متابعات

اعتداءات مستمرة: الذكرى السادسة لاحتلال عفرين

تحليل الباحث/ محمد صابر

الثامن عشر من مارس – ذكرى احتلال مدينة “عفرين”، اليوم هو الذكرى السادسة منذ تنفيذ تركيا عملية “غصن الزيتون”، التي سيطرت خلالها على هذه المدينة الجبلية الزيتونية ونواحيها وقراها ، والتي تقع على ضفتي نهر “عفرين” والمحاذية لمدينة حلب، وتشكل حوالي 2% من إجمالي مساحة سوريا، وقد قامت تركيا منذ ذلك الحين بعمليات تغيّر ديموغرافي و”تتريك” بصورة واسعة لـ “عفرين”، من خلال ممارسة التهجير القسري وفرض العملة التركية وتعليم اللغة التركية وتبديل الأسماء والمعالم الأساسية، إضافًة إلى استمرار الضغوطات وأعمال العنف والممارسات العدائية التي يتعرض لها السكان الأصليين المتبقين، وكذلك ممارسة الهجمات المستمرة اليومية على المهجرين قسريا إلى منطقة الشهباء في شمالي حلب.

حيث تغض “أنقرة” الطرف عن الممارسات المتطرفة والانتهاكات القانونية التي تمارسها وترتكبها الجماعات المسلحة الإسلاموية المدعومة من تركيا، فقد نفذت هذه الميليشيات عمليات عدائية موسعة إزاء أهالي “عفرين” تنتهك بها كافة القوانين، مثل الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري ومصادرة ممتلكاتهم وفرض الإتاوات، والاستيلاء على المدارس، والمنازل التي نزح سكانها الأصليين.

في ذلك الإطار، يهدف التحليل الآتي إلى توضيح تداعيات العدوان التركي على مدينة “عفرين” وهيمنة الميليشيات المسلحة المدعومة من تركيا عليها، وبحث دلالات وأهداف “أنقرة” من هذا التوسع وعمليات التتريك المستمرة بالأراضي المحتلة من سوريا، مع رصد المعاناة التي يتكبدها أهالي “عفرين” بعد مرور ستة أعوام من سيطرة تركيا عليها وضرورة تحرير عفرين وعودة أهلها وكذلك كل المناطق السورية المحتلة.

ظروف قاسية
عند الحديث عن ذكرى احتلال “عفرين” السادسة، تجدر الإشارة إلى التداعيات السلبية التي نتجت عن تنفيذ تركيا عملية “غصن الزيتون” وبدء عدوانها على “عفرين” منذ يناير 2018 وحتى احتلالها في مارس من ذات العام، وما خلف عن ذلك من انتهاكات قانونية نفذتها الفصائل المدعومة من تركيا على مدار ستة سنوات حتى اليوم على السكان الأصليين، فقد دفعت “غصن الزيتون” مئات الآلاف من أهالي “عفرين” – أكثر من 310 ألف مواطن – إلى النزوح، أي أن نسبة 55%-70% من سكان المدينة الأصليين قد نزحوا إلى مناطق أخرى، هاربين من بطش تلك الجماعات المسلحة وممارسات القوات والاستخبارات التركية، ولا يبدو أن هناك سبيلًا للهرب من انتهاكات هذه الميليشيات التي استولت على ممتلكات النازحين من أهالي “عفرين”، بينما من جهة أخرى قامت بالتنكيل بمن قرر المكوث منهم، عبر الاعتقالات والخطف القسري بهدف طلب الفدية وفرض الإتاوات وأحياناً أخذ تركيا للمعتقلين إلى داخل الحدود التركية.
ورغم كثرة الانتهاكات التي يتم ممارستها لحقوق الإنسان بعفرين، نادرًا ما يمكن أن يخضع أحد عناصر هذه الفصائل للمحاسبة، حيث تفتقر المحاكم التي أنشأتها للاستقلالية والحياد، وقد تحدثت لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في سوريا عن بعض الجهود المبذولة لمحاسبة أربع حالات لمحاكمة أعضاء الجيش الوطني السوري داخليًا بتهم التعذيب وسوء المعاملة والاختطاف بين 2019 و 2021، وحالات أخرى بتهم القتل والاغتصاب والاستيلاء على الممتلكات، لكن لم ترد أي تفاصيل لإجراء هذه المحاكمات بما يستوفي المعايير الأساسية للمحاكمة العادلة، فقد أشارت التقارير إلى أن هناك بعض الحالات التي تم اتهامها بشكل منفصل وعلني في جرائم التعذيب والاغتصاب للمحتجزين، ولم تتم محاكمتهم ويشغل بعضهم حاليًا مناصب عليا في الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.

وفي ظل انتشار هذه الانتهاكات هناك أيضًا حالات اقتتال داخلي بين فصائل مل تسمى الجيش الوطني السوري عنيفة ومسلحة تتم في القرى المأهولة بالسكان، مما يؤدي إلى وضع المدنيين وسط أعمال العنف، وقد وقع أكثر من 180 اشتباك موثق في 2020 و 2021 فقط بين الميليشيات المدعومة من تركيا في الأراضي التي تحتلها بما فيها مدينة “الباب” و”عفرين”، ويبدو أن السبب الرئيسي وراء هذه الانقسامات والمنافسة على النفوذ هو التنافس على الموارد الاقتصادية والأنشطة الغير مشروعة المدرة للربح التي تمارسها هذه الجماعات المسلحة في مناطق سيطرتها، كما اشتد ذلك الاقتتال الداخلي بقوة مع دخول “هيئة تحرير الشام” المعركة، مما أدى لعدم الاستقرار وإحداث تحولات قوية في هذه المناطق، ووقوع “عفرين” تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” في أكتوبر من عام 2022، الأمر الذي تطلب تدخل “أنقرة ” للتهدئة وإنهاء الاقتتال بين الميليشيات الموالية لها.

انتهاكات عديدة واعتداءات متكررة
في إطار الانتهاكات التي تمارسها الميليشيات المدعومة من تركيا في “عفرين”، فإن الأخبار اليومية لا تخلو من هذه الممارسات، كما وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان استشهاد 668 مواطن سوري كردي في مدينة “عفرين” بينهم 97 طفل و88 امرأة خلال انفجار عبوات أو سيارات مفخخة أو الموت تحت التعذيب على أيدي هذه الجماعات المسلحة، أو تنفيذ إعدامات منذ سيطرة هذه الميليشيات في عام 2018 حتى 17 مارس من العام الجاري، ويمكن توضيح بعض مظاهر انتهاك قانون حقوق الإنسان في “عفرين” على النحو التالي:

(1) ممارسة أعمال الاعتقال والاحتجاز دون سند قانوني: يعد ارتكاب فصائل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا لأعمال الاعتقال والاحتجاز التعسفي بمعزل عن العالم الخارجي دون تهم أو سند قانوني حقيقي وجرائم الإخفاء القسري وما يشمله ذلك من أعمال تعذيب ومعاملة لا إنسانية مهينة مثل الضرب المبرح والمطول والحرق بالسجائر وخلع الأسنان والأظافر وغيرها من الأساليب المهينة التي وثقها تقرير لـ “Human Rights Watch” حول الانتهاكات والإفلات من العقاب في مناطق شمال سوريا التي تحتلها تركيا، وإخضاع عشرات المواطنين السوريين إلى محاكمات جائرة وممارسة العنف الجنسي إزاء بعض النساء المحتجزات بما يتضمن الاغتصاب، واحتجاز أطفال لا تتجاوز أعمارهم ستة أشهر مع أمهاتهم انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، فقد وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان اختطاف واعتقال أكثر من 8729 مواطنًا من أهالي “عفرين” من بينهم 1123 تحت الاعتقال حتى اليوم، حيث تم الإفراج عن الآخرين بعد دفع معظمهم فدية مالية باهظة للفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، وقد أشارت التقارير إلى أن أغلب هذه الانتهاكات يتم ممارستها إزاء الأكراد تحت ذريعة الاشتباه بصلتهم بـ “قسد” والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا أو حزب العمال الكردستاني.

(2) التعذيب المبرح المؤدي إلى الموت: تشير العديد من التقارير إلى تورط الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا في قتل المدنيين أثناء احتجازهم وتعذيبهم، وهو ما ذكرته لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في مارس العام الماضي، بأن فصائل الجيش الوطني السوري استمرت في احتجازها للمواطنين وأخضعت بعضهم للتعذيب، ما نتج عنه وفاة بعض هذه الحالات.

(3) التعدي على أراضي وممتلكات المواطنين: على آثر التصعيد من بداية عام 2018 وخلال تنفيذ تركيا عملية “غصن الزيتون”، ومع فرار آلاف المدنيين من منازلهم خوفًا من القصف وبطش الميليشيات المسلحة، بدأ انخراط فصائل الجيش الوطني السورية في أعمال النهب والسلب والاستيلاء على المنازل والأراضي والممتلكات بعفرين، دون جبر أو تعويض أصحابها الأصليين، وقد وثقت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة شهادات بعض الشهود بأن القوات التركية كانت تتواجد في الأماكن التي تحدث بها عمليات النهب دون تدخل أو اتخاذ خطوات لمعاقبة الفاعلين، وبالتالي فقد تجاهلت “أنقرة” هذه الانتهاكات التي تحدث في المناطق الواقعة تحت سيطرتها بسوريا، كما وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان تنفيذ عناصر وقيادات الفصائل الموالية لتركيا لـ 1246 عملية استيلاء على منازل ومحال تجارية وأراضي زراعية في عفرين وعلى النواحي التابعة لها، تعود ملكيتها إلى المُهجرين بفعل عملية “غصن الزيتون” ومواطنين آخرين رفضوا التهجير لكن قد تم الاستيلاء على أملاكهم وابتزازهم وتعرض بعضهم لانتهاكات أخرى، لاسيما الممارسات الانتقامية إزاء بعض المطالبين باستعادة أملاكهم من ناهبيها، كما رصد المرصد السوري أيضًا 449 حالة بيع لمنازل المهجرين المستولى عليها بقوة السلاح.

(4) فرض الإتاوات على المدنيين: حيث يتم فرض هذه الإتاوات على أهالي “عفرين” للسماح لهم بالزراعة على أراضيهم وجني المحصول، وتتمثل هذه الإتاوات في دفع مبالغ مالية بالدولار أو الليرة التركية، أو نسبة من أرباح المحصول أو كمية منه، وقد تم رصد أكثر من 730 عملية فرض إتاوة من قبل الميليشيات المسلحة ومجالسها المحلية على المدنيين.

(5) الاستيلاء على الأشجار المثمرة وقطعها: وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان 1101 عملية قطع للأشجار المثمرة نفذتها فصائل الجيش الوطني المدعومة من تركيا، وقد تم قطع هذه الأشجار لبيعها واستخدامها كوسيلة للتدفئة، كما تشير العديد من التقارير إلى تحول أشجار الزيتون في سوريا إلى مصدر دخل للجماعات المسلحة، وخاصًة في سهول منطقة “عفرين” الخصبة وجبالها، التي تنتج أحد أفضل أنواع زيت الزيتون في سوريا، ومنذ احتلالها لـ “عفرين” في 2018 تقوم هذه الميليشيات بالاستيلاء على محصول هذه الأشجار التي تتجاوز 18 مليون شجرة.

مصالح ذاتية
في ظل استهداف الميليشيات المسلحة لتحقيق أرباح مادية في المناطق التي تسيطر عليها تركيا وهذه الفصائل المدعومة منها، تعمل تركيا من جهتها على تنفيذ مخططاتها ومطامعها التي دفعت بها في الأساس إلى التدخل في سوريا والسيطرة على “عفرين” وغيرها من المناطق ذات الغالبية الكردية، ومن أهم هذه الدوافع والأهداف التركية:

(1) استهداف تركيا ضمان الحد الأدنى من تقويض قدرات ونفوذ “قسد”: فقد كان التدخل التركي بالأساس منذ 2016 وتنفيذ درع الفرات، ومن ثم غصن الزيتون في 2018، ودرع الربيع في 2020 هدفه الرئيسي تقويض قدرات قوات سوريا الديمقراطية، على الرغم من أن أول تدخل كان تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة المعروف بإسم “داعش”، ولا ترغب تركيا في الانسحاب من مناطق سيطرتها في سوريا لرغبتها في استمرار محاربة الكرد وتدمير القدرات العسكرية والبنية التحتية لهم، دون التمييز بين مدني وعسكري، نظرًا لهاجس “أنقرة” من النجاح في تمتع الكرد بحقوقهم داخل سوريا أو أي مكان أخر.ولهدفها في تطبيق الميثاق الملي وتكرار تجربة لواء إسكندرون إن سمحت لها الظروف.

(2) رغبة “أنقرة” في إنشاء المنطقة الآمنة: تسعى تركيا عبر ما نفذته من احتلالها لمناطق واسعة في الشمال السوري، إلى توسيع سيطرتها وبسط النفوذ بعمق يتجاوز 30 كم، بناءً على الهدف المعلن المتعلق برغبتها في إنشاء منطقة آمنة، بالإضافة إلى طموحها الذي يتعلق بالهيمنة الإقليمية، كما تنفذ تركيا اعتداءات عبر القصف المتكرر لمناطق واسعة بالشمال السوري، الأمر الذي أدى لإنهاء حياة العديد من المدنيين من بينهم نساء وأطفال.

(3) إحداث تغيير ديمغرافي لعفرين: يبدو أن هناك علاقة وثيقة بين ما يتم من عمليات تهجير وانتهاكات وتنكيل بأهالي عفرين الأصليين، والقيام بجلب المهجرين من مختلف المدن السورية الموالين لتركيا وتوطينهم بها، بالإضافة إلى حلول الليرة التركية محل العملة السورية بمناطق سيطرة تركيا في سوريا، وظهور اللغة التركية على لافتات الشوارع والمعالم البارزة في “عفرين”، وتغيير أسماء بعض الأحياء، لاسيما تسمية إحدى الساحات بساحة “رجب طيب أردوغان”، وإنشاء فرع لجامعة “غازي عنتاب” التركية في “عفرين” – بمرسوم رئاسي – وفرض بطاقات تعريف هوية تحتوي على معلومات باللغتين العربية والتركية، وتكليف والي “هاتاي” بإدارة “عفرين”، وتعتبر هذه التحركات ضمن مساعي لإحداث تغيير ديمغرافي في المناطق التي تسيطر عليها تركيا والفصائل الموالية لها، لإحكام السيطرة عليها. إضافة لبناء مستوطنات تجاوزت أعدادها 21 مستوطنة للجهاديين وأسرهم ومن يولي تركيا بمساندة ودعم من جمعيات الإخوان المسلمين حول العالم لإحداث التغيير الديموغرافي المطلوب.

بالتالي، تنتهك تركيا والميليشيات الموالية لها في سوريا مجموعة من القواعد والقوانين الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وتتعرض مكونات المجتمع في مدينة “عفرين” منذ 6 أعوام إلى انتهاكات عديدة، وعمليات تتريك مستمرة، مما يستدعي ضرورة العمل على إنهاء هذه التجاوزات والانتهاكات الخطيرة، وضبط المعايير والتنفيذ لإجراء محاسبة المتورطين من الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا في كافة هذه الأعمال العنيفة ضد السكان الأصليين لـ “عفرين” والمهجرين في الشهباء. ولا بد من احترام القوانين والأعراف الدولية وقف هذه الاعتداءات وكذلك التدخلات في الشؤون السورية.

وعليه فإن إنهاء الاحتلال وعودة أهالي عفرين والسيادة السورية ومحاسبة المتورطين بالجرائم يظل مطلب ورؤية اساسية وضرورية لمعالجة وحل الأزمة السورية التي ستعالج كل هذه الاشكاليات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى