واللإنسانية. فمن ضرب ووعيد وشتم أثناء التحقيقات مرورًا باستقطاب الشرطة لبعض الرفاق وانتهاءً باغتصاب الفتيات وإدخال الخوازيق.
وهكذا، أثرت الأحداث اليومية في حياة الثائرة الشابة وغيَّرت مسارات اهتمامها. ووقتذاك، ازدادت خصائص التيارات اليسارية الثورية والتكتلات وضوحًا، وتقاربت الأفكار المتناغمة الموجودة. والتف المؤمنون برؤى معينة حول بعضهم البعض. وتغيَّرت نوعية الشعارات، وتبدَّلت المقاربات من الأحداث. وحتى المدرسة، لم تعد سكينة ترتادها للتعلم والدراسة، بل أصبحت مجرد وسيلة للعمل الثوري. وركزت الطالبة سكينة على نقل المستجدات وخوض المناقشات بين الطلاب أكثر من التركيز على الدراسة التقليدية. وعلى سبيل مقاومة الاستبداد والطغيان، قَرَّر الطلاب تحويل حصص المدرسين أبناء النظام التركي “لا تُطاق”، وصاروا يتجنبون النقاش وعاجزين حتى عن إعطاء الدروس. ورويدًا رويدًا، تحوَّلت المدرسة إلى قاعدة لعقد لقاءات متنوَّعة.
وفي هذه الفترة المبكرة من نضال سكينة، هيمنت عليها قناعة بأن الثورية ليست موضوعًا للتسلية أو مراعاة للخاطر. وتَحوَّلت سهرات شرب الشاي مع الرفيقات إلى محاولة لفهم المستجدات السياسية، وسرد قصص الثوار الأبطال المشهورين. وتَولَّد في هذا التوقيت، إمكان التواصل مع أقران آخرين عن مدرسة المعلمين ومع الطالبات من مدرسة الفنون للفتيات. وتجسَّدت القواسم المشتركة في تشاطر الجميع نفس الأفكار والمشاعر. ومع مطلع الشباب، بدأت الشابات في “التدخين” حتى عُدت هذه العملية مقياسًا للحرية. بيد أن سكينة لم تستسغ هذه العادة.
ولتوسيع مداركها الفكرية، بدأت المناضلة في تكوين أيديولوجيتها عبر بوابة القراءة. وفي هذا الخصوص، كانت باكورة قراءاتها الجادة كتاباً “تحت أعواد المشنقة” ليوليوس فوتشك و” الأم” لماكسيم جوركي، وقد تأثرت بهما كثيرًا. وفي خط متواز مع التكوين الأيديولوجي، لفتت سكينة الأنظار إلى ضرورة أن يتميز الثوار بـــ “قوة عضلية بالغة لحماية أنفسهم” (ص 101)، لاسيما وأن خصومهم من أبناء النظام الفاشي “يهتمون جدًا بتعلم الكاراتيه”. وبين بناء العقل والجسد، افتتح الثوار دورات لتعليم البزق (الطنبور) لبناء الوجدان. هكذا، أسس الفتية الثائرون عالمهم الخاص رغم تشديد الأهالي عليهم: “لا تُصبحوا ثوارًا، ولا تنشغلوا بالسياسة، فهذه أمور كارثية” (ص 102).
وداعـاً الفتـى الأسمــر
ومن أبرز تحوُّلات الشابة سكينة في مطلع حياتها النضالية تغيير ميولها تجاه مصطفى بولند أجاويد رئيس الحزب الجمهوري (1972-1980)، والذي تَوَّلى رئاسة وزراء تركيا أربع مرات (1974-2002)، وغالبًا طغى على شعاراته “الحرية للشعوب!” أكثر من الشعارات الكمالية الشوفينية. ففي إحدى جولاته، ألقت زُمرة من أنصار “حزب الحركة القومية” الحجارة على موكب أجاويد. ولذا، ردَّد جهارًا على الملأ: ” لا وجود للشعوب هنا، بل ثمة شعب واحد. هؤلاء حفنة استفزازية من أعداء الشعب”. وعلّقتَ الثائرة الواعدة: “كم أبلى أجاويد بلاءً حسنًا بكلامه هذا، الذي يُؤلِّب الشعوب على بعضها بعضًا ويستفزها!” (ص 102).
ورغم ميول سكينة الأجاويدية التي لا تتعارض مع ثوريتها العامة آنذاك الوقت، فإن عبارته آنفة الذكر محت مكانته في وجدان الكثيرين الذين أدركوا أن يساريته لا تختلف ذرة عن التيار اليميني. وفي كلمة موجزة: ” إن أجاويد يُشَكِل نسخة مختلفة من النظام القائم، وأنه ممثل حقيقي للكمالية، ومدافع عنها وحارس لها” (ص 102). وبذا، تلاشت صورة “الفتى الأسمر” المنقذ من مُخيِّلة ثائرتنا الشابة، وتجلَّت عنصريته الكامنة بداخله. وحتى صورة أجاويد المعلقة في حجرة سكينة، أنزلتها وطرحتها أرضًا.
وعند هذه العتبة، أخذت الشابة الثائرة في تغيير مساراتها. وفي البدء، ارتفع سقف الصراع مع السلطة المنزلية (الأم) عن ذي قبل لدرجة أن وصفتها سكينة بالحرب الشرسة “فلا هي تتنازل، ولا أنا!”. كانت غاية الأم ألا تختلط البنت في السياسة. وفي توصيف بليغ، رسمت الإبنة الثائرة خريطة الصراع بدقة مع والدتها: “إنني أخوض الصراع ضد امرأة تُعد أماً. أي، ضد واحدة هي من بنات جنسي من جهة، وتُعد المرأة الأقرب إلىَّ من جهة ثانية. ومع ذلك، لم أقل بتاتًا ليتني وُلِدت ذكرًا. بل وكلما تذمرت أمي قائلة ليتكِ لم تُولدِي أنثى، تشبثتُ بالأنوثة أكثر فأكثر. أي أن نمط حربها تجاهي قد زجني في صراع عتيد لم أكن جاهزة له إطلاقًا. وهي لم تنتبه إلى ذلك تمامًا، أو أنها لم تجزم إلى أين سينتهي بنا المطاف” (ص 105).
ومن المفارقات، طالت التغيَّرات علاقة سكينة بخطيبها متين لدرجة أن رسائله باتت غريبة عنها، ” والأهم أنني أصبحتُ أفضل الروح الثورية، ولو بمعانيها الفظة. لذا، لم تُعد علاقتي به بارزة بسبب طموحاتي”. تلك وأردفت الثائرة في تحليل ذاتها بامتياز: ” كُنتُ متسرعة وأتمرد على كل شئ وكأنني أعرف كل شئ، وأتحرك بعواطفي دون إسناد ردود فعلي إلى أرضية قويمة. أما متين فهو أكثر هدوءًا ونضوجًا، إذ يُحاول فهم الأمور، ويعمل على إسداء النصائح لي في رسائله… وبطبيعة الحال، لم أستسغ لنصائحه … وأكَدتُ له أني لم أعد طفلة … لكن ما حزَّ في نفسي آنذاك هو أن موقفه شبيه بموقف أمي” (ص 106).
كـردستـان المستعمـرة
وصفوة القول، أن هذه الصراعات مع الأقربين، كانت دافعًا لتنامي الميول الساكنة لدن سكينة لتجنح صوب “الثورية”، وعلَّمتها حب الأنوثة والمرأة، وبذر بذور تكريس الثورية بروح المرأة وحب هوية المرأة والافتخار بها. وفي كلمة: ارتسمت روتوش المرأة الثورية في قلب ووجدان وعقل الشابة سكينة في مقتبل عمرها. وفي خط متواز، بدأت تهتم بالعمل الجماعي وتنمية ثقافة الخلايا الفكرية والثورية، ولكن على نطاق محدود. بيد أن أغلب الأمور بقيت مشتتة ومبعثرة ومتجزئة ومتذبذبة وسطحية؛ أي أن النزعة الثورية والسياسية لم تتجسد في الذات، ولم تهزها في الأعماق، ولم تُفجِّر طاقاتها الكافية. ومازال بحث سكينة مستمراً والأمل معقوداً على حدوث شئ ما.
وتوسَّعت سكينة في قراءة الكتب غير المدرسية لاسيما الكتب المختصة بمعالجة القضايا الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والأدبية. وقد تمخضت هذه القراءات وتجاربها الحياتية عن أن الروح الثورية تعني مشاطرة وتحمُّل الهموم والآلام. وتنامت لديها وقتذاك مشاعر التشارك مع الإخوة والأهل والأصدقاء والجيران. وثمة لقاءات حوارية ونقاشية قد أسهمت في بناء العمود الفقري لسكينتنا المناضلة.
تُعد لقاءات وحوارات ولي الطالب في كلية غازي للتربية في أنقرة الأبرز والأكثر فعالية وتأثيرًا. وقد استعرض مصطلحات من قبيل الشعب والأمة، وعرج إلى نضالات فيتنام وأنجولا وكوبا التحررية. والأهم والأجدى، شرح ولي أصول الكرد وأنهم آريون، وتعريف ميزوبوتاميا (بلاد بين النهرين) وطنهم الأم. واستطرد في تقييم انتفاضة ديرسم عام 1938 بشكل أوسع وأعمق من سرديات والديها وأخوالها وحتى جدتها. وقد اقشعر جسد الشابه سكينة حتى النخاع من سرديات الاغتصابات والإبادات الجماعية والخيانات والإقصاء الإجباري. وتألمت لإنكار أمة على امتداد عصور. وحسب عبارة الفتاة المصدومة: “إذاً”، فاسم وطننا هو كردستان بعدما كنا نسميه الجمهورية التركية” (ص120).
وواصل الحكاء الملهم ولى سرد عمليات تقسيم كردستان إلى أربعة أجزاء، وتطَّرق إلى معاهدتي سيفر (1920) ولوزان (1923)، وكذا، الانتفاضات والتمردات الكردية. وهنا، أدركت سكينة جوهر القضية الكردية، وحسب نصها: “كنا قرأنا عن اتفاقيتي سيفر ولوزان في الكتب المدرسية، واللتين نصتا على مفردتيَّ الكُرد وكُردستان. لكنهما كانتا مفردتين محصورتين في تلك الكتب فحسب.
أما اليوم، فها نحن نتعلم أن وطننا هو كُردستان، التي طالما بقيت مستعمرة تقليدية”. وبذا، تضع سكينة قدميها على أعتاب سلالم نضالها الطويل التحرير “كُردستان المُستَعمرة”.