يندرج الصراع الحالي بين إيران وكلًا من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تحت عنوان “الحرب في غزة”، فمنذ أن شنت حركة حماس هجومها على إسرائيل يوم 7 أكتوبر 2023، أعلنت إيران مباركتها له، وأشاد المرشد الأعلى علي خامنئي بما سماه “الزلزال المدمر” لإسرائيل، وقال “نحن نقبل أيادي أولئك الذين خططوا للهجوم”، وبالرغم من نفي إيران تورطها في الهجوم، إلا أنها لم تسلم من الاتهامات الإسرائيلية وذلك لموقفها الثابت في دعم ما يسمى بمحور المقاومة، وهو تحالف من الجماعات المعارضة لإسرائيل والنفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، ويشمل حركة حماس وحزب الله اللبناني والميليشيات في العراق وجماعة الحوثيين في اليمن.
وفي إطار العدوان المتواصل حتى اليوم من جانب إسرائيل على قطاع غزة والذي خلف أكثر من 25 ألف شهيد فلسطيني، عملت تلك الفصائل على “توحيد الساحات” من خلال تحريك أكثر من جبهة في مواجهة إسرائيل، وكرد فعل من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على ذلك قاما بتنفيذ عمليات استهداف لقيادات وميليشيات موالية لإيران لما تفرضه تحركات تلك الفصائل من تهديدات مباشرة لمصالحهما في الشرق الأوسط.
صراع متعدد الجبهات
بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، سعت إيران إلى تصدير أيديولوجيتها وبناء ثقلها السياسي في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وكانت إحدى أدواتها للقيام بذلك ما سمي بـ “نصرة المستضعفين” خارج الحدود الإيرانية، حيث احتوى دستور 1979 على ذلك وجاء فيه: “نظرًا للمحتوى الإسلامي للثورة الإسلامية في إيران التي كانت تستهدف النصر لجميع المستضعفين، على المستكبرين، فإن هذا الدستور سيعد الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد، وخارجها، خصوصًا بالنسبة لتوسيع العلاقات الدولية، حيث يسعى مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية إلى بناء الأمة الواحدة في العالم”، وفي إطار تلك الرؤية أسست شبكة من الوكلاء والحلفاء تمتد عبر العراق ولبنان وسوريا واليمن وأماكن أخرى، ورغم أن كل أعضاء هذه المجموعة لا يشاركون إيران في الأصولية الدينية، فالأعضاء السنة لا يشاركونها حتى عقيدتها، إلا أن هدف مقاومة النفوذ الغربي ومواجهة إسرائيل، يعد العامل المشترك بينهما.
وقد كان لافتًا أن تلك المليشيات والمتمركزة في كل من العراق وسوريا ولبنان شاركت سريعًا في التصعيد بين إيران وإسرائيل منذ عملية “طوفان الأقصى” بطريقة أو بأخرى حيث بدأت المواجهات بين حزب الله اللبناني وإسرائيل في اليوم التالي للعملية، كما هددت جماعة الحوثيين بدخول الحرب واستهداف مواقع إسرائيلية بعد يومين من تنفيذ العملية، ونفذت تهديدها بالفعل بعد يومين من التصريح به وقامت بإطلاق صواريخ تصدت لها القوات البحرية الأمريكية المتواجدة في البحر الأحمر، وفي يوم 17 أكتوبر 2023، أعلنت حركات المقاومة في العراق استهداف قاعدة أمريكية في الغرب تسمى “عين الأسد”، واستهداف “ثكنة التنف” بسوريا يوم 19 من الشهر نفسه، وقد ردت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على ذلك بتوجيه ضربات استهدفت قادة بعض تلك الميليشيات في العراق وسوريا.
هذا التصعيد بين الجانبين كانت له ارتداداته على منطقة الشرق الأوسط، ويمكن قراءة ذلك على النحو التالي:
1- لبنان: ينذر التصعيد بين حزب الله وإسرائيل بمخاطر تغير قواعد الاشتباك الحالية التي ظلت مقتصرة على مسافة محددة لا يتجاوزها أي من الأطراف لتفادي اتساع نطاق الصراع، ويعزز من هذا الاحتمال انتهاك إسرائيل للسيادة اللبنانية، بشكل فسرته إيران وحزب الله بأنه محاولة إسرائيلية لدفع الطرفين نحو الانخراط في حرب مفتوحة خلال المرحلة القادمة. كما كان له آثاره على الداخل اللبناني، حيث عدت ارتدادات حرب غزة سببًا في إعادة الانقسام السياسي داخل المجتمع اللبناني، حول من هم “مع الحرب” ومن هم “ضد الحرب”، فضلًا عن اتساع الأزمة الاقتصادية.
2- اليمن: واصلت ميليشيا الحوثي في اليمن تنفيذ مطالبات المرشد الأعلى الإيراني بـ “قطع الشرايين الحيوية” لإسرائيل، وتستمر حتى الآن في استهداف السفن والأراضي الإسرائيلية إلى جانب استهداف الممر المائي الاستراتيجي للسفن التجارية، فمنذ بداية الصراع في غزة أطلقت قوات الحوثيين ما يزيد عن عشرة صواريخ والعديد من الطائرات المسيرة وقمت بتعطيل طرق الملاحة الدولية الرئيسية، من خلال إجبار شركات الشحن على تحويل مسار سفنها لتبحر آلاف الكيلومترات حول رأس الرجاء الصالح، خوفًا من اختطاف سفنها. وردًا على ذلك، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا شن هجمات على الحوثيين في البر اليمني بداية من 12 يناير 2024 بعد توجيه العديد من التهديدات والرسائل التحذيرية، وأصابت الهجمات ما يقرب من 30 موقعًا من بينها قاعدة الديلمي الجوية شمال صنعاء، ومطار الحديدة، ومعسكر شرق صعدة، ومطار تعز، ومواقع عسكرية في حجة، وتعد هذه الضربات الأمريكية هي الأولى من نوعها على الأراضي اليمنية منذ عام 2016، لذا تراوحت ردود الفعل الدولية والإقليمية بين التحفظ والتحذير من خطر فتح جبهة جديدة للصراع في البحر الأحمر، كما أنها تمثل تهديدًا للجهود المبذولة للوصول إلى تسوية للصراع في اليمن.
3- سوريا: توجد العديد من الميليشيات الموالية لإيران مثل حزب الله العراقي وحركة النجباء اللذان قاما منذ بدء الحرب الإسرائيلية بشن ضربات عسكرية متنوعة على القواعد الأمريكية هناك، نتج عن ذلك استهدافات إسرائيلية على مطار دمشق وما حوله من مناطق تعتبرها إسرائيل مرتكزات للبنية العسكرية للمليشيات الموالية لإيران فى سوريا، في ظل غياب أي دور للنظام السوري.
4- العراق: في حين سعى رئيس الوزاء محمد شياع السوداني نحو تنفيذ وعوده بأن يجعل من عام 2024 “عام منجزات”، فإن التحديات التي فرضتها ارتدادت الحرب الإسرائيلية على غزة وتفاعل عدد من الفصائل العراقية المسلحة القريبة من إيران معها، أخذت تلقي بظلالها على الداخل العراقي، وسط انقسام سياسي ومجتمعي في كيفية التعامل معها، حيث تكثفت الهجمات الإيرانية والتي تستهدف القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي، وبلغت أكثر من 150 هجومًا في كل من العراق وسوريا، منذ منتصف أكتوبر 2023، وفقًا للبنتاجون، جاء هذا التصعيد الإيراني بعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية باستهداف مقر قوات الحشد الشعبي في العراق، وكان آخر الهجمات الأمريكية يوم 23 يناير 2024 حيث قامت واشنطن بشن 3 ضربات على منشآت في العراق تستخدمها فصائل مسلحة مدعومة من إيران، وهو ما اعتبرته الحكومة العراقية اعتداءعلى سيادة الدولة.
تأتي هذه الضربات الأميركية لتزيد الضغط الذي تتعرض له واشنطن من جانب بغداد لسحب قواتها من العراق، وذلك في ظل المخاوف الشعبية من أن التوترات بين الولايات المتحدة وإيران ستجر العراق إلى صراع أوسع، هذا بجانب ما كشفت عنه الهجمات من ثغرات في قدرة بغداد على الدفاع عن سيادتها ضد أي هجوم خارجي، مما يجعلها أكثر عرضة للضغوط الإيرانية.
سيناريوهات متوقعة
تفرض الارتدادات الإقليمية التي نتجت عن عملية “طوفان الأقصى” والتي تلاها تصعيد إيراني في عدة جبهات سيناريوهات عديدة على منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة القادمة يمكن قراءتها فيما يلي:
1- استمرار تبني إيران استراتيجية “الصبر الاستراتيجي”: في حين التصعيد الذي تقوم به إيران من خلال الميليشيات التابعة لها ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية بداية من الضربات الصاروخية المتفرقة التي يشنها حزب الله في جبهة إسرائيل الشمالية، ومهاجمة القواعد الأمريكية من خلال الفصائل الموالية لها في العراق، وإعاقة الشحن البحري في البحر الأحمر وخليج عدن من خلال الحوثيين، إلا أن طهران لا تريد الانجراف إلى حرب أوسع، يفسر ذلك عدم انخراطها بشكل مباشر في الحرب وعدم إظهارها رغبة في توسيع نطاق التصعيد الحالي، لوضعها في الاعتبار أن تلك الحرب قد تتغير حساباتها وإن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يمكن أن يتوقف في أي وقت، لذا لا تريد اتخاذ خطوات قد تكلفها كثيرًا خاصة مع قرب الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم واحتمالات فوز الرئيس السابق دونالد ترامب والذي كان يحمل لها كرهًا كبيرًا، لذا فهي ما زالت حريصة على ضبط حدود انخراط الفصائل التابعة لها في التصعيد ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي تبدو تحركاتها كوسيلة ضغط على المجتمع الدولي لكبح جماح إسرائيل لعدم توسيع الحرب على قطاع غزة.
2- توجيه ضربة مباشرة لإيران: تزايدت التكهنات بأن تتحرك الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بتوجيه ضربة استباقية نحو إيران، يعزز تلك التكهنات الوجود العسكري الأمريكي الذي بات يحاصر إيران من جهات عديدة، لذا فإن إيران من خلال الضربات التي نفذتها خلال الأيام الأخيرة واستخدمت خلالها صواريخ باليستية وطائرات من دون طيار، بجانب إعلانها يوم 20 يناير 2024 إطلاق القمر الصناعي الجديد الذي أطلق عليه “ثريا” عبر حامل الأقمار “قائم 100″، حيث تم وضع هذا القمر الصناعي في مدار يبعد 750 كم عن سطح الأرض، أرادت توجيه رسائل تحذيرية بأنها تمتلك من القدرات العسكرية ما يمكن أن يصل إلى مصالح إسرائيلية مؤثرة، وذلك لمنع إسرائيل من التفكير في الإقدام على توجيه ضربات أكثر قوة لها.
3- مواصلة التصعيد: في ظل استمرار تبني إسرائيل هجمات عسكرية ضد القادة العسكريين والعلماء النووين، قد تصل حتى في الأراضي الإيرانية، وهو ما يشير إليه أحدث تصريحات لنتنياهو، إلى جانب تصاعد حدة الضغوط الأمريكية على وكلائها في المنطقة، والتي ربما سيكون تأثيرها الأكبر على الداخل اللبناني التي قد يطال مزيدًا من الاستهداف للقيادات العسكرية لحزب الله وعناصر المقاومة هناك، وسيقابل ذلك تزايد وتيرة الهجمات التي ينفذها محور المقاومة سواء في سوريا أو اليمن أو العراق.