المرأة

سكينة جانسيـــز: ضفائـر الآلام والآمال في المخاض الثوري

تحليل د. محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر

ومازلنا نصارع في بحر سكينة جانسيز الزاخر، متلاطم الأمواج الهادرة، بحثًا عن مفردات تكوينها الأيديولوجي وصدفات بنيانها الثوري. وتُعد فترة تعليمها الثانوي من أخصب مراحل حياتها التي كلها صراع. ففي تلك المرحلة، أخذت تكتشف هويتها المكانية والزمانية، وترسم ملامح أفكارها ورؤها النظرية، وتقف على أعتاب الممارسة.

تثوير الوجدان
      نجح ولي الطالب الكردي في كلية غازي للتربية بأنقرة في تثوير وجدان سكينة وتحريك مشاعرها إزاء الغوص في غيابات التاريخ والمواقع بحثًا عن الوطن السليب والهوية الحائرة. ووفقًا لرواية ولي: ” …… إن كردستان شبه إقطاعية، وأن حق تقرير المصير ضرورة حتمية لأجل شعب كردستان أسوة بجميع الشعوب؛ وأنه يجب النضال وتنظيم الصفوف بما يتناغم مع التحليل الملموس للظروف المادية في كردستان (ص 120). وضرب مثلاً بحركات التحرر في فيتنام وغينينا وأنجولا وموزمبيق. وعادت الفتاة الشابة بذاكرتها إبان تواجدها في ألمانيا؛ إذ شاهدت خريطة ملونة لكردستان في واحدة من الفعاليات التي حضرتها هناك.

      وأترك القلم للست سكينة كي تُسجل خلجات نفسها في لحظة فارقة على درب ثوريتها الطويلة: ” لكني بدأت الآن أدرك حقيقة أن كردستان هي في الأساس وطني ووطن كل الكُرد. وكلما استوعبتُ أكثر كلما أصبحتُ هُم! … كردستان مستعمرة، وسيخوض الشعب الكردي نضاله التحرري الوطني انطلاقًا من قواه الذاتية واعتمادًا على قيادته وتنظيمه الذاتيين .. وستتأسس كردستان مستقلة وموحدة وديمقراطية، وستنعم بالحرية والرفاه …. أجل سيُقدم الشعب الكُردي فلذات أكباده للدفاع عن قضيته هذه ” (ص ص 120 – 121).

الثـورة امــرأة
      وفي تلك الأوقات، أدركت سكينة أن الثورية ليست حكرًا على الرجل بناءً على سرديات بطولة المرأة الكردية زمن انتفاضات ديرسم 1938. كما أن المرأة تعرَّضت للاضطهاد والإهانة، ولذا، فإنها بحاجة إلى الثورة أكثر من غيرها. وقد بلَّورت الشابة غير الساكنة منذ هذا التوقيت شبكة وقاموس مفاهيمها عن الهوية والوطنية بقولها: ” … لكننا سُعِدنا كثيرًا بمعرفتنا هويتنا الوجودية. إننا كُرد وعلينا أن نخوض النضال لأجل وطننا وشعبنا، وأن نُحدد المسار النضالي المشترك لمؤازرة كل الشعوب المضطهدة. إنها مشاعر نبيلة وجميلة للغاية. وأكدنا لبعضنا البعض على أنه حسنًا فعلنا أننا لم نتأثر بأفكار التيارات الأخرى”. (ص 121).

      وتأسيسًا على هذه القاعدة، انطلقت قاطرة سكينة نحو البحث الشامل في النضالات التحررية الوطنية لأجل خوض نضال فكري شديد، ولفهم الماركسية واللينينية بأفضل صورة. وفي كلمة موجزة: تعني الممارسة الثورية: التعلُّم والفهم والمعرفة.

      وانطلاقًا من هذه الروح الجديدة، هرولت الفتاة الشابة سكينة بحرارة شديدة تبُشر بالأفكار الأيديولوجية الواعدة بين بنات الجيران وزميلات المدرسة وغيرهن من الشبيبة. وشيئًا فشيئًا، انجذب قطاع ليس بالقليل إلى هذه “الزُمرة ” المؤثرة والمثيرة والجذابة، وإن لم يغص هذا القطاع في العمق النظري. ورغم هذا، تجلت صفوف الشبيبة إثر الاحتجاج الجمعي ضد النظام التركي وانتشار موجة التأثر باليسار في تركيا وكردستان شأن بقية العالم.

يسـار ديـرســم
      وفي هذا السياق، أضحت ديرسم بؤرة صراع حميم بين تيارات اليسار لكسب ولاءات وتبعات الشبيبة. وفي مدرسة المعلمين بها، روَّج بعض فصائل اليسار روايات مغلوطة عن الجناح الذي مالت إليه سكينة وانتمت إليه ودعت له. وحسب رؤيتهم: ” إنهم مجموعة صعاليك أتوا من أورفا (الرها) ليخلقوا المشاكل في تونجلي (ديرسم). إنهم ليسوا يساريين ولا ثوار! بل توركيشيين ولكنهم يدعون الهوية الكردية!”. وبدلاً من إقصاء “ثوار كردستان”، ازداد الاهتمام بهم رغم الدعايات المضادة.

هيمن اليسار التركي على معظم المدارس الثانوية، وإن انتهت جدالاتهم الفكرية باشتباكات عنيفة. وفي خضم هذه السجالات، لم تتحمل سكينة اتهام مجموعتها بـ “العصبية القومية”. وفي المقابل، اتهمت أصحاب هذه الانتقادات بأنهم ناكرو القومية وتائهون منصهرون، ويخجلون من هويتهم الكردية.

      ومنذ منتصف سبعينيات القرن العشرين انتقلت الفتاة الشابة سكينة إلى مرحلة تكوين الخلايا والانخراط في التدريب الجماعي لقراءة كلاسيكيات وأدبيات الفلسفة وتاريخ المجتمعات ونظريات فلسفة التاريخ لاسيما المادية التاريخية لماركس.

ثــوار كـردستـــان
      وأثناء مسيرات الاحتجاج على الانقلاب العسكري الواقع في 12 آذار – مارس 1971، تعّرفت ديرسم لأول مرة على أبنائها “ثوار كردستان” في ذكراها الرابعة عام 1975. وأصبحت جملة ” يسقط 12 آذار- مارس شعارًا جماعيًا مدِّويًا. ولأول مرة، أطلقت جماعة من رفاق سكينة شعار بصوت جمهوري “الحرية للكرد”، وأغلبهم من كُرد أورفا (الرها). بيد أن ثمة أصوات شاذة رفعت، في المقابل، شعارات قومية، تألمت سكينة جدًا على إثرها، وتساءلت: ” فمن أين لهم كل هذا الإنكار والتبرؤ من الهوية الذاتية؟”. (ص 125). وعلى خلفية هذا الزخم، أدركت الشابة الثائرة أن شعار “الحرية للكرد” يتسم بالضيق والمحدودية؛ إذ لا تكفي المناداة بحرية الكُرد فقط، بل ينبغي احتواء جميع الشعوب القاطنة كردستان!.

      وقد كان اشتراك الفتاة الشابة سكينة عام 1975 في المظاهرات المضادة لانقلاب 12 آذار – مارس (1971) حدًا فاصلاً في حياتها: ” … لقد أطلقت عنان ذاتي لدخول حياة جديدة كليًا. وهذا ما يكفيني بكل أبعاده وتداعياته” (ص 127). وقد أضحى تلقى التدريب من أقدس أنشطة سكينة ورفيقاتها. وخلصت سكينة إبان التدريبات والمجادلات الثورية إلى أن احتضان القضية وتحمُّل أعبائها ومشقاتها بجمالية وعزيمة هذه الروح الثورية قد شكل إحدى خصائص وخصوصيات وضروريات ثوريتهم.

ورويدً رويدًا، تضاعف عدد أفراد مجموعة سكينة التي كانت أول مجموعة نسائية، وازدادت وعيًا وارتفع مستواها، وتشكل لديهم وعي المجموعة، وتطوير العلاقات على نحو بنَّاء وعلى أساس الإقناع عكس الجماعات الثورية الأخرى. وقد تعزَّر ا لوعي القومي الكردي لدى المجموعة التي تساءلت عن ماهية مفاهيم “الوطن” و “الأمة” و”الشعب” و “المعايير الثورية”. وتطرقت التساؤلات إلى من هم الأعداء؟ وكيفية النضال ضدهم؟ وبأية آلية؟ هل بحزب أم جيش أم جبهة؟. تلك كانت بداية مجموعة سكينة الثورية، بلا جريدة أو مجلة أو جمعية، وبلا اسم. وعلى سبيل السخرية، أطلق الآخرون عليها ” حفنة من الكردويين ” ثم ” ثوار كردستان”.

مدارس الثـــورة
      ومنذ هذا التوقيت، أصبحت مدارس ديرسم منبع الثورية؛ ففيها بدأ انخراط الفتيات والنساء، ومنها انتشر الشعاع الثوري في الدوائر المحيطة تدريجيًا. وبذا، أخذت التصدُّعات الجدية تطال التقاليد الاجتماعية في هذا السياق. وقد اتسمت حركة مجموعة سكينة برفض العلاقات الإقطاعية ومكافحتها، وفي المقابل، تصاعدت الأواصر الثورية. ولذا، جذبت أنظار الأصدقاء والأعداء. وعلى النقيض تمامًا، انجذب إليها الأنصار والأغيار رغم “التشهير بها أو وكيل الشتائم لها” (ص 131).

وفي السادس من آيار – مايو (1975). شاركت سكينة ضمن مجموعتها مع المدارس لإحياء ذكرى الفنان دنيز ورفاقه. وأثناء هذه المراسيم، وقعت اشتباكات بين بعض المحتشدين وعناصر الشرطة. وهنا، اكتشفت سكينة فصلاً مهماً في السجل العام للنضال عندما شاهدت بأم عينيها نسوة المدينة والغجريات يُدافِعن عن الثوار. وقد أبدت الفتاة الثائرة إعجابًا شديدًا بـ “شراسة النساء الغجريات “و” روح المبادرة لديهن”، وكذا، مساحات الحرية عندهن.

وآنذاك، واجهت سكينة ورفاقها مشكلة توفير الكتب في ديرسم، والأهم، حماية هذه الكتب؛ إذ أن العائلات كانت “أول من يحظر على الأبناء اقتناء هكذا كتب. أما البوليس، فلا يحظرها مباشرة، ولكنه يميل دومًا إلى خلق الأجواء والذرائع الكافية لمنعها” (ص 140). واندفع الرفاق يعملون ويكدحون في حرف بسيطة لتوفير الأموال اللازمة لشراء الكتب. وبهذه الآلية، تنامت لدى المجموعة ” ميزة التشاطر في كل شئ، والالتزام بنمط حياة المجموعة”، واعتبار الكل جزءًا لا يتجزأ منها.

درب الأشـــواك
      ووسط هذه الروح الثورية “البريئة”، فوجئت الشابة الواعدة سكينة بوعورة الطريق ومشقاته وعراقيله؛ إذ أن اجتماعات الرفاق ونقاشاتهم ومجادلاتهم ونسخهم الأوراق على آلآت كاتبة بدائية ذات أصوات مزعجة، قد لفتت أنظار عيون الشرطة والجيران والمارة بأن ثمة “أمور خطيرة” تجري في منازل الرفاق. وكادت الشرطة تقبض عليهم وما لديهم من “الكتب والهويات ومخازن المسدسات والسلاسل والأسافين وخريطة كردستان، وبعض الكتابات المنسوخة…” (ص 142). ورغم نجاة سكينة من هذا المأزق، فإنها انتقدت بشدة أقاربها لاسيما حمويها الذين ” تعشش لديهما الخوف من الدولة حتى النخاع” (ص146). ومنذ تلك الحادثة، تميزت سكينة بخاصية الغضب من أخطاء الآخرين، ولكنها تُفَجِّره في ذاتها!.

      وقد ترامت أخبار سكينة إلى والديها في ألمانيا، ولذا، عادا فجأة في منتصف ليل دون سابق إبلاغ على عكس المعتاد. ولم تتوقف انتقادات وإساءات وتهديدات الوالدة زينب. ورغم محاولات الوالد إسماعيل جانسيز تهدئة الأمور؛ فقد وجدت سكينة نفسها تُصارِع كل شئ: الأم، العائلة، المحيط، التقاليد والأعراف. وسيطرت قناعة على الفتاة الثائرة مفادها “إن مزاولة المرأة للثورية هو أمر أصعب بكثير. إذ ثمة منع وحظر بشتى الوسائل، حتى في أكثر العوائل التي نصفها بالجيدة والمنفتحة. في الواقع، فالعوائل كانت لا ترغب حتى في انخراط أولادها الذكور في المسائل الثورية، فالثورة بالنسبة لهم تعني التمرد على الدولة. والهزائم السابقة ومخاضاتها ماتزال عالقة في ذاكرتهم وأذهانهم. ثم إن العديد من الشبان استُشهِدوا حديثًا على هذه الدرب… فالدولة قوية، وظالمة، ولا تسمح بهكذا مقاربات. بل وتعتقل الشبان وتقضى عليهم بلا رحمة. وعليه، كانت النظرة التشاؤمية والمخاوف اللامتناهية هي السائدة بين العوائل ” (ص 157).

سأكـون ثـــوريــة
      ورغم كل هذه التحديات وتلك المعوقات، رفعت سكينة شعار : “أُريد أن أصبح ثورية، ولن تستطيعوا منعي!”. وانخرطت مع رفيقات جُدد بحثًا عن المرأة الكُردية ومكانتها في النضال التحرري الوطني. وتعمَّقَت لديهن الأُطر النظرية والرؤى الأيديولوجية. وحسب نص سكينة: “إذ لم تعد نقاشاتنا اعتيادية، بل كانت صراعًا ضروسًا بكل معنى الكلمة. إذ رحنا نبحث عن وجود الكُرد وكردستان بين طيات الكُتب”. وقد انتقدت سكينة قطاعًا من الكُرد الذين فسروا الوطنية والثورية والاشتراكية والأممية “على هواهم”، وتلاعبوا بهذه المفاهيم وحرَّفوها بصورة سيئة، وبدَّلوها ببعضها البعض: ” إن بُعدَهم عن واقع كردستان قد شدّ مستوى نضالهم الأيديولوجي أيضًا إلى الوراء، فانزلقوا بذلك نحو أرضيات سلبية ” (ص 160).

نفــي الآخــر … إثبات
      وفي هذا التوقيت من الفوران الثوري، اغتاظت سكينة جدًا من أجنحة اليسار التركي الذين تبنوا أطروحة “لا وجود لظاهرة مستعمَرة المستعمَرة”، بحماسة بالغة بعيدًا عن واقع كردستان وتركيا:” إنهم يستميتون في الدفاع عن هذه الأطروحة، لاسيما المتحجّروِن منهم” (ص 161). وأردفت ثائرتنا بتوصيف جد دقيق لطبيعة الصراع وجوهره: ” فبمجرد ذكر اسم تيار الوطنيين كان الصراع والعنف يخطران على البال. فجميعهم يتشاركون روح الصراع … إنها روح الصراع الثوري”. (ص 162). وهذا، ما وطَّد ارتباط السكينة الثائرة بهذه الأيديولوجيا؛ إذ علمتها كيفية الدفاع عنها مهما كلفها من ثمن، وكيفية التصدي لأي هجوم يستهدفها. وحسب سادة الكُرد: “هذه هي خصائص ظهور الأيديولوجيا إلى الميدان. لذا، ما كان بمستطاع أيِّ كان يصبح من تيار الوطنيين” (ص 163).

وذهبت سكينة في تحليلها لردود أفعال الأسر الكُردية على الحيلولة دون اشتغال بنيها في السياسة قائلة: ” فظاهريًا الكُرد وكردستان تُذكرانهم بالمجازر والويلات، وبالنفي والخيانة. إنهم لم ينسوا كل ذلك. بل إنه معشش في ذاكرتهم الجمعية. ولكن، كان لابد من شق ذاك الجرح لأجل تضميده … ” (ص 163). بيد أن “شق الجرح” استلزم صراعًا طويلاً وشاقًا بدءًا من الفرد والأسرة والعائلة مرورًا بالمدرسة والحي والمقهى وانتهاءً بــ ” ممارسة العنف ضد مؤسسات الدولة” حتى تتم عملية تضميد الجراح. وتتداخل هذه المراحل فيما بينها، ولكل منها سماتها وصعوباتها. ولاريب أن الشروع في بدء هذه الخطوات العملية يُعد ثورة بذاتها على هذه الدرب الطويلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى