دراسات

المهجر الكردي بين تأكيد الهوية وتناقضات القيم والمصالح الأوروبية

تحليل الدكتور طه علي أحمد .. باحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية

مقدمة
مع تسارع وتيرة التحولات التي تطرأ على النظام العالمي World order ووحداته الفرعيةSub-systems ، وبخاصة في الشرق الأوسط، تبرز أهمية فهم جوانب القضايا الإشكالية المرتبطة بهذا التحول في إطار البحث عن آفاق المستقبل في ظل هذه التحولات، لاسيما وأن أهم هذه القضايا الإشكالية كالقضية الكردية والقضية الفلسطينية قد خرجتا إلى الوجود من قلب هذا النظام العالمي المضطرب والنظام الإقليمي في الشرق الأوسط “المهتز”، فضلاً عن دور القوى الإقليمية في خَلْقِ إشكالياتٍ مُزْمنةٍ أسهمت في تعقيد القضيتين الكردية والفلسطينية. في هذا الإطار، برز خلال السنوات الأخيرة دور الكرد في أوروبا كرافعةٍ أسهمت في دفع القضية الكردية إلى واجهة خريطة السياسات الدولية، بما يمكن أن يُؤَمِّنَ لها مساحةً في آتون التحولات التي يشهدها النظام العالمي شريطةً أن يصاحب ذلك استفادة عميقة من جانب الكرد من الدروس التاريخية في إطار علاقاتهم بالقوى الأوروبية بشكل عام. وبالتالي، فإن تناول موقف الدول الأوروبية، في ظل الوجود الكُردي النَشِط، من الأهمية بمكان عند تفكيك معضلة التحولات الجارية بفعل تفاقم الأوضاع في الأراضي الفلسطينية وتسارع وتيرة مساعي بسط النفوذ الإقليمي التركي أملاً في استعادة ما يدعيه الأتراك بـ “المجد العثماني”، حتى وإن كان ذلك على حساب القضية الكردية عبر طَمْسِ ملامح الهوية الكردية بأساليب عديدة كشفتها السياسة التركية تجاه الأزمة السورية والتي استخدمت فيها الأدوات العسكرية والاقتصادية وغيرها، وليس بعيداً عن ذلك الحرب الحرب الروسية الأوكرانية، الأمر الذي يجعل يعزز أهمية تفكيك الموقف الأوروبي من القضايا الإقليمية الشائكة كالقضية الكردية.

تنطلق هذه الدراسة من الافتراض بان الموقف الأوروبي الذي تشكَّل في ضوء وقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا، فضلا عن الحاضر الذي تتصدره مقتضيات المصالح بالإضافة إلى التطورات التي أحدثها النشاط الكردي في أوروبا على الأجندة السياسية للعمل الجماعي الأوروبي، إن كل ذلك يخضع لتناقضات أو معضلة تصارع القيم والمصالح، غير أن غلبةَ المصالح على النموذج القيمي المزعوم من جانب الأوروبيين، قد أسهمت في تعميق القضية الكردية، وعرقلة سُبل الحل السلمي، بل ونقل النموذج الديمقراطي الأوروبي للشرق الأوسط بشكل حقيقي.

أولا. أوروبا والقضية الكردية بين حقائق الجغرافيا ووقائق التاريخ
تقف القضيةُ الكردية في مكانةٍ محوريةٍ في خريطة التفاعلات الدولية الخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقةُ التي تحتل مكانةً خاصةً في الاستراتيجية العالمية، إما بسبب موقعها الجغرافي، كونها تقع جونب البحر المتوسط، أو الثروات التي بدأت تتكشف في أواخر القرن التاسع عشر في المنطقة. بجانب تشكَّل الموقفُ الأوروبي تجاه القضية الكردية في ضوء السيرورة التاريخية التي تضرب بجذورها في آتون الصراع الذي دار بين الامبراطوريتين العثمانية والصفوية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث كانت من أهم نتائج هذا الصراع إضعاف كِلا الطرفين (العثماني والصفوي) مما فتح الآفاق لتكالب القوى الغربية نحو السيطرة على الشرق الأوسط، لاسيما بعد بروز نابليون بونابرت على المسرح السياسي لأوروبا، فجاءت الحملة الفرنسية على مصر (1799م – 1801م)،  ثم تقارب فرنسا وبريطانيا مع إيران لمواجهة روسيا (القيصرية)، ثم الاحتلال البريطاني لمصر في 1882م لمدة سبعين عاماً، وصولاً إلى تقسيم مناطق تواجد الكرد (كردستان) بين اربع دول (تركيا، وإيران، والعراق، وسوريا)، لتترسَّخ القضيةُ الكردية مع إقامة الدول القومية (الفارسية والتركية والعربية) التي أسهمت في تأسيسها الدول الأوروبية، وعلى هذا تصبح أوروبا هي “بيتُ القصيد” في القضية الكردية التي عَقَّدَتها “سياسات التقسيم” التي مارستها الدول الاستعمارية، والتي شملت تقسيم كردستان بين الدول الأوربع، وكذلك تقسيم فلسطين (بموجب القرار 181 لعام 1947م). هنا تجدر الإشارة إلى معاهدة “لوزان” (1923م) التي صاغَت الملامح الرئيسة للقضية الكردية على مدار المائة عام التالية، إذ قضت على حقوق الكرد، وخيبت آمالهم، بإقامة أي كيان سياسي خاص بهم، وذلك بخلاف اتفاقية “سيفر” (1920م) التي منحتهم بعض الحقوق لإقامة كيان سياسي على بقعة جغرافية محددة.

كما يبرز الدعم البريطاني للحكومة الأيرانية في مواجهة تجربة إقامة “دويلة” كرديةٍ تحت مُسمى “جمهورية كردستان” في مدينة مهاباد بزعم أنها مدعومة من الاتحاد السوفيتي، إذ رأت لندن وواشنطن أن نجاح هذا الكيان الكردي الوليد من شأنه أن يُعَزِّزَ نفوذ السوفيت في إيران التي كانت تتفتح فيها آفاق الثروة البترولية آنذاك. كما تشير الوثائق أن بريطانيا لعبت دوراً في القضاء على جمهورية كردستان في إيران من خلال تقديم المشورة للحكومتين الإيرانية والعراقية، ففي يناير 1946، وقبل بدء هجوم القوات الإيرانية على مهاباد رتَّب الدبلوماسيون البريطانيون لقاءً بين قادة من الجيش العراقي والقادة العسكريين الإيرانيين لتنسيق الجهود بينهم إذا وقعت المعارك، وقد تم التوقيع آنذاك على “الاتفاقية الاقليمية ضد جمهورية كردستان، بإشراف بريطانيا. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية لصالح دول “الحلفاء” بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة تركَّز دور القوى الغربية المنتصرف في إضعاف جمهورية كردستان إيران وتقوية الحكومة المركزية في إيران لجعلها حليف استراتيجي لهم بالمنطقة لتعود مناطق كردستان كما كانت عليه قبل الحرب. وعلى هذا، تأسس الموقف الأوروبي من القضية الكردية في ضوء الوقائع التاريخية التي كرَّسَت الواقع الحالي.
ثانيا. المهجر الكردي في أوروبا بين المفهوم والممارسة
رُغم شيوع استخدام لفظ “الشتات” تاريخياً كمرادفٍ للمهجر، إلا أن استخدام لفظ “المهجر” كاصطلاحٍ يحمل نفس المعنى حيث يُشاع استخدامه بين الكرد أنفسهم وغيرهم من الجماعات التي تعيش نفس واقعها. و”المهجر”، أو “الشتات”، والذي يرادف للفظ Diaspora في اللغة الإنجليزية، يضرب بجذوره في اللغة اليونانية حيث ينقسم إلى جزأين الأول Speiro أي (يزرع) وحرف الجر dia بمعنى (فوق) over حيث كانت الكلمة في اللغة اليونانية القديمة تشير إلى الهجرة والاستعمار. كما يتأصَّل المصطلحُ أيضاً في اللغة العبرية حيث يشير إلى وجود اليهود خارج أرض فلسطين بعد ما يُعرف بـ “الأسر البابلي”. وفي العلوم الاجتماعية، يعد مصطلح الشتات حديث العهد، فعلى مدار النصف الأول من القرن العشرين كان يتطلب من المهاجرين التخلي عن هويتاتهم العرقية لصالح الاندماج في البيئات الثقافية المحلية في البلدان التي هاجروا إليها كالصينيين الذين انتقلوا إلى كندا والأفارقة في أوروبا والولايات المتحدة. غير أنه خلال النصف الثاني من القرن، وتحديدا في السبعينات، ومع تراجع نظريات الاستيعاب والاندماج مع تنامي الحوادث المرتبطة بالتمايز العرقي Racial discrimination، ظهر مفهوم “المهجر” لوصفِ مجموعات المهاجرين الذين يحاولون الحفاظ على تقاليدهم وهوياتهم الثقافية وتنامي مشاعر الانتماء إلى الجماعات فيما بينهم. وكانت أولى الاجتهادات النظرية حول هذا المفهوم قد ظهرت في ورقة نشرها غابريل شيفر Gabriel Sheffer بعنوان “الشتات (أو المهجر) المعبأ والبروليتاري “Mobilized and proletarian diaspora عام 1976؛ حيث رأى أن المهجر ينبغي أن لا يقتصر على الشعب اليهودي لأن هناك آخرون يوجدون في أوروبا من شعوب أخرى كالصينيين وشعوب الشرق الأوسط كالكرد والعرب وغيرهم. وبالتالي، هناك “الشتات اليوناني” و”الشتات الصيني” و”الشتات الكردي” وغيرهم. وقد استقر الباحثون في العلوم الاجتماعي على ثلاثة معايير لتعريف الشتات أو المهجر هي: 1) السعي الدائم للحفاظ على هوية جماعية خاصة لدى المغتربين والعمل على تطويرها، 2) وجود منظمة داخلية متميزة عن تلك الموجودة في البلد الأصلي أو البلد المضيف، 3) وجود خطوط من الاتصالات الدائمة مع الوطن الأم مثل التحويلات المالية أو الاتصالات الرمزية، 4) وجود ذاكرة جمعية أسطورية عن وطنهم وتاريخهم؛ 5) أن ينظروا إلى أماكن الاجداد كمكان للعودة النهائية عندما يحين الوقت المناسب. ويصنف ميشيل برونو (1995) الشتات إلى ثلاثة أنواع: 1) المغتربون من رواد الأعمال مثل الصينيين واللبنانيين؛ 2) الشتات الديني كالشتات اليهودي واليوناني، وأيضا المسلمين في أوروبا؛ 3) الشتات السياسي كالفلسطينيين والمنحدرين من إقليم التبت والكرد. كما يقدم روبين كوهين تصنيفا آخر يتضمن اربع أنواع من الشتات على النحو التالي: 1) شتات العمال كالأتراك والأكراد من أصل تركي في أوربا، وكذلك الهنود في أماكن عديدة حول العالم؛ 2) الشتات الإمبراطوري، مثل رَعايا الإمبراطورية البريطانية في أماكن وجودها التاريخية. 3) الشتات التجاري، كالصينيين واللبنانيين في أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا؛ 4) الشتات الثقافي مثل أولئك المرتبطين بقضية الكاريبي أو حتى الكرد ممن ينشغل بتطوير هويتهم الثقافية والحفاظ عليها.

في ضوء ما سبق، يمكن النظر إلى المهجر الكُرْدي  في أوروبا في إطار أكثر من فئةٍ من التصنيفات السابقة؛ لاسيما وأنهم الكرد في أوروبا يمثلون ما بين 20 – 25% من الأتراك الذين انتقلوا لأوروبا، ولألمانيا على وجه الخصوص في ستينات القرن العشرين، وقد استوعبتهم ألمانيا في إطار اتفاقيات خاصة بالعمالة وقد عرفوا بـ “العمال الضيوف” Gastarbeiter، لكنهم اندمجوا لاحقاً في المجتمع الأوروبي. كما أنهم أيضاً يمثلوا نموذا للشتات السياسي، أو العرقي حينما يتصل الأمرُ بمساعيهم للحفاظ على هويتهم الكردية وانخراطهم في الإطار العام للتفاعلات السياسية بين الدول الأوروبية وتركيا، كما وصل الأمر لحد دمج القضية الكردية في أجندات عمل المؤسسات السياسية الأوروبية تجاه تركيا.
مع ذلك، لا يوجد إحصاء دقيق لأكراد المهجر في أوروبا، حيث تسجل الاحصاءات في العموم بحسب البلد التي قدموا إليها وليس بحسب انتماءهم العرقي، إلا أن أحدث التقارير ذات الصلة بأعداد الكرد في أوروبا، قد تضمنه تقرير قدم إلى الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا عام 2006، قد أفاد بوجود حوالي 1.3 مليون كردي في أوروبا الغربية. وبموجب هذه التقديرات، يوجد نحو 800 ألف كردي في ألمانيا، وذلك في إطار برامج التوظيف حيث جاء غالبيتهم من تركيا. أما القادمين من العراق فيشكلون الجزء الأكبر من الكرد في بريطانيا والسويد وهولندا. وفي فرنسا يوجد نحو 150 ألف كردي، فضلا عن 100 ألف في المملكة المتحدة، و100 ألف في السويد، و80 ألف في هولندا، و60 ألف في سويسرا والنمسا. ونتيجة عدم تسجيلهم على أساس عرقي، فإن هذه الأرقام تظل تقديرية. لكن ذلك لا يمنع القول بأن ثمة اتفاق عام بأن المهجر الكردي هو الأكبر من حيث العدد حول العالم.

على أية حال، يقدم المهجر الكردي في أوروبا نموذجاً مثالياً للمهجر وفقاً لما تحدده الأدبيات سالفة الذكر، وغيرها لاسيما مع انتقال العقل والعمل الجمعي لدى الكرد في أوروبا من الوعي الفردي إلى مستوى الأطر التنظيمية وارتباطها بقضيةٍ إقليمية تاريخية هي القضية الكردية. فخلال النصف الأول من القرن العشرين، اتسم الوجود الكردي في أوروبا بالطابع الفردي، فلم يكن هناك حركة كردية جماعية إذ ارتبط وجود الغالبية منهم بالانخراط في منظومة العمالة الوافدة، سواء في دول أوروبا الشركة أو في دول “الكتلة الاشتراكية”. وقد تطور الأمرُ تدريجياً نحو تأسيس أشكالٍ بدائية من الجمعيات والكيانات بواسطة بعض المثقفين الكرد الذين هدفوا من خلالها للمحافظة على الثقافة الكردية فتأسَّس العديدُ من جمعيات الصداقة في المدن الأوروبية، ولم يكن ثمة حضورٌ كرديٌ سياسيٌ يُذكر اللهم إذا كان بشكلٍ فردي عبر أفراد مثل عبد الرحمن قاسملو ونور الدين ظاظا، وكلاهما ناشطان سياسيان حيث تزعم الأول الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني واغتيل في فيينا عام 1989م، والثاني سياسي واشعر كردي أسهم في تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، كما أسهم في تأسيس المركز الكردي في باريس عام 1983م.

وحتى أواخر سبعينات القرن العشرين كان المهاجرون الكرد في أوروبا يُحجمون عن الانخراط في العمل السياسي والسعي لتأكيد هويتهم الكردية. إذ كانوا يعرفون بين الأوساط الأوروبية كأتراك. وفي عام 1980، شهدت تركيا انقلابا أسفر عن تدفق أعداد كبيرة من الكرد المُسَيَّسِين، وكان معظمهم من الشباب. وبجانب انتفاضة السلطات التركية ضد الكرد في أعقاب هذا الانقلاب فضلا عن تناثر الأخبار عن انخراط بعض هؤلاء الشباب الذي اتجهوا لأوروبا في أعمال حزب العمال الكردستاني، وهنا بدأت محفِّزَات الوعي الذاتي الكردي تتدفق لدى أكراد المهجر.
في هذا السياق، شهد الربع الأخير من القرن العشرين تنام ملحوظاً لحركة الكرد في أوروبا، ولفهم ديناميات هذه الحركة وأصداءها السياسية، يمكن الاستفادة من بعض الأطر النظرية المفسرة للحركات الاجتماعية الحديثة مثل “نظرية الحركة الاجتماعية” Social movements theory، وبخاصة ما يتصل منها بما يعرف بـ “الفرص السياسية العابرة للحدود” Trans-national political opportunities ، والتي يمكن من خلالها تقديم نظرةً أوسع للتفضيلات السياسية التي تعبِّر عنها مجموعات المهاجرين. ورغم أنه غالباً ما كانت المجموعات الكردية في المهجر تفتقر إلى الوحدة والحجم والتحالفات السياسية المطلوبة لممارسة الدور الذي يعكس نفوذاً مناسباً داخل النظم السياسية الأوروبية، إلا أن السياق العام للمارسات والتعبئة الجماهيرية الكردية Mass mobilization في أوروبا يبين أنها تجنبت المأزق الذي وقعت فيه جماعات أو نماذج لأقليات أخرى للمهجر كالأقلية الصومالية في الولايات المتحدة، أو جماعة الهمونغ Hmong  ، وهي جماعة عرقية تتبع جنوب شرق آسيا، وجنوب الصين وفيتنام ولاووس وتايلاند، والمقصود هنا هو مأزق عدم الفاعلية Ineffectiveness وذلك رغم وفرة الفرص السياسية الكامنة لدى الولايات المتحدة وتفاعلاتها السياسية الخارجية. غير أنه من الملاحظ أن تسلل النفوذ الكردي في أوروبا لا يزال يتحرك على مستوى النخب أكثر منه على مستوى الشعوب بما لها من أهمية في البيئة الديمقراطية المتأثرة بحركة الرأي العام في أوروبا. وقد مكَّنت الفرص السياسية المتاحة لدى البيئة الأوروبية من فتح المجال أمام الحركة الكردية من خلال أنماط الاحتجاج المختلفة الموجهة نحو المؤسسات اأوروبية. وقد تحققت لدى الأكراد بالفعل درجة من الوصول إلى القنوات السياسية بالاتحاد الأوروبي وقد ارتبط ذلك بوضعية تركيا في السياق الأوروبي من خلال موقعها الجغرافي ورغبتها في الحصول على العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي، وقد تضافرت هذه العوامل وغيرها لتشكل قدرة الحركة الكردية على تحقيق وضع فريد في إطار منظومة العمل الجماعي الأوروبي.

وفي إطار هذه الحركة، ففي حين لم يكن بالإمكان استخدام اللغة الكردية، حتى مطلع الثمانيات، في مناقشات القضايا السياسية والاجتماعية العامة، توسع أكراد المهجر في تكوين الأطر المؤسسية، ففي عام 1983م تأسَّس المعهد الكردي في باريس على يد مجموعة من المثقفين الكرد في عدد من البلدان الأوروبية، وقد اضطلع هذا المعهد بتطوير اللغة الكرمانجية ومعيرتها، كما جمع المعهد مجموعة من الكتب والوثائق الثرية من التاريخ والثقافة الكردية. وقد توالى تأسيس المراكز المشابهة في بروكسيل (1989)، وبرلين (1994). كما تأسَّست مجلات كردية مما أسهم في إحياء الثقافة الكردية. وقد استفادة من ذلك اللغة الكردية التي زاد عدد المتحدثين بها وانتشرت المؤسسات العاملة على تدرسها لاسيما وأنها تحررت في أوروبا من نفوذ الدولة التركية أو الإيرانية وكذا الدول العربية (سوريا والعراق). وفي منتصف التسعينات بدأت تظهر القنوات التلفزيونية الناطقة باللغة الكردية مثل قناة “ميديا هابر” التي أسَّسَها حزب العمال الكردستاني في عام 1995، ثم توالت القنوات المشابهة فيما بعد.

وكان المهجر الكردي في دول، مثل السويد، يغلب عليه وجود المثقفين وذوي التعليم الجيد وبخاصة الكتاب والصحفيين والمفكرين، حيث كانت السلطات السويدية للمهاجرين عامة تسهيلات جيدة في التعليم والنشر والإذاعة لأعمالهم بلغتهم، وهو ما أفسح الطريق أمام خلق بيئةٍ رَحبةٍ أمام تطوير الثقافة الكردية وفروعها كالأدب والفن.

ومع تنامي الوعي بين أكراد المهجر، تزايد تفاعلهم مع قضايا مجتمعاتهم بالشرق الأوسط، وبخاصة بعد الحراكات السياسية واندلاع الأزمات التي شهدتها المنطقة في إطار ما يعرف بـ “الربيع العربي”؛ ففي أكتوبر 2014، نظَّم الكرد في فرنسا احتجاجاً على هجوم تنظيم داعش على مدينة “كوباني” في سوريا آنذاك. وفي 25 يوليو  2015م، قام مناصرو حزب العمال الكردستاني في فرنسا بمسيرة للاحتجاج على ضربات الجيش التركي على معاقل الحزب. وفي 2020م نجح الكرد في دفع الحكومة الفرنسية لتخصيص درس في المناهج الدراسية بالصف الحادي عشر في المرحلة الثانية، للحديث عن أن الكرد “شعب بلا دولة” وأنهم جالية تناضل من أجل الحصول على حكم ذاتي منذ بداية القرن العشرين.
ثالثا. القضية الكردية والتزامات أوروبا تجاه حقوق الإنسان

لطالما أعلنت الجماعةُ الأوروبيةُ أن سياستها الخارجية (فردية أو جماعية) ترتكز على الالتزامات بشأن حقوق الإنسان انطلاقاً من “الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان” (دخلت حيز التنفيذ في 3 سبتمبر 1953)، والتي تأسَّس بموجبها الإطارُ المؤسسي الأوروبي لحقوق الإنسان بكافة تكويناته مثل اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والعديدُ من الهيئات الرسمية وغير الرسمية، وصولاً إلى “الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية” التي أقرَّها الاتحاد الأوروبي في القمة الأوروبية، التي عقدت في مدينة نيس في 7 كانون الأول 2000، كإطارٍ تشريعيٍ يضم كافة الحقوق والحريات الفردية المدنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يتكون من ديباجة و54 مادة موزعة على ست أبواب هي (الكرامة الإنسانية، والحريات، والمساواة، والتضامن، وحقوق المواطن، والعدالة)، وقد اكتسب هذا الميثاق الصفةَ الإلزامية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مع دخول اتفاقية لشبونة حيز التنفيذ في 2009. ثم اعتمدت المفوضية الأوروبية في عام 2010 استراتيجية شاملة لحقوق الإنسان بما يتوفق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948.

رُغم هذه الترسانة التشريعية الأوروبية الضامنة لحماية حقوق الإنسان، ظلَّت السياسة الأوروبية رهينة لإشكاليةٍ صراعيةٍ بين القيم المتضمنة في هذه الجهود التشريعية – سالفة الذكر – ومقتضيات السياسة العامة للاتحاد الأوروبي، سواء على المستوى الجماعي أو الدول بشكلٍ فردي. فالسياسة الأوروبية تدور في فلك وحدات سياسية في المقام الأول (الدول والمؤسسات)، حيث ترتبط في تفاعلاتها باعتبارات المصالح ومحددات القوى بكافة اشكالها، الأول الذي يعجل من الطبيعة السياسية (البراجماتية) تعلو على كافة القيم المتضمنة في الترسانة التشريعية سالفة الذكر إذا تعارضت مع مصالح الدول، ولعل في الموقف الأوروبي من القضية الكردية والقضية الفلسطينية، وغيرها من الملفات الساخنة بالشرق الأوسط ما يؤكد على ذلك.

في هذا الإطار، وكواحدة من القضايا التي تندرج في الإطار الحقوقي، كونها تُعَبِّر عن مساعي الشعب الكردي لتأكيد حقوقه الثقافية والسياسية والاجتماعية، احتلَّت القضية الكردية مكانةً مُهِمَّة في إطار التعامل الأوروبي إما مع قضايا الشرق الأوسط بشكلٍ عام، أو منظومة حقوق الإنسان على الأراضي الأوروبية بشكلٍ خاص، لاسيما مع انتقال أصداء القضية الكردية إلى الأوساط الأوروبية، حيث شهد القرن العشرون تدفق مئات الآلاف من الكرد على مراحل متتالية بسبب الأزمات والصراعات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط،  إما في إطار هجرة الأتراك (ومن بينهم الأكراد) لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أو الهروب من سياسات النظام السياسي العراقي في عهد صدام حسين بعد انتهاء الحرب الإيرانية، أو في خضم الحرب الأهلية التي شهدتها سوريا بعد عام 2011. وبالتالي، أضحى الأوروبيون أمام ضرورة التعامل مع الإشكاليات الحقوقية ذات الصلة بالقضية الكردية. وفي هذا الإطار، أخذت القضية الكردية طريقها نحو الرأي العام الأوروبي من خلال عددٍ من الشخصيات العامة التي اضطلت بالحديث عنها، مثل زوجة الرئيس الفرنسي “دانيال ميتران” التي قادت حملةً لمناصرة القضية الكردية وقامت بتأسيس جمعيةٍ أطلقت علها اسم “جميعة فرنسا الحرية” وعقدت هذه الجمعية مؤتمرات عن الهوية الثقافية الكردية في 14 – 15 تشرين أول 1989 في باريس.
بل تخلَّلَت القضيةُ الكردية دوائر صنع القرار الأوروبية، حيث أصدر البرلمان الأوروبي في 18 أبريل 1991 قراراً بشأن القضية الكردية طالب فيه: “بإدراج المشكلة الكردية في جدول أعمال مؤتمرٍ للسلام في الشرق الأوسط، ووجوب اعتراف الدول التي يعيش بها الأكراد بوجودهم وحقهم في الحكم الذاتي”. وفي 28 مارس 1992، وبعد جولة محادثات أجرى وفدٌ بلجيكي مع جماعة حقوق الانسان الكردية والسكان المحليين في كردستان تركيا قال رئيس الوفد تيل ديكليرك “إن الأكراد الذين يعيشون في تركيا هم ضحايا انتهاكات لحقوق الإنسان، ومن الواضح أن تركيا غير مستعد بعد للانضمام إلى الجماعة الأوروبية. وفي نفس العام شارك عدد من الأحزاب الفرنسية اليسارية (الاشتراكي، الشيوعي)، في عقد في باريس حول القضية الكردية، بدعوة من المركز الثقافي الكردي بفرنسا، وبدعم من وزارة الخارجية الفرنسية، والذي تمخض عنه دعوة الدول الأوروبية لعقد مؤتمر في باريس لدراسة القضية الكردية في العراق.

وفي 13 نوفمبر 1993م، نظَّم الاتحاد الأوروبي مؤتمرا دوليا أكد فيه على ضرورة تقديم المساعدات الانسانية والمعنوية للأكراد، مع رفض التدخل العسكري المباشر لحل المشكلة. وفي مارس 1994م عقدت دانيال ميتران مؤتمراً صحفيا في مقر الأمم المتحده كرسته للحديث عما أسمته (معاناة الأكراد في تركيا) وجاء المؤتر بعد ان قابلت دانيال الأمين العام بطرس غالي، واسلمته نداء وقع من قبل كل حملة جوائز نوبر للسلام يدعو إلى حملة دولية للسلم بين الأكراد.
 كما أوصت الجمعية العمومية للمنظمة الأوروبية – المتوسطية لحقوق الإنسان في مؤتمر عقدته 7 – 8 نوفمبر 2000م في فرنسا، إلى ضرورة تنظيم مؤتمر دولي خاص بالقضية الكردية. وتحت شعار التهجير والترحيل القسري للأكراد في العراق وتركيا، عقد مؤتمر في باريس عام 2001 شارك فيه معظم الأحزاب الكردستانية والفرنسية واختصاصيون بالشؤون الكردية ومثل وزارة الخارجية الفرنسية جان بابتسيت فيفر المسؤول عن الملف العراقي في الوزارة. وقد تناول المشاركون في المؤتمر عدة موضوعات بينها ممارسات الحكومة العراقية في كردستان وتهجير الأكراد في مدينة كركوك الغنية بالبترول وتغيير واقعها السكاني بعد عام 1991م، كما دعا المؤتمر إلى حماية الاكراد لضمان حقوقهم القومية.
مع ظهور حزب العمال الكردستاني على الواجهة، انتقل المهجر الكردي في أوروبا إلى مستوى أكثر تأثيراً لاسيما مع انتقال قائد الحزب ومؤسسه عبد الله أوجالان إلى أوروبا، أملا في إحداث زخم خاص بالقضية الكردية بين الأوساط الأوروبية واللجوء إلى محكمة العدل الدولية لمواجهة الممارسات القمعية التركية بحقه هو وزملائه، وفي مقابل ذلك كثفت الدولة التركية ضغوطها على الأوروبيين. وقد تنوعت الأدوات التركية في هذا الصدد ما بين الاغتيالات واستخدام الضغط الدبلوماسي والتلويح بالتهديد بالمقاطعة الاقتصادية. ففي عام 1998م، وأثناء احتجاز السلطات الإيطالية لعبد الله أوجالان طالبت تركيا بتسليمه، لكن روما رفضت ذلك باعتبار أن تركيا من الدول التي يطبق لديها حكم الإعداد، وهو ما يتنافي مقررات حقوق الإنسان لدى الاتحاد الأوروبي، كما أن القضايا التي تزعم أنقرة تورط أوجالان فيها لم تقع على الأراضي الإيطالية، ونتيجة لذلك مارست أنقرة ضغوطا شديدة على روما وصلت إلى حد شن حملة شرسة بين الأتراك المقيمين في أوروبا، والتهديد بقطع العلاقات التجارية بين أنقرة وروما. ومع اشتداد الضغوط التركية على إيطاليا اضطر أوجالان لمغادرة إيطاليا حتى ألقي القبض عليه في مطار نيروبي في 15 فبراير 1999م، في إطار عملية استخباراتية تشاركت العديد من أجهزة المخابرات التركية والإسرائيلية والأمريكية والأوروبية. وفي 10 يناير 2013م اغتيال ثلاثة ناشطات من حزب العمال الكردستاني في المركز الثقافي الكردي بباريس، وقد أشارت التحقيقات إلى تورط عناصر من المخابرات التركية في عملية الاغتيال.

هنا يمكن القول بأن حزب العمال الكردستاني قد أطلق تحولاً تنظيميا من استراتيجيات مختلفة قتالية إلى سياسة أكثر تقارباً مع نماذج “الحركات الاجتماعية”، واتجه الحزب نحو بناء هياكل سياسية وثقافية واجتماعية متعددة، وتمكن بالفعل نم إنشاء شبكات قوية من المتعاطفين والمؤيدين في العديد من المدن الأوروبية في ألمانيا وهولندا وبلجيكا والسويد وفرنسا. وقد وصل تأثير هذه الهياكل في التسعينات إلى العديد من مراكز التأثير الأوروبية مثل منظمات حقوق الإنسان وأعضاء الاتحاد الأوروبي لممارسة الضغط على تركيا من خلال المؤسسات والهياكل السياسية الأوروبية الرسمية. وقد تحقق نجاحٌ نسبيٌ في هذا الصدد. ففي دول مثل اليونان وألمانيا تمكن النشطاء الكرد من تشكيل تحالفات سياسية للضغط في اتجاه استبعاد تركيا من الحصول على العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي. وقد أبدت الأحزاب اليسارية بالبرلمان الأوروبي استعدادها لإدراج المسألة الكردية في إطار المناقشات الخاصة بالإطار التفاوضي مع تركيا بشأن انضمامها للاتحاد.
رابعا. محددات السياسة الأوروبية تجاه القضية الكردية
ارتبط العمل الجماعي الأوروبي بنشوء الاتحاد الأوروبي كنموذجٍ تكامليٍ طرأ على العلاقات الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين، سعت نظريات التكامل الإقليمي Regional integration theories لتفسير كفاعل إقليمي فوق الدولة Supra-state regional actor  وشبكة من العلاقات الدولية المتداخلة والمتكاملة، غير أن المدرسة الواقعية الجديدة Neo-realism قد تناولت الاتحاد الأوروبي لاحقا في سياق المصالح الأمنية للدول الأعضاء فيه بالمقام الأول. وعند النظر إلى الجماعة الأوروبية، مُمَثَّلةً في أطُرها المؤسسية (الاتحاد الأوروبي) بالقضية الكردية، يتعين علينا أن نأخذين بعين الاعتبار اثنتين من الديناميكيات المترابطة؛ تتمثل الأولى في مقتضيات البيئة الخارجية المتغيرة والحقائق الجيوسياسية الناشئة، بينما تتعلق الثانية بتطور الاتحاد الأوروبي باعتباره كياناً سياسياً يتجه نحو العقلانية Rational التي ترتكز على المصالح المشتركة لأعضائه. وهو ما يفرض علينا النظر إلى مصالح الجماعة الأوروبية في القضية الكردية في ضوء الدوافع المادية والمعنوية التي تشكل البيئة الخارجية لمصالح الاتحاد الأوروبي والتي تتمثل في الدوافع والأهداف والأولويات المشتركة الدائمة والمخصصة التي تمت صياغتها في السياق المؤسس للاتحاد الأوروبي والتي عبر عنها الاتحاد ويمثلها.
وفي هذا الإطار، يلاحظ على السياسات الأوروبية تجاه القضية الكردية أنها لا تنتظم في نسق واحد باعتبار القضية الكردية حالة واحدة، بقدر ما تباينت السياسات الأوروبية في ضوء التوزيع الجغرافي للكرد، بما يعزز المنظور الجيوستراتيجي Geostrategic approach كمدخل لفهم الموقف الأوروبي تجاه القضية الكردية. ولهذا، تتنوع السياسات الأوروبية بشكل ملحوظ فيما بين الدول الأوروبع التي تتوزع عليهم القضية الكردية (تركيا، والعراق، وسوريا، وإيران) وفقاً لمصفوفة المصالح الأوروبية تجاه هذه الدول كل على حدة.

فالسياسة الأوروبية تجاه القضية الكردية على الجبهة التركية، قد ارتبطت بالوضعية الجيوستراتيجية التركية بالنسبة للمصالح الأوروبية في المقام الأول، حيث تقع بين بحر قزوين والشرق والأوسط من جهة وأوروبا من جهة أخرى. إذ تعمل تركيا كدولة عبور للغاز الطبيعي من أذربيجان في طريقه إلى أوروبا عبر خط أنابيب الغاز عبر الأناضول. وهو ما يرفع الأهمية الجيوستراتيجية للمناطق التي يتواجد بها الكرد؛ فمشروع خط أنابيب باكو هو مشروع لو تم تنفيذه فإنه كان سيحمل قسما ًكبيراً من الغاز الطبيعي في بحر قزوين إلى أوروبا مروراً بالمناطق الكردية. كما يلعب العامل الديمغرافي دوراً مهماً لاسيما وأن الأكراد يمثلون نحو 20% من سكان تركيا، بما يعني أن ما بين 17 – 20 مليون كردي سوف يصبحون بين مواطني الاتحاد الأوروبي حالما حصلت تركيا على عضويته، كما أن جنوب شرق تركيا، التي يشكل الكرد فيها أغلبية ساحقة سوف يصبحون حجر الزاوية الخارجية للاتحاد الأوروبي على حدوده الجنوبية الشرقية.
أما العراق، فيمتلك كمية هائلة من احتياطيات النفط والغاز الطبيعي (تقدر بـ 145 مليار برميل وفقا لمنظمة أوبك، فضلا عن أكثر من 3.7 تريليون متر مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة. فضلا عن الأهمية الجيوستراتيجية لأوروبا حيث أصبح منطقة عازلة بين أوروبا وإيران منذ “الثورة الإسلامية” في عام 1979م. كما أنه وفقًا للمراجعة الإحصائية السنوية للطاقة العالمية التي تجريها شركة بريتيش بتروليوم لعام 2013م، تمتلك منطقة كردستان العراق ما يقدر بـ 45 مليار برميل من احتياطيات النفط، والتي، إذا كانت منطقة كردستان العراق دولة، فإنها ستجعلها الدولة التي تمتلك عاشر أكبر احتياطيات نفطية على مستوى العالم.

وبالنسبة لسوريا، فلطالما حرص الأوروبيون على تعزيز التعاون معا كونها يمكن أن تلعب دوراً محورياً كدولة عبور بين الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط. فضلا عن الثروة النفطية في الأراضي السورية والتي قدرت عام 2015م، بنحو 2.5 مليار برميل من النفط الخام المؤكد و8.5 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي المؤكد، ورغم أن احتياطيات الموارد الطبيعية في سوريا صغيرة نسبياً وفقاً للسياق العام للشرق الأوسط، إلا أن سوريا تبدو دولة مهمة لأوروبا كدولة عبور محتملة لنقل النفط والغاز الطبيعي إلى أوروبا.

وفي إيران، حيث يشكل الكرد فيها ثالث أكبر مجموعة أقلية (بعد الفرس والعرقية الأذرية)، ومع تقديرات تشير إلى أن العدد يتراوح بين 10 و12% من إجمالي سكان إيران البالغ 84 مليونًا في عام 2020م، فقد تحددت مكانتها في الاستراتيجية الأوروبية التي أقرها البرلمان الأوروبي في عام 2016م، والتي وضعت المفوضية الأوروبية إطار للعمل “الرباعي” معها على أساس “المشاركة”، وذلك في ضوء أهميتها الجيوستراتيجية والاقتصادية بالنسبة لأوروبا.
وعلى أساس ما سبق، تعامل الأوروبيون مع القضية الكردية في إطار “نهجٍ تكتيكي” قائم على مصالح الدول الأعضاء، كاليونان – على سبيل المثال – التي تستفيد من تضمين القضية الكردية بجدول أعمال الاتحاد الأوروبي للضغط على تركيا الخصم الاستراتيجي لها. وهو ما هيأ للمهجر الكردي إمكانية لعب دورٍ في الدفع بالقضية الكردية لواجهة المشهد السياسي الإقليمي بأوروبا. وقد تعزز ذلك من خلال حزب العمال الكردستاني الذي لعب دورا في تعبئة أكراد المهجر كأداة لتسييس القضية الكردية في البلدان الأوروبية، وسبيل لخلق الوعي حول نضال الكرد ودفعهم بطرق لم تكن ممكنة في تركيا. كما وفرت تعبئة الأكراد لحزب العمال أداة لإطلاق مطالب سياسية عبر البلدان المضيفة؛ فمنذ النصف الثاني من الثمانينات فصاعدا، بدأ حزب العمال في تنظيم مظاهرات وحملات عامة مثل الإضرابات وغيرها، حتى صدرت أولى لوائح الاتحاد ضد الناشطين الأكراد في المحاكم الفيدرالية والمحلية الألمانية أواخر الثمانينات. وفي مقابل نشاط حزب العمال الكردستاني قادت تركيا حملة ضد ألمانيا للمطالبة بحظر الأنشطة الكردية والمطالبة بتسليم أعضاء حزب العمال. وكان للجهود التركية أثرٌ تمثل في أن أصبحت ألمانيا أول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تصنف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية في عام 1995م. وإن كان ذلك لم يسفر عن خلق تحول استراتيجي لألمانيا بعيدا عن القضية الكردية، لاسيما وأن المواطنين الألمان من أصول كردية أصبح لهم ثقلاً انتخابياً في ألمانيا وقد اختلف الموقف الألماني عن الفرنسي الذي تأثر كثيراً بإرثه الاستعماري ومصالحه في الشرق الأوسط.

خامسا. انعكاس المصالح على السياسات الأوروبية تجاه القضية الكردية
بناءً على ما يوفره الإطار السابق للمصالح الأوروبية، والذي يتحدد في ضوء الجيوبوليتيك العام للشرق الأوسط، تحدَّدت اتجاهات المصالح الأوروبية تجاه القضية الكردية، وقد أدى هذا التنوع في كثافة المصالح إلى انخراط الأوروبيين بدرجات متباينة في القضية الكردية، بل وتنوع أدوات التدخل ما بين التأكيد على مدخل حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية، والانخراط الدبلوماسي المعزز لمصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالشرق الأوسط.

ففي العراق كانت فرنسا أول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تفتح قنصلية عامة في أربيل عاصمة كردستان العراق، في 1 يونيو 2008م. وتبعتها ألمانيا، (في 18 فبراير 2009م). وبحلول عام 2020م، كان لـ 15 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي ممثل من نوع ما في إقليم كردستان العراق، بالإضافة إلى مكتب اتصال خاص بالاتحاد الأوروبي، الذي افتتح في 23 أغسطس 2015م. كما تمت استضافة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني من قبل رئيس البرلمان الأوروبي ولجنة الشؤون الخارجية أربع مرات بين عامي 2009 و2017. غير أنه مع لجوء سلطات الحكم الذاتي في الإقليم للاستفتاء على الانفصال عن العراق الذي أجري في 25 ديسمبر 201، والذي اسفرت نتائجه عن تأييد الانفصال بنسبة 92%، تمثل الموقف الأوروبي في معارضة نتيجة الاستفتاء، وهو ما عبر عنه بيان أصدرته الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمنية، فيديريكا موغيريني، بتاريخ 19  سبتمبر 2017، حيث أكدت فيه “دعم الاتحاد الأوروبي الثابت لوحدة العراق وسيادته وسلامة أراضيه”. وجاء في البيان أيضًا أن “الإجراءات الأحادية الجانب، مثل الاستفتاء المقترح، تؤدي إلى نتائج عكسية ويجب تجنبها”. كما أعربت ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، وهولندا والمجر والدنمارك وإسبانيا وروماني عن معارضتهم للاستفتاء باعتباره إجراءً أحاديًا من جانب الأكراد، وقد تمثل الدافع وراء الرفض الأوروبي لهذا الاستفتاء في التخوف من انتقال نموذج كردستان العراق في حالات مشابهة بدول أوروبية مثل إسبانيا (إقليم الباسك)، وكذا الحركات الانفصالية في اسكتلندا بالمملكة المتحدة.

وفي الحالة السورية، فرغم القيود التي فرضتها التزامات حقوق الإنسان على الدول الأوروبية تجاه أنقرة، إلا الموقف الأوروبي العام من الانتهاكات التركية المتواصلة منذ عام 2012 بمناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ذات الأغلبية الكردية، قد تمثل في غض الطرف عن كافة الأعمال العدائية التركية مثل عملية درع الفرات (2017)، وعملية غصن الزيتون (2018)، وعمليتي المخلب و”نبع السلام (2019)، والمخلب والسيف (2022)، وغيرها من العمليات المتواصلة أملاً في إجهاض تجربة الإدارة الذاتية لمناطق شمال وشرق سوريا، مع تواطؤٍ ملحوظ من الأوروبيين الذين اقتصر وجودهم في سوريا على حماية مصالح خاصة بهم كفرنسا – على سبيل المثال – التي تركز على حماية منشآت تابعة لها بينها مصنع لأسمنت يسمى “لافارج” في جنوب كوباني، ما ينعكس على مساعي فرنسا لتحييد العمليات التركية عن هذه المنطقة. وغير ذلك، فقد تركزت ردود الفعل الأوروبية على العمليات التركية في سوريا على بيانات الإدانة المقيدة أمام تهديدات الرئيس التركي للأوروبيين بدفع المهاجرين إلى الحدود الأوروبية.

الخاتمة
تشكل المهجر الكردي في أوروبا على مدار العقود التالية على الحرب العالمية الثانية، في إطار موجات متعاقبة من الهجرات الكرد لأوروبا. وقد تطور المهجر الكردي من العمل الفردي المتمحور حول البعد الثقافي إلى المزيد من الانخراط في القضايا السياسية، وهو ما أسهم في تطويره حضور حزب العمال الكردستاني في أوروبا، لاسيما مع وجود أحد شخصية قيادية ذات رؤية فكرية وحركية متجذرة مثل عبد الله أوجالان في أوروبا خلال النصف الثاني من التسعينات. وقد استفادت الحركة الكردية في أوروبا من ذلك بتوسيع نطاق حضورها في الأوساط الأوروبية المختلفة. وقد استجابت بالفعل قطاعات واسعة من النخب الأوروبية لمطالبات الكرد بإدراج قضيتهم على أجندة الاتحاد الأوروبي في الإطار التفاوضي مع تركيا بشأن أنضمامها للاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن المهجر الكردي قد اكتسب صوا داخل منظومة صنع القرارات الأوروبية، وهو ما يؤكد على استفادة الكرد في أوروبا من هيكل الفرص السياسية ذات الصلة بالعلاقات المتوترة بين تركيا ودول أوروبية مثل اليونان وقبرص وغيرها. بجانب ذلك، فقط ألقت أنشطة المهجر الكردي بظلالها على مناقشات حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي. كما توازى ذلك مع قيام العديد من البرلمانيين الأوروبيين بتطوير علاقات اعتماد متبادلة مع نشطاء الحركة الكردية. ومع اتساع نطاق الفرص السياسية، أصبح للحركة الكردية ور في التقارير الناقدة لأوضاع حقوق الإنسان في تركيا.

رغم ذلك، يبقى الإطار العام للسياسات الأوروبية تجاه القضية الكردية محكومات بمحددات المصالح المتغيرة بين دولة وأخرى بما يسفر عن تنوع مخرجات القرارات الأوروبية فيما بين الدول الأربع التي يتوزع عليها الوجود الكردي (تركيا والعراق وسوريا وإيران)، بحسب كثافة المصالح الأوروبية. وهو ما يعيدنا إلى المربع الأول لنشأة القضية الكردية وتناقضات المواقف الأوروبية، فأوروبا التي اعتمدت في الفترة بين عامي 1986 – 1994م، 16 قرارا بشأن الأكراد، كان منها خمسة تخص أكراد تركيا على وجه التحديد، هي ذاتها التي لجأت في بعض الأحيان لنصرة الحق الكردي، بأعمال رمزية مثل منح جائزة ساخاروف لعضوة البرلمان الكردية المسجونة (ليلى زانا) في عام 1995م، هي ذاتها أوروبا التي تواطأت مع الأتراك ونسفت معاهدة سيفر 1920 لصالح معاهدة لوان 1923م، وهي ذاتها التي ترفض إيجاد حل حقيقي للقضية الكردية.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى