إن قضايا شعوب المنطقة من الإشكاليات المُعقدة في التاريخ الحديث والمعاصر، والتى امتدت آثارها – التى لا تمت للإنسانية بشئ- إلى حاضرنا بشكل كبير، كما تؤثر بشدة على مستقبل المنطقة إن لم تُحل بشكل جذري. أما عن القضية الكردية والتى تشكلت بفعل فاعل ألا وهو الدولة العثمانية ومن ثم وريثتها الجمهورية التركية القومية بكافة مراحلها كأداة من أدوات الحداثة الرأسمالية أو النظام العالمي المهيمن، بمجموعة من الممارسات غير الإنسانية من قبيل إنكار ومحو الأمة الكردية، بيد أن، الأزمات التى مر بها الشعب الكردي قد لعبت دوراً محورياً في ميلاد مشروع مجتمعي ديمقراطي وحر(العصرانية الديمقراطية) رائد يُضاهى كافة المشاريع الإصلاحية والتحولات الديمقراطية الوطنية التى طرحت عبر التاريخ الحديث والمعاصر فيما يخص مشاكل شعوب المنطقة، وما هي المشاكل إلا نتاج لمصالح الهيمنة والنهب للإمبريالية الرأسمالية وتوابعها في المنطقة.
نضال زعيم
وعلى هذا النحو، يُعد المناضل المفكر عبدالله أوجالان شخصية فريدة، حيث أنه صاحب مشروع مجتمعي ديمقراطي رائد للتعايش السلمى بين شعوب المنطقة، فهو ابنًا لشعب يضرب بجذوره في عمق التاريخ الإنساني، شعب أهدرت حقوقه القوى الإمبريالية الرأسمالية. ومنذ نشأته وضح بامتياز عدم خضوعه لسياسة التتريك التى انتهجتها تركيا في مدراسها مع كافة الإثنيات غير التركية ، فكان دائم البحث عن الكردايتية والتى يرى أنها إثبات لخصوصيته، وعلى خط متوازٍ، كان متميزاً بين أقرانه دراسياً. وفى هذا الشأن يقول : “عندما واجهتُ نظام التعليم التركي في مرحلة الدراسة الابتدائية من طفولتي، فإن حقيقة الكردايتية التي كانت بالكاد تتجلى خيالاً محفوفاً بالضباب، قد أسفرَت عن تساؤلات عدةٍ في عقلي وروحي. كنتُ لا أستسيغُ التَّتريكَ بطبيعة الحال. وكنتُ بدأتُ أشعرُ في أعماقِ روحي بتأثيرِ الإهانة والاستصغارِ بسبب هذه الممارسة المفروضة. وأولُ ما خطرَ ببالي كان البحث عن العُرى العائلية مع التركياتية. فعلاقاتُ القرابة البعيدة من طرف الأم مع التركياتية لم تَكُ تمتلكُ كثيراً قوة الحل الوافية. فأياً يكن، فمشاعرُ كردايتية أبوية الطابعِ كانت تفرضُ حضورها علناً. ما كان بوسعي الهرب من هذا الواقع. لكن، وبناءً على هذا الواقعِ أيضاً، كنتُ قد أُصبتُ بأول جرحٍ مع بدء التعليم الابتدائي. حيث تكوَّن لدي الوعي الناجم عن أول احتكاك مع الكردايتية كحقيقة إشكالية للغاية. في حين لَم يَكُ إحساس كهذا قد تطوَّر كثيراً لدى أقراني. أما السبيل إلى ردم هُوّة الفارقِ بيني وبين الأطفالِ المُتَبَنّين التركياتية الجمهورية في القرية الأرمنية القديمة التي تتواجد فيها المدرسة التي تلقيتُ فيها تعليمي الابتدائي؛ فكان يمرُّ من أن أَكون مُحبباً لدى المدرسين. ويبدو أن اندفاعي الدائم وراء نيل الدرجة الأولى بدءاً من المرحلة الابتدائية كان أسلوباً دفاعياً تجاه السلبياتِ التي قد يتمخض عنها الواقع الكردي. بهذا الشكلِ كنتُ أود إثبات خصوصيتي. وقد نجحتُ في ذلك، وحافظتُ على هذا النجاح حتى السنة الأخيرِة من الدراسة الجامعية دون انقطاع. وبهذه الطريقة كنتُ قد برهَنتُ “للصديقِ والعدو” على السواء مدى جديتي وجدارتي في أن أكون رجلاً بحق. هكذا أصبحَ بمقدوري الانشغال بالأمور المهمة”.
عند هذا الحد، تجلت محاولات السيد أوجالان في البحث عن الحقيقة الكردية واستدعائها مرة أخرى بعدما دهستها الفاشية التركية، فبدأ بتبني شعارات ثورية مجتمعية من شأنها إعادة بث الروح في الشعب الكردي ومنها:” الكرديُّ موجود”، “القضيةُ الكرديةُ موجودة”، “للأممِ الحقُّ في تقريرِ مصيرِها وفي نيل حريتها”، “السبيل الأصح لحل القضية الوطنية يمر من الاشتراكية”، “قد يلزم أخذ حرب التحرير الوطنية في الحسبان”، “كردستان مستعمرة” و” تأسيس حزب وطني أمر وارد بناء على تأسيس حزب مشترك”. وجاءت أولى محاولاته الفعلية للبحث عن الحقيقة الكردية بتشكيل مجموعة كانت أولى اجتماعاتها على ضفاف “سد جوبوك” في 20 مارس 1973م ( عيد نوروز)، وذلك إثر الاحتجاجِ المنظم للتنديد بمقتلِ ماهر جايان ورفاقه في قرية “قزل دره” في الثلاثين من مارس 1972م ويقول : … وبالنسبة لي، باتَت الحقيقة الكردية ستغدو متعلقة بالنتائج التي ستتمخض عنها ممارسة تلك المجموعة. وقد فكرت مراراً فيما بعد: ترى، هل كان ثمة وسيلة أفضل عدا تشكيل المجموعة، للوصول إلى الواقعِ الكردي بسداد؟ ولا أزال مؤمناً بأن أسلوب تأسيس تلك المجموعة هو الأصح للوصولِ إلى الحقيقة……. لقد كنتُ مرغماً على تطوير المجموعة. وهي بدورها كانت مرغمة على تطويري. من الصعب أن نزعم أن المجموعة تخطت مستواها الذي كان نوعاً من البحث عن الحقيقة ونشرها، إلى حين إعلان نفسِها باسم “حزب العمال الكردستاني PKK” في شهرِ نوفمبر 1978م.” ومع التطورات المتلاحقة أصبح الحزب ركيزة أساسية للكردايتية التى طالما ما سعى إلى تعزيزها ونشرها المناضل السيد أوجالان.
الوطن الأم في الواقع الكردي
يقول المفكر عبدالله أوجالان : حقيقةُ الوطنِ الأمِّ تاريخياً بالنسبة للكرد، بدءاً من الكرد الأوائل إلى أولئك المُعاصرين. فمصطلحاتُ كورتيا لدى السومريين، وكُوردِيوَانا (غوندوانا، أي موطن الكرد) لدى اللويين، وكاردوكيا لدى الهيلينيين مُشتقةٌ جميعُها من الجذرِ عينِه. وقد طرأ عليها التحولُ مع الوقت، لتتخذَ شكلَها الأخيرَ رسمياً باسم “كردستان” اعتباراً من عصرِ نفوذِ السلاطين السلاجقةِ في بلادِ إيران (القرن الحادي عشر الميلاديّ). إذ شاعَ استخدامُ مصطلحِ “كردستان” في مئاتِ الفرمانات (أوامر السلطان) في عصرِ الدولة العثمانية أيضاً. ولدى تأسيسِ الجمهورية، لجأَ مصطفى كمال بذاتِ نفسِه إلى استخدامِ مصطلحِ “كردستان” كتابةً ولفظاً مراتٍ كثيرة، وعرَّفَ النُّوَّابُ الكردُ الأوائلُ في البرلمانِ التركيِّ أنفسَهم بـ”مندوبي كردستان”. لكن، واعتباراً من مؤامرةِ التركياتيةِ البيضاء عام 1925م، حُظِرَت كلُّ التسمياتِ وشتى أنواعِ الإرثِ المعنيِّ بالكردِ وكردستان و الكردايتية على حين غَرّة وبأساليب وحشية فظيعة، في مساعٍ لإخراجِها من كونها ظاهرةً قائمةً بذاتها.
تحتوي هذه الضربةُ التي لَحِقَت بمصطلحِ كردستان على عدة أهداف. فقبلَ كلِّ شيء، قامَ الأتراك البِيض (بمقدورِنا تسميتُهم أيضاً بالبورجوازية التركية البيروقراطية الشابة- التى تشكلت بفضل الاستيلاء على أملاك اليونانيين المُرحلين، والأرمن الذين تم ترحليهم وإبادتهم – ، بشرط إضافة رأسِ المالِ اليهودي كنواة إدارية فيها) بمَعِيّةِ الحُكّامِ الإنجليز والفرنسيين الاستعماريين بإعادةِ تجزئة كردستان إلى أربعةِ أجزاء. واستولوا على الجزءِ الأكبرِ منها، واعتَبَروه بكل ما فيه تركي الطابع والهوية، ونظّموا بحقه الإبادة. إنها ضربة تآمرية استهدفت أراضي كردستان. ومع “خطة إصلاحِ الشرق” في عام 1925م، طغى العملُ على محوِ الواقعِ الكرديِّ من صفحاتِ التاريخِ كلياً، واعتبر وطنُ الكُردِ “غير موجود”.
عام 1925م ومحو الوطن الكردي
وفق ما ورد سلفاً، فإن عام 1925 هو عام الحزن بامتياز حيث بدأت المحاولات الفعلية لمحو الحقيقة الكردية محواً كاملاً، حيث وضعت الدولة التركية خطة سُميت بإصلاح الشرق، وأصدر الرئيس التركى مصطفى كمال أتاتورك مرسوم رئاسي يتضمن 27 مادة، وأصبح متخذ القرار على يقين بأن هدف الخطة هو الحفاظ على استقلالية الجمهورية التركية وأمنها، بعد تقويض مساحتها إثر الانهيار العظيم للدولة العثمانية، إلا أن الخطة ارتكزت على محاولة تغيير الجذور الثقافية والتاريخية والوجودية للشعب الكردي الذى حُرم من أبسط حقوقه الحياتية. وبدأ العمل بالخطة بعد قمع ثورة شيخ سعيد بيران- من كبار شيوخ الطريقة النقشبندية- في سبتمبر 1925، استهدفت الخطة تذويب وصهر الكرد في بوتقة الثقافة التركية الحديثة، وبدأت بمنع الكرد بالتحدث باللغة الكردية في الأماكن العامة. وفى هذ الشأن يقول سادات أولوغانا – مؤرخ كردى تركى- ” خطة إصلاح الشرق كانت نتاجا لمؤسستين تأسستا وقتها حديثاً، الأولى لصناعة التاريخ، والثانية لصناعة اللغة، بهدف احتلال شمال كردستان، و معاها بدأت أولى سياسات القمع الثقافية: منع اللغة والثقافة الكرديتين، وبدأ احتلال شمال كردستان من جميع المناحى” ، فيما أكد حسن أوزغوينش – مؤرخ كردى تركى- ” بأن الخطة استهدفت تفتيت القوة المجتمعية للكرد وتشتيتها، ليتحولوا إلى جماعة ضعيفة ، بلا شك إصلاح الشرق كان مخططاً كبيراً وواسعاً لإزالة أى مساعي أو رغبات مستقبلية للكرد في الحصول على حريتهم”، أما عن بنود الخطة فنصت المادة الأولى على الاستمرار في فرض الأحكام العرفية حتى الانتهاء من تنفيذ هذا البرنامج، ومع ذلك فإن هذا لن يكون قصير المدى، ولا يمكن للمنطقة أن تتخلص بسهولة من الأحكام العرفية” التي أقرّها المفتش العام الذي كان يتمتع بصلاحيات مطلقة ولا يخضع للمساءلة. أما المادة الثانية على إيلاء المفتشية العامة مهمة تنفيذ المواد والبنود الواردة في الخطة، وبينها ما ورد في المادة الخامسة من السماح للمهجرين الأتراك القادمين من القوقاز والبلقان بالاستقرار في الأراضي التي تركها الأرمن، في المناطق الواقعة بين مدينة وان(فان) وميديات. وفرضت المادة الثامنة ضريبة خاصة على المناطق المشاركة في أعمال الشغب للتعويض عن الأضرار، كما نصّت المادة التاسعة على تهجير الكرد المشاركين في الثورات وتوطينهم في الغرب، أي في مناطق ذات أغلبية تركية. كذلك، نصت الخطة على نزع السلاح من الكرد ومحاكمة كل مَن يمتلك سلاحاً بدون رخصة أمام المحاكم العسكرية، وأجبرتهم على تشييد المباني الحكومية ومراكز الدرك في المنطقة. وتعتبر المواد 13، 14، 15، 16 و17 من الخطة مواد الصهر والانحلال، وبموجبها مُنع التحدث باللغة الكردية، وحُظر كل ما له علاقة بالثقافة الكردية من فنون وأدب وتاريخ، تحت طائلة السجن أو دفع غرامات مالية. أما باقي المواد فتدور في مجملها حول منع الكرد من الوصول إلى المراتب والمناصب المهمة، وعدم تعيين قضاة كرد في المحاكم العسكرية والمدنية، وضرورة تعليم النساء في المناطق الكردية في غربي الفرات، وفتح المدراس ليلاً ونهاراً لتعليم اللغة التركية، وتفريغ القرى النائية من سكانها وإقامة ثكنات عسكرية مكانها.
الوطن والوطن الأم
يقول أفلاطون في محاورة مِنِكْسينوس: “إنهم أبناء التراب، يسكنون ويعيشون في أرضهم … ومن الحق أننا يجب أن نبدأ بإطراء الأرض التي هي أمهم … فكما تُثبت المرأة أمومتها بإرضاع صغارها، فكذلك أثبتت أرضنا أنها كانت أمَّ الرجال؛ لأنها في تلك الأيام كانت هي وحدها، بادئ ذي بدء، تنتج القمح والشعير لطعام البشر.”، و يُعتبر امتلاكُ المرء لماضٍ، وأيضًا لمساحة ممتدة من الأرض، وإن كانت محدَّدة بحدود، هو مفتاحَ تشكيلِ الأمةِ كمجتمع ينتسب لإقليم ما. ومن الواضح أنه ليست كل أنشطة الماضي تُعَدُّ شديدةَ الأهمية لدرجةِ أن تتحوَّل إلى تقاليد يُعمل بها باستمرار؛ ومن ثَم تسهم في تشكيل معنى العلاقة الاجتماعية في الحاضر، إلا أن تلك التقاليد والمؤسسات التي تدعمها، والتي يُفهم عنها أنها أسهمت في تقرير وجود المرء؛ تبقى «حيَّةً» على يد كلِّ جيلٍ يستمر في الاحتفاء بها باعتبارها ذات أهمية.
وفى هذا الشأن يرى المفكر عبدالله أوجالان بأن تميزَ مصطلحا “الوطن” و”الوطن الأمّ” بالأهميةِ في عصرِ التحولِ القوميّ. حيث يُعَرِّفُ مصطلحُ “الوطنِ الأمِّ” السوسيولوجيُّ الجغرافيا التي خُلِقَت عليها ثقافةٌ ما، وأُسِّسَت فوقَها السوق، وتشكَّلَ عليها وعيٌ تاريخيّ، واستُوطِنَت ديموغرافياً لمئات السنين. يُعَدُّ الوطنُ مكاناً لا غنى عنه بالنسبةِ للرأسماليين المرتبطين بالسوق، وبدرجة أهم بالنسبة إلى الشعوب والأمم التي تُعتبر الخالقة الحقيقية للثقافة المجتمعية. لاينحصرُ الوطنُ في كونِه الأراضي التي يتحققُ عليها الإنتاجُ الماديُّ للحياةِ الاجتماعيةِ وثقافتُها. بل إنه مَهدُها أو المنزلُ الذي تتكونُ فيه روحُها وتاريخُها. والافتقارُ إليه (اصطلاحاً وروحاً) أنكى من الافتقارِ إلى المأوى والروح. ومَن يتركُ المجتمعَ بلا منزلٍ وروح، فبإمكانِه تركُه مفتقراً للثقافةِ الماديةِ والمعنويةِ أيضاً.”، ويعد ما سبق هو السبب المحوري في خطة إصلاح الشرق التى حاولت قمع الشعب الكردي ومحو هويته وتاريخه وثقافته، واجتثاث جذوره من أرضه ، وعلى النقيض تمامًا مما فعلته الجمهورية التركية، زاد إصرار الشعب الكردي في التمسك بالوطن الأم، ووقف مقاوماً لكل مساوئ الحداثة الرسمالية تجاه ظاهرةِ الوطن، هو طرحُها الزائفُ لمفهومِ الحدودِ الصارمةِ. بل اكثر من هذا، تقديس ذلك المفهوم الذى أهدر حقوق الشعب الكردي، وهنا يرى أوجالان أنه من المستحيل الوقوف على واقع المجتمع الكردي من دون وطن، كذلك هناك استحالة في بقاء مجتمع بلا وطن، فلا طريق أمام الكرد سوى التمسك لأخر كردى مؤمن بتاريخه وثقافته وهويته ووطنه، أو بالأحرى الحقيقة الكردية.
البُعد الوطني في الواقع الكردي
في ظل الممارسات المنفذة من قبل الجمهورية التركية تجاه الكرد وحقيقتهم التى لا يمكن إنكارها، لذا، كل النقاشات التى تدور حول وجود الكرد من عدمه، ما هو إلا سبيلاً لخروج القضية من مسارها، إلا أن السيد أوجالان قد وضع الأسلوب السديد للتعامل مع تلك القضية مرتكزاً على مصطلحي التحرر والحرية، لأن هذين المصطلحين هما الأجدر والأحق بمناقشة البعد الوطنى الكردي في الواقع الكردي، وهنا يقول “لقد بلغَ واقعُ الشعبِ الكرديِّ والأمةِ الكرديةِ أعلى مستوياتِ الوعيِ لأولِ مرةٍ في التاريخ. موضوعُ الحديثِ هنا هو قيامُ هذا الواقع، كاملاً أم ناقصاً، بتخطّي كينونتِه المنحصرةِ في وعيِ مجموعة نخبوية أو حزب ضيق. فالجسم الرئيسي للواقعِ شعباً وأمةً قد بلغ مرحلة إدراكِ الواقع. إنني أتحدثُ هنا عن أمة أو شعب باتَ يدركُ ذاتَه. والأمةُ بذات نفسها تعبر اصطلاحاً عن حالة ذهنية. وقد تحققَت هذه الحالة الذهنية آنذاك بالنسبة للكرد. لكن، يشقُّ علينا قول الشيءِ عينِه على صعيدِ التجَسُّمِ والملامح. ونظراً لاستحالةِ العيشِ بالذهن وحسب، فإنّ التحولَ إلى جسم عينى يُعبِّرُ –وسيعبِّرُ– عن تحقُّق ملموس مهم؛ وبالتالي عن وضع الحقيقة”.
لذا، فالواقع التركى المعاصر قد قام على الواقع الكردي، وخصوصاً بعدما حدث في عام 1925، أو بالأحرى قامت الجمهورية التركية الحديثة على أساس قتل الواقع الكردي أولاً، وأسهمت في ذلك بريطانيا – قوة عالمية مهيمنة آنذاك- فقد قامت الجمهورية بدعم بريطاني في الأساس ووفقا لمصالحها، فإن قيام تركيا كدولة حاجزة بين الشرق والغرب، لوقف الطموحات السوفيتية، وشددت بريطانيا قبضتها على تركيا بإسرائيل البدئية، أضف أيضاً أن تركيا كانت مرغمة على التخلي عن الموصل وكركوك لصالح بريطانيا، كي تتمكنَ من إحياءِ ذاتِها. والتخلي عن الموصل وكركوك يكافئ بدورِه ضرب الكرد في الصميم. بمعنى آخر، لقد بحثَت إسرائيل البدئية والجمهورية التركية والهيمنة البريطانية عن الضحية فداءً لمصالحِها المقدسة. فكان الكردُ ضحية. الأهم هو أن هذه المأساة الكردية المعاصرة، التي يمكن الابتداء بها من عام 1925م، لا تزال قائمة حتى يومِنا، مستفحلة ومتثاقلة باضطراد ودون انقطاع.
محطات في تحليل الهوية الكردية المعاصرة
تسببت نظرية بناء الدول القومية فى تهميش الهوية الكردية، ففى أعقاب انهيار الدولة العثمانية وتفتيتها وفق المصالح الإمبريالية الرأسمالية، ارتكازاً على معاهدة سايكس بيكو 1916- والتى تم فيها اقتسام الأراضى الكردية وتوزيع الثروات النفطية بين فرنسا وبريطانيا-، ثم بعد ذلك تأسيس الجمهورية التركية، وفرض الانتداب البريطانى الفرنسي على سوريا والعراق، ورسم الحدود كالآتي: اعتُبرت سكة الحديد حدوداً فاصلةً بين الجمهوريةِ التركيةِ والدولةِ السورية حديثتَي العهد، بينما خُطَّت الحدود العراقية التركية بموجب معاهدة الموصل. وعند هذا الحد، ضرب الأتراك عرض الحائط بالميثاق الملي الذى أقره مجلس المبعوثان (البرلمان) في 28 يناير 1920، وكان هذا تمهيد قوى لسحق الشعب الكردي ومحاولة شطبه من التاريخ وفرض التتريك عليه، والبدء تنظيم مصالح الحداثة الرأسمالية ، ثم توالت الأحداث بعقدة معاهدة أنقرة في يناير 1921، والتى ضمنت المصالح الفرنسية وأغلفت الكرد وأرضهم وتاريخهم وثقافتهم ، بل زاد الطين ، بعد اعلان الجمهورية العربية السورية لم يؤخذ في الاعتبار وجود الكرد ولا التركمان. انعكس ذلك سلباً على واقع الكرد في سوريا، فمنذ اعلان الجمهورية وهى تفتقر لنظام دستوري يرتكز على الوفاق الاجتماعي ، أضف أيضاً أن ما تبقى من الكرد في سوريا قد افتقروا لكل الحقوق القانونية والثقافية والاقتصادية والإدارية، وفرض عليهم فرض عمليات الانكار والإبادة والتطهير الثقافي.
وعلى هذا الأساس، استخدمت الحداثة الرأسمالية الكرد كأداة ضغط على الأتراك والعرب، يرى المفكر أوجالان أنه لا يُمكنُ تسليطُ الضوءِ على التاريخِ والوجودِ الكرديِّ المعاصر، إلا ضمن إطارِ هذا التكامل وارتباطاً بتقسيمِه وفق الحدودِ العراقيةِ–السورية. إنه تقسيمٌ يُخزن بين طياتِه كافةَ خياراتِ الإبادةِ والتطهيرِ كطاقة كامنة. كما تُعقَدُ عليه الكثيرُ من الحسابات:
1. أصبح الكُردُ في العراقِ ورقةَ ضغط لضبط العرب العراقيين. وطابعُ الحركةِ الكرديةِ في العراقِ يُثبِتُ هذه الحقيقةَ بما فيه الكفاية. فقد دُمِّر مؤخراً نظام صدام حسين بالاستنادِ إلى الكرد أساساً.
2. إنهم أهمُّ وسيلة تجنيد في التناقضِ الإيرانيِّ–العراقيّ. والتاريخُ يُثبتُ صحةَ ذلك بنحوٍ كاف.
3. جعل الكرد ورقة ضغط احتياطية للتحكمِ بالجمهوريةِ التركية. فجميعُ الأحداثِ التاريخيةِ المهمةِ الجاريةِ في كردستان منذ عام 1925م، بل منذ تمرد الصوران عام 1806م بزعامة بابان زاده عبد الرحمن باشا كأول تمرد كرديٍّ معاصر؛ قد باتت من أهمِّ وسائلِ التحكمِ بالحكامِ العثمانيين ثم بحُكّامِ الجمهورية، وإلهائِهم بها.
4. إنهم من أنسب الأدوات للإبقاء على الشرقِ الأوسطِ تحت حاكمية قوى الهيمنةِ العالمية، أي بريطانيا (منذ أعوامِ 1800م إلى سنةِ 1945م) وأمريكا (منذ عام 1950م إلى يومِنا).
5. الإبقاءُ عليهم بَيدَقاً مركزياً للتحكمِ بجميعِ أرجاءِ كردستان ذاتِها، ولإحكامِ القبضةِ على الطاقةِ الثوريةِ الكامنةِ للشعبِ الكرديّ وتحريفِها عن مسارِها (إذ يُزعَمُ العملُ على الوصولِ بالإدارةِ الكرديةِ في العراقِ إلى وضعٍ رسميٍّ منذ أعوامِ العشرينيات. علاوةً على أنّ جنوبَ كردستان يُحَوَّلُ إلى مركزٍ للأيديولوجياتِ القَبَليةِ البدائيةِ والدينيةِ المرتبطةِ بالحداثوية). وهكذا تَغدو كردستان والشعبُ الكرديُّ تابعَين لوسيلةِ ضبط وتَحَكُّم استراتيجية بناءً على التبعيةِ لهذا الجزءِ الصغيرِ وحُكّامِه.
6. استثمار مواردُها الباطنيةُ التي لا يُستَهانُ بها، وكذلك مياهُها وأراضيها الخَيّرة.
لذا، عملت الحداثة الرأسمالية على وضع الكرد في بوتقة يصعب الخروج منها، وضرب كل المشاريع الكردية التى لاتخضع لهم والتي تسهم في الحفاظ على الحقيقة الكردية ، وكذلك فرض واقع التبعية عليهم إذا كانوا يبغون في تأسيس كيانيتهم الحرة، إلا أن الحقيقة التى لا يُمكن إنكارها وتتضح بجلاء أن مشاريع التقسيم وإعلان الجمهوريتين العراقية والسورية وقبلها التركية، وممارساتها الأحادية كانت ضربة قاسمة للواقع الكردي والحقيقة الكردية، مما تمخض عنه عجز الكرد عن التحول إلى مجتمع قومي، وفرض واقع مأساوي عليهم. ويرى المفكر أوجالان أن الدولة القومية ليست حلاً بل الارتكاز إلى البنى الديمقراطية شبه المستقلة من أجل المجتمعات والشعوب والثقافات الاجتماعية كافة، وبالأخص من أجل الشعوب المتجاورة التي تحيا متداخلةً مع بعضها بعضاً. وقد تجلّى جلاء النهارِ أنّ الدويلات القوميةَ الشرقَ أوسطية التي بَنَتها الحداثةُ الرأسمالية غيرُ قادرة على العيش معاً ضمن أجواء السلام، ولا على إسعادِ مجتمعاتِها. مقابل ذلك، فإنّ نظامَ العصرانية الديمقراطية، الذي يطرحه أوجالان والذي يتطلعُ إلى سيادةِ الحريةِ والمساواةِ وشبهِ الاستقلاليةِ ضمن زخمِ الإرثِ الثقافيِّ المُعَمِّرِ آلافَ السنين، هو السبيلُ الأصحُّ والأفضلُ والأجملُ من أجلِ استتبابِ السلامِ المجتمعيِّ والحياةِ السعيدة لشعوب المنطقة، وعليه نعتقد أن حقيقة الشعوب المتجسدة في العصرانية الديمقراطية ستنتصر أمام الحداثة الراسمالية مهما كانت التحديات والظروف عاجلاً أم آجلاً، مع الفهم والعمل والنضال المشترك بين الشعوب لمستقبلاً أفضل وأكثر حرية وديمقراطية وعدالة.
سياسية التتريك : سياسة تبنتها الطورانية لمواجهة إخفاقات الدولة العثمانية في البلقان وانهيار سلطانها في المشرق العربى، ويُعد ضياء كوك ألب أبرز مهندسيها، والذى أسس قاعدة ” إن بقاء الدولة رهين بقيام أمة واحدة ألا وهي الأمة التركية “، وارتكزت مسارات التتريك على مرحلتين: الأولى مرحلة الاتحاد والترقي : حيث عملت جمعية الاتحاد والترقي على تتريك الجهاز البيروقراطي وتعميم الثقافة واللغة التركيتين، ونسج الأساطير عن علوّ شأن الأمة التركية وأن الخلاص يكمُن في توحيد الأمّة تحت راية الأتراك، ثم اتجهت إلى المدارس الأهلية والحكومية حيث تم تدريس قواعد اللغة العربية باللغة التركية، إلى أن وصلت للجيش العثمانى ، ثم الجمهورية للبدء في المرحلة الثانية، فعملت على تتريك الحياة القانونية والدستورية للدولة و خطابها الرسمي والتعليمي، ونجحت في تذويب بعض الشعوب غير التركيّة والجماعات العِرقية الصغيرة وابتعلت هوياتهم الفرعية، كما حدث في مسألة الّلاز، والتركمان، والشركس، والكرج .إلا أن الشعب الكردي الذى قاوم سياسة التتريك، مازالت الجمهورية التركية مستمرة في خطتها ضده، ولكن في إطار العثمانية الجديدة، ويتضح ذلك جلياً في شمال سوريا منذ سيطرتها على جرابلس عام 2016- ، وما تبعها من احتلالات لبقية المناطق، الحديث عن حقها التاريخي في بعض الأراضي السورية، لاسيما عفرين التي خصتها الدعاية التركية، وربطت الجمهورية التركية المدن السورية بالمحافظات التركية، وألزمت السكان باستخراج بطاقات شخصية جديدة، فضلاً عن تغيير أسماء القُرى والبلدات؛ خاصة في عفرين، وافتتاح فروع لمؤسسة البريد التركية الحكومية . (PTT) و فرض تعلم اللغة التركية بوصفها مادة أساسية، فضلاً عن تدريس المناهج التعليمية التي تعتمد على المنظور التركي، والتركيز أيضاً على المدارس الشرعيّة التي جرت توأمتها مع مدارس “إمام خطيب”؛ التركية ذات المناهج العثمانية.
جرابلس: مدينة سورية تقع أقصى الشمال، وهى كركميش العاصمة التاريخية للحثيين ، ولها أهمية استراتيجية كبيرة حيث أنها مدخل نهر الفرات، إذ تعتبر بوابة بلاد الشام إلى الأناضول وبوابة الأناضول إلى بلاد الرافدين، فهى أقدم من الدولة العثمانية والجمهورية التركية سنوات ضوئية.
تحدث مصطفى كمال أتاتورك أمام البرلمان عن الميثاق الوطنى (الملي) “بوصفه حركة عامة لكل الشعوب المسلمة التى تعيش ضمن الحدود الجديدة للدولة التركية الوليدة ” يجب عدم الاعتقاد بأن هذه الحدود تضم أمة مسلمة واحدة فقط، فهناك الأتراك وهناك الجركس. لذلك فإن الأمة التى نصونها وندافع عنها لا تتألف من قوم واحد . بل تتكون من مختلف الشعوب المسلمة … أكراد وأتراك على السواء . إن الأمر الوحيد المؤكد، هو أن الأكراد، والأتراك واللاز والجركس وآخرين، كل هذه الشعوب المسلمة ضمن حدود الأمة لها نفس الحقوق نفسها. لقد تعاهدت كلها على العمل معاً.”، ورغم هذه الادعاءات المتكررة بالمساواة في الحقوق والواجبات إلا أن القومية التركية الفاشية حاولت كثيراً في محو هوية الشعوب المسلمة غير التركية وخير دليل على ذلك القضية الكردية .
مراجع يمكن الرجوع إليها
1.عبدالله أوجالان : مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، ترجمة زاخو شيار ، المجلد الخامس، مركز القاهرة للدراسات الكردية، القاهرة ، 2016 .
2.تهاني شوقي عبدالرحمن : نشأة دولة تركيا الحديثة ( 1918- 1938) ، دار العالم العربى ، القاهرة ،2011.
3.تنار أكجام : الفعل المشين ” الإبادة الأرمنية ومسألة المسؤولية التركية” ، ترجمة كيفورك خاتون وانيس، دار الفارابي ، لبنان ، 2017.
4.نورة زريق ، أميرة خنوش : الحركة الطورانية في الدولة العثمانية ” المظاهر – التداعيات” ، رسالة ماجستير ، جامعة يحي فارس بالمدية ، قسم العلوم الإنسانية ، الجزائر ، 2020.
5.ستيفن جروزبى : الوطنية مقدمة قصيرة جداً، ترجمة محمد إبراهيم الجندي، محمد عبدالرحمن إسماعيل ، مؤسسة هنداوي لنشر المعرفة والثقافة، القاهرة 2017 .
6.منذر محمد : ” إصلاح الشرق”… خطة لتغيير هوية أكراد تركيا تعود إلى عام 1925، السبت 21 نوفمبر 2020 ، https://raseef22.net
7.شورش درويش : عن سياسة التتريك في شمال سورية ، https://npasyria.com/122511/