لقد مرت منطقة المشرق القديم (الشام والعراق) بتحولات جذرية في أعقاب انهيار الدولة العثمانية و ظهور الاستعمار الحديث بمشروعه التقسيمي الشهير سايكس/ بيكو ثم إعلان بلفور وبداية المشروع الصهيوني فى المنطقة، وقد أثرت هذه العوامل بشكل جذري على التكوين الجغرافي والسكاني الطبيعي للمنطقه الى شهد منذ القرن الخامس عشر وحتى بدايات القرن العشرين تعايشاً اثنياً وسكانياً وعرقياً وبرغم مصاعب الحكم العثماني، إلا أن هذا العامل السياسي لم يمنع شعوبه وطوائف المنطقة من الإمتزاج، إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية، وبزوغ مشروع الدولة القومية بديلاً للإمبراطوريات المتهاوية، ومع وجود الاستعمار الإنجليزى / الفرنسي في المشرق العربي، كان لا بد من تقسيم بشكل جغرافى تعسفي، انعكس على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والديني لشعوب المنطقة وأثر على مستقبلها بشكل خطير والى أن أصبحنا في مرحلة فقدان الهوية والانقسام والتجذر الخطير، نتيجة لحالة الاحتراب الإقليمي والداخلي ونحاول فى هذا المقال أن نستعرض بعضا من ملامح هذا التحول الخطير.
سوريا
فى سوريا على سبيل المثال وليس العرض، تعاقبت تغيرات وانقلابات عسكرية ونظم سياسية، أفشلت منظومة التعايش السكاني وجعلت أنظمة الحكم فيه غير صالحة للاستمرار بسبب سياسة المركزية العمياء، التى أفرزت إحدى قضايا سوريا الأساسية وهي وضع المكون الكردي على المحـك باعتبار أن القضية الكردية هي إحدى القضايا الأساسية في سوريا ولا يمكن حلها بدوام ذات السياسات القمعية التي قامت بها أنظمه الحكم الشمولية فى كلاً من سوريا و العراق، حيث حاولت هذه النظم أن تصور (الكرد) أنهم خطر على مستقبل هذه الدول ليس من باب الحرص عليها، وإنما في جعلها شماعة للتغطية على فساد وفشل هذه النظم سياسياً وإدارياً وأمنياً.
لبنان
وعودة الى خطر الطائفية السياسية على دول المنطقة سنبدأ بالنموذج اللبناني كبداية لمخطط، إن الحكم الرشيد في هذه المنطقة بالغه الحساسية بالنسبة لأوروبا وآسيا فمع بداية مرحلة الاستقلال وكتابه الدستور اللبناني الحديث ١٩٤٥ كتب المستعمر الفرنسي هذا الدستور بالشكل الذي تم فيه توزيع السلطة السياسية على أساس طائفي بحت بغض النظر عن ظروف وأوضاع هذا البلد الصغير الذى شهد أروع نماذج التعايش العرقي في الماضي وتم توزيع مقاعد السلطة الرئيسية على أساس طائفي بحت الرئاسة (للموارنة) والحكومة (للسنة) والبرلمان (الشيعة) وبرغم النجاح النسبي للنخب السياسية اللبنانية في تجاوز العديد من العقبات، إلا أن توالي المصائب السياسية من حرب فلسطين وتدفق الهجرة وأوضاع اللاجئين الفلسطينيين، وما تلاه من تطورات أدت إلى الانفجار الداخلي في العام ١٩٧٥ على أساس طائفي بين السنة والموارنة، ثم ما لبث أن تفجرت الثورة الإيرانية في العام ١٩٧٩ وبداية المد الخوميني الشيعي، وما تلاه من تطورات أدت إلى ظهور حزب الله بكونه العسكري المليشياوي ثم السياسي، كل ذلك أدى إلى انفجار التركيبة السياسية اللبنانية الهشه واضحت نموذجاً قابلاً للتطبيق على نطاق أوسع تمهيداً لتفتيت المنطقة إلى كانتونات سياسية ضعيفة لصالح المشروع الصهيوني الاستعماري فى المنطقة.
العراق
ثم جاءت المحطة التالية في العراق لتكون النموذج الثاني الأكثر تهيئه للأنفجار فى ضوء العديد من العوامل المؤثرة، ففي العصر الحديث كان العراق موضوعاً جغرافياً وعرقياً معقداً فى الصراع الاستعماري على إرث الدولة العثمانية التي حكمته أربعة قرون، وكانت أرضه ساحه للصراع السني/الصفوي. وحتى في بداية الاحتلال الانكليزي له عام ١٩١٦، و الدارس لجغرافية العراق يعلم أن أرضه كانت دوما ساحة لصراع جيرانه الأقوياء في وقت ضعفه ولا أبلغ من التجاذب الايراني / التركي / الأمريكي على الساحة العراقية فى الوقت الراهن و الناظر إلى جغرافية العراق بعد ظهور حدوده الراهنة التى رسمتها المستشرقة البريطانية السيدة / (بير ترود بيل) أو مسز بيل كما يطلق عليها والتي رسمت حدوده فاقتطعت أجزاء من الإقليم الكردي في الشمال و من عشائر وقبائل سنية فى الشام غربا ومن الجزيرة العربية جنوباً لتشكل خليطاً سكانياً من قبائل وعشائر ذات مشارب متداخلة فى الحدود الراهنة لسوريا والأردن وفلسطين والسعودية و الكويت بل شمالا حتى الحدود التركية فى مدينة الموصل.
كل هذا الخليط المتداخل شكل مجتمعاً عرقياً شديد التعقيد والغرابة عبر التاريخ والجغرافيا وكان جزءا من مشاكل العراق الأمنية المزمنة مع جيرانه، كما أنه كان جزءا من من تجذر العروبة في العراق، وبرغم ذلك استطاع العراق كدولة أن يمضي متجاوزاً العقبات برغم المشاكل في نظامه السياسي الاستبدادي من بعد إنقلاب عام ١٩٨٥ وحتى جاءت محطة غزو العراق للكويت صيف ١٩٩٠ وما تلا ذلك من أحداث مؤسفة أدت إلى تكريس حالة خاصة للمكون الكردي شمالاً
والذي شهد تاريخاً من الاضطهاء والتعسف والبطش كان أبرز محطاته مجزرة حلبجة ضد المكون الكردي والذى استخدم فيه النظام ولأول مرة السلاح الكيماوي ضد سكان عزل و مجتمع شكل جزءاً من تاريخه وثقافته، وتلا ذلك مأساة الغزو الأمريكي لبغداد عام ٢٠٠٣ وهو الغزو الذى ادی فیما أدى إلى احتراب داخلي بين المكون السني و الشيعي وظهور العصابات المسلحة والتنظيمات الإرهابية من القاعدة ثم داعش وبدعوى محاربه التنظيمات، استطاعت الولايات المتحدة التي كتبت الدستور العراقي بعد عام ٢٠٠٣ أن تكرس ذات المرض الطائفي بتوزيع السلطة بين المكونات الثلاثة على أساس عرقى هذه المرة، فالرئاسة للمكون الكردي ولكن دون سلطة فعلية ورئاسة الوزراء للمكون الشیعي ووضعت في يد هذه السلطة كافة الصلاحيات والنفوذ و مهدت لمجموعة من القوى السياسية التي احتضنتها إيران في سنوات الصراع ضد نظام (صدام حسين) من أن تحكم قبضتها على دفه السياسة العراقية مدعومة بنفوذ إيراني و ميليشيات شيعية مسلحة (عصائب أهل الحق / حزب الله العراقي / جيش بدر / وأخيرا ميليشيا الحشد الشـعبي الذي أضحى رديفا للجيش العراقى)
الخلاصة
و الخلاصة أن هناك محطات في تاريخ المنطقة قديماً وحديثاً شكلت انتكاسة لمشروع التعايش العرقي والديني في منطقة المشرق العربى. مشروع استيطاني فى فلسطين ومد شیعي ایراني من الحدود الإيرانية حتى جنوب لبنان وهيمنة إقليميه على الطائفة السنية تارة عبر مشروع سعودي أو ترکي أو (مشروع سياسي إسلامى سني ) يفتقد إلى الرؤية أو القدرة على وضع نموذج للتعايش الداخلي والإقليمي و أنظر إلى ما فعلته داعش من فظائع في إقلیم نينوى ضد الطوائف المـسيحية والمكون الإيزيدي وغيرها .
وعليه فالأمر يتطلب طرح مشروع يتبنى مصارحة ومكاشفة سياسية لأوراق كانت محظورة، والصحيح تتطلب معالجة شجاعة ومقاربة، فمازل الشأن الكردي السوري أو العراقي بعيداً كل البعد عن التناول الوطنى المستقل والمبني على العقل السياسي والعملى الإيجابي وكذلك الصراع الطائفي الماروني / السني/ الشيعي في لبنان أو الشيعي السني فى العراق، ولا يستطع أحد إنكار أي من هذه الهويات أو تجاهل أدوارها ولن يكون هناك حل حقيقي سوى بتطبيق نظام ديمقراطي يعتمد أساساً على فلسفة الأمة الوطنية الديمقراطية مع إعطاء الحرية لكافة مكوناتها حرية التعبير السياسي والمشاركة الفعالة في القرار وبدون حل هذه القضايا، فان هذه المشكلات ستظل قنابل موقوته تستغلها المكونات الإقليمية الكبرى لتحرير مشاريعها فى المنطقة على حساب سكانها و مستقبلهم. والأمر معروض لتبنى وجهات نظر أكثر انفتاحاً وشجاعة.