مما لا شك فيه أن الانتخابات الروسية التي جرت مؤخراً لم تكن مثل سابقتها، فهي أتت نتيجة تعديل دستوري اقترحته السيدة فالينتينا كريتشكوفا رائدة الفضاء السوفيتية وأول سيدة رائدة فضاء في العالم، عندما طالبت ببقاء الرئيس بوتين في السلطة مع تصفير مدد الرئاسة السابقة بعد تعديلات دستورية شملت أن يكون تعيين رئيس الوزراء بموافقة البرلمان وكانت وجهة نظرها أننا أمام دستور جديد تقريباً من ثم يحق للرئيس بوتين الترشح للرئاسة، أى اعتبار أنه لم يمكث ولا يوم واحد في منصب الرئيس، هكذا سيبقى الرئيس بوتين في الحكم لمدة 12 عام قادمة مع نجاحه في هذه الانتخابات، ويحق له الترشح لمدة جديدة.
من ناحية أخرى ولأول مرة تجرى الانتخابات الرئاسية على مدى ثلاثة أيام، وتم إلغاء يوم الصمت الإنتخابي، وهو يعني عدم القيام بأي دعاية ليلة التصويت أو قبل ميعاد بدء العملية الانتخابية بيوم، وبررت السيدة إللا بنفيلوفا رئيسة اللجنة المركزية للانتخابات ذلك بأنه لا داعي للصمت الإنتخابي لأن وسائل التواصل الإجتماعي لا تعطي فرصة للصمت الإنتخابي. وجاءت الانتخابات كذلك أثناء قيام القوات الروسية بعملية عسكرية في أوكرانيا تهدف إلى نزع سلاح أوكرانيا ونزع جذور الفاشية منها وفي نفس الوقت التصدي لحلف الناتو الذى توسع شرقاً وأصبح يشكل تهديداً لروسيا، وهو ما عبر عنه الرئيس بوتين في أكثر من مناسبة. كما جاءت الانتخابات وبعض العناصر المسلحة تقتحك الحدود الدولية لروسيا (بيلجورود وكورسك) تحت أسماء عدة منها “فيلق سيبيريا” وأخر فيلق “حرية روسيا” أو فيلق “متطوعي روسيا” الذين وفق ما أعلنوا عنه هدفهم تخليص البلاد من من نظام الرئيس بوتين، بل أن هذه الهجمات أثرت على سير التصويت الإنتخابي في مقاطعة بيلجورود على سبيل المثال حيث كانت تتوقف، لكنها كان سرعان من تستأنف من جديد بعد انتهاء الهجمات.
كما جاءت الانتخابات وسط اتهامات للسلطات الروسية باغتيال السياسي الروسي أليكسي نافالني، الذى طلب من أنصاره التجمع في صفوف أمام لجان الانتخابات في اليوم الثالث من أيام التصويت في الإنتخابات وهو ما حدث وهو ما فسره الرئيس بوتين في مؤتمره الصحفي بعد إعلان نتيجة الإنتخابات بأنه ظاهرة تستحق المدح، أما أنهم أبطلوا أصواتهم فهذا غير جيد، بينما فسر المعارضون كثافة الصفوف أمام اللجان الإنتخابية على أنه يشير إلى أن فئات كثيرة تعارض العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وأرادت أن تستعرض مدى قوة المعارضة للرئيس. ورغم ذلك جرت الإنتخابات في أجواء هادئة وبلغ عدد المصوتين فيها حوالي 76 مليون مواطن وهو رقم قياسي بالنسبة للإنتخابات الرئاسية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
جرت الإنتخابات وحصل الرئيس بوتين على أكثر من 87% من أصوات الناخبين، بينما لم يحصل أي من منافسيه حتى ولو على 5%، كلهم في إطار 4% وكسور، ورغم ذلك لم يوجه أي منهم انتقادات للعملية الإنتخابية، واجتمع بهم الرئيس بوتين وهم فلاديسلاف دافينكوف ممثل حزب المواطن الجديد، وممثل الحزب الشيوعي نيكولاى خاريتونوف وليونيد سولتسكي رئيس الحزب الليبرالي الديموقراطي، وأعترف الثلاث منافسين بفوز الرئيس بوتين بل أن السيد دافينكوف أشار إلى أن الرئيس بوتين هو الوحيد الذي يستطيع الانتصار في الصراع الحالي وهو أهل للثقة، المهم جرى الاجتماع في أجواء ودية، ثم اصطحبهم الرئيس إلى احتفال بمناسبة 10 سنوات على استعادة روسيا للقرم، هتف فيه المرشحون الثلاثة هتافات وطنية مشيدين بالرئيس بوتين وقيادته للبلاد، وإذا كان منافسو بوتين تم ترشيحهم عن طريق الأحزاب، فإنه (بوتين) رشح نفسه كمستقل، هل يعنى هذا أنه أراد أن يكون نصره في الانتخابات شعبي خالص له لا فضل لأي حزب، أم أنه لا يؤمن بالأحزاب، على أي حال ثقة الشعب فيه جاءت دون دعم حزبي بل بالحصول على توكيلات المواطنين التي بلغت 3 ملايين، لقد حرص بوتين على أن يكون مرشح الشعب.
تباينت ردود الأفعال العالمية على فوز الرئيس بوتين في الإنتخابات الرئاسية، والأهم بهذه النسبة المرتفعة رغم العقوبات الإقتصادية، التي كان من الممكن أن تكون مؤثرة على مستوى المعيشة وبالتالى مزاج الناخب الروسي، ففي حين هنأته بعض الدول الحليفة مثل إيران والصين وكوريا الشمالية وبعض دول أمريكا اللاتينية مثل فنزويلا ونيكاراجوا، رفضت بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا ودول الناتو بصفة عامة التهنئة، أما الولايات المتحدة فقد جاء رد فعلها على نتائج الإنتخابات على لسان مستشار الرئيس بايدن لشئون الأمن القومي جاك ساليفان، الذى تحدث بدبلوماسية وقال بوتين هو رئيس روسيا المنتخب وستتعامل بلاده معه بصرف النظر عن التحفظات على العملية الإنتخابية، لكن المؤكد أن دول الغرب بدأ تشعر بثقل مهمتها بعد انتخاب الرئيس بوتين وبهذه النسبة المرتفعة، القريبة من التفويض، لأن الرئيس بوتين سيتشدد والخلافات مع روسيا من المتوقع أن تتصاعد، واعتبرت كثير من الدول أن ما قامت به من عقوبات أحدثت خسائر اقتصادية ضخمة لأوروبا راحت هباء، وهاهو بوتين يكتسح الإنتخابات بل ومنافسيه يؤيدونه، وأن الحصول على تنازلات في الملف الأوكراني أصبح أكثر صعوبة بالنسبة لهم، وليس أمام الغرب إلا دعم أوكرانيا لأقصى درجة وفرض المزيد من العقوبات الإقتصادية والتجارية رغم ما قد تفضي إليه من خسائر عليهم، ومما لا شك فيه أن أي حل سياسي سيصبح غاية في الصعوبة الآن. بينما يتفاءل البعض بانتخاب الرئيس بوتين وبهذه النسبة المرتفعة باعتبار أن هذه الثقة من الممكن أن يستغلها الرئيس في تقديم تنازلات في الملف الأوكراني وينهي نزاع بين شعبين شقيقين ويقي روسيا ارتماء أوكرانيا أكثر في أحضان الناتو والغرب. وربما يكون إنهاء النزاع هو الذي سيعطي فرصة للرئيس الروسي لتحقيق وعوده لناخبيه لتحقيق التنمية عندما يتخفف من النفقات العسكرية.
على الصعيد الداخلي، وكما وعد الرئيس بوتين في أخر حديث صحفي بأنه قد يقوم بفرض ضرائب تصاعدية على الأثرياء لتحقيق نوع من التوازن الإجتماعي، وعلى حد قوله لابد أن تكون منظومة الضرائب أكثر عدلاً، وذلك بهدف حل المشكلات القومية ومكافحة الفقر، لكن في نفس الوقت هناك خشية بين الشباب الروسي من إعلان تعبئة شاملة لإرسال المزيد منهم إلى عملية روسيا العسكرية في أوكرانيا، يذكر أن الرئيس أصدر مرسوم بتعبئة جزئية في سبتمبر 2022، ولم يصدر مرسوم بإنهائها حتى الآن ما يعني أنه حتى لن يصدر قرار بتعبئة جديد حيث المرسوم السابق مازال ساري المفعول، كما يخشى المواطنون الروس استمرار النزاع الروسي ـ الأوكراني لفترة مما يؤثر على مستواهم وحققوقهم في ظل حالة الحرب الحالية، خاصة وأن الطائرات المسيرة بدأت تصل إلى مدى أبعد داخل الأراضي الروسية وربما كان الإقبال الشديد والقياسي على الإنتخابات وانتخاب الرئيس بوتين وتجديد الثقة فيه هو نوع من الإيمان بقدرته على حل النزاع بشكل إيجابي لصالح روسيا وإنقاذ البلاد من مصير مجهول. في كل الأحوال سيكون على الرئيس بوتين أن يحافظ على الأقل على مستوى المعيشة الحالي رغم العقوبات وهي مسألة ليست سهلة في ظل العقوبات الإقتصادية، إن لم يكن تحسينه للأفضل، العملية العسكرية مكلفة، مع غلق سوق الطاقة الأوروبي تقريباً أمام المحروقات الروسية.
في كل الأحوال ستكون الست أعوام القادمة للرئيس الروسي ليست سهلة كما كان فوزه في الإنتخابات، خاصة بعد الثقة المطلقة التي منحه أياها الشعب الروسي، وسيكون عليه تحقيق وعوده مثلاً بأن يسبق الإقتصاد الروسي نظيره الياباني في هكذا ظروف من العقوبات القاسية، ونقص الكوادر المؤهلة، على حد قوله، الناتج عن ذهاب الشباب للجيش بأوكرانيا وهروب البعض منهم خوفاً من التعبئة والتجنيد، ومطالبته لرجال الأعمال والشركات بتحديث الصناعة بحيث تنتج أكثر بأفراد أقل، وهي مهمة ليست سهلة.
وعلى مستوى دول الغرب هناك انقسام في وجهات النظر، ففي حين ترى “التايمز” البريطانية أنه بعد الانتصار الساحق في الإنتخابات للرئيس بوتين فإنه سيدخل فترة رئاسته الجديدة ولديه مخاوف من نشوب نزاعات جديدة خاصة وأن العالم يشهد اضطرابات في كل مكان تقريباً، وتوقعت الصحيفة “عدم إمكانية التنبؤ بردود فعل الرئيس بوتين كما كان قبل ذلك”. أما بوليتيكو فقد علقت على الانتخابات الروسية بقولها “إن الانتخابات في فترة رئاسة الرئيس بوتين تذكرنا بأنها مجرد اختبار لمدى استعداد الجهاز الإداري للدولة أكثر منه وسيلة قياس للمزاج العام فيها” وتضيف الصحيفة إن “الإختبار جرى هذه المرة بنجاح مثل المرة السابقة”. وتوقعت الصحيفة أن يقوم بوتين خلال الأسابيع أو الأشهر القادمة بتغييرات في الحكومة ستكون على الأرجح في اتجاه تبني خط متشدد، وتوقع البعض أن يضاعف انتصار الرئيس بوتين من “فكرة تبنيه لاقتصاد الحرب وسلوكيات أوقات الحرب”.
أما المعلق السياسي الروسي أندريه بيرلا فقال إن هذا الانتصار يشير إلى أن الأغلبية العظمى من المواطنين الروس يؤيدون الخط السياسي للرئيس بوتين، ويعني كذلك أن الرأي العام يؤيد العملية العسكرية في أوكرانيا حتى تحقيق النصر، وأنه يوافق على إنشاء نموذج اقتصادي مناسب لوقت الحرب، ومن الواضح أن الرأي العام يدفع في هذا الاتجاه، وهو ما أكده بوتين في مؤتمره الصحفي عقب إعلان النتيجة. وفق السيد بيرلا إن هذا من الممكن أن يؤدي إلى تغيرات كبيرة في أسس المجتمع الروسي، بمعنى أن التزامات المواطنين أمام الدولة يجب أن تكون فوق الحقوق الشخصية والقيم الروحية التقليدية تحل محل الحقوق الدستورية للمواطن الروسي، وكل هذا سينعكس في شكل تغيرات لابد منها في مؤسسات السلطة، والتي من المتوقع أن تحدث ليس بعد نهاية العام الجاري.
بينما يرى المحلل السياسي فاديم تروخاتشوف أن الرئيس بوتين ليس من أنصار التغيرات الحادة، أما أنه أثناء العمليات العسكرية سيقوم بإصلاحات سياسية، فهذا أمر مستبعد وخطر في الوقت الحالي، على الأرجح سيقوم بذلك بعد انتهاء النزاع الروسي ـ الأوكراني.
في تصوري أن الشعب الروسي سواء بنسبة الإقبال العالية على الإنتخابات أو بالنسبة التي حصل عليها الرئيس، إنما يدفع الرئيس بوتين لإجراء تعديلات في هرم السلطة، كما دفعه في الانتخابات السابقة لإقالة دميتري ميدفيديف من رئاسة الوزراء، كما أن هذا الإنتصار الإنتخابي يعتبر تفويض للاستمرار في العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، وهنا اختلفت الآراء هل هو تفويض مفتوح أم لتحقيق النصر ولا شئ سواه. في تقديري إن تدخل الغرب بشكل مكثف قد يحرم روسيا والرئيس الروسي من الإنتصار المؤزر على طريقة فوزه في الانتخابات ولذلك من المتوقع أن يحاول الرئيس بوتين تشديد هجماته العسكرية، في الوقت الحالي أكثر من المعتاد، مستغلاً في ذلك حالة الإرتباك التي تعيشها أوروبا وإحجام الولايات المتحدة عن تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، وتركها أوروبا وجهاً لوجه مع الأزمة الأوكرانية، والتي ربما يكون تصريح الرئيس الفرنسي الخاص بإرسال قوات عسكرية لأوكرانيا الهدف منه دفع واشنطن من جديد للانغماس في النزاع، لكن هذا صعب على الأقل في الوقت الراهن، فهناك انتخابات رئاسية، والقادم قد يمثل ما هو أسوأ على أوروبا من الوضع الحالي.