دراسات

الدولة وهيمنتها.. قراءة في طبقات تكوينها

إعداد د. أحمد محمد إنبيوه

إن الدولة التي هي كيان مادي صعب الفهم، إنما هي في النهاية جماع طبقات من الأفكار كونت بنيتها المعرفية على مر آلاف السنون، والتعاطي معها على أنها نتاج آني لا يمكننا من فهم بينيات عملها وتكوينها بالأساس. الدولة والسلطة والحداثة والاثنية تركيبة معقدة وأحيانا دموية ومن ثم فهي تحتاج لإعادة تفكيك بنيتها وارتباطاتها المفاهيمية بالأصل المعرفي الغربي لنشوئها. فمفاهيم الدولة والحداثة المعاشة حاليا هي غربية بالأساس. ومن ثم، نحتاج بين الفينة والأخرى، لقراءة نقدية لهذه المفاهيم وتجلياتها التطبيقية على الأرض. ومن هنا، تأتي كتابات عبد الله أوجلان الزعيم الكردي نموذجا تفكيكيا لقراءة مغايرة عن الدولة. إذ تجسد كتاباته التطور الذي لحق بالإثنية الكردية وعلاقتها بالدولة، بداية من التفكير بالسلاح إلى التفكير بالكلمات. إن رحلة عبد الله أوجلان التي انتهت لدى الأحرف تنسج سبيكة من الأفكار عن الدولة والأمة والتنقيب في سطوتهما عبر طبقات المعرفة والتاريخ. تمثل نموذج مهم للتفكير في الدولة وارتباطاتها بجماعاتها الإثنية المكونة لها، تفكير يتراوح بين محاولة فهم خلفيات العنف، ومحاولة الإجابة على التساؤل الذي يكاد يكون وجوديا، لماذا يغدو عنف الدولة وجوديا في نظر البعض تجاه بعض تكويناتها؟     

ومن زاوية أخرى، يمكن القول، إن الكتابة عن الدولة في فضاء جيوسياسي إشكالي أو لنقل نزاعي، تمثل تجربة مثيرة إذ أخذنا في الاعتبار كم التناقصات والتجارب التي انبنت عليها تلك الكتابات. فتركيا على سبيل المثال، وكتجسيد لفكرة الدولة ” قامت الجمهورية على أنقاض الإمبراطوريـة المتعـددة الثقافـات واللغـات والأديـان، جعلـت الجمهوريـة التركيـة الهويـة التركيـة المصـدر الأسـاسي للوحـدة وقمعت من ليس تركيا، وأنكرت وجودهـم. ونتيجـة لهـذه السياسـات، أنكر النظـام الجمهوري وجود جميـع المجموعات العرقية بما فيها الكرد، ومنعهم من استخدام لغاتهـم الأصليـة، وحـاول طمـس هويتهـم بطرق وقنـوات مختلفـة. كانت الاسـتبدادية العلمانيـة التـي أدت إلى إلغـاء الخلافـة وراء هـذه السياسـات القوميـة”.[1]  

 وفي عالم كله أضحى مؤسس على التمايزات القومية راهنت كتابات عبد الله أوجلان على إعادة مراجعة الجذر الفكري الحاوي لها؛ أي نموذج الدولة القومية، الحاوية لكل التشكيلات القومية والقاضية بصهرها جبرا في بوتقة واحدة. لقد راهن أوجلان في كتاباته على فشل الدولة الحديثة في تطبيق المبدأ الاثني التوافقي. وقد حصل التغيير في فكر عبد الله أوجلان منذ التسعينيات، وتطور بشكل كبير عندما أُسر في كينيا في عام 1999 ليعود إلى تركيا. بدأت محاكمته في 31 مايو 1999، وانتهت في 29 يونيو 1999، مع حكم بالإعدام على أوجلان بتهمة الخيانة ضد الدولة التركية. ألغت حكومة حزب العدالة والتنمية حكم الإعدام من قانون العقوبات التركي – بسبب الجهود المستمرة في ذلك الوقت لتصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي – في 3 سبتمبر 2002. لا يزال أوجلان مسجونا في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة في تركيا.[2] 

ومن محبسه أخرج أوجلان عدد من الكتابات كصيغة دفاع فكري، أمام محكمة العدل الأوروبية، أرادها مرافعة معرفية وليست قانونية. ” إلى أني لن أستطيعَ تقديمَ مرافعةٍ قيِّمة، ما لَم أتمكن من إدراك الحداثة الرأسمالية والغوص في أعماقها. واضحٌ أنّ تقديمَ المرافعةِ وطرحَها اعتماداً على القانونِ الصرفِ المجرد لن يَكتَسِبَ معناه أبداً. فالتناولُ السياسي والاستراتيجي السطحي، لن يَستطيعَ كشفَ النقابِ عن الجذور والأسباب الحقيقية” [3]. 

وفي مقدمة فؤاد القطريب للطبعة العربية من “مانيفستو الحضارة الديموقراطية” يقربنا أكثر من جوهر المنظومة الفكرية التي شادها أوجلان ” قراءة جديدة لمفهوم الدولة وأسباب وظروف وآلية ولادتها، وانعكاس ذلك على الإنسان والمجتمع والبيئة. حيث يَعتَبِر أوجلان، وبعكس القراءات السائدة، أن هذه الخطوة لم تكن خطوة إيجابية أو نقلة نوعية تطورية أو ضرورة حتمية، بل على العكس من ذلك تماماً، أي أنها نقلة نوعية باتت سلبية مدمرة وكارثية على المجتمع، لأنها استعمرت الإنسان المنتج ومجتمعه، وحولته إلى عبد في خدمة الدولة والقوى الاحتكارية التي تسيطر عليها، وخاصة الملك الإله أو ممثل الإله. فمع ولادة الدولة ولد القمع والاستغلال والترتيب الهرمي لمكونات المجتمع داخلياً، وولد الغزو والحروب والاستعمار خارجياً، وبسبب ذلك ومن أجله ولدت الأجهزة القمعية والحربية، أي ما يماثل الشرطة والجيش بلغة هذه الأيام. ومع ولادة الدولة بدأت البشرية تعاني باضطراد من القضايا الاجتماعية الثقيلة الوطأة المستفحلة والمتفاقمة باستمرار عامودياً وأفقياً” [4]. 

وبحسب بينار دينك، دعا أوجلان إلى “مجتمع إيكولوجي ديمقراطي. وانتقد الدولة والحداثة الرأسمالية الأبوية، واقترح الحداثة الديمقراطية التي تعتمد على الكونفدرالية الديمقراطية باعتبارها نموذجًا سياسيًا أساسيًا. ومع هذا النموذج، يقترح أوجلان التنوع العرقي والثقافي والسياسي من خلال طريقة ليست أيديولوجية ولكنها علمية وليست دولة قومية بل تستند إلى مفهوم الأمة الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي. كان هذا نموذجًا اجتماعيًا غير حكومي، من شأنه أن يحرر الناس وينوعهم ويحولهم إلى الديمقراطية على عكس نموذج الدولة القومية الذي يقمع ويجانس ويبعد المجتمع عن الديمقراطية [5].  

ولنعد ثانية لفؤاد القطريب، لنجده يخبرنا أن أفكار أوجلان بكل بساطة ” تطرح بديلاً متكاملاً لمنطقة الشرق الأوسط الكبير أولاً والعالم ثانياً، بحيث يتجاوز الحل القوموي الدولتي (الدولة القوموية) السائد حالياً والمولد للصراعات والحروب والتبعية للرأسمالية العالمية من جهة، ويتجاوز جميع أشكال الحل السلطوي الصاعد من جهة ثانية، ويعبّد الأرضية اللازمة للعيش المشترك والحياة الندية على جميع المستويات، بدءاً من حياة الشراكة الندية بين الجنسين، ووصولاً إلى مشاطرتها بين الأقليات والقوميات والأثنيات والشعوب والأقوام والملل على اختلاف ألوانها وأطيافها وعقائدها، لأنه يؤمن بأن التعددية والاختلاف هو من طبيعة الحياة البهية الزاهية ومن أسس الوجود.. وقد صاغ أوجلان هذا الحل في إطار مفهوم “الأمة الديمقراطية” المتعددة المكونات القومية والمنضوية تحت سقف “نظام الكونفدرالية الديمقراطية” الذي يؤمن ببراديغما “المجتمع الديمقراطي التعددي الأيكولوجي العادل” [6].   

ويعضد أوجلان رؤيته المغايرة للقومية والحداثة بالمفهوم الغربي الخصوصية التي يراها بالشرق، والتي هي كفيلة، من وجهة نظره، بجعل أسس الحداثة الغربية فيما يتعلق بالدولة والفردية محل نفور من الثقافات المحلية.. ” فثقافةُ الشرقِ الأوسط تتصف قبلَ كلِّ شيء براديكاليتها البالغةِ من حيث إيلائِها الأولويةَ للمجتمع، لدرجةٍ لا يمكن للفرديةِ أن تنتعشَ في المجتمع بسهولة. بل إنَّ الروابطَ الاجتماعية معيارٌ أساسي في تقييمِ الشخصية، حيث يُبَجَّلُ الالتزامُ بالمجتمعِ إلى أبعدِ حد. وللدِّينِ والتقاليدِ السائدةِ تأثيرُهما القويُّ في ذلك. أما الانقطاعُ عن المجتمع، فيُنظَر إليه بعينِ الازدراء، ويصبحُ موضوعاً للسخريةِ والتهكم.. بالتالي، يجب ألاّ يَعتَرينا الذهول إزاء كونِ ثقافةِ “الأمة” بتقاليدها الوطيدة ترجيحاً مفضَّلاً راهناً على الدولتية القومية، التي تُعد أقوى التيارات في يومنا. ذلك أنَّ الدولة القومية ثمرةٌ من ثمار الحداثة الرأسمالية، بالتالي، فهي دخيلة. ولدى المقارنة بين الإسلاموية السياسية والدولة القومية، واللتَين تعتبران نزعةً قوموية مضموناً؛ فستكون القومويةُ الإسلاموية الأكثر محليةً هي المرجَّحة بغالبيةٍ ساحقة” [7]. 

من زاوية أخرى حاول أوجلان أن يفكك ارتباطات الدولة بطبقات الأفكار المكونة لها كالرأسمالية على سبيل المثال.. إذ لا يمكن فهم الدولة وبنيتها الحديثة دون فهم الدور الذي لعبته الرأسمالية في المجتمعات الغربية الحديثة ” الرأسماليةُ هي شكلُ المجتمعِ الذي سادَ أوروبا الغربيةَ اعتباراً من القرنِ السادس عشر. وقد انتَظَمَت على الصُّعُدِ العسكرية والسياسيةِ والثقافية، استمراراً لتقاليدَ قديمةٍ تَتَّبِع أساليبَ المكرِ والحيلةِ المُنَظَّمةِ على أساسِ نهبِ القِيَمِ الاجتماعية، وفي مقدمتِها المُراكَمات المادية. كما يمكننا تعريفُ هذه الولادةِ بأنها الحلقةُ العصريةُ لسلسلةِ تقاليدِ النهب، التي لجأَ إليها أولُ رجلٍ قويٍّ بمَعِيَّةِ مجموعتِه النَّهَّابةِ الملتفةِ حوله، والتي نَهَبَت القِيَمَ المجتمعيةَ الملتفةَ حولَ المرأةِ–الأم. بمعنى آخر، فالرأسماليةُ هي الممارسةُ العمليةُ للمجموعاتِ التي تتميز برُقِيِّ ذكائِها التصوري، والتي برزَت في إنكلترا وهولندا، وظهرَت من قَبلِها في مدائنِ جنوى وفلورنسا والبندقية التي تَصَدَّرَت لائحةَ دولةِ المدينةِ في إيطاليا، فتَداخَلَ نموُّها مع الدولة” [8].

إن أهم ما ميز الدولة الحديثة بالمنظور الغربي هو احتكارها للعنف، وممارستها لهذا العنف بقسوة لمن يتحدى سلطتها بدعوى المحافظة على السلم الاجتماعي.. وكانت النتيجة المباشرة لهذا أننا أصبحنا أمام مجتمع أليف إلى حد كبير؛ إذ فقد قدرته على المبادأة .. ” إنّ تسليمَ احتكارِ العنفِ إلى الدولة يعني تجريدَ المجتمعِ من أسلحته. ومحصلةُ ذلك هي تصاعُدُ قوةِ الدولةِ القومية المركزيةِ إلى درجةِ الفاشية بما لا نظيرَ له في أيةِ مرحلةٍ من التاريخ. فقاعدةُ وحدةِ الهيمنةِ ليست سوى نظريةِ تجريدِ كلِّ القوى الاجتماعيةِ الخارجةِ عن نطاقِ الدولة مِن قدراتِها وطاقاتها، وعزلِ المجتمعِ عن أساليبِ وأدواتِ الدفاعِ الذاتي إزاء الوحشِ الرأسماليّ بما لا مثيلَ له في التاريخ” [9].  

الحقيقة أن أفكار أوجلان، تبتغي قراءة ومحاولة فهم الأسس الفكرية للدولة التركية، بوصفها دولة قومية على النسق الحداثي الرأسمالي الغربي ” جمهوريةُ تركيا هي إحدى أولى أمثلةِ الحداثة الرأسمالية المُتحَوِّلةِ والمتطورةِ إلى دولةٍ قوميةٍ في البلدان شبهِ المستعمَرة. إذ تَحمل آثارَ جمهوريةِ فرنسا أثناء تأسيسها. حيث تداخلت الديمقراطيةُ والدولةُ لديها في البداية، على غرارِ جمهوريةِ فرنسا، تماماً مثلما حصل في الجمهورية الإيرانية الإسلامية، وجمهوريةِ المدينة المنورة الإسلامية الأولى، بل حتى مثلما الحالُ في بداياتِ اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية أيضاً. فمع تشذيبِ وتَقليمِ العناصر الديمقراطيةِ مع الزمن، تمّ تحويلُ تلك الجمهورياتِ إلى دولٍ قوميةٍ مسطَّحةٍ بصفتِها شكلاً من أشكال السلطة الرأسمالية. ربما كانت الجمهوريةُ التركيةُ تمثل إحدى بدايات تلك الأمثلة” [10].

وفي موضع أخر، نجده يعيد صلة الوصل، ما بين ظهور القومية والدولة ككل متماسك إزاء الفرد بوصفه ذات لابد أن تذوب في المجموع، لأن هذا هو النضج السياسي على المستوى الفردي كما على المستوى الجماعي. “لقد تَحَوَّلَت المجتمعاتُ الراهنةُ بدرجةٍ كبرى إلى أُمّة. أي أنّ الأغلبيةَ الساحقةَ هي مجتمعُ الأمة، حتى وإنْ كان ثمة مجموعاتٌ هامشيةٌ لَم تُحَقِّقْ تَحَوُّلَها إلى أُمّة. بل يكاد لا يوجدُ فردٌ لا ينتمي إلى أمةٍ ما. من الواجب التفكيرُ في الانتماء إلى الأمة على أنه حالٌ طبيعيةٌ للمجتمع. إنّ التركيزَ المفرطَ على مُقَوِّماتِ الأمة قد شَكَّلَ بدايةَ الكوارث. وعلى سبيلِ المثال؛ فالأواصرُ بين الأمة والسياسة هي العاملُ الأساسيُّ في تكوينِ الأيديولوجية القوموية. ذلك أنّ سلطةَ الفاشيةِ ستَكُون المحطةَ الأخيرةَ للسياسة القوموية. وتؤدي النزعةُ القومية التي يُحَرِّضُها الاقتصادُ والدينُ والآدابُ إلى المخرج نفسه. فالاحتكارُ الرأسماليُّ يختار الطريقَ الأسهل باسمِ حلِّ الأزمات. فيفرط في إضفاءِ النزعة القومية على جميعِ الظواهرِ المكوِّنة للأمة دون استثناء: السياسة، الاقتصاد، الدين، القانون، الفن، الرياضة، الديبلوماسية، الروح الوطنية وغيرها. وهكذا يَبلغ بها حداً من التكامل المنتظم، بحيث لا يبقى أيُّ عضوٍ في المجتمع إلا وتَحَوَّلَ إلى سلطة. وهو بذلك يَقوم بحساباته ليَكُونَ الأقوى (بالنسبة لكلِّ أمة)؛ فكانت نتائجُ ذلك مروِّعة” [11]. بكلمة هنا، الأمّةُ موضوعٌ مبهَمٌ إلى أبعدِ حد. ومن المهم جداً اتخاذُ الحذر والتوازن بشأنها.


الدولة مفهوما
لم يعد إذا سوى الاقتراب أكثر من مفهوم الدولة كمصطلح إشكالي بنظر أوجلان. “الدولةُ هي المصطلح الأكثر رواجاً، تاريخياً وراهناً. لكنها في نفسِ الوقتِ المصطلحُ الأقل نصيباً من حيث الإلمامِ به وتعريفِه، والأكثر غموضاً. إذ ثمة جهلٌ فظيعٌ بشأنِ ماهيةِ الدولة. ما يزال التعريفُ الصحيحُ والتفسير السليم للدولة يحتفظ بجوهره كمسألةٍ هي الأهم من نوعِها، في سبيلِ تحليلِ التاريخ والوقت الراهن، ولتَخَطّي حالةِ المجتمع المتأزم. والأنكى أنه بقدرِ عجزِ المعتقدين بوجودهم داخل الدولة عن معرفةِ نوعيةِ الوسيلة التي يَمتَطونها. غالباً ما يتم تصور الدولة كميدانٍ لحَلِّ المشاكل، ويُعتَقَد أنّ الوجودَ داخلَ الدولة يكافئ الخلاصَ من كلِّ المشاكل. وما بعد ذلك بخطوةٍ هو تَصَوُّرُ الدولة على أنها الدولةُ-الإله. أما التفسيرُ السوسيولوجي العلميّ، فيعملُ حديثاً على تعريفِ هذه الشبكة من العلاقات المعقدة (الدولة)” [12].
ويكمل أوجلان قائلًا “إني منتبهٌ إلى وجودِ العديد من تعاريف الدولة. لكن، لن يَكُون مفيداً تكرارُ القوالب والكليشيهات المحفوظة منذ مدةٍ طويلة، سواءٌ في المعسكر الليبرالي أو الاشتراكي. أنا لا أنكر مكانةَ الدولة في إدارةِ شؤونِ المجتمع. ولا أرى تعريفَ الدولة وفق منظورِ الأناركيين أو حالةَ اللادولةِ التي ينادون بها أمراً مُجدِياً أو قابلاً للتطبيق.. إنّ تعريفَ الدولة على الصعيد الضيق بأنها احتكارٌ اقتصاديٌّ متأسسٌ على فائضِ الإنتاج وفائضِ القيمة، يُنِير الأمرَ أكثر. فالدولةُ الطامعةُ في امتصاصِ ونهب فوائضِ الإنتاج والقيمة من المجتمع إليها، تُنَظِّم نفسَها كبنيةٍ احتكاريةٍ عليا مُسلَّطةٍ على المجتمع بكافةِ الوسائل، بدءاً من الوسائلِ الأيديولوجية إلى العنفية. وإذ ما نظرنا إلى الأمر على ضوءِ هذا التعريف الضيق، فسنجد أنّ السياسة، أي سياسةَ الدولةِ تعني في آخرِ المطافِ فنَّ الحُكمِ القائمِ على التنسيقِ والإشرافِ اللازمَين لتحقيقِ فائضِ الإنتاج وفائضِ القيمة” [13].

ويمكن أن تقسم الدولة حسب الطبقات الاجتماعية الناهبة لفوائض القيمة والإنتاج كالتالي: ١- الدولة العبودية: هي شكلُ الدولة الذي يَكُون فيه الناسُ تابعين للدولة وأسيادها الخاصّين المتدولين، ليس بكدحهم وحسب، بل وبوجودهم الكليِّ مقابل سدِّ الرمق. وهي الجهاز الاستغلالي الأساسي لحضاراتِ العصور القديمة، يَكُون فيه العبيد أداةَ الإنتاج الرئيسية. ٢-الدولة الإقطاعية: هي شكلُ العبودية المرَوَّضَة بحُدود. فما يُمَيِّزُ القنَّ عن العبدِ هو حقُّ الأول في تأسيسِ العائلة. وهي شكلُ الدولةِ المُجَرَّبُ في مدنياتِ العصور الوسطى. ٣- الدولة الرأسمالية: هي شكلُ الدولة الذي يعتمد أساساً على الطبقة الاجتماعية المسماة “العمال”، والتي تقتصرُ على بيع كدحِها في السوقِ كأيِّ سلعة. وقد يَكُون تسميتها بالقِسم أو البنية أكثر ملاءمة من تسميتِها بالشكل. إنها دولةُ عصرِ المدنية الرأسمالية [14].

التقسيم الآخر الأغرب هو التسميات المزيَّفة للدولة: والتي تؤدي إلى إبرازِ دورِ الجهاز الأيديولوجي. قد يَكُون من المفيد إعادةُ النظرِ فيما يُزعَم أنها أنماطُ الدولة، والتي هي عبارة عن صياغاتٍ أيديولوجيةٍ تَجهَدُ لإضفاءِ هالةٍ من الغموض على مصطلحِ الدولة، بحيث يغدو من الصعبِ تعريفُها. ذلك أنّ الأجواء اليوميةَ تئن تحت وطأةِ هذه المصطلحات وفروضها:١- الدولة الليبرالية: معناها الحرفي هو الدولةُ الحرة. وبهذا المفهوم قدر من التناقض؛ فالدولةُ من حيث الجوهر تعني الحدَّ من الحريات. ومن أعظمِ القضايا على مرِّ التاريخ هي دفاعُ الفرد والمجموعةِ عن حرياتهم تجاه الدولة. وقد احتل هذا الكفاحُ مرتبةَ الصدارة بين لائحةِ الصراعاتِ السياسية والحقوقية الرئيسية. علاوةً على أنه يتم تعريفُ هذه الدولة أيضاً بأنها الأقلّ تدخلاً في شؤونِ الاقتصاد، رغم أنّ وجودَ الدولة غيرُ ممكنٍ إلا بالاحتكارِ الاقتصاديّ. تأسيساً على ذلك، فمقولةُ “الدولة الأقل تدخلاً” ليست سوى سفسطة مضادة ومخالفة لمضمون الدولة وهوية كينونتها [15].

أما النوع الثاني فهي الدولة الاشتراكية: هذا الاصطلاحُ هو عبارة عن سفسطةٍ معادِلةٍ لِما يتعلقُ بمصطلحِ الدولة الليبرالية بأقلِّ تقدير. فالاشتراكيةُ الحقة لا علاقةَ لها بالدولة أصلاً. فالدولةُ على تضادٍّ مع الاشتراكية بقدرِ تضادها مع الديمقراطية كحدٍّ أدنى. إنّ الجُرمَ الأشنع للانتهازية يكمن في الخلطِ بين الدولة باعتبارها مجموع الزمرِ الاحتكارية الاقتصادية الكبرى تاريخياً، وبين الاشتراكية باعتبارها نَسَقَ المساواة. ومن ثم، يتعينُ على الموالين للاشتراكية أنْ يستوعبوا جيداً أنّ الدولةَ هي المؤسسةُ الأساسيةُ في اختلاسِ فوائض الإنتاج والقيمةِ طيلةَ تقاليدِ المدنية المعمرة خمسةَ آلافِ عام. ثم هناك الدولة الفاشية: وهي اصطلاحٌ لا معنى بارز له. فالفاشيةُ والدولةُ القوميةُ متطابقتان من حيث الجوهر. والفاشيةُ قاعدةٌ سائدة. والاستثنائيُّ هو وفاقُها مع البنيةِ الديمقراطية. وبالنسبة للدولة الديمقراطية: فنظراً للاختلافِ الجوهري بين الدولة والديمقراطية على صعيدِ الذهنية وبنيةِ المجتمع ونمطِ الفاعلية والممارسة، فلا وجودَ للدولة الديمقراطية. لكن، وُلِدَت حاجةُ الدولةِ كضرورةٍ ماسةٍ إلى الوفاقِ مع نظامِ الديمقراطية. أي أنّ الدولةَ عاجزةٌ عن إدارة دفةِ الحكمِ لوحدها. بل باتت في حالةٍ تُضطرُّ فيها إلى القبولِ بالإدارة المشتركةِ مع القوى الديمقراطية. بالتالي، فالوفاقُ بينهما أمرٌ ممكن [16].


الدولة والديموقراطية 
إن الديموقراطية بوصفها أكثر الأنماط السياسية تعبيرا عن الرغبة الجماهيرية في التواجد السياسي على ساحة الفعل العام، ترتبط بالنهاية بالدولة. ومن ثم، فإن الديموقراطية تلتصق بالدولة على نحو جذري ” إنها ثنائيةُ الدولةِ والديمقراطية. أي، ثمة إشكاليةُ الديمقراطيةِ في كلِّ مكانٍ تتواجدُ فيه الدولة، وثمة مخاطرُ التدولِ في كلِّ ساحةٍ تتواجدُ فيها الديمقراطية. فكيفما أنّ الديمقراطيةَ ليست شكلاً للدولة، فمن الخطأِ المناداةُ بمصطلحِ الدولةِ الديمقراطية. ينبغي الانتباه بدقةٍ بالغةٍ إلى ماهيةِ العلاقةِ بينهما”. وتَكمُنُ الإشكاليةُ في كيفيةِ الفصلِ بين الدولةِ والديمقراطية، وفي تحديدِ الضوابطِ المنهجيةِ للعيشِ المشترك بينهما على نحوٍ معطاء، أو بحيث لا تنكران بعضَهما بعضاً كأقلِّ تقدير. وقد يتطلبُ الأمرُ سَنَّ دساتيرَ من نوعٍ جديد. فالتداخلُ بين الدولةِ والديمقراطيةِ أَشبَهُ ما يَكُونُ بالضلالِ المخادع، الذي لا يُجدي إلاّ في تمكينِهما من التسترِ على عيوبِ بعضِهما البعض، كما ورقة التوتِ التي تُخفي عورةَ الجسد. لذا، لا يمكنُ البدءُ حتى بنقاشٍ مبدئيٍّ حولَ الدولةِ والديمقراطية، ما لَم نَتَخَطَّ هذا الوضع. فحتى الثورتان الفرنسيةُ والروسية، اللتان هما أكثر الثوراتِ عصرية، قد زادتا من حِدَّةِ التشويشِ والتعقيدِ في هذا الشأن [17].

مِن هنا، وبأقلِّ تقدير، فنظريةُ السياسةِ بحاجةٍ ماسةٍ إلى تشخيصِ الدولةِ المنفتحةِ على الديمقراطية (الدولة التي لا تَضَعُ نفسَها محلَّ الديمقراطية، والتي لا تَحظرُ الديمقراطية)، والديمقراطيةِ التي لا تنكرُ الدولة (الديمقراطية التي لا تتطلع إلى التَّدَوُّل سريعاً، والتي لا تَنظُرُ إلى الدولةِ كعائقٍ يتوجب هدمه على الدوام)؛ وإلى رسمِ معالِمِهما بمنوالٍ سديدٍ من حيث الشكلِ والمضمون كحدٍّ أدنى. حقاً ثمة حاجة إلى النظرية، ولكن، بشرطِ أنْ تَكُونَ جواباً لحالة الأجواء العملية المعقدة. إني على قناعةٍ بضرورةِ -بل بإمكانيةِ- تحديدِ أشكالِ الدولةِ والديمقراطية، بحيث تنخفضُ فيهما نسبةُ الصراعِ والصِّدامِ إلى أدنى المستويات، وتَحُثّان بعضَهما البعض على العطاءِ المتبادَل. وبضرورةِ تطويرِ الاحتمالِ السياسيّ، الذي نحن بأَمَسِّ الحاجةِ إليه على هذا الأساس. فالدولُ القائمةُ لا تَعتَرِفُ بالديمقراطيةِ جوهرياً. ولذلك فهي بليدةٌ جداً وضخمةُ الجثة. في حين أنّ الديمقراطياتِ الموجودةَ منحرفةٌ للغاية وغيرُ فاعلةٍ إطلاقاً، باعتبارِها مسخاً وصورةً كاريكاتوريةً عن الدولِ القائمة. لذا، لا جدالَ في أنّ هذه هي القضيةُ الأوليةُ لفلسفةِ السياسةِ وممارستِها العملية [18].


الدولة القومية والحداثة
الدولةُ القومية من أكثرِ المصطلحات تخبطاً، هي أيضاً في مقدمةِ الاصطلاحات تعرضاً للتزوير. وبالمقدور القول: إنها استُخدِمَت لأهدافٍ دعائيةٍ على الأرجح. بَيْدَ أنّ الدولةَ القومية من المصطلحات المفتاح لفَهمِ عصرنا والقدرة على تغييره. وهي الشكلُ الذي تَحَقَّقَ فيه الاحتكارُ الرأسمالي. فشكلُ الدولة الذي كان لازماً لإنكلترا وهولندا منذ القرن السادس عشر، لأجلِ تحطيمِ آمالِ الإمبراطوريتَين الإسبانية والفرنسية، كان شكلاً بدائياً من أشكالِ الدولة القومية. ومع بروزِ العامل القومي بين الدول بعدَ إبرامِ معاهدةِ واستيفاليا عام 1649م، تسارعت الأحداثُ باتجاهِ الدولةِ القومية. كما إنّ اتخاذَ الدولِ من المركنتليةِ أساساً باعتبارها تعني السياسةَ الاقتصادية، وإبرازَ السوق القومية للمقدِّمة بات عاملاً آخر في تعزيزها وتسريعِ وتيرتها. هكذا أضحت نشاطاتُ اللغة القومية والفن القومي والتاريخِ القومي حِكراً على الدولة تدريجياً. وغدت مختلفُ النزاعات والحروب بين الدول مستحيلةَ التطبيق، دون اللجوءِ إلى النزعة القومية والسلطة بنموذجها في الدولة القومية. وقد لَعِبت حروبُ نابليون دوراً ريادياً في هذا السياق. حيث ما كان بإمكانه إدارة رَحَى الحرب، من دون جعلِ فرنسا دولةً قومية. أما المُنَظِّرون الألمان، الذين يتابعون المستجدات عن كثب، فكانوا قد اكتَشَفوا كلَّ رؤوسِ الخيط اللازمة لتأجيجِ النزعة القومية الألمانية والدولتية القومية الألمانيةِ متجسدةً في شخص نابليون. وهكذا كانت القومويةُ الألمانية المُؤَجَّجة ستلعب دورَ الرافعة في توحيدِ ألمانيا بسرعة، وفي إبرازِ نمطِ الدولة الذي تبحث عنه الحداثة. وفي مستهلِّ القرن التاسع عشر، خُطِيَت أُولى الخطواتِ على الدربِ التي كانت ستُوَلِّد هتلر فيما بعد [19].

إذا ما صِغنا تعريفاً أشمل، فيُمكنُنا القولُ: إنّ الدولةَ القومية هي الإطارُ القانونيُّ لاتحادِ مجموعِ أجهزةِ السلطة ضمن الوجودِ الكلي للمجتمع من جهة، والأفرادِ الذين يُسَمَّون “المواطنين” من جهةٍ أخرى. المصطلحُ المحدِّد هنا هو ظاهرةُ السلطة المستشرية في المجتمع بأكمله. فشرعيةُ جميعِ الدول التي قبلها كانت مؤطَّرةً بمؤسساتها وكوادرها. لكنّ هذا الإطار يتم خرقه في الدولة القومية. إذ يتجسد صُلبُ الدولة القومية في تدويلِ الأفراد الذين يسمون المواطنين، والذين تسعى الدولةُ إلى تكوينِهم بما يتواءم ومصالحَها الأيديولوجيةَ والمؤسساتية والاقتصادية. ويحتلُّ تشكيلُ المواطِن مرتبةَ الصدارة بين المواضيع التي تهتم بها الدولةُ القومية بعناية. لذا، فهي تسعى إلى الاستفادة من الكثير من العناصر كالأيديولوجية، السياسية، الاقتصادية، القانونية، الثقافية، الجنسوية، العسكرية، الدينية، التعليمية، والإعلامية [20].

تُستخدَم جاذبيةُ السلطة السياسية وقوتُها المؤثرة بكثافة في تصييرِ الفرد مواطناً. فالتشبثُ بالسلطة، والقول أنّ “الدولةَ لي”، هي الطريقُ المختصرة إلى الأمانِ والاعتبار بالنسبة للفرد. كما أن علاقةُ الحقوق بالمواطَنة أمرٌ ملموسٌ للغاية. فكلُّ فردٍ يرغبُ في العمل، عليه أنْ يَكُون صاحبَ وثيقةِ الهويةِ الشخصية. والهويةُ الشخصية بذاتها تعني مواطَنةَ الدولة. أي أنها التعبيرُ الرمزي عن عضويةِ الدولة. كما أن المؤسسةِ العسكريةِ تحتل قيمةً أساسية في الدولة القومية، فإنها تحتلُّ المرتبةَ الأولى من بين مؤسساتِ الدولة، التي يُعاد تشكيلُ هويةِ الفردِ فيها على خلفيةِ نقشِ هذه المؤسسةِ في ذهنِه وعقلِه وعواطفِه. فلكلِّ مؤسسةٍ في الدولة القومية وظائف مشابهةٌ للأخرى، لكنّ أياً منها لا يَصِلُ في مستواه إلى تأديةِ دورِ المؤسسة العسكرية. أما الدينُ فهو بمثابةِ الأداةِ التي استخدمَتها القوميةُ أكثر من غيرها. إذ يُعمَلُ على الحطِّ من شأنِه بإضفاءِ الطابع الوطني. أما مؤسسةُ التربية والتعليم فهي مؤسسةُ الحداثةِ الأكثر تأثيراً في جعلِ الفردِ مواطناً، بدءاً من المرحلةِ الابتدائية وحتى الجامعية. وهي تتسابق مع المؤسساتِ العسكرية في هذا المضمار. يتجسد الهدفُ الأولي لهذه المؤسسة في تنشئةِ المواطن. وبالانتقال إلى الإعلامُ، فهو الأداةُ الأكثر فعاليةً في الحداثة لغسلِ العقول والأفئدة. فهذا الجهازُ يُؤَمِّن نسبةً كبيرة من التيسير للدولة القومية، التي تستفيدُ من الإمكانيات التي تمنحها تكنولوجيا التواصل، في تنشئةِ نمطِ المواطن الذي تشاء. هكذا تتم تنشئة نموذجِ مُواطِنٍ لا مثيل له في أيةِ مرحلةٍ من التاريخِ عبر هذه الأدوات والوسائل. المَرامُ الأساسي لهذا المواطِنِ من الحياة، هو أنْ يَكُون صاحبَ سيارةٍ وعائلة وشقة سكنية، وأنْ يصبحَ مستهلكاً يومياً بامتياز. أما معاني المجتمعية، فبالإمكان وضعُها جانباً، والتخلي عنها بسهولة. كما إنه مبتورٌ من التاريخ لأنه مسلوبُ الذاكرة. أما ما يَعتَقِد أنه التاريخ، فهو ليس سوى قوالب الوطنيةِ وكليشيهات القوموية [21].

لقد دُوِّنت العديدُ من الروايات القَيِّمة بشأنِ الدور الذي أدّاه هذا النمط من المواطن في التوجه صوبَ الفاشية. وثمة كُتَّابٌ لامعون في هذا الشأن. نخص بالذكر الرواياتِ المفيدةَ جداً، التي تَدور حول تحليلِ الإبادات الجماعية. علاوةً على أنّ الانتقاداتِ الموجهةَ مؤخَّراً بشأنِ “المواطن” بتأثيرٍ مِن تيارِ ماوراء الحداثة، تُنير الأمرَ بما فيه الكفاية. إنّ الدولةَ القومية بمجتمعها الذي ينتج مثلَ هذا النمط من المواطن، تتصدر لائحةَ العراقيل الرئيسية التي تعترض دربَ العصرانية الديمقراطية. انطلاقاً من ذلك، فمِن أولى المهام التي تقع على كاهلِ الدمقرطة، هي تحليلُ الدولةِ القومية ومجتمعِها المُوَلِّدِ لهذا النمط من اللافرد (لأنّ الفردَ يُعتَبَر معدوماً في الواقع)، وتنشئةُ الأفراد (المواطنين) العادلين والأحرار والديمقراطيين القادرين علىِ بناء الحضارة الديمقراطية [22].

وإحدى أفظعِ النتائجِ الأخرى التي أَسفَرَت عنها الدولةُ القومية، هي حركةُ التدمير والتصفيةِ والصهر، التي مارستها على الإرثِ الثقافي بنحوٍ غيرِ مسبوقٍ في التاريخ. فإحدى خصائصِ الدولة القومية التي تنفرد بها عن غيرها، هي الاعتمادُ على الإثنيةِ القومية الحاكمة، وتجاهُلُ كلِّ الإثنيات الأخرى بإرثها الثقافي المعمرِ آلافَ السنين، ثم تدميرُها بموجبِ ذلك، وصهرُها وتصفيتها. هذه الممارساتُ التي لم تَلجَأ إليها أيةُ قوةٍ قمعيةٍ أو أيديولوجيةٍ في التاريخ، إنما تتعلقُ ببنيةِ الدولة القومية. ويتجسد صُلبُ سياستها الثقافية في البدءِ مِن العزفِ على وترٍ واحدٍ من قبيل: “دولة واحدة، أمة واحدة، لغة واحدة”، وخلقِ صحراءَ قاحلةٍ يَعُجُّ فيها المواطنون والمؤسساتُ الأحاديةُ اللونِ والتي يشابِهُ بعضها بعضاً، بحيث يَسُودها سوادٌ حالكٌ أو بياضٌ ناصع. وقد سُعِيَ إلى تطبيقِ الداروينية (الأحيائية) على المجتمعِ أيضاً. حيث اعتَبَرت قيامَ الثقافةِ الأقوى بصهرِ كافةِ الثقافات الأخرى على أنه قانونُ التطورِ الطبيعي. وذلك –بالطبع- بتجاهلِ سياقِ التطور الطبيعي للإنسان على مر ملايين السنين، أو القضاء عليه! وما ازديادُ جَدبِ الثقافة طردياً في يومنا، وافتقادُها جاذبيتَها وساحريتَها، وسقوطُها في وضعِ العجز عن إبداءِ مكنونها، وخروجُها من كونها منبعَ الإلهام؛ إلا بسببِ حركةِ الجَرف التي طبقَتها الدولةُ القومية على التقاليدِ الثقافية. هكذا غدت آلافُ اللغات، عشراتُ الآلافِ من العشائر والقبائل والأقوام، زخمُ الإرثِ الأركولوجي، وشتى أشكالِ الحياة (الثقافات) ضحيةً دائمةً لسياسةِ الإبادة الثقافية الأحادية تلك. وليسَ معلوماً بَعدُ أين ستَحُطُّ هذه السياسةُ رِحالَها. إنّ ثقافةَ الدولةِ القومية والفردِ القومي والمجتمعِ القومي ذات النمطِ الواحد واللونِ الواحد، لا تقتصر على إثمارِ الفاشية وحسب. بل وتُجدِب الحياةَ مقحِمةً إياها في مرحلةٍ من الوحشية التي لا مأربَ لها سوى البحث عن هدفٍ لمحاربته. والمحصلةُ هي الحروبُ الأثنيةُ والدينية واللغوية وغيرها من الحروبِ الثقافية التي لا مخرجَ لها [23].

كما تحرص الدولةُ القوميةُ على فرض النمط الأحادي في الميدان السياسي أيضاً. فمثلما أنه لا مكانَ في الدولةِ القوميةِ للهوياتِ الوطنية المختلفة، فهي لا تَسمَحُ أيضاً بوجودِ الكيانات السياسية المغايرة. أي أنّ المقصودَ من الدولةِ المركزية -بمعنى آخر الدولة المسماة بالبنية الأحادية- هو تجفيفُ إمكانياتِ وفرصِ مزاولةِ السياسةِ على أساسِ الاختلاف، والتي تُعَدُّ مِن الشروطِ الأساسية للتحولِ الديمقراطيّ. إذ تَعتَبِرها خطراً مُحيقاً بكُلِّيَةِ بُنيانِ الدولة. بل وتنظر بعينِ الشك إلى الاعترافِ بالحدِّ الأصغرِ من الصلاحياتِ للإدارات المحلية في هذا السياق. أما البيروقراطيةُ المركزية، فتُشَكِّل منهلَ قوتها وبنيانَها الأساسي. إذن، فالدولةُ القومية هي الدولةُ التي خَلَقَتها البيروقراطيةُ الحديثة. وهي تضع المجتمعَ برمته تحت النَّظَارة داخلَ القفص الحديدي. وشرطُها الأساسي بشأنِ الأحزابِ السياسية ومنظماتِ المجتمع المدني، هو الحراكُ بما يتماشى وسياساتِ الدولة. بالتالي، فهي ترى في انتعاشِ وتطورِ مختلفِ التنظيمات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بموجب مبدأِ التعددية خطراً يهددها، فتُطاردُها عن كثب. وهي لا تَسمَح لها البتة بفرصةِ تشكيلِ الخيار البديل، أو باحتلالِ مكانها في الإدارة والحكم. ونظراً لطبيعةِ بنيةِ الدولةِ القومية المناهضة للتعددية السياسية، فهي مضادةٌ للديمقراطية. إذن، فعجزُ مفاهيمِ الديمقراطية والاشتراكية عن الانتعاشِ ضمن إطارِ الدولة القومية، بل وتَعَرُّضُها للتصفيةِ والزوال؛ إنما ينبع من دفاعها عن الدولة القومية، أو استسلامها لها، مثلما بَيَّنّا سابقاً. لا يمكن الحديث عن بنيةٍ منفتحةٍ على الديمقراطية، إلا في حالِ عقدِ وفاقٍ مبدئي بين الدولة القومية والديمقراطية كوحدَتَين مختلفَتَين [24].

لقد تَحَوّلَت الرياضةُ والفنُّ أيضاً داخلَ المجتمعِ وعلى الصعيدِ الوظيفيِّ إلى مؤسساتٍ مسخَّرةٍ في خدمةِ الدولة القومية لشَنِّ أعتى أشكالِ الحرب على المجتمع. نخص بالذكر البرامجَ الثقافية والرياضية، التي تعتمدُ على الصرعةِ والاستثارة، والتي تُستخدَم لهذا الغرض على أوسعِ نطاق. فبينما تَكُون الرياضةُ وسيلةً تربويةً تَصُبُّ في خدمةِ بناءِ المجتمعِ القويم السليم، نرى أنها قد اختُزِلَت إلى أداةٍ لترويجِ مجدِ الدولة القومية. حيث تَحصرها السلطةُ ضمن ثنائيةِ النصر أو الهزيمة، فتُحَوِّلها إلى أداةٍ قتالية، وكأنها تخوض حرباً ضروس. ونخص بالذكر رياضةَ كرةِ القدم، التي تَستخدِمها الدولُ القومية لهذا الغرض كاحتكارٍ للسلطة. لقد أضحت الرياضةُ مُتَدَوِّلةً قوموية، وساحةَ حربٍ مؤثرة ضد المجتمع. الفنُّ هو ثاني ساحةِ حربٍ اجتماعيةٍ مهمةٍ أَحكَمَت الدولةُ والاحتكاراتُ الخاصة قبضتَها عليها. وقد لَعِبَت ثقافةُ الصرعةِ والاستثارة الشعبويةِ وثقافةُ الأرابيسك بصورةٍ خاصة دوراً مؤثراً في أَسرِ المجتمعِ تحت يافطةِ ثقافةِ اللهو والسَّمَر، وكأنّ جيشاً من النجوميين اللامعين يقصف المجتمعَ بنيرانه. هكذا يُحَطُّ من شأنِ الفن التقليدي، ويُحَوَّل إلى أداةٍ تؤدي دوراً معاكساً، بإبعادها الثقافةَ الشعبية عن وظيفتها الأساسيةِ المتميزة بها على مدى آلافِ السنين، وبصبغها بطابعِ الصرعة، وبالتالي بالقضاءِ من خلالِها على المجتمع [25].

كانت الدولةُ القومية باعتبارِها النموذجَ الأولي للفاشية، تَمُرُّ كالجَرّافةِ على الغِنى الذي اكتَسَبَه المجتمعُ طيلةَ التاريخ، لتُغرِقَ آمالَه المستقبليةَ في بحرِ الظلماتِ الحالكة، فلا يبقى شيءٌ سوى الدولة القومية، التي تؤلِّهُ ذاتها وتُحَصِّنُ نفسَها بدينِ القوموية الوضعية ذي الطابعِ الوثني الشيئي، وتبني ذاتَها وكأنها الصحيحُ الأوحد. إنها معروفةٌ بتَجَرُّدِها من العواطف، وبتعسفها الذي بلغَ حَدَّ الإبادات العرقية. احتكارُ القوة هذا نفسُه كان مصدرَ كلِّ تلك المشاكل. حيث ظهرَ حصيلةَ صهرِ الاقتصاد والسياسة والمجتمع والأيديولوجيا في بوتقةٍ واحدةٍ لأولِ مرةٍ في تاريخِ رأسِ المال المعمرِ خمسةَ آلافِ سنة [26].

وبسياق آخر، وفي إطار العلاقة بين المجتمع والدولة ونمو الفاشية، بالمستطاعِ تعريفُ الدولةِ القوميةِ مِن حيث المضمونِ على أنها تَطابُقُ المجتمعِ مع الدولة، وتطابُقُ الدولةِ مع المجتمع. وهذا هو تعريفُ الفاشيةِ بالذات أيضاً. فبطبيعةِ الحال، لا يُمكِنُ للدولةِ أنْ تصبحَ مجتمعاً، ولا للمجتمعِ أنْ يَكُونَ دولة. ولا يُمكِنُ إلا للأيديولوجياتِ التوتاليتاريةِ الشموليةِ أنْ تطرَحَ هكذا مزاعم. فالماهيةُ الفاشيةُ لهذه المزاعمِ معروفة. للفاشيةِ مكانُها الدائمُ في الزاويةِ الرُّكنِ لِلّيبرالية البورجوازيةِ باعتبارِها شكلاً من أشكالِ الدولة. إنها شكلُ الحكمِ في أوقاتِ الأزمة. وبسببِ كَونِ الأزمةِ بنيوية، فإنّ شكلَ الحكمِ أيضاً بنيويّ. واسمُه: حكمُ الدولةِ القومية. إنه قمةُ أزمةِ عصرِ رأسِ المالِ الماليّ. ودولةُ الاحتكارِ الرأسماليِّ التي بَلَغَت قِمَّتَها على الصعيدِ العالميِّ في راهننا، هي فاشيةٌ عموماً في مرحلتِها الاستبداديةِ الأكثر تخلفاً. ورغمَ الحديثِ عن انهيارِ الدولةِ القومية، لكنّ الادعاءَ بأنّ الديمقراطية سَتَحلُّ محلَّها هو محضُ سذاجة. فقد تَكُونُ الكياناتُ الفاشيةُ السياسية في الأجندة، الكونيةُ الكبرى منها والمحليةُ الصغرى. فما يَجري في الشرقِ الأوسطِ والبلقان وآسيا الوسطى ملفتٌ للأنظار. وأمريكا الجنوبيةُ وأفريقيا على عتبةِ خوضِ تجارب جديدة. وأوروبا تتطلعُ إلى الابتعادِ عن فاشيةِ الدولةِ القومية عن طريقِ الإصلاح. أما روسيا والصين، فلا يزالُ مصيرُهما مجهولاً. بينما الولاياتُ المتحدة الأمريكيةُ المهيمنةُ بامتياز، هي على تواصُلٍ متبادَلٍ مع جميعِ أشكالِ الدولة [27].

إنّ المجتمعَ الذي أخرَجَته الدولةُ القوميةُ مِن كونِه مجتمعاً (الذي يَعتَقِدُ أنه دولة قومية)، والمجتمعَ الذي يُغويه الإعلامُ ويُفسِدُه، يعنيان المجتمعَ المهزومَ بكلِّ معنى الكلمة. وتُشادُ أشياء أخرى مِن أنقاضِ هكذا مجتمعات. لا شكّ أننا نعيشُ عصراً اجتماعياً كهذا. لا نعيشُ فقط في المجتمعِ الأكثر إشكالية. بل ونعيشُ في مجتمعٍ عاجزٍ عن منحِ فردِه أيَّ شيء. إنّ المجتمعاتِ التي نعيشُ ضمنها لَم تَفقُدْ فقط أنسجتَها الأخلاقيةَ والسياسية. بل إنّ وجودَها أيضاً مُهَدَّد. فهي تُعاني مِن مخاطرِ الإبادة، لا مِن الإشكاليات. فإذا كانت القضايا تتعاظمُ في يومِنا رغمَ كلِّ قدراتِ العلم، وتتجذرُ وتتحولُ باستمرار إلى حالةٍ سرطانية؛ فهذا يعني أن الإبادةَ المجتمعيةَ ليست مجردَ فرضية، بل هي خطرٌ حقيقيٌّ مُحيق. أما المزاعمُ التي تقولُ أنّ سلطةَ الدولةِ القوميةِ تَحمي المجتمع، فهي تبتكرُ أفدحَ خداع، لتَجعَلَ مِن الخطرِ حقيقةً واقعةً خطوةً بخطوة. إنّ المجتمعَ وجهاً لوجهٍ أمامَ الإبادة، وليس أمام القضايا وحسب [28].

لَم نَضَع السلطةَ والدولةَ في أولِ أقسامِ القضايا الاجتماعيةِ عن عبث. بل إنّ الدافعَ الأساسيَّ وراء ذلك هو أنهما تُشَكِّلان المنبعَ العينَ للقضايا. فالوظيفةُ الأوليةُ لعلاقاتِ وأجهزةِ السلطةِ والدولة، والتي كانت تتربعُ فوق المجتمعِ بكُلِّ ثِقَلِها، ثم غَدَت متموقعةً داخله وبكثافةٍ تزامُناً مع القرنِ السادس عشر؛ تتجسدُ في تهيئةِ المجتمعِ المُجَرَّدِ من القوةِ والحماية، وجعلِه قابلاً للاستغلالِ الاحتكاريّ. من المهمِّ جداً تعريفُ دورِ السلطةِ والدولة على هذه الشاكلة. فنعتُ السلطةِ والدولةِ بأنهما مجموعُ أجهزةِ العنف وعلاقاتها فحسب، إنما يتضمن نواقصَ فادحة. وأنا على قناعةٍ بأنّ أهمَّ دورٍ لهذَين الجهازَين يتمثلُ في إبقاءِ المجتمعِ بلا قوةٍ أو حماية. أما دورُهما هذا، فتُحَقِّقانه بالنهشِ والتهشيشِ الدائمِ لأنسجتِه الأخلاقيةِ والسياسية التي تُعتَبَر لَوازِمَ “وجودِ” المجتمع، وبإسقاطِها في حالةٍ تَعجَزُ فيها عن القيامِ بعملها أو أداءِ دورها.. لذا، فإنّ أولَ ما تَلجَأُ إليه أجهزةُ وعلاقاتُ السلطةِ والدولة على مَرِّ التاريخ، هو إحلالُ المؤسسةِ المسماةِ بـ”القانون” مَحَلَّ أخلاقِ المجتمع، والمؤسسةِ المسماةِ بحُكمِ “الدولة” مَحَلَّ سياسةِ المجتمع. أي أنّ وظيفةَ السلطةِ والدولةِ الأساسيةَ في كلِّ مرحلة، تتجسدُ في تجريدِ المجتمعِ مِن قوةِ الأخلاقِ والسياسة التي تؤدي دوراً أساسياً في استراتيجيةِ وجودِه، وفي إقامةِ حُكمِ القانونِ والسيطرةِ مقامَهما [29].

بناءً عليه، ففي مقدمةِ القضايا الأوليةِ تأتي قضيةُ شلِّ تأثيرِ الأنسجةِ الأخلاقيةِ والسياسية للمجتمع، وإيصالِها إلى حالةٍ تَعجَزُ فيها عن العمل. لا ريب أنه مِن غيرِ الممكن القضاءُ كلياً على الأنسجةِ والميادينِ الأخلاقية والسياسية. فما دام المجتمعُ موجوداً، فالأخلاقُ والسياسة أيضاً ستتواجدان. ولكنهما تعجزان عن أداءِ مهاراتهما وكفاءاتهما الإبداعيةِ والوظيفية، بسببِ خروجِ أو إخراجِ السلطةِ والدولة من كونهما ساحةً للمهارةِ والخبرة. واضحٌ جلياً أنّ أجهزةَ وعلاقاتِ السلطةِ والدولة الراهنة قد تسللَت إلى أدقِّ مساماتِ المجتمع (عبر الإعلامِ وشتى أنواع المنظماتِ الاستخباراتيةِ ووحداتِ التمشيطِ الخاصةِ والتعاليم الأيديولوجية وغيرها)؛ كاتمةً بذلك أنفاسَه، ومُصَيِّرةً إياه مجتمعاً يجهلُ ذاتَه ويعجَزُ عن تطبيقِ أيِّ مبدأٍ أخلاقيٍّ أو القيامِ بأيِّ نقاشٍ سياسيٍّ لتَلبيةِ احتياجاته الأساسية أو البتِّ فيها (مزاولة السياسة الديمقراطية). في هذا الحال يتم استبدال السلطة الأخلاقية الطبيعية التي يمتلكها الأفراد في جيناتهم الطبيعية بسلطة أخرى هي سلطة القانون التي تتحكم الدولة فيه بشكل أو بأخر [30].


الدولة واستعمار المجتمع
تنساب الدولة لداخل المجتمع، وتحيل أفراده لعجينة سهلة التشكل وفق أدواتها الأيديولوجية، وبالأساس تَنسجُ سلطاتُ الدولةِ القوميةِ بصورةٍ خاصةٍ احتكاراتِها حولَ الأطفالِ والشبابِ أولاً عن طريقِ التعليم. فالأشخاصُ المعجونون بمفاهيمِها التاريخيةِ والفنية وبذهنياتها الدينيةِ والفلسفية، لَم يَعُودوا منتمين إلى عوائلهم القديمة. بل باتوا أطفالاً مِن صُلبِ أصحابِ السلطةِ ومُلكاً لهم. وهكذا يتأسسُ الاغترابُ الكبير. وتُعَدُّ البورجوازيةُ مِن حيث التعليمِ الطبقةَ التي تُؤَسِّسُ لأشدِّ أنواعِ الاحتكارِ كثافةً، وتُسَلِّطُه على المجتمعِ بأكمله. فلدى جَعلِها التعليمَ الابتدائيَّ والإعداديَّ إلزامياً، وتذكيرِها بشهادةِ التخرجِ الجامعيِّ للراغبين في الحصولِ على عمل؛ يَكُونُ طَوقُ الاغترابِ والتبعيةِ المُحاصِرُ لشبيبةِ المجتمع، ومسارُ الزَجِّ بها في القفصِ قد أصبحا ضرورةً لا مفرَّ منها. بالتالي، فالعنفُ والتعليمُ والقوةُ الماديةُ تصبح أسلحةً فتاكةً يَصعبُ مقاومتُها على دربِ استعمارِ المجتمع. وعليه، بالإمكانِ التبيانُ بكلِّ يُسرٍ أنّ المجتمعَ قد تَلَقَّى أكبرَ الضرباتِ جرّاء الحربِ التي شَنَّتها الدولةُ والسلطةُ ضده طيلةَ تاريخِ المدنيةِ من خلالِ حقلِ التعليم. يُعَدُّ حقُّ المجتمعاتِ في التعليمِ من أصعبِ حقوقِها تطبيقاً. كما إنّ المجتمعَ الذي يتعينُ عليه ضمانُ وجودِه ضدّ القوى العملاقةِ للدولةِ القوميةِ والاحتكاراتِ الاقتصادية عبر التعليمِ دون بُدّ، يَكونُ قد دَخَلَ أصعبَ مراحلِ تاريخِه. ومع ثورةِ الاتصالاتِ الأخيرة، فإنّ الدولةَ القوميةَ التي بَسطَت هيمنتَها الأيديولوجيةَ عبرَ حربِها الإعلاميةِ المُسلَّطةِ على كاملِ المجتمع، تُسَيِّرُ حملةً جديدةً من الاستعمارِ الثقافيّ، الذي وُفِّقَت فيه بما يَفُوقُ استعمارَها إياه عسكرياً واقتصادياً؛ وذلك بسببِ تسييرها إياه بكثافةٍ ومُواراةٍ أكبر. يتجسدُ السبيلُ الوحيدُ لحريةِ المجتمعِ وخَلاصِه في مقاومتِه تجاه هذا الغزوِ والاستعمارِ الثقافيِّ بالوَسيلَتَين الأوليتَين لوجودِه. أي، بأخلاقِه وسياستِه الذاتية. فالمجتمعُ الذي يخسرُ شبيبته (أو الشبيبةُ التي تخسرُ مجتمعها) لا يدلُّ على الهزيمةِ فحسب. بل وعلى إضاعةِ الحقِّ في الوجودِ الذاتي، بل وخيانتِه حتى. وما يتبقى حينها هو الاهتراءُ والتبعثرُ والاضمحلال. مقابلَ ذلك، تتمثل مَهَمَّتُه الاجتماعيةُ الأساسيةُ في تطويرِ مؤسساته التعليميةِ كوسائلَ أوليةٍ لوجوده [31].

كان انتقال السلاح من يد المجتمع ليغدو حصرا في يد الدولة، أمرا حاسما في قدرة الدولة وعلاقتها بالمجتمع إذ عنى ذلك امتلاك الدولة بشكل كبير كل مساحات الحراك الحر التي صنعها المجتمع لنفسه عبر آلاف السنوات من التطور والنمو والتي انتهت في شكل صيغة علاقة مركبة ما بين الدولة والمجتمع.. فانتقالُ احتكارِ السلاحِ الوحيدِ إلى يَدِ جيشِ الدولة، بَعدَ تجريدِ المجتمعِ رسمياً من السلاحِ باسمِ الجيشِ الرسمي؛ إنما يَظهَر أمامنا كخاصيةٍ مُعَيِّنةٍ في الدولة القومية. لَم يُجَرَّد المجتمعُ مِن سلاحه في أيٍّ مِن مراحلِ التاريخِ بقدرِ ما فَعَلَته الطبقةُ البورجوازية. وسببُ هذه الحقيقةِ المهمةِ جداً يتمثلُ في تكاثُفِ الاستغلالِ وتنامي المقاوماتِ العظمى إزاءه. إذ من المحالِ توجيهُ المجتمعِ وإدارتُه، ما لَم يُجَرَّدْ من أسلحته تماماً ودائماً، وما لَم يُصَيَّرْ منفتحاً على تَسَلُّلِ السلطةِ إلى كافةِ مساماته الداخلية، وما لَم يَخضَعْ لرقابتِها. وكأنه لا يُمكن التغلبُ على المجتمعِ أو التحكمُ به، دون حبسِه في “القفص الحديدي” للحداثة. فضلاً عن استحالةِ حُكمِ المجتمعِ دون حبسه ومحاصرتِه على يَدِ الجيشِ الإعلاميِّ أيضاً في عصرِ الاحتكارِ الماليِّ العالمي [32]. 

لكن متى تتحول السلطة لغول يلتهم كافة الفضاء السياسي.. ” لا تتواجدُ السلطةُ والدولةُ فعلاً، إلا في المرحلةِ التي تُنكَرُ وتَنتَفي فيها السياسةُ المجتمعية. ففي الوقتِ الذي تنتهي فيه السياسة، تُباشِرُ بُنى السلطةِ والدولةِ بإدارةِ أعمالها. السلطةُ والدولةُ هما المكانُ الذي ينتهي فيه الكلامُ السياسيّ، وبالتالي تَغِيبُ فيه الحرية. ما هو موجودٌ فيهما ليس سوى الحكم، وتَلَقّي أو إصدارُ الأوامر، وسيادةُ القانونِ والنظامِ الداخليّ. وعليه، فكلُّ سلطةٍ ودولةٍ هما عقلٌ جامد. وفي هذه الخاصيةِ تَكمُنُ نقاطُ قوتِهما وضعفِهما معاً. والحالُ هذه، فمِن المحالِ أنْ تَكُونَ ميادينُ الدولةِ والسلطةِ ساحاتٍ يُبحَث فيها عن الحرياتِ أو تتحققُ ضمنها الحريات. أما تشخيصُ هيغل للدولةِ على أنها الساحةُ الحقيقيةُ التي تَتَحَقَّقُ فيها الحرية، فيُشَكِّلُ ركيزةَ جميعِ الآراءِ والبنى السلطويةِ للحداثة. وهكذا، تتصدر فاشيةُ هتلر قائمةَ الأمثلةِ الموضِّحةِ لِما قد يتولدُ عنه هذا الرأي. أي أن الحرية هي الأساس هنا. فبقدرِ ما يَكُونُ ميدانُ السياسةِ المجتمعيةِ مُوَلِّداً للحرية، فإنّ السلطةَ والدولةَ ساحتان تغيبُ فيهما الحريةُ بالمِثل” [33].

ونعود من جديد للعلاقة المركبة ما بين السلطة والدولة وبينهما المجتمع ” التشخيصُ الأولُ الذي يُمكِن تحديده بشأنِ السلطةِ والدولةِ على صعيدِ يومنا، هو اكتسابُهما حجماً خارقاً فوقَ وداخلَ المجتمع. فحتى القرنِ السادس عشر غالباً ما كانت السيادةُ تُنشَأُ خارجَ المجتمعِ بشكلٍ مُبهِرٍ ومُخيف. حيث كانت الدولةُ تَرسمُ معالمَ الحدودِ بعناية كتعبيرٍ رسميٍّ عن السلطة. فكلما كانت الفوارقُ بين الدولةِ والمجتمعِ قاطعةً وفاصلة، كلما عُقِدَ الأملُ على جني المزيد من الفوائد. بل حتى إنّ السلطةَ كظاهرةٍ داخلَ المجتمعِ كانت حدودُها واضحةً وفاصلة. فمسارُ سلوكياتِ المرأةِ تجاه الرجل، وسلوكياتِ الشبابِ اليافعين تجاه كِبارِ السِّنّ، وأعضاءِ القبيلةِ العاديين تجاه رئيسِ القبيلة، والجماعةِ المؤمنةِ تجاه ممثلِ المذهبِ أو الدينِ المعني؛ كان مرسوماً ومُحدَّداً بالآدابِ والقواعدِ الصارمة. كما كانت سيادةُ السلطةِ وموضوعُ الحاكمِ والمحكومِ مضبوطةً بقواعدَ مُفَصَّلة؛ بِدءاً من نَبَراتِ الصوتِ إلى آدابِ السَّيرِ والجلوس. لا شكّ أنّ تأسيسَ نفوذِ السلطةِ والدولةِ بهذا النحوِ لفَرضِ وجودهما أمرٌ مفهوم، نَظَراً لانخفاضِ تعدادهما حيال المجتمع. وعليه، كانت تلك القواعدُ تلعبُ دورَها كأدواتِ شرعنة، وتُقَدِّمُ التعليمَ اللازم وما شابه مِن خدماتٍ في سبيلِ ذلك [34].

ويعودُ سببُ التحولِ الجذريِّ ضمن أشكالِ نفوذِ السلطةِ والدولةِ في المدنيةِ الأوروبيةِ إلى شعورِ السلطةِ والدولةِ بالحاجةِ إلى التغلغلِ في كافةِ مساماتِ المجتمعِ بشكلٍ متسارع. بالإمكانِ الحديثُ عن عاملَين رئيسيَّين لعبا دورَهما في انتشارِ السلطةِ عامودياً وأفقياً. أولُهما؛ تضخمُ الكتلةِ المستَغَلّة. إذ كان مستحيلاً تحقيقُ الاستغلالِ دونَ تضخيمِ الإدارةِ الحاكمة. فكيفما أنّ كثرةَ القطيعِ تقتضي رعاةً كُثُر، فإنّ تَوَرُّمَ بيروقراطيةِ الدولةِ أيضاً برهانٌ ساطعٌ على هذه الظاهرة. هذا وينبغي إضافةُ حاجةِ الإدارةِ لقمعِ المجتمعِ داخلياً إلى ذلك أيضاً، إذ تأتي نتيجةَ تضخيمِها المفرطِ لقوةِ الحمايةِ الخارجية. فلَطالما وَلَّدَت الحروبُ البيروقراطيةَ في كلِّ الأوقات. والجيشُ نفسُه أضخمُ تنظيمٍ بيروقراطيّ. العامِلُ الثاني هو وعيُ المجتمعِ ومقاومتُه المتناميان. فعدمُ معاناةِ المجتمعِ الأوروبيِّ مِن الاستغلالِ العميقِ مِن جهة، ومقاومتُه المستمرةُ مِن جهةٍ أخرى؛ قد فَرَضا أن يَكُونَ إنشاءُ السلطةِ والدولةِ أكثر ضخامة. كما إنّ نضالَ البورجوازيةِ تجاه الأرستقراطية، ونضالَ الطبقةِ العاملةِ تجاه كِلتَيهما أفضى إلى ضرورةِ بناءِ السلطةِ والدولةِ في أوروبا بطرازٍ أعمق. أما تَدَوُّلُ البورجوازية كطبقةٍ وسطى ربما لأولِ مرةٍ في التاريخ، فجَلَبَ معه تغيراتٍ كبرى في مكانةِ السلطةِ والدولة. فتَدَوُّلُ هذه الشريحةِ المتولِّدةِ مِن أحشاءِ المجتمع، وبالتالي ظهورُ السلطةِ المتزايدة؛ قد فَرَضَا ضرورةَ تنظيمِ ذاتِها داخلَ المجتمع [35].

وباعتبارِ الدولةِ القوميةِ قاسِماً مشتركاً لكافةِ الاحتكارات، فهي لا تقتصرُ على بناءِ ذاتها على خلفيةِ سلبِ الثقافةِ الاجتماعية المادية وغزوِها واستعمارها. بل وتؤدي دوراً مصيرياً في صهرِ الثقافةِ المعنويةِ أيضاً. إذ غالباً ما تُضفي الطابعَ الرسميَّ على المعاييرِ الثقافيةِ لأثنيةٍ أو جماعةٍ دينيةٍ حاكمة، وذلك باسمِ الثقافة الوطنية. ثم تَشنُّ الحربَ ضد جميعِ الكيانات الثقافية المتبقية. وبذريعةِ أنها “تضرُّ بالوحدة الوطنية”، فهي تُهَيِّئُ النهايةَ المحتومةَ لجميعِ اللغات والثقافات الموجودة في كافةِ الأديانِ والأثنيات والأقوام والأمم واللغاتِ والثقافاتِ التي لا تَبرح محافظةً على وجودها منذ آلاف السنين. وهي تَفعلُ ذلك باللجوءِ إلى العنفِ أو الإغراءِ الماديّ. وهكذا باتت اللغات، الأديان، المذاهب، العشائر والقبائل الأثنية، والأقوام والأمم ضحيةَ هذه السياسة؛ أو بالأحرى ضحيةَ هذه الإبادة بما لا ند له في أيةِ مرحلةٍ من التاريخ. بل إنّ الإباداتِ الماديةَ (الجسدية) مقابل الإباداتِ المعنويةِ ليست حتى كحجمِ الأُذُن في الجَمَل. بالتالي، تتمُّ التضحيةُ بالقيمِ اللغويةِ والثقافيةِ وبمجموعاتِها المُنسَلّةِ إلى يومنا منذ آلاف السنين، تحت ذريعةِ طيشِ بناءِ “الوحدة الوطنية”، وكأنها ممارسةٌ مقدسة [36].

في الحقيقة، لقد صُيِّرَ الوطنُ مُلكيةً مشتركةً لحلفاءِ الاحتكار. والنظامُ الذي شَيَّدوه تأسيساً عليه هو أكثر عُمقاً في استعمارِه من استعمار المستوطَنات القديمة. فإنْ كان ثمة بلد مستعمِرٌ واحدٌ فقط قديماً، ففي الدولةِ القومية العصرية ثمة أشكالٌ استعماريةٌ مسلَّطةٌ على “وطنها المقدس” بقدرِ أنواعِ الاحتكار فيها. فكيفما جُرِّدَت الشعوبُ المستعمَرةُ من أسلحتها، كذلك فقد جُرِّدَ شعبُ “الوطن المقدس” أيضاً من أسلحته، متروكاً بلا مقاومة تجاه شتى أنواع الاستغلال. حيث أُخضِعَت شتى كياناتِه الثقافيةِ المادية والمعنوية، وعلى رأسها قواه العاملة، لاستغلالٍ مضاعَف. إذ لا يُمكن إشباع جشعِ احتكاراتِ البيروقراطية المتضخمةِ كالوَرَم بأيِّ شكلٍ آخَر[37]. ويمكن التعامل مع الدولة القومية في علاقتها بالمجتمع؛ بأنها دولة الحد الأقصى، كيف ذلك؟ الدولةُ القوميةُ بصفتِها الحدَّ الأقصى للسلطة، إنما تعني المجتمعَ الذي جُرِّدَ من طابعِه السياسيِّ إلى أبعدِ حد. أي أنّ الدولةَ القوميةَ تُوَلِّدُ هكذا مجتمع. بل ولا يَبقى في الوسط شيءٌ اسمه مجتمع. وكأنّ المجتمعَ مصهورٌ في بوتقةِ الدولة القومية والشركات المُتَعَولِمَة. يَعتَبِرُ ميشيل فوكو الدفاعَ عن المجتمعِ في هذه النقطة أساساً للحرية. ولا يَقتَصِرُ في تقييمِ ضياعِ المجتمعِ (من قِبَلِ الفردية المُتَطَرِّفة والاحتكارات كحداثةٍ قائمةٍ بذاتِها) على أنه خُسرانٌ للحريةِ وحسب، بل وخُسرانٌ للإنسانِ أيضاً [38].

إذن ما الحل من وجهة نظر أوجلان لجبروت الدولة القومية الشرسة في التعامل مع التنوعات الاثنية  ” فبقدرِ ما تَكُونُ الدولةُ القوميةُ إنكاراً للديمقراطيةِ المباشَرة، فإنّ الكونفدراليةَ الديمقراطية، وعلى النقيض، هي شكلُ تكوينِ وتفعيلِ الديمقراطية المباشرة. وباعتبارِ أنّ الوحدات الفيدراليةَ خلايا نواتيةٌ في الديمقراطيةِ التّشارُكِيّةِ المباشرة، فهي عناصر مُثلى لا نظيرَ لها من حيث مُرونَتِها في التحول إلى اتحاداتٍ كونفدراليةٍ حسبما تقتضيه الظروفُ والحاجات. فكلُّ أنواعِ الاتحاداتِ السياسيةِ هي اتحاداتٌ ديمقراطية، بشرطِ اعتمادِها أساساً على الوحداتِ المرتكزةِ إلى الديمقراطيةِ التّشارُكِيّةِ المباشرة. أما الفاعليةُ السياسيةُ المُطَوَّرَةُ بدءاً من الوحدة المحلية بامتياز –والتي تَحيا وتُطَبِّقُ الديمقراطيةَ المباشرة– وصولاً إلى الكيان العالميِّ بامتياز؛ فيمكن تسميتُها بالسياسةِ الديمقراطية. والنظامُ الديمقراطيُّ الحقيقيُّ هو صيغةُ معايشةِ مجموعِ هذهِ المراحل. وإذا ما رُصِدَت الطبيعةُ الاجتماعية بدِقّةٍ وإمعان، فستُدرَكُ بكلِّ سهولةٍ ماهيةُ “القفص الحديدي” للدولة القومية، والماهيةُ التحريريةُ الأنسب للكونفدراليةِ الديمقراطية. فبقدرِ ما تَقُومُ الدولةُ القوميةُ بقمعِ المجتمعِ وتنميطه وإبعادِه عن الديمقراطية، فنموذجُ الكونفدراليةِ الديمقراطية تحريريٌّ وتعدديٌّ ومتوجِّهٌ نحو التحولِ الديمقراطيّ بالمِثل [39].

ويكمل أوجلان، ثمة نقطةٌ أخرى ينبغي الانتباه إليها، وهي ضرورةُ تَصَوُّرِ الوحداتِ الفيدراليةِ والذاتيةِ ضمن إطارٍ غنيٍّ جداً. إذ من المهم للغاية إدراكُ مدى الحاجةِ إلى وحداتٍ كونفدرالية في كلِّ قريةٍ أو حيٍّ في المدينة. أي أنّ كلَّ قريةٍ أو حيٍّ يُمكِنُ أنْ يَكُونَ وحدةً كونفدراليةً بكلِّ سهولة. وعلى سبيل المثال، فقد تتواجدُ في قريةٍ ما وحداتُ الديمقراطيةِ المباشرة، التي يتعينُ عليها الاتحادُ على مستوى القرية، بدءاً من وحدتِها أي فيدراليتِها الأيكولوجية، وصولاً إلى وحداتِ المرأة الحرةِ والدفاع الذاتيِّ والشبيبةِ والتعليم والفلكلور والصحة والتعاون والوحدات الاقتصادية. وباستطاعتِنا وبكلِّ سهولةٍ تسميةُ الاتحاد الجديد لهذه الوحدات بالوحدةِ الكونفدرالية أو الاتحاد الكونفدرالي (اتحاد الوحدات الفيدرالية). وإذ ما عَمَّمنا هذا النظامَ على المستويات المحلية والوطنية والإقليميةِ والعالمية، فسنفهمُ بسهولة مدى كون الكونفدرالية الديمقراطية نظاماً شاملاً [40].

وعن آليات الدفاع في مواجهة عنف الدولة القومية يقول أوجلان ” يمكن تطبيقُ الدفاعِ الذاتيِّ المجتمعيِّ أيضاً على أكملِ وجه في النظامِ الكونفدرالي الديمقراطي. حيث يَندَرِجُ الدفاعُ الذاتيُّ في النظام الكونفدرالي كإحدى مؤسساتِ السياسةِ الديمقراطية. فالدفاعُ الذاتيُّ من حيث التعريف هو تعبيرٌ مُكَثَّفٌ عن السياسةِ الديمقراطية”. ولأن الدولة القومية هي أنموذج للعنف ” الدولةُ القوميةُ في أساسِها نظامٌ عسكريّ. وجميعُ الدول القومية محصلةٌ لمُختلَفِ الحروب الداخليةِ والخارجيةِ المُخاضة بشتى الأشكال على المدى الطويل وبمنوالٍ تَعَسُّفِيٍّ للغاية. إذ لا يمكنُ تصوُّرُ دولةٍ قوميةٍ واحدةٍ ليست ثمرةَ الحروب. هذا وتَحُفُّ الدولةُ القوميةُ المجتمعَ برمته بدرعٍ عسكرتاريٍّ من الداخل والخارج؛ ليس في مرحلةِ تأسيسها فحسب، بل وفي مراحل تَمَأسُسِها وانهيارِها أيضاً وبنسبةٍ أعلى. وهكذا يَتَعَسكَرُ المجتمعُ بأكمله. وهي ظاهرةٌ تَسري على جميعِ الدول القومية المُنشأَة على مدى القرونِ الأربعةِ الأخيرة. وهذا هو الواقعُ المُتَخَفّي خلف كافةِ القضايا والأزمات والتَّفَسُّخات الاجتماعية. أما ممارساتُ السلطةِ الفاشية بشتى أنواعها (الفاشياتُ الانقلابية وغير الانقلابية، العسكرية منها والمدنية)، وفرضُها والترويجُ لها مِراراً على أنها الحل؛ فهي ثمرةٌ لطبيعةِ الدولةِ القومية، وهي الحالةُ الأكثر خصوصيةً لتعبيرِها الشكليّ” [41]. 

ومن هنا يأتي دور المقاومة ” لا يمكن للكونفدرالية الديمقراطية كبحُ جِماحِ نزعةِ الدولة القومية في تلك العسكرتارية، إلا بأداةِ الدفاعِ الذاتي. فالمجتمعاتُ المحرومةُ من الدفاعِ الذاتيِّ تغدو وجهاً لوجهٍ أمام خطرِ خسرانِ هوياتها وخاصياتها السياسية ودَمَقرطاتها. ولهذا السبب بالذات، فإنّ بُعدَ الدفاعِ الذاتيِّ ليس مجرد ظاهرةٍ بسيطةٍ من الدفاع العسكري بالنسبة للمجتمعات. بل إنه متداخِلٌ مع ظاهرةِ حمايةِ هوياتها، وتأمينِ تَسَيُّسِها، وتحقيقِ دَمَقرَطَتِها. بمعنى آخر، لا يمكن الحديث عن قدرةِ المجتمع على حمايةِ هويته أو تأمينِ تَسَيُّسِه أو مُزاوَلَةِ السياسةِ الديمقراطية، إلا عندما يَكُون قادراً على الدفاعِ عن ذاته. وعلى ضوءِ هذه الحقائق، فالكونفدراليةُ الديمقراطيةُ مُرغَمةٌ في الوقتِ نفسِه على تَعظيمِ ذاتِها كنظامٍ للدفاعِ الذاتي” [42].

ويكمل أوجلان “إنّ المجتمعَ الذي يعجزُ عن حمايةِ نفسه، إنما يَخسَر صِفاتِه الأخلاقيةَ والسياسية. وفي هذه الحال، فإما أنْ يَكُونَ المجتمعُ قد استُعمِر، فيَنصَهِرُ ويتفسَّخ؛ أو أنه سيُقاوِمُ لاستردادِ صفاته الأخلاقيةِ والسياسية ولتفعيلِ وظائفه. والدفاعُ الذاتيُّ هو اسمٌ لهذه المرحلة. فالمجتمعُ الذي يُصِرُّ على كينونته، ويرفضُ الاستعمارَ وشتى إرغاماتِ التبعيةِ من طرفٍ واحد؛ لا يُمكِنُه تَبَنِّي موقفه هذا إلا بإمكانياته ومؤسساتِه المعنيةِ بالدفاع الذاتي. لا يَكون الدفاعُ الذاتيُّ حيالَ المخاطرِ الخارجية فحسب. فالتناقضاتُ والتوتراتُ واردةٌ في كلِّ وقت ضمن البنى الداخليةِ للمجتمع أيضاً. ينبغي عدم النسيانِ أنّ المجتمعاتِ التاريخيةَ ظلّت طبقيةً وسلطويةً لمدةٍ طويلةٍ من الزمن، وأنها ستسعى إلى إطالةِ عمرِ خاصياتها هذه. وستُقاوِم تلك القوى بكلِّ طاقاتها من أجلِ صَونِ وجودها وكياناتها. بالتالي، فسيحتَلُّ الدفاعُ الذاتيُّ مكاناً مهماً في أجندةِ المجتمعِ ولمدةٍ طويلةٍ من الزمن كمَطلَبٍ اجتماعيٍّ رائج. إذ ليس سهلاً أنْ تَدخُلَ قوةُ القرار حيزَ التنفيذ، دون تعزيزها بقوةِ الدفاع الذاتي. وفي راهننا نحن أمامَ حقيقةِ سلطةٍ متغلغلةٍ حتى مساماتِ المجتمعِ كافة؛ ليس من خارجه وحسب، بل ومن داخله أيضاً. لذا، فتكوينُ مجموعاتِ الدفاع الذاتيِّ المتشابهة داخلَ جميعِ مساماتِ المجتمع المناسِبةِ أمرٌ مصيريّ. فالمجتمعاتُ المفتقِدةُ للدفاعِ الذاتيِّ هي مجتمعاتٌ مستعمَرةٌ يُفرَضُ عليها الاستسلامُ مِن قِبَلِ احتكاراتِ رأسِ المال والسلطة. لكلِّ مُكَوِّنٍ في المجتمع قضيتُه في الدفاعِ الذاتيِّ على مرِّ التاريخ [43].

وفي المنتهى يقدم أوجلان تقييم لمنظومة الدولة القومية كالتالي ” لَم يتمّ عيشُ نظامِ دولةٍ يَجلبُ الدمارَ لثقافةِ المناطقِ والأقاليمِ في أيةِ مرحلةٍ من التاريخ، بقدرِ ما هي عليه الدولةُ القومية. لَم تتطَوَّر الدولةُ القوميةُ فقط على حسابِ دولةِ المدينةِ والديمقراطيةِ ونظامِ الإمبراطوريةِ كمُضادٍّ لهم. بل عَمِلَت على مَحوِ آثارِ كافةِ المزايا الهوياتيةِ المناطقيةِ والإقليميةِ من المجتمعِ التاريخيّ، وذلك بحَظرِها وهَدمِها وهَضمِها وامتصاصِها.. تَزعَمُ الدولةُ القوميةُ المتجانسةُ أنها بكسرِ شوكةِ القوةِ المناطقيةِ والإقليميةِ وتصفيةِ ثقافتِها، إنما تُعَزِّزُ الأمةَ وتُؤَمِّنُ وحدةَ الثقافةِ الوطنية. لكنّ ما يتحققُ هو احتكارُ القوةِ والاستغلالِ لحفنةٍ من الأوليجاركيين [44].

وحتى بعد سنوات من العمل في كنف الدولة القومية والعمل على مفهومها، بعد هذا لا يزال المفهوم وفق بعض منهجيات التفكير، مفهوما رجراجا ” لا تزالُ الدولةُ القوميةُ لغزاً غامضاً” [45]. وإنْ لَم يُحَلَّلْ ويُستَوعَبْ الدورُ التاريخيُّ– الاجتماعيُّ للدولتيةِ القوميةِ في ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ بعمقٍ غائر، فمن العصيبِ التمكُّنُ من إيجادِ حلٍّ لأيةِ قضيةٍ اجتماعية. أما تقييمُ ممارساتِ الدولتيةِ القوميةِ خلالَ القرنَين الأخيرَين، بأنها مجردُ مؤامراتِ “فَرِّقْ– تَسُد” للإمبراطوريةِ البريطانيةِ التي تُمَثِّلُ قوةِ هيمنةِ الحداثةِ الرأسمالية؛ فمفادُه التبسيطَ المُفرطَ للحوادثِ والظواهر. لذا، من الضروريِّ تَوَخّي الحرص والحساسية لعدمِ الوقوعِ في هذا الخطأ. ما من شكٍّ في أنّ الدولةَ القوميةَ شكلُ دولةٍ مناسبٌ جداً لحبكِ المؤامرات. لكنَّ الأهمَّ هو القدرةُ على تحديدِ قيمتِها بمنوالٍ شاملٍ على صعيدِ الحقيقة. فمضمونُ الدولةِ القوميةِ مليءٌ بالعناصرِ الأكثر سِرّيّةً وإبهاماً وميتافيزيقيةً، رغمَ جميعِ الدعاياتِ الوضعيةِ في الاتجاهِ المعاكِس [46].

وتكتمل وجهة النظر هذه، إذ أدركنا حقيقة أن “الدولةُ القوميةُ هي الوجودُ الأضعف والأكثر سلبيةً على صعيدِ الحقيقةِ الاجتماعية، رغمَ كلِّ مزاعمِها العلمية. ودورُها الأساسيُّ هو توحيدُ جميعِ الرموزِ الذهنيةِ ذاتِ الغنى الوفيرِ جداً للطبيعةِ الاجتماعية، وذلك باسمِ النمطية. فاللغةُ الواحدة، التاريخُ الأوحد، العَلَمُ الأوحد، الأمةُ الواحدة، نمطُ السياسةِ الأوحد، نمطُ الحياةِ الأوحد، ونمطُ الأيديولوجيا الأوحد؛ كلُّ ذلك يَسيرُ بالتداخُلِ مع تنميطِ الطبيعةِ الاجتماعية. وعند تبسيطِ وتنميطِ البنى الاجتماعيةِ المُعَقَّدةِ والمتباينة، فإنّ الحقيقةَ تتنحى عن مكانِها لثنائيةٍ من نوعِ الأبيض– الأسود، والتي تَغدو قِيَمُها واهنةً وسلبية. وبناءً على هذه البنيةِ الثنائيةِ الساذجةِ تتنامى وجهةُ النظرِ العالميةِ المسماةِ بالرأي الأكثر تَزَمُّتاً وشوفينيةً وتَعَصُّبيةً وفاشية” [47].

ومن ثم، وفي النهاية لا ينكر أوجلان لزومية الدولة بل ينكر انعطافها ناحية الانحياز القومي والاثني “ينبغي ألاّ تَكُونَ النتيجةُ التي ستُستَنبَطُ من تقييمي هذا وكأني أنكر تماماً الدولةَ والأمة، أو أني أَعتَبِرُ وُجودَهما بلا جدوى. إذ للدولةِ والأمةِ معانيهما العاليةُ الأهميةِ كوقائع منفردةٍ بذاتِها. وتحليلُهما الصائبُ هو المهمّ. كما أنهما ليستا كيانَين سيُهدَمان أو يجب هَدمهما على الفور. ليس هذا ما نَجِدُه خطيراً، بل الخطيرُ هو منطقُ إنشاءِ الدولةِ القومية، ونمطُ الاستمرارِ بها. ذلك أنها تُذَكِّرُ دوماً بالحربِ والتطهيرِ العِرقيِّ والشؤمِ والتعاسة، وبتقليصِ الحقائقِ الاجتماعيةِ والإجلالِ المتطرفِ لِما لا قيمةَ له” [48].


المراجع
[1] يلماز أنصار أوغلو : مسألة تركيا الكردية وعملية السلام، رؤية تركية، خريف ٢٠١٣، ص ٨
[2] Pinar dinc: the Kurdish movement and the democratic federation of northern Syria an alternative to the nation state model, journal of Balkan and near eastern studies, volume 22, 2020, issue, 1 https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/19448953.2020.1715669           
[3] عبد الله أوجالان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الأول المدينة، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٢٠
[4] من مقدمة فؤاد القطريب للطبعة العربية ل عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الأول المدينة، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ١٠
[5] Pinar dinc: op cit
[6] من مقدمة فؤاد القطريب للطبعة العربية ل عبد الله أوجلان: المرجع السابق ص ص ١٠ – ١١
[7] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ص ص ٦٨ – ٦٩
[8] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الثاني المدنية الرأسمالية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٤٥
[9] نفسه: ص ٦٩
[10]  نفسه: ص ١٠٠
[11] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثاني، ص ١٥٧
[12] نفسه: ص ص ١٥٨ – ١٥٩
[13] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثاني، ص ١٦٠
[14] نفسه: ص ١٦١
[15] نفسه: ص ١٦٤
[16] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثاني، ص ١٦٥ 
[17]  نفسه: ص ص ٨٨ – ٩١
[18] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثاني، ص ٩١
[19] نفسه: ص ص ١٩٥- ١٩٦
[20] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثاني، ص ٢٠٠
[21] نفسه: ص ص ٢٠١ – ٢٠٢
[22] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثاني، ص ٢٠٣
[23] نفسه: ص ٢٠٥
[24] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثاني، ص ٢٠٦
[25] نفسه: ص ٢٠٧
[26] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثاني، ص ٢٦٦
[27] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الثالث سوسيولوجيا الحرية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٨٩
[28] عبد الله أوجلان: المرجع السابق المجلد الثالث، ص ٩٠
[29] نفسه: ص ص ٩١ – ٩٢
[30]  نفسه: ص ٩٣ 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى