إشكالية تفسير المصطلحات السياسية في البحث العلمي (الديمقراطية نموذجًا)
تحليل: الباحث محمد صابر
تعتبر “المصطلحات Terminology” أهم المعايير التي يتعامل معها الباحثون في التعبير وتحليل الظواهر، والتي يقوم عليها التنظير الدقيق ومصداقيته، حيث ينصرف ذهن الباحث عند التجلي في مفهوم جديد إلى التعبير عن ما بداخله، بصورة دقيقة تبرز الفكرة والمضمون، دون المبالغة أو التقليل، فالموضوعية العلمية للبحوث والدراسات تفرض على الباحثين تأطير البحث بطريقة علمية دقيقة.
والمصطلحات هي أهم أدوات البحث العلمي، وهي أداة التواصل في مجتمع المعلومات، لما تتمتع به من مركزية في أي علم من العلوم والحاجة المستمرة إلى البحث عن المختصرات الدالة عن المفاهيم، ولدورها في ضبط تشتت التصورات وتشابكها، لكن في العديد من الحالات نجد المصطلحات تحمل العديد من الدلالات والمضامين بما يفوق حدود ما تم صياغتها له من معنى رئيسي.
وترتيبًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تحديد مظاهر التعدد المصطلحي وأهمية المصطلحات في البحث العلمي، ومدى تطور الفكر والثقافة، وآثر ذلك على تعدد المفاهيم للمصطلح الواحد، ووقوع المصطلحات في أزمة التفسيرات المتعددة التي قد تكون متباينة، نتيجة حالة الاغتراب التي تمر بها المفاهيم السياسية على وجه التحديد، مما قد يؤدي إلى إحداث تشتت المفكرين والباحثين، بالتطبيق على مفهوم “الديمقراطية Democracy”، الذي يعد من بين أكثر المصطلحات السياسية تخبطًا ويدور حوله العديد من التساؤلات والتباين في تفسير مبادئه وشروط تحقيقه بكافة المجتمعات بالصورة الحقيقية والمأمولة منه.
أهمية علم المصطلح
يمكن تعريف المصطلحات على أنها ما توصل إليه المتخصصين من توافق حول اللفظ المناسب للمفهوم أو المعنى المقصود بها، مما يجعل للمصطلح أهمية خاصة في تحصيل العلوم وضبطها وإدراكها، وقد ظهر علم المصطلح خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، لكنه بدأ يتبلور مع بداية القرن التاسع عشر، مع اهتمام اللسانيون بجمع قواعده وتوسيع نطاقه حول العالم، عبر الاشتقاق والنحت والتعريب والمجاز والترجمة، وقد بات المصطلح أساس بناء النص، وتميز كل علم من العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية بمصطلحات خاصة به.
وقد عرف “الخوارزمي” المصطلح بأنه “مفتاح العلومThe Key To Science”، وأشار إلى أن فهم المصطلحات يعد نصف العلم، فإذا فهمنا المصطلح نكون قد توصلنا إلى النص بأكمله، ويمكن تعديد أهمية علم المصطلح في النقاط التالية:
(*) وسيلة رئيسية لتنمية التفكير العلمي، وإرشاد وجهة الباحث لما يخدم حاجاته ويناسب إمكاناته ويوفر المعرفة العلمية الدقيقة.
(*) ضبط مدخل منهجي للعلوم، وإكساب الباحث المهارات الوظيفية المؤهلة لترشيد كافة الأزمات وطرح توجه علمي، بما يسمح بالتكيف مع كافة الظروف والمواقف المختلفة.
(*) توفير آليات تطبيقية إلى جانب النظرية لدراسة كافة الظواهر وتفسيرها وتحليلها وضبطها، مما يميز كل باحث بقدرات تحليلية أفضل بالإطلاع على المصطلحات العلمية الدقيقة.
وفي العصر الحالي، باتت المفاهيم والمصطلحات السياسية على وجه التحديد بحاجة لإعادة تعريف، خاصًة المفاهيم المرتبطة بمضامين الأيديولوجية، لاسيما القول بمصطلح “اليسار” في المطلق أو “اليمين”، لم يعد كما في السابق، فقد ظهر اليوم يمين اليسار ويسار اليمين ووسط اليمين أو وسط اليسار، وغيرهم على غرار هذه التصنيفات، فقد التبست المفاهيم السياسية كثيرًا، كون الشعارات لم تعد مقياسًا منفردًا للحكم، كما أن علم السياسية يمر بمرحلة شديدة التذبذب، متأثرًا بعصر العولمة وما بعد العولمة والثورات المعلوماتية وتأثيراتها اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وفي ظل محاولات مواكبة التحولات المتسارعة.
وليس فقط دول الجنوب التي تمر بهذه التخبطات السياسية، بل إن القوى العظمى والمجتمعات المتحضرة ذاتها يعاني فيها التفكير العلمي من تخبط في ضبط المصطلحات وتطبيق المبادئ الحقيقية لها، وتمر بحالة الالتباس في المفاهيم والمصطلحات، التي بات منها المتداخل والغير متضح بدقة، ولاسيما زعم العديد من الدول بأن أنظمتها السياسية ديمقراطية، رغم تواجد العديد من الفروق الهائلة بين كل نظام منها والنظام الآخر.
أزمة المصطلحات السياسية
مر المصطلح بأزمة كبرى في ظل فوضى في تداولاته عالميًا، أدت إلى عدم قدرة العديد من المصطلحات على الانضباط، وقد يجد المتخصصين أنفسهم أمام مجموعة كبيرة من المفردات المخصصة للمفهوم الواحد، خاصًة مع تراكم المصطلحات وورود مصطلحات هجينة إلى اللغة العربية، قد لا تتوافق مع شروط المصطلح، بما يؤدي إلى تصادم وتعارض في تعريفات المصطلح، فمع ورود العديد من المصطلحات شديدة التنوع مثل مصطلح “الديمقراطية Democracy”، تباين فهم مبادئها الرئيسية وتفسيرها وتنزيلها على الواقع من عصر إلى آخر، وهي كلمة يونانية الأصل تعني حكم الشعب أو حكم الأغلبية، أي أن تكون السلطة العليا بيد الشعب.
ويمكن تعريف الديمقراطية بأنها أحد صور الحكم التي توفر أكبر حجم من المشاركة للمواطنين على حد سواء، وإسراء الحريات والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإمكانية التعبير والمشاركة بكافة العمليات الإدارية وغيرها من سبل رخاء المواطنين، وضمان حياة أفضل للجميع معًا، وقد اختلف العديد من المفكرين والفلاسفة على مر العصور في ضبط وتفسير مفهوم ومبادئ الديمقراطية الصحيحة، وفيما يلي مجموعة من التعريفات لمصطلح “ديمقراطية” على مر العصور:
(*) الرئيس الأمريكي أبراهام لينكون: قام “لينكون” بوصفها بأنها حكم الشعب من قبل الشعب، ومن أجل الشعب، والجدير بالذكر أن “لينكون” هو من أصدر إعلان التحرير الذي أدى إلى تحرير العبيد.
(*) تعريف هيئة الأمم المتحدة للديمقراطية: تعتبر الأمم المتحدة أن الديمقراطية هى أن تكون إرادة الشعب مصدر شرعية الدول.
(*) مفهوم كارل بوبر: يعرف الفيلسوف النمساوي “بوبر” الديمقراطية بأنها حكم الشعب، وأن للشعوب الحق في الحكم والسلطات، وهو مفهوم يتفق مع المفهوم الضيق للديمقراطية بشكل عام.
(*) مفهوم ماركس للديمقراطية: أما المفكر الاشتراكي الألماني “كارل ماركس” فقد انتقد المفهوم الضيق للديمقراطية في اقتصاره على الحقوق السياسية فقط، لأنه رأى أنها حقوق شكلية لا يتمتع بها سوى الأغنياء، ودعا إلى تطبيق كافة صور الحريات ومن أهمها الحقوق والحريات الاجتماعية.
(*) منظور المفكر “أوجلان”: عرف المفكر الكردي “عبد الله أوجلان” الديمقراطية على أنها قيام المجموعات التي لا تعرف الدولة أو السلطة بإدارة نفسها بنفسها، ودعا إلى تطوير الإدارات الذاتية للديمقراطية، وعدم تحريفها تحت اسم الديكتاتورية الشعبية أو البروليتارية من جهة وأخرى، وعدم استهداف هدم الدولة بالتطلع إلى التدول.
ويبدو أن مفهوم كلًا من “ماركس” و “أوجلان” مفاهيم أوسع للديمقراطية وأشمل لتطبيق الحقوق الكاملة للمواطنين في منظور ماركس، وللتمتع بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وإدارة الموارد بصورة عادلة، مع توفير الشرعية الحقيقية في ظل توافر تحقق الشروط المطروحة كعدم استهداف هدم الدولة والإضرار بسيادتها وأمنها في تعريف أوجلان، وبالتالي يجب التركيز على ترك العنان للتطرق إلى المفاهيم الحديثة للديمقراطية والأوسع المتضمن تحقيق ركائزها الحقيقية، التي قوامها حكم الشعب لنفسه ومن أجله، وضمان تحقيق الرخاء للشعوب وتوفير الحريات والعدالة، وبالتالي تمتع الشعوب بحقها في تقرير مصيرها بذاتها.
ازدواجية في التفسير والتطبيق
وفي الختام، يمكن القول بأن لاختلاف المبادئ والأسس الفكرية والثقافات آثاره على فهم المصطلح وجذوره، وقد تأثرت المجتمعات بفهم مفكريها وتأصيلها للمبادئ والقيم والمفاهيم الرئيسية لبناء المجتمع وتحقيق رخاء الشعوب وأهداف المجتمع بأكمله، ومن الضروري البحث في المصطلحات وجذورها بالمعنى الأوسع الشامل لكافة مضامينها الأساسية.
فبينما تدافع العديد من الدول عن الديمقراطية ومبادئها، نجدها تقطع الطريق أمام الحقوق والحريات بصورة أو بأخرى، وبينما نجد أسس ومبادئ للقانون والدساتير، نجد انتهاكات لها حتى على الصعيد الدولي، وعدم تطبيق فعلي لها على آثر تعدد المفاهيم وتباينها، وإمكانية استمرار حالة الازدواجية في تفسير المفهوم الواحد، بما يضمن تحقيق المصالح الشخصية على حساب القيم والأسس المعترف والمتفق عليها عالميًا.
كلمات مفتاحية: المفهوم الضيق، المفهوم الواسع، البحث العلمي، المصطلحات، علم المصطلح، الخوارزمي، اللسانيون، الديمقراطية، الأمم المتحدة، عبد الله أوجلان، الإدارة الذاتية.