الدولة بناء نظري قائم على المدونات الفكرية التي تمتد لمئات السنون، بقدر ما هي تأسيس فيزيقي. ومن ثم فإنها تقبل بين الفينة والأخرى إعادة التأسيس والتأويل لبعض أنساقها النظرية. ولهذا، لا يمكن القول أن الدولة بالمفهوم الحديث التي يرجعها كثير من المنظرين السياسيين إلى صلح وستفاليا ١٦٤٨، قد غدت كيانا متكاملا تام البناء، إذ ربما أهم ما يميز الدول أنها كيانات حية تنمو وظائفها ومساحات حراكها كلما دعت الحاجة إليها، فهي كيان نامي لا ثابت. لهذا وفي السنوات الأخيرة، شهدت الفضاءات العامة لفعل السياسة على المستوى العالمي، إعادة إنتاج شعبوية جماهيرية لأفعال فقهية تليدة مثل “السيادة” و”التمثيل السياسي” و “التمثيل الانتخابي”، أي أن كلها دارت حول التساؤل القائل: من يمثلنا، وهل الديمقراطية التي أنتجتها الحداثة هي الصيغة السياسية والاجتماعية الأمثل، حتى تعبر الجماهير عن ذواتها ومصالحها في الفضاء السياسي الدولتي، وهل ثمة بدائل؟ هذا ما ستحاوله هذه الدراسة من خلال إعادة تفكيك لبنية نظرية بديلة طرحها عبد الله أوجلان في أكثر من كتاب له، وبصيغ مختلفة ما بين “الكونفدرالية الديمقراطية” و “حل الأمة الديمقراطية”. لكنها تركزت بشكل أكبر في المجلد الخامس من “مانفيستو الحضارة الديمقراطية ” والموسوم ب “القضة الكردية وحل الأمة الديموقراطية”.
إن الفضاءات غير التابعة للدولة التي تحتلها الحركات المناهضة لها، عادة ما تبني هياكل موازية لتلك الموجودة في الدولة مثل أنظمة المساعدة المتبادلة والعلاقات الاقتصادية الجماعية والحكومات غير الهرمية التي تعمل بشكل مستقل عن الدولة. وبالتالي، فإن تاريخ النظام العالمي الذي يستبعد الدور المهم الذي لعبته الحركات المناهضة للدولة الماضية والحالية والمساحات غير التابعة للدولة التي تكافح من أجل إنشائها سيكون تاريخًا غير مكتمل في أحسن الأحوال ([1]). ومن ثم ستعمل الدراسة في الأسطر التالية على محاولة استقراء مخططًا عامًا للأشكال الثقافية والسياسية التي تتخذها الحركات المناهضة للدولة في سعيها للخروج من النظام العالمي. متتبعين مدى قدرة الهويات الوطنية على مقاومة التلاشي، واستكشاف مدى الاقتراب من مرحلة ما بعد الوطنية والقومية في الفعل السياسي الدولتي.
ظهرت موجات من الاحتجاجات واحتلال الأماكن العامة في عدة دول مثل إسبانيا واليونان والولايات المتحدة وتركيا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولم تقتصر فقط على ممارسة حق التجمع المنصوص عليه في دساتير تلك الدول. لقد كانوا أيضًا يتعلقون حرفيًا بممارسة ديمقراطية التجمع: إنشاء مؤسسات تسمح للمواطنين بالمشاركة في السياسة بشكل مباشر. على سبيل المثال، في حالة احتجاجات عام 2013 في اسطنبول، تم تشكيل مجالس حي في أكثر من ثلاثين موقعًا في جميع أنحاء المدينة، كآلية يعبر بها المواطنون بقوة عن رغبتهم في تجاوز المؤسسات التمثيلية القائمة. لقد عبروا عن استيائهم من العمليات الانتخابية من خلال المطالبة وممارسة شكل من أشكال اتخاذ القرار المباشر، وإن كان ذلك لفترة زمنية محدودة وفي منطقة صغيرة نسبيًا في وسط المدينة. شجع هذا السعي إلى أشكال مباشرة من المشاركة الديمقراطية التي تنعكس في هذه المنصات التجريبية، الحركة الكردية على احتواء خيبة أملها وإحباطها من الديمقراطية التمثيلية، وإنتاج ماكينتها السياسية القائمة على خبراتها التاريخية المباشرة مع الهياكل والمنظومات السياسية الرسمية. وبالتالي، فإن “النموذج الجديد للحكم الذاتي الديمقراطي والكونفدرالية الديمقراطية يعتمد على المواطنة الفاعلة، حيث يكون الناس بمثابة فاعلين بقدرتهم على اتخاذ القرار والتصرف ومناقشة المشاكل ووضع الحلول من قبل الشعب وللشعب”([2]).. وفي كثير من هذه التجارب كما سنرى، كان ثمة اعتماد على البنى الفكرية التي أسس لها عبد الله أوجلان في مشروعة الفكري.
حظي نضال التحرر الكردي في الآونة الأخيرة باهتمام دولي كبير، وذلك لمقاومته [للدولة الإسلامية – داعش] وتطويره لأشكال جديدة من التنظيم السياسي والاجتماعي في شمال سوريا. تستلهم هذه الأشكال بشكل صريح من كتابات المفكر الإنساني عبد الله أوجلان (1949 -)، الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، ومبتكر نموذج سياسي ومجتمعي فريد للعيش المشترك، وذلك عبر كتاباته ذات العمق الإنساني لا الكردي فقط، كما سنرى في هذه الدراسة. وهي باترونات نظرية ذات ثقل تاريخي واستلاهمي للنضال العام من أجل التحرر، تتحدى نموذج الدولة القومية، مقترحة بدلاً من ذلك الديمقراطية واللامركزية والاستقلالية. وقد أثار التطبيق العملي لهذه الأفكار تساؤلات حول المفهوم الراسخ للدولة القومية، والذي كان بمثابة قوة مهيمنة في السياسة العالمية على مدى القرنين الماضيين. كما أطلق شرارة نقاشات مهمة في الأوساط الأكاديمية وخارجها ([3]). لكن لنرى أولا التطورات التي لحقت ببنية الدولة الحديثة مفهوما وإطارا للفعل السياسي.
الدولة الحديثة جنين قتل أمة
كانت نهاية حرب الثلاثين عامًا ومعاهدة وستفاليا، بداية عصر الدول القومية في أوروبا. وبالتبعية، أدى إنشاء الدولة القومية إلى إنهاء عصر الإمبراطوريات وبداية حقبة جديدة. ولكن، على عكس الإمبراطوريات، كان يجب أن يتشارك الناس في الدول القومية تاريخًا ولغة وقيم مشتركة. وترافق مع ظهور الدول القومية مشاكل خارجية كالحروب على السيادة والنفوذ، وكذلك مشاكل داخلية كحروب الاستقلال وحركات التمرد ([4]). وقد ترك ميراث التأسيس بصمته جلية على جسد هذه الدولة الحداثية الحديثة، وما زال يلقي بظلاله التأثيرية على حراكات وأداءت دولة اليوم. فالدولة حسب كثير من التنظيرات السياسية، “يقول شارل تيلي، أحد أكبر المنظِّرين في علم الاجتماع التاريخي الذين أرَّخوا لنشأة الدولة الحديثة وفرضوا على النقاش أطروحة مثيرة، في كتابه الأساسي الإكراه، رأس المال، والدولة الأوروبية ٩٩٠–١٩٩٠م: «إن الحرب صنعت الدولة والدولة صنعت الحرب». طبعًا، إن الحرب تُقال على معانٍ عدة: قبل سنة ١٦٠٠م، كانت الحرب تدور بوصفها «تقوية للقانون» و«أداة لإقامة العدل»، ثم صارت «مهنة عسكرية» تحت إشراف الدولة في ظل «قانون دولي» (١٦٠٠–١٨١٥م)، ثم أصبحت «سياسة دولة» تعمل بوصفها «مؤسسة قانونية» (١٨١٥–١٩١٩م)، وأخيرًا «ولادة جديدة للحرب العادلة». تقوم أطروحة تيلي المشار إليها على أن شرط إمكان نشأة «الدولة القومية» لم يكن «التجانس الثقافي» بين السكان بقدر ما كان «الانقسام السياسي» و«تقسيم» القارة الأوروبية إلى «أقاليم حصرية يقصي بعضها البعض بشكل متبادل» في جو يسوده النزاع على «الأرض»، وظهور تحالفات جديدة في لعبة السلطة ونوع جديد من «التعبئة الاجتماعية» للسكان؛ حيث نشأ معنى جديد لماهية «الدولة» (stateness) يقوم على أن «صناعة الدولة» (state-making) تتماهى مع «صناعة الحرب» (war-making) ([5]).
وبمجرد إنشاء الدولة القومية، وجدنا أنه حتى أكثر الأنظمة الديمقراطية كانت تفرض جبرا عناصر ثقافية بعينها، على الرغم من عدم وجود أساس في النظرية الديمقراطية للقيام بذلك، إذ تعزز الدول القومية لغات وثقافات وهويات وقيم اجتماعية معينة وتتجاهل أو تقمع أخرى. وفي سبيل ذلك، تم تصميم نماذج معينة من الاندماج والاستيعاب وتقاسم السلطة نظريًا ووضعها موضع التنفيذ من قبل بعض الدول القومية. في تركيا على سبيل المثال، تشكل السيادة الوطنية تحديًا خاصًا للأقليات. إذ تم فرض اللغة والثقافة والهوية والأيديولوجيات القومية التركية المحددة من أعلى إلى أسفل بموجب الدستور؛ ويتم تقديم قومية الأغلبية كواجب مدني بموجب الدستور؛ ولا تعمل المؤسسات التمثيلية الرسمية بشكل صحيح لأن النواب ورؤساء البلديات المنتخبين من الكرد وغيرهم يتم تجريمهم وسجنهم باستمرار، ويتم استبدال رؤساء البلديات بالبيروقراطيين؛ وقمع الأقليات من خلال مفهوم السيادة الوطنية ومؤسسات الديمقراطية التمثيلية أكثر واقعية وغالبًا ما يكون عنيفًا. من ناحية أخرى، ليس للأقليات في تركيا سلطة لسن القوانين أو نقضها لأن ممثليهم ليس لديهم سلطة ضد نواب الأغلبية “الأتراك” في البرلمان. على الرغم من أن الأحزاب السياسية الكردية ترسل نوابًا إلى البرلمان التركي منذ التسعينيات، إلا أن القوانين والتشريعات التي يسنها البرلمان وحكوماته قد استمرت في تجريم السياسة الكردية، حتى عندما تتجاوز حدودها. من ناحية أخرى، يحق لحكام المدن والقرى إلغاء أو نقض كل قرار تتخذه المجالس البلدية ورؤساء البلديات. ليس للأقليات سلطة اتخاذ قرارات بشأن أي قضية وعلى أي نطاق، سواء في السياسة الوطنية أو المحلية. لا يستطيع رؤساء البلديات أو المجالس البلدية تغيير اسم شارع دون موافقة المحافظين أو قادة المناطق، مما يعني الحكومة المركزية. تم بشكل خاص تجريم الكرد وحرمانهم من حقوقهم المدنية و “إثارة مشاكلهم” وإحباطهم سياسياً وخنقهم لأنهم لم يختاروا بشكل أساسي الاندماج في الأتراك ([6]).
ونفهم أكثر حينما ندرك، أن ظهور الأمة والقومية والدولة القومية، في السياق الأوروبي ومن بعده أغلب السياقات الأخرى، كان بمثابة مشروع هيمنة للطبقات العليا، وتم تنظيرها من قبل مفكرين أوروبيين إلى ما أصبح لاحقًا النموذج الفريد والفكرة الثابتة للتنمية والتقدم والقوة والتحديث. أدى التوسع المهيمن لهذا النموذج إلى جانب الاعتراف بتفوق الغرب “المتقدم” إلى خلق ظروف وأشكال وتجارب محددة بالمنطقة للحداثة الرأسمالية، والتي نشأ معظمها داخل ديناميكية الهيمنة مقابل المقاومة. هنا يكمن موقع الأزمة التي تسببها القومية والدولة القومية: النسخ الإجباري لبناء الأمة من قبل الدولة في ظل عدم وجود أمة. يؤدي هذا إلى، أولاً، توتر مستمر – يتخذ غالبًا شكل صراعات (عنيفة) – بين الدولة وبعض قطاعات المجتمع، وثانياً، مواجهة بين جماعات هوية / مجتمعية مختلفة، يتم تأمين واحدة أو أكثر منها من قبل النخبة الدولة ضد الأخرى (الآخرين)، لضمان استمرارية هيمنتهم. يمكن ملاحظة كلا التناقضين بدرجات متفاوتة في جميع أنحاء العالم. كما تفسر الطريقة التي توسعت بها القومية والدولة القومية في المنطقة، كعنصر رئيسي في الحداثة الرأسمالية ([7]).
الكرد بين بناء الدولة القومية الحديثة والهوية الذاتية المقاومة
من القرن السادس عشر حتى أوائل القرن العشرين ([8])، تم تقسيم كردستان بين الدولتين الكبيرتين في الشرق الأوسط، الإمبراطوريات العثمانية والفارسية. كانت كلتاهما دولتان متعددتان الأعراق، حيث لم تكن هناك مجموعة عرقية مهيمنة بشكل واضح. كان هناك بالتأكيد تمييز بين فئات مختلفة من المواطنين، لكنه كان يعتمد على الدين والتعليم، وليس على العرق في حد ذاته. يمكن للكرد، وقد فعلوا، متابعة وظائف سياسية دون التخلي عن هويتهم الكردية. كان هذا هو الحال بشكل خاص في الإمبراطورية العثمانية السنية، حيث كان معظم الكرد من السنة أيضًا. لكن في إيران الشيعية أيضًا، كان هناك كرد صعدوا إلى مواقع عليا. كردستان نفسها كانت أيضًا فسيفساء متعددة الأعراق، يسكنها قبائل بدوية رعوية كردية بالإضافة إلى فلاحين ناطقين بالكردية؛ من قبل المجتمعات اليهودية والمسيحية من العديد من اللغات والمذاهب، الذين كانوا فلاحين أو حرفيين أو تجارًا؛ من قبل الأقليات العربية والتركية الناطقة بأصول مختلفة؛ من الغجر الرحل والمستقرين، وبأقليات مسلمة صغيرة متنوعة أخرى. كردستان هي منطقة من السلاسل الجبلية العالية والواسعة، يصعب اختراقها. جعلتها الظروف الجغرافية منطقة عازلة بين الإمبراطوريتين. بالنسبة لكل منهما كانت منطقة هامشية، لم تكن لديهم رغبة كبيرة في ممارسة السيطرة المباشرة عليها. وبدلاً من ذلك، تركوا الحكام الكرد المحليين يسيطرون على مساحات شاسعة من الأرض، في مقابل طاعة رمزية، وضرائب متواضعة للغاية، والولاء العسكري في حالة الحرب. فقط عدد قليل من المقاطعات ذات الأهمية الاقتصادية أو الاستراتيجية الرئيسية تم وضعها تحت سيطرة حكام معينين من قبل السلطة المركزية ويقودون قوات الجيش النظامي. في بقية كردستان، سيطر عدد صغير من العائلات الأرستقراطية الكردية، كحكام إمارات مستقلة ([9]).
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، بذلت النخب السياسية في البلدان التي تم تقسيم كردستان بينها جهودًا منسقة لتحويل بلادهم إلى دول قومية. في كل دولة، توجد مجموعة عرقية مهيمنة – الأتراك أو العرب أو الفرس – وقد نفذت الحكومات سياسات مختلفة تهدف إلى استيعاب المجموعات العرقية الأخرى للمجموعة المهيمنة، من أجل تشكيل “الوحدة الوطنية”. هذا يعني قمع الثقافات وطرق الحياة التقليدية الأخرى، واستبدالها تدريجيًا بثقافة “وطنية” جديدة. تحمل الكرد، لكونهم من أكبر المجموعات العرقية، وطأة هذه السياسات. إن وجود هوية كردية منفصلة، ناهيك عن حركة وطنية كردية، يُعتبر في كل هذه الدول تهديدًا كبيرًا – وليس مجرد تهديد أمني، ولكن تهديدًا للهوية التي تحددها الدولة لنفسها. من بين هذه الدول، كانت تركيا دائمًا الأكثر راديكالية في محاولاتها “لبناء الأمة”، وقد حاولت بشكل (أكثر عنفًا) تدمير الهوية الوطنية الكردية. وأصبح اسم “كرد” نفسه محظورًا وظل كذلك لفترة طويلة. والحديث عن الكرد كأمة يعتبر حتى يومنا هذا عملاً تخريبيًا؛ وحتى بين النخبة المثقفة التركية اعتاد إثارة ردود فعل عاطفية للغاية. في إيران والعراق، كان هناك على الأقل بعض التسامح مع الثقافة الكردية، وذلك رغم محاولات الاستيعاب التي لم تتوقف. ففي إيران الشاه، كانت الفارسية هي اللغة الوحيدة المسموح بها في المدارس ومحاكم القانون وفي الاستخدام الرسمي الآخر. ولم يُسمح بالمنشورات باللغة الكردية، وتم حظر جميع المنظمات والجمعيات الكردية. وكان العراق هو البلد الوحيد الذي سمح للكرد بدرجة معينة من الاستقلال الثقافي وحتى السياسي. لكنها في الوقت نفسه تعتبر نفسها جزءًا لا يتجزأ من الأمة العربية الأوسع. فتم “تعريب” أجزاء مهمة من الناحية الاقتصادية في كردستان العراق بترحيل الكرد واستبدالهم بعرب من جنوب العراق. وتشجيع زواج الرجال العرب من النساء الكرديات بشكل كبير (مع الحوافز النقدية) كوسيلة أخرى لتعريب البلاد. وفي السنوات الماضية بدأ تحول جذري للغاية للريف الكردي، يستهدف على ما يبدو القضاء التام على القرية الكردية التقليدية، أحد الركائز الأساسية للثقافة الكردية. لقد تطورت القومية الكردية إلى حد كبير كرد فعل على الهيمنة السياسية والثقافية من قبل الدول الأربع، وعلى محاولات الاستيعاب هذه ([10]). ومن ثم، من زاوية أخرى تشكل كردستان، أحد الأمثلة، للآثار السلبية لتبعات الظهور الجيوسياسي للدول القومية، إذ نتيجة لإنشاء الحدود المصطنعة، أن قسمت إلى أربع دول مختلفة: العراق وإيران وسوريا وتركيا. لا يشير مفهوم كردستان إلى بلد أو مفهوم سياسي بل إلى مفهوم جغرافي. لقد شهد الكرد، في جميع البلدان المذكورة، اضطهادًا وكذلك استيعابًا كما رأينا وكما سنرى. وبسبب السياسات القومية للعراق وإيران وسوريا وتركيا، عانى الكرد لعقود. تم حظر اللغة الكردية في الأماكن العامة وكذلك في الحياة الاجتماعية. في سوريا، تم تجريد الكرد من جنسيتهم والعديد من الحقوق الأخرى. في العراق، حدثت مجزرة حلبجة حيث تم استخدام الأسلحة الكيميائية ضد الكرد عام 1986. وفي تركيا، قمعت الانتفاضات ضد الحكومة بقسوة. على سبيل المثال، خلال تمرد ديرسم، قتل الآلاف من الكرد ([11]).
إذن، رأت الدول-الأمة، التي كانت حديثة التأسيس على أنقاض الإمبراطوريات العثمانية والفارسية، نفسها شديدة الضعف، وبالتالي رأت ضرورة حماية هويتها وتماسكها ووحدتها من خلال قمع هوية الكرد. واعتبروا أن من حق الدولة القومية فرض جنسية المجموعة المهيمنة، سواء كانوا أتراكًا أو عربًا أو فرسًا، على الأقليات العرقية والوطنية. وبناءً على ذلك، وفي مساواة متصورة بين الهوية والولاء، بررت الدولة القومية الجديدة أن الشخص أو المجموعة التي تصر على الحفاظ على هويتها تخون الدولة ويجب معاملتها وفقًا لذلك. ورأوا أن التعددية الثقافية في فترة ما قبل الحداثة تشكل تهديدًا للدولة العصرية. وهكذا، كان الصراع طوال العصر الحديث بين دول قومية وأمة-غير-دولة، هي الكرد ([12]). وقد أعاقت هذه السياسات تطور هوية كردية طبيعية وعفوية. ونتيجة لذلك، شهد القرن العشرين محاولات متكررة لقمع الهوية الكردية على المستويين الثقافي والاجتماعي والسياسي، لأن هذه الهوية نفسها بدت وكأنها تهدد وحدة وسلامة كل دولة من الدول الأربع التي تحكم الوطن الكردي. مثل بناء الأمة، يمكن أن يختلف تشكيل الهوية أيضًا في الشكل والكثافة. في سياق التاريخ الحديث، تصارع الكرد مع مشاكل الهوية المنقسمة أو الهوية المزدوجة أو أزمة الهوية. أُجبر كل منهم في مرحلة ما على الاختيار بين هويتهم مع الدولة أو مع الأمة، مما تسبب بدوره في أزمة هوية. لكن المؤكد أن الكرد في جميع المناطق الأربع كانوا، في مطلع القرن الحادي والعشرين، يكافحون لاستعادة الهوية التي حرموا منها في معظم القرن العشرين ([13]).
كان من المحتم أن يواجه سعي الكرد لاستعادة هويتهم بردود فعل قوية من الدول المضيفة الأربع، التي كانت تخشى أن يؤدي أي تنازل في هذا الصدد إلى تعريض وجودها للخطر ويؤدي إلى الانفصالية الكردية. في الواقع، كانت تركيا، الدولة التي تم فيها قمع الهوية الكردية بشدة، هي الدولة التي كان استعادتها فيها الأكثر إيلامًا وصدمة. في تركيا، تم تصنيف الكرد على أنهم “أتراك الجبل” حتى وقت قريب جدًا وتم محو كل علامات هويتهم الفريدة. ومن هنا كان رد الفعل الكردي هو الأكثر عنفًا، بما في ذلك الأنشطة التي قام بها حزب العمال الكردستاني (PKK). بينما كانت مثل هذه الأعمال نادرة جدًا في المناطق الكردية الأخرى ([14]). في القطب الآخر يقف كرد العراق، الذين تم الاعتراف بهويتهم الخاصة من قبل الدولة وبدعم من القانون الدولي في شكل “قانون اللغات المحلية” في وقت مبكر من بداية الثلاثينيات. حتى لو لم يتم تكريمه دائمًا، فقد منح هذا القانون الكرد في العراق الحق في استخدام لغتهم وكذلك بعض الدرجات من الإدارة الذاتية، وكل ذلك منحهم مزايا مهمة على إخوانهم في البلدان الأخرى. تثبت دراسة شيركو كرمانج أن الهوية الكردية في العراق متبلورة بالفعل أكثر بكثير من المناطق الأخرى. قد تشير القضية الكردية في العراق، حيث حقق الكرد إنجازهم الأكبر، وهو دولة كردية شبه مستقلة، إلى وجود علاقة قوية بين تكوين الهوية وبناء الدولة. كان كرد سوريا صامتين إجباريًا لمعظم القرن العشرين. هذا لا يعني أن تغييرات كبيرة لم تكن تختمر تحت السطح. كان صراعهم صراعا مزدوجًا، ضد الحكومة السورية وكذلك داخل المجتمع الكردي نفسه. على أحد المستويات، قاتل الكرد لاستعادة هويتهم الكردية. وأيضًا، للحصول على حق المواطنة الذي تم حرمان بعضهم منه سابقًا ([15]).
الأمة والدولة والهويات والانتماءات المركبة
الأمة والدولة مفاهيم مركبة، آتية من سياقات حداثية، تحمل في تكوينها كثير من التراث والتاريخ. ولهذا، حاولت كثير من الدول الحديثة تأسيس أسطورة وجودها من خلال اعتمادها على عناصر موضوعية – كالعرق والتاريخ واللغة والدين والجغرافيا. لكن ربما كان التاريخ، أهم عنصر في بناء القومية. وبينما تعتمد الأمم الحديثة على الروايات التاريخية، فإنها تخلق تاريخها الوطني أيضًا. ويغدو التاريخ وشيجة اتصال داخل أوردة الأمة الإثنية، عندما يكون النسيان هو العملة الرئيسية في سياقات التأسيس. فقد ذهب إرنست رينان أن جوهر الأمة هو أنه يجب أن يكون لدى جميع الأفراد العديد من الأشياء المشتركة وأنهم يجب أن ينسوا الكثير من خلافاتهم. بعبارة أخرى، “النسيان منظور أساسي في تكوين الأمة”. لكن، يجب ألا يذهب النسيان بالجذر التاريخي الجامع لكل الطيف الإثني المكون للأمة. فكما اعتاد القومي الفرنسي موريس باريس أن يقول: إن الوطن مقبرة قديمة يمتلكها الجميع، ما يعنيه باريس هو أن الأمة تقوم على التاريخ والتراث المشترك. لكن الأمة لا تستند فقط على مكونات “موضوعية” حقيقية أو متخيلة، مثل الأصل العرقي واللغة والدين والتاريخ والأرض. إنها تحتاج أيضًا إلى بُعد “ذاتي”، بمكونات مثل التضامن والوعي والإرادة المشتركة والتطلعات إلى الإدارة الذاتية والدولة. وبسبب هذه الذاتية تحديدا، فإن الأمة مفهوم ديناميكي. فالسكان الذين لم يكونوا أمة في الماضي – مثل الألمان والأمريكيين في القرن الثامن عشر، والفلسطينيين في التاسع عشر، والكينيين في العشرين – يمكنهم أن يصبحوا أمة بشكل جيد. قال رينان بحق إن “وجود أمة أشبه بأن تكون استفتاء يومي” ([16]).
لم يتحقق هذا الاجتماع لدى الكرد في القرن التاسع عشر على سبيل المثال، فلم يكونوا أمة حينذاك. إذ، كانت هويتهم قبلية أو محلية أو دينية حتى وقت متأخر في القرن العشرين، وهذا هو سبب انهيار معظم التمردات القبلية بسبب نقص الدعم والوحدة. وهذا لا يناقض وجود نخبة صغيرة ذات تطلعات قومية للإدارة الذاتية والدولة والوحدة. كانت هذه قومية نخبوية، قومية لا تقوم على الأمة (أي قومية بدون أمة) تفتقر إلى الدعم الشعبي. فالدعم الجماهيري هو وحده الذي يحول قومية النخبة إلى “قومية حقيقية قائمة على الأمة”، أو بعبارة أخرى، “قومية مع أمة”. ويمكن القول، أن هذا التطور حدث في وقت ما في النصف الثاني من القرن العشرين في العراق وتركيا، وعلى ما يبدو أيضًا في سوريا وإيران. إذ كان بالإمكان ملاحظة مشاعر التضامن والغضب الكردية المشتركة، عندما سحقت إيران جمهورية مهاباد قصيرة العمر في منتصف الأربعينيات، وكذا عندما شنت العراق حرب إبادة جماعية بالأسلحة الكيماوية ضد الكرد في الثمانينيات، أو عندما رفضت تركيا السماح بدخول مئات الآلاف من اللاجئين الكرد من الحملات العسكرية لصدام حسين. مشاعر التضامن هذه، اختبار شخصي للأمة، يتجاوز بكثير القواسم المشتركة “الموضوعية” للدين واللغة والتاريخ. القومية الكردية في كل مكان هي قومية تصارع من أجل أقليتها، وتعارض القومية الغالبة للأتراك والفرس والعرب وتهدف إلى البقاء والحفاظ على الذات والتحرير في آن. القومية الكردية يمكن وسمها بقومية ما قبل الاستقلال، على عكس قوميات ما بعد الاستقلال. فالأهداف الرئيسية للأخيرة هي في الغالب تهدف للحفاظ على نظام الحكم التقليدي والحدود التاريخية (كما كان الحال مع إثيوبيا الإمبراطورية حتى عام 1974)، وتجديد النظام الاجتماعي والسياسي (الثورة الفرنسية، وتركيا الكمالية، والصين القومية والشيوعية)، أو التحرير الاقتصادي (أمريكا اللاتينية مقابل الولايات المتحدة)، أو التكامل بين الأعراق و”بناء الأمة” (أفريقيا ما بعد الاستعمار). في حين أن الهدف الرئيسي للقومية ما قبل الاستقلال هو الاستقلال ذاته، أو على الأقل الإدارة الذاتية، على أن يتحقق من خلال النضال من أجل الإدارة الذاتية أو الانفصال أو استرداد الأراضي المفقودة. هذا يتناسب مع القومية العرقية والثقافية للكرد وكذلك مع الباسك، وكويبك، والتبت، وكذلك القومية المعادية للاستعمار في أمريكا وأفريقيا ([17]).
ومن الأسئلة المثيرة للاهتمام المتعلقة بالقضية الكردية، العلاقة بين الحداثة والقومية. يُنظر إلى التحديث بشكل عام، الذي يتم تعريفه قبل كل شيء بالتحضر، وتسييل الاقتصاد، والتصنيع، والنقل الحديث، والتعليم ومحو الأمية، على أنه شرط أساسي للقومية الحديثة. وهكذا يُفسر ضعف القومية الكردية قبل الحرب العالمية الثانية، القول إن التحديث كان محدودًا. وفوق هذا، كان له تأثير في اتجاهين مختلفين. فقد أدى في بعض الأحيان إلى الاستيعاب؛ إذ تكيف الكرد الحضريون مع المجتمعات المهيمنة، مما عزز قومية إقليمية للدولة على حساب القومية الكردية العرقية والثقافية. وكان الدور الذي لعبه الكرد الحضريون المتعلمون في الأحزاب السياسية اليسارية في تركيا وإيران والعراق وسوريا هو مثال جلي على ذلك. وفي نفس الوقت كان للتحديث تأثير عكسي تماما؛ لأنه غرس في الشباب قومية كردية متنامية. ففي أواخر القرن التاسع عشر، أسس الكرد في المناطق الحضرية مدارس وجمعيات كردية في الإمبراطورية العثمانية. إن اتصال النخبة بالحكومات والغرب أثر بعمق على القومية. وليس من قبيل المصادفة أن حزب العمال الكردستاني PKK في تركيا أسسه طلاب مدنيون وليس قادة تقليديون. وشكلت البرجوازية الكردية الحضرية والمثقفون والطبقة العاملة مناطق التجنيد للأحزاب القومية الكردية، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني KDP في العراق، وحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني KDPI في إيران، والحزب الديمقراطي الكردي السوري KDPS في سوريا. وفي السياق العام، فإن التأثير المزدوج للحداثة معروف جيدًا. فبسبب التحديث أصبح بعض الأيرلنديين بريطانيين، بينما أصبح آخرون قوميين أيرلنديين مناهضين لبريطانيا. وأصبح العديد من اليهود المستنيرين ألمانًا أو فرنسيين أو مجريين، بينما أصبح آخرون صهاينة. بل إن التحديث يؤدى في بعض الأحيان لمفاقمة التوترات العرقية، وذلك راجع ربما للطابع التفاضلي للحداثة: بعض المناطق السكنية تتطور بوتيرة أسرع من غيرها، وتسبب “فجوات التحديث” بين المجموعات المختلفة استياء متزايدًا. ولهذا، ولعقود من الزمن، كانت جميع المناطق الكردية في تركيا وإيران والعراق وسوريا أكثر تخلفًا وتأخرًا وأمية من المناطق الأخرى، مما أدى بوضوح إلى تأجيج القومية الكردية ([18]).
ويتسق منطق الاشتعال القومي مع الإيقان بصواب مقولة: كان الصراع متوطنًا في نمو الأمم. إذ أنه يحول سكان ذوي خصائص “موضوعية” مشتركة مثل الدين واللغة والثقافة، إلى مجموعة عرقية ذات هوية مميزة ومشاعر مشتركة وتطلعات مشتركة. إن استقطاب هذه القواسم المشتركة “الذاتية” المزعومة، والتصميم على الحفاظ على الدولة أو إحيائها أو تأسيس دولة جديدة، هي السمات المميزة للقومية. بحسب تشارلز تيلي، فإن الصراعات تخلق الأمم كما تخلق الأمم صراعاتها. وبالفعل، أصبح البولنديون أمة من خلال حروبهم ضد الروس والبروس والنمساويين، وكذا أصبح الكروات من خلال صراعاتهم مع الصرب. وأدرك اليونانيون كونهم يونانيين بسبب قمع الدولة العثمانية لهم. وعموما يمكن القول، أن القومية الحديثة في أوروبا الغربية ولدت من خلال رد الفعل والتقليد. نشأت القومية الألمانية كرد فعل على الفتوحات النابليونية، والقومية العربية على الإمبريالية الغربية، والقومية الهندية ضد الاستعمار البريطاني. عكست كل هذه التعبيرات عن القومية أهداف القومية الأوروبية – وهي تقرير المصير الوطني والسيادة والوحدة والثقافة الوطنية والعودة إلى التاريخ الوطني. انتشرت القومية في جميع أنحاء العالم عن طريق التقليد. خضعت جميع الشعوب تقريبًا، في مرحلة ما، بطريقة تشبه تأثير الدومينو، لإغراء القومية. وفي هذا كله، ولهذا كله؛ لم يكن الكرد مختلفين في هذا الشأن. كانت القومية الكردية، في جانب منها، رد فعل على قومية الأتراك والإيرانيين والعرب. وقد عززت حقبة القومية المعادية للاستعمار تصميم الكرد على النضال من أجل الإدارة الذاتية والاستقلال. وتساءلوا لماذا لا يتمتعون بالحق فيما مُنح للعرب والهنود والأفارقة. وقد تأثر الحراك الوطني الكردي في كافة البلدان بالتطورات في البلدان الأخرى. عززت جمهورية مهاباد الكردية في إيران التطلعات الوطنية الكردية في العراق. كما كان للثورات الكردية في العراق تأثير قوي على القومية الكردية في تركيا. وأدى تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني إلى إنشاء أحزاب مماثلة في العراق (الحزب الديمقراطي الكردستاني) وتركيا (KDPT ، الحزب الديمقراطي الكردستاني التركي) وسوريا (الحزب الديمقراطي الكردستاني السوري – سوريا) ([19]).
إذن يمكن القول، إن القومية الكردية كأيديولوجية سياسية وحركة وطنية/قومية هي ظاهرة حديثة. ومع ذلك، فإن تطور الهويات الجماعية والدلالات والتقاليد الثقافية والوعي الذاتي في عصر ما قبل الحداثة شكل منبعًا لبناء خطاب قومي حديث و”مجتمعات متخيلة” حديثة. إن فهم نمو الحركات الوطنية/ القومية والمصادر المستخدمة لبناء السردية الوطنية يتطلب فحصًا دقيقًا للتطورات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية واللغوية. وقد ظهرت التعابير الأولى للقومية الكردية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. تحدث الشيخ عبيد الله، الذي ثار ضد الدولة العثمانية عام 1878 وغزا منطقة أورميا في إيران بعد ذلك بعامين، عن الاستقلال الكردي. كان موقفه تجاه الإمبراطورية العثمانية غامضا ودوافعه وسلوكه تقليدية وقبلية وإقطاعية. ومع ذلك، استخدم عبيد الله في بعض المناسبات مصطلح “الأمة الكردية” – “طائفه كردية” – وأعرب عن رغبته في توحيد الكرد وإقامة دولة كردية تحت حكمه. من جانبه، ساهم الشاعر حاجي قادر كويي (1817-1897) في تنمية الوعي القومي الكردي بتحريره وإعادة تنظيم نشر ملحمة ميم وزين لأحمد خاني، التي نُشرت لأول مرة عام 1695. احتوت ملحمة ميم وزين على تعبيرات عن هوية كردية مستقلة ويأمل في حاكم كردي. اعتمدها القوميون كملحمة تمثل القومية الكردية. كانت خطوة أخرى نحو الوعي الذاتي للكرد هي نشر أول صحيفة باللغة الكردية، في القاهرة عام 1898. وقد تشكلت القومية الكردية من خلال عملية التحديث ومواجهة المنطقة مع الغرب خلال الحكم العثماني والإيراني لكردستان. ومع ذلك، ارتبط نمو القومية الكردية والخطاب القومي بهوية كردية تاريخية وأسطورية وكلتيهما تطورتا ودورهما طوال التاريخ ما قبل الإسلامي والإسلامي ([20]).
صحيح أن مفهوم “القومي” كان من الصعب تطبيقه في زمن ما قبل حداثي، فمفهوم القومية الحديثة لم يتطور إلا في المجتمع الرأسمالي الحديث. ومع ذلك، فإن الأحداث التي سبقت العصر الحديث – سواء كانت حقيقية أو مختلقة – وكذلك الشخصيات والأساطير الشعبية مكنت الحركات الوطنية الحديثة من بناء خطاب وطني حديث. لقد اعتمد تطور الهوية القومية الكردية بشكل أساسي على تطور تحديد ما يمكن وصفه بأنه كردي في كردستان الكبرى: القبائل الكردية والإمارات والشعر والتقاليد الشفوية. لقد خلقت الهوية العرقية الكردية وبذور الدولة الكردية – في شكل إمارات مستقلة سادت منذ بدايات الإسلام حتى القرن التاسع عشر – الظروف المناسبة لنمو حركة قومية حديثة. لكن تسبب زوال الإمارات الكردية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وبطء عملية التحديث، والنمو المحدود للطبقات الاجتماعية الحديثة وميلها نحو التكامل أو حتى الاستيعاب مع الهويات التركية والعربية والإيرانية الناشئة؛ وعدم وجود تقاليد كردية مكتوبة ولغة كردية عليا موحدة. كلها كانت من الأسباب الرئيسية لضعف الحركة القومية الكردية وتأخر تطورها. خلقت الساحة الدولية وإعادة تصميم خريطة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، والتي تركت الكرد بلا دولة، وكذلك الخصائص والعمليات الاجتماعية السائدة في المجتمع الكردي ظروفا قاسية لنمو حركة قومية كردية ([21]).
ولهذا، يُطلق على الكرد غالبًا اسم أمة بلا دولة؛ ربما هم أكبر شعب ناضل دون جدوى من أجل إقامة دولة. بالنسبة لبعض المراقبين، وكذلك للعديد من الكرد، فإن هذا هو جوهر المشكلة الكردية. ويبدو أن مثل هذا الرأي يتجاهل حقيقة أن الكرد قد استغنوا بسعادة تامة عن دولة خاصة بهم لعدة قرون. ومع ذلك، تغير شيء مهم في أوائل القرن العشرين نتيجة لتفكك الإمبراطورية العثمانية وظهور القوميات الحديثة. تم تقسيم بلاد الكرد بين الدول القومية الجديدة في المنطقة. وبدأ عدد متزايد من الكرد يعتبرون أنفسهم كيانًا متميزًا، ويطالبون بحقوقهم كشعب مميز. ولسوء حظهم، لم تكن لدى أي من الدول التي كانوا رعاياها الجديدة النية لإعطائهم أي وضع خاص، بل على العكس، كانت هناك محاولات متعمدة وغير متعمدة من جانب كل هذه الدول لتهميش واستيعاب الكرد. كانت النتيجة تمردات كردية شبه مستمرة في هذه الدول طوال القرن العشرين ([22]). وسكنت القضية الوطنية الكردية قلب شعب قومي كبير مقسم سلطويا داخل دول تركيا وإيران والعراق وسوريا وأرمينيا. وذلك لما يقارب القرن. ولهذا، يمكن القول أن تقسيم الجسد الكردي بين دول مختلفة له جذور إمبريالية عميقة ترجع لمئات السنين. وفي هذا الإطار يغدو السياق الاستعماري ومناهضة الاستعمار مهما لفهم طبيعة محنة الكرد. ففي أسيا وافريقيا والشرق الأوسط، رأينا أن الاستعمار ابتكر مستعمرات ومحميات جديدة، والتي أصبحت في النهاية دولا ذات حدود جديدة، ومن ثم حدث نوع من تقسيم المجموعات العرقية القومية، كما كان الحال في وضع الكرد. وثمة فرضية تذهب إلى أن الدول في لحظة تأسيسها، إذا وقعت تحت تأثير مجموعة عرقية معينة، فإنها تظل تعمل كوكيل لتلك الجماعة، بل وتصبح طرفا مباشرا في النزاعات العرقية. ففي تركيا وإيران سوريا والعراق ومنذ الحرب العالمية الأولى، سيطرت القومية العدوانية في الدول الأربع، مما جعل أي استيعاب سلمي للكرد مستحيلًا. ويكفي التذكير بالأنظمة القومية القاسية لكمال أتاتورك في تركيا، وصدام حسين في العراق، وحافظ الأسد في سوريا، والخميني في إيران ([23]).
وإذا كانت القومية الكردية قد عجزت عن تحقيق حلم الدولة، فإن ثمة تفسر لهذا العجز من منظور تاريخي. إذ كان ثمة فواعل وعوامل فوق قومية منعت الكرد من بناء دولتهم. ولهذا، تثير أي مناقشة للهوية الوطنية الأسئلة التالية: ما هي الأمة؟ ما هي جذورها؟ كيف ترتبط بالعرق؟ ما مدى حداثتها؟ هل هي متجانسة؟ وهل هناك اتفاق على حدودها؟ في الواقع، يتصارع الكرد مع كل هذه القضايا، كما فعل الألمان والإيطاليون والأيرلنديون والعرب. يقول بندكت أندرسون إن الأمة هي “مجتمع متخيل”، ولكن لم يفكر كل الكرد في الأمة بنفس الطريقة. أكد البعض على خصائص موضوعية أكثر مثل العرق واللغة والجغرافيا والثقافة، بينما شدد آخرون على المكونات الشخصية للقومية مثل المشاعر والتضامن والوعي والتطلعات إلى الإدارة الذاتية والدولة. وقبل عام 1920 لم يكن هناك أي معنى للقومية الكردية في تركيا والعراق وإيران وسوريا. كانت الولاءات في الأساس قبلية أو محلية أو دينية. كان الكرد بصفتهم “جماعة غير متخيلة”، وهي جماعة مقسمة – ليس بين الدول فحسب، بل وأيضًا داخل الدول. ومع ذلك، فإن إحساسهم الحديث بالقومية غارق في جذور تاريخية عميقة، مثل اليهود والأرمن والعرب واليابانيين والإنجليز، الذين يستند إحساسهم بالأمة على الاستمرارية العرقية والتاريخ القديم والأساطير الشعبية للأصل المشترك والرموز العرقية. وكذلك اللغة والثقافة. تتناسب الحالة الكردية بشكل وثيق مع النظريات الدائمة والعرقية الرمزية للقومية. على الرغم من أن “التفكير في الأمة” يقوم أيضًا على المكونات الموضوعية للغة والدين والثقافة والعرق، إلا أنه يتضمن عناصر شخصانية أيضًا، بحيث تخيل الكرد المختلفون دولًا مختلفة. رأى بعض الكرد المستوعبين أنفسهم بشكل أساسي على أنهم أتراك أو إيرانيون أو عرب (مثل القادة السابقين لسوريا الحديثة، حسني الزعيم، أديب حسن الشيشكلي، وزعيم الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش)، تمامًا كما رأى بعض البولنديين في القرن التاسع عشر أنفسهم على أنهم روس أو نمساويين. رأى آخرون أنفسهم كجزء من الأمة الإسلامية. بينما اعتبر آخرون، الذين كان لديهم هوية عرقية قوية، أنفسهم كردًا من أصل عرقي داخل أمة مدنية تركية أو عراقية أو إيرانية أو سورية. وعندما أصبحت العرقية مسيسة للغاية، اعتبروا أنفسهم أمة كردية واحدة تطمح إلى دولة كردية شاملة ([24]).
برزت القومية الكردية الشاملة مرارًا وتكرارًا في الأدب والشعر؛ في التعاون بين الأحزاب الكردية القومية في إيران وتركيا وسوريا والعراق؛ في الروابط بين الكرد من دول مختلفة في الشتات الأوروبي؛ أو في التعريف العاطفي العام لدى جميع الكرد مع الإنجازات الكردية (على سبيل المثال، إنشاء جمهورية مهاباد الكردية بعد الحرب العالمية الثانية) والمآسي (الحملة الإبادة الجماعية ضد الكرد العراقيين في أواخر الثمانينيات. ينبغي إضافة ملاحظتين أخريين. اعترض الكرد ذوو الحس القوي بالأمة والعرق على القومية الجامعة التركية أو العربية لأن التكوينات الكردية في تركيا أو العراق أو سوريا لن تمارس أي تأثير في دولة تركية أو عربية شاملة ([25]). كانت المدرسة الفكرية السائدة في الخمسينيات والستينيات تعتقد أن زيادة الاتصالات والتكامل الاقتصادي وخاصة الهجرة الجماعية من الريف إلى المدن الكبرى من شأنها أن تجعل سكان دول العالم الثالث أكثر تجانسًا وتحولهم إلى دول جديدة. وفقًا لهذا الخط الفكري، كان من المتوقع أن يفقد الكرد تدريجيًا تميزهم الكردي. لكن بملاحظة بسيطة على الواقع الآني؛ نلحظ أن العكس هو ما حدث بالضبط، فلا الكرد ولا العديد من المجموعات العرقية الأخرى ذابت واندمجت. وعلى الرغم من استمرار محاولات دمج الكرد بشكل أكبر في البلدان التي يعيشون فيها، فإن زيادة الاتصالات مع المجموعات العرقية الأخرى جعلتهم أكثر وعيًا بهويتهم العرقية المنفصلة. وكرد فعل على التمييز الذي عانى منه الكثيرون في المدرسة أو في البحث عن عمل، بدأ الكثيرون في البحث عن أشياء في التاريخ والثقافة الكردية يمكنهم أن يفخروا بها. وتأسست الجمعيات الثقافية الكردية على وجه التحديد في المدن الكبيرة، وتم نشر المجلات الثقافية. حتى أبناء الآباء الذين تم استيعابهم بنجاح، اكتشفوا جذورهم الكردية وبدأوا في تعلم اللغة الكردية مرة أخرى. وأصبح الوعي القومي الكردي والفخر بالثقافة الكردية ظواهر جماهيرية ([26]).
ساهمت التغيرات الجيوسياسية في المنطقة بما فيها الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ومظاهر الضعف التي طالت عدد من دول الإقليم نتيجة للديناميكيات الإقليمية والدولية، وتشكيل دول جديدة، مثل جنوب السودان 2011، في إرسال رسالة مفادها أن الحدود التي فصلت الكرد في أعقاب الحرب العالمية الأولى لم تعد مقدسة. وبلغت الأحداث ذروتها مع ثورات الربيع العربي، الذي ساعد في حشد الربيع الكردي في سوريا وكذلك تركيا. وعند مقارنة تجربة الحركات الوطنية الكردية بالحركات الوطنية الأخرى، يجد بنيامين نويبرغر أوجه تشابه كبيرة بينهما. صحيح أن الكرد تأخروا بشكل كبير عن المجموعات العرقية التي تمكنت من تأسيس دولة خاصة بهم. ومع ذلك، مع التحولات المهمة التي تحدث بين كل من الكرد أنفسهم وطوال العالم الذي يحيط بهم، لا يمكن استبعاد احتمال أن يتمكن جزء واحد من هذا الوطن المجزأ من إعلان استقلاله في النهاية ([27]). فهل تحقق هذا؟ هذا ما سنحاول اكتشافه في القادم من هذه الدراسة.
البناء الديمقراطي.. إشكال نظري أوجلاني وتعقيد تاريخي
مصطلح “بناء الأمة”، الذي صيغ عام 1963، يشير إلى مجموعة من الأفكار والمفاهيم المختلفة. والتي يمكن صياغتها كالتالي: “مجموعة واسعة ومتنوعة من السياسات، التي تبدأ من تعزيز الدولة إلى سياسات الهوية وجهود التحول الديمقراطي”. إذا تم أخذ هذا التعريف كأساس لتقييم “درجة” بناء الأمة بين الكرد، فسيكون الاستنتاج الذي تم التوصل إليه هو أن الصورة متنوعة، حيث حقق الكرد في كل جزء من أجزاء كردستان درجة مختلفة في بناء الأمة. وهكذا، فإن كردستان العراق هي الأكثر تقدمًا، بعد أن حققت تقدمًا في جميع المجالات الثلاثة المذكورة أعلاه. يركز الكرد في تركيا بشكل رئيسي على سياسات الهوية، بينما الكرد في سوريا هم في المراحل الأولى من توطيد سيادة الدولة، وفي إيران يتخلف الكرد عن الركب في جميع الفئات الثلاث. ومع ذلك، يجب التأكيد على أن الكرد، كاستراتيجية، طالبوا باستمرار بإضفاء الديمقراطية على النظام السياسي للدولة كشرط لا غنى عنه لضمان حقوقهم وامتنعوا عن الانفصال ([28]).
في الواقع، أصبحت مصطلحات “الديمقراطية” أو “الديمقراطي” أو “التحول الديمقراطي” جزءًا لا يتجزأ من الخطاب الوطني الكردي في جميع المناطق الأربع. على سبيل المثال، تحمل الأحزاب الكردية الرئيسية أسماء مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (KDPI) الذي تأسس عام 1945، والحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي (KDP) الذي تأسس بعد ذلك بوقت قصير. يحمل حزب واحد في سوريا وواحد في تركيا الاسم نفسه. وبالمثل، كان الشعار الأساسي في جميع المجالات لفترة طويلة “الإدارة الذاتية للكرد والديمقراطية للدولة”. وهذا يوضح إصرار الكرد على الديمقراطية، لأن حقوقهم الأساسية كانت تداس دائمًا من قبل الأنظمة الشمولية أو الاستبدادية أو العسكرية. يتعين على كل أمة التعامل مع مسألة الهوية الجماعية في عملية بناء الأمة. لكن بالنسبة للكرد كانت هذه المهمة صعبة ومؤلمة بشكل خاص في القرن العشرين. كان هذا لأن جميع الدول المضيفة حاولت – بشكل دوري وبمستويات مختلفة من القوة ومعدلات نجاح مختلفة – تجريدهم من هويتهم كأفراد وكمجموعة ([29]). في هذا الإطار، كانت أطروحات عبد الله أوجلان ومنظومته الفكرية هي جذر التأسيس لعمليات البناء الديمقراطي، فكيف كان هذا؟ لنرى حالًا
كانت اللحظة الفارقة في حياة أوجلان هي اختطافه وسجنه. ففي 15 فبراير 1999، اختطفت قوات الأمن التركية الخاصة (ميت) أوجلان بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتم اعتقاله. وأدى اعتقاله إلى اندلاع انتفاضات عنيفة. للإشارة إلى أهمية هذه اللحظة، فإنه خلال الأشهر الخمسة الممتدة بين أكتوبر 1998 ومارس 1999، أحرق خمسة وسبعون شخصًا أنفسهم احتجاجا، وتم احتلال مئات السفارات من قبل المضربين عن الطعام في جميع أنحاء أوروبا وآسيا. وبعد أسبوعين فقط من القبض عليه، تصدرت صورة أوجلان الصفحة الأولى لمجلة تايم، حيث كان أول “مواطن تركي” يظهر على غلافها منذ مصطفى كمال أتاتورك. وبعد ما يقرب من مائة يوم في الحبس الانفرادي، بدأت محاكمته التي استمرت تسعة أيام في 31 مايو 1999. وجهت إلى أوجلان تهمة التسبب في مقتل حوالي 40.000 شخص، معظمهم من الكرد. وقد ندد اوجلان بإراقة الدماء قائلا: “إن شدة الحرب نجمت عن العقلية البرجوازية الصغيرة المنتشرة، والغباء الفلاحي إلى حد ما”. ولاحقا، كتب من سجنه: “إن نظريتنا وبرنامجنا وممارستنا في السبعينيات لم تسفر إلا عن انفصال وعنف عبثيين، بل والأسوأ من ذلك، فإن القومية التي كان ينبغي أن نعارضها أصابتنا جميعًا”. وبينما كان يدافع عن فكرة أنه لا غنى عنه لتحقيق سلام دائم، حكم عليه القضاء التركي بالإعدام ([30]).
ومنذ سجنه، أقبل أوجلان على القراءة بشراهة وأنتج عشرات النصوص التي تم توزيعها من خلال أعضاء فريقه القانوني. وفقًا لتقرير صادر عن سجن إيمرلي اعتبارًا من عام 2013، قرأ أوجلان حوالي 2300 كتاب ودورية منذ سجنه. خدمت هذه النصوص ثلاثة أغراض: أولاً، الدفاع أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) عن أعمال حزب العمال الكردستاني. أما الهدف الثاني فيتمثل في تحديد مسار وإيديولوجية حزب العمال الكردستاني. والهدف الثالث هو تحقيق حل ديمقراطي -ومن المهم أن يكون غير عسكري- للقضية الكردية من خلال محادثات السلام مع أنقرة وحزب العدالة والتنمية الحاكم. يكتب أوجلان: “لم يعتبر حزب العمال الكردستاني القضية الكردية مجرد مشكلة عرقية أو قومية. بل كنا نعتقد أنها مشروع تحرير المجتمع وإضفاء الطابع الديمقراطي عليه “. هنا أوجلان لم ينظر إلى صراع حزب العمال الكردستاني والقضية الكردية من حيث القومية أو العرق، وإنما كمشروع لتحرير المجتمع. ما هو هذا المجتمع إذن؟ يعرّف أوجلان المجتمع في أبسط صوره بأنه “جماعة واعية تتكون من عدد متغير من البشر المستخدمين للأدوات، يقومون بعمل لتحقيق هدف مشترك”. يبدو هذا التعريف صارمًا، لكن ما يلفت الانتباه هو انفتاحه. لم يكن صراع حزب العمال الكردستاني مجرد تحرير وطني بل تحرير اجتماعي. وتحديدا، يجادل أوجلان بأن “المؤتمرية الديمقراطية” هي حل “يتجنب الوقوع في فخ القومية” ([31]).
استنادًا إلى المنظر الأمريكي موراي بوكتشين، يطور المفكر عبد الله أوجلان فلسفة تاريخية حضارية، مشبعة بالفكر المادي التاريخي ومنتقدة للتسلسل الهرمي الاجتماعي. يُفهم التاريخ البشري لديه من خلال عدسة جدلية تقوم على التناقض بين إرث السيطرة وإرث الحرية (أي الصراع ضد التنظيم الهرمي للحياة البشرية من أجل تحقيق الحرية). وفقًا لأوجلان، يتجسد إرث السيطرة في الوقت الحاضر من خلال ثالوث: الدولة القومية، والحداثة الرأسمالية، والحضارة الرأسمالية. وعلى النقيض من ذلك، يُمثّل إرث الحرية بما يسميه أوجلان “الأمة الديمقراطية” و”الحداثة الديمقراطية” و”الحضارة الديمقراطية”، والتي تترجم شكليًا إلى نظام “كونفدرالية ديمقراطية”. هنا، تشير كلمة “ديمقراطي” إلى الحكم الذاتي لكل من الأفراد والمجتمعات المحلية، مقابل حكم النخب. على الرغم من تداخل مصطلحات “الحداثة الديمقراطية” و”الحضارة الديمقراطية” وتوليدها لبعضهما البعض، إلا أنها تقدم فروقًا دقيقة. فالأخيرة هي الحضارة التي تقوم على المجتمع الأخلاقي والسياسي، كما عرّفها أوجلان، بينما الأولى هي تجليها المعاصر في ظل الظروف الحديثة ([32]).
في صميم نقد أوجلان لمفهوم الأمة، نجد عداء شديد للدور الذي تلعبه الدولة في فرض التجانس. إذ تسعى الدولة القومية وفقا لأوجلان لخلق ثقافة قومية واحدة تقضي على التنوع الثقافي داخل حدودها. ومن ثم يعتبر أوجلان هذه العملية تسلطًا ثقافيًا وسياسيًا، ويقترح بدلا من ذلك مفهوم “الأمة الديموقراطية”. وعلى النقيض من مفهوم الدولة القومية التي تقوم على الهوية الوطنية الموحدة والموحدة، فإن “الأمة الديموقراطية” لأوجلان هي نموذج سياسي ثقافي يتضمن التعايش السلمي والمتساوي للجماعات الثقافية المختلفة داخل إطار ديمقراطي لا مركزي. يهدف أوجلان إلى تطوير نظرية للأمة، يمكنها الحفاظ على التعددية والتنوع الاجتماعي والدفاع عنهما ضد “الاستيعاب والإبادة الجماعية” للدولة، التي تُرتكب “باسم مجتمع وهمي موحد” ([33]). لكن كيف ظهر هذا المفهوم، كحل لمأزومية الواقع الكردي.
محاولة لتحدي النموذج السائد للدولة القومية
احتكرت الدولة القومية فهمنا للدستورية لمدة 200 عام. وأصبحت هي الباترون السياسي المهيمن، الذي قدمت حركات التحرر الوطني نفسها من خلاله. كما أن مبدأ تقرير المصير الوطني منصوص عليه أيضًا في القانون الدولي من خلال ميثاق الأمم المتحدة، وهذا يوفر للحركات القومية أساسًا متينًا لمطالبتها بدولة ذات سيادة. ومع ذلك لم يتبن حزب العمال الكردستاني (pkk) النموذج القومي في حراكه السياسي. لقد توقف الحزب عن المطالبة بالسيادة القومية باسم الأمة الكردية في كردستان، وذلك منذ أن تم الإعلان عن نموذج الكونفدرالية الديمقراطية في ٢٠٠٥. بل إنهم يطالبون بالإدارة الذاتية باسم شعوب ومجتمعات كردستان. وينتقد الحراك الكردي اجمالا الدولة القومية كشكل مهيمن للمجتمع السياسي؛ والمؤسسات التمثيلية لصنع القرار السياسي؛ وكذا السيادة المطلقة وغير القابلة للتجزئة للسلطة السياسية التي تزعم تمثيل شعب أو أمة؛ وأيضًا المواطنة القائمة على الهوية الثقافية أو المدنية. وبالتالي، فإن المشروع السياسي الكردي، يمثل تحديًا للنماذج القائمة للمجتمع السياسي في الشرق الأوسط. إذ أن نموذج المجتمع السياسي الذي يروج له هو ديمقراطية بلا دولة ([34]). كيف هذا؟
يعتقد عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK)، أن الدول القومية هي أصل مشاكل الشعب الكردي في الشرق الأوسط. ويؤكد أن تأسيس دولة قومية كردية منفصلة لن يحل قضايا الشعب الكردي بل سيعيد إنتاج نفس المشاكل التي يعانون منها حاليًا تحت سيطرة الدول القومية الأخرى. يقول أوجلان: “لم نكن نعتقد أن أي مخططات سياسية جاهزة ستكون قادرة على تحسين وضع الشعب في الشرق الأوسط بشكل مستدام. ألم تكن القومية والدول القومية هي التي خلقت العديد من المشاكل في الشرق الأوسط؟ إن تأسيس دولة قومية كردية منفصلة لا معنى له بالنسبة للكرد. على مدى العقود الماضية لم يناضل الكرد فقط ضد القمع من قبل القوى المهيمنة والمطالبة بالاعتراف بوجودهم ولكن أيضًا من أجل تحرير مجتمعهم من قبضة الإقطاع. وبالتالي لا معنى لاستبدال السلاسل القديمة بأخرى جديدة أو حتى تعزيز القمع. وهذا ما يعنيه تأسيس دولة قومية في سياق الحداثة الرأسمالية”. كما يوجه أوجلان انتقادات حادة لمفهوم السيادة الذي تستند إليه الدولة القومية. فمفهوم السيادة يفترض أن للدولة سلطة عليا لا يمكن مساءلتها، وهو ما يراه أوجلان أداة للسيطرة على الشعوب والموارد الطبيعية. ويرى أن بديل ذلك يكمن في ممارسة السلطة بشكل مشترك من قبل المجتمعات المحلية وليس من قبل حكومة مركزية قوية. ينتقد أيضًا الديمقراطية التمثيلية التي تعتمد على انتخاب ممثلين عن الشعب لفترات طويلة. كما يعتبر أن حرية المشاركة السياسية تتحقق من خلال ديمقراطية مباشرة تسمح للناس بالمساهمة بشكل فعال في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم. ويتم ذلك من خلال مجالس محلية منتخبة بشكل مباشر على مستوى القرى والمدن. وأخيرًا، يرفض أوجلان مفهوم المواطنة القائم على الهوية (الثقافية أو المدنية). ويرى أن المواطنة يجب أن تقوم على مبدأ المشاركة المتساوية في اتخاذ القرارات السياسية والتمتع بالحقوق والحريات الأساسية بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني. باختصار، يرفض المشروع الكردي النموذج السائد للدولة القومية بكل مكوناته تقريبًا، بما في ذلك مفهوم السيادة والديمقراطية التمثيلية والحدود والمواطنة الحصرية. ويرى أن هذا النموذج هو السبب الرئيسي وراء المشاكل التي تواجه المنطقة، بما في ذلك القضية الكردية. ويقترح بدلاً من ذلك نظامًا كونفدراليًا ديمقراطيًا يعتمد على الإدارة الذاتية المحلية والمشاركة الشعبية المباشرة ([35]).
إن أهم معايير المشروع الكردي هي تلك التي تتعلق بالمفاهيم والعمليات والمؤسسات السياسية المرتبطة بالدولة القومية. لكن السيادة والديمقراطية التمثيلية والحدود والمواطنة، هذه المكونات الأربعة للمجتمع السياسي التي يتم إعادة تكوينها في النموذج الكردي. إن المشروع الكردي يعتمد على المفاهيم الجمهورية للحرية والمشاركة السياسية. يتم عرض الحرية على أنها “عدم الهيمنة” في المشروع، وبالتالي، فإن مفهوم السيادة الذي من خلاله يتم تبرير سيطرة البشر والطبيعة من قبل البشر يُعتبر قمعًا غير مقبول. كما يعزز المشروع المشاركة السياسية المباشرة. في سياق المشروع الكردي، لا يضمن التصويت مرة كل عدة سنوات المشاركة في الحكومة ولكنه يخلق وهمًا بذلك. لأن المشروع الكردي يتأثر بالمفكر Murray Bookchin، الذي يجمع فكره السياسي بين الإجراءات الديمقراطية القديمة والمفاهيم الجمهورية للحرية والمشاركة السياسية وكذلك البيئة الأناركية، فإن هذه العقائد هي الأساس الرئيسي للنقد الموجه للديمقراطية التمثيلية داخل حزب العمال الكردستاني. هناك أيضًا أوجه تشابه مفاهيمية بين كتابات أوجلان وانتقادات حنه أرندت بأن حق التصويت والتمثيل السياسي ليسا سلطتين في حد ذاتهما ولكن تم تصميمهما فقط لتقديم الحماية ضد إساءة استخدام السلطة. وبروح روسو وأرندت، يعني المشروع الكردي أن التمثيل لا يرقى إلى ممارسة السلطة السياسية. تجادل كتابات وبيانات قادة الإدارة الكردية والمصادر الثانوية بأن المشاركة السياسية يجب أن تتم بشكل مباشر، من خلال الكومينات والجمعيات والمجالس ([36]).
هذا التشتت للسلطة السياسية عبر مجموعة متنوعة من الأجهزة هو استجابة مباشرة لما يعتبره النموذج الكردي غير كافٍ في الديمقراطية التمثيلية. ومن الناحية العملية، لا يمكن للبرلمانات، كأجهزة للسيادة، أن تضم سوى بضع مئات من الأشخاص. وبالتالي فإن الآلية تركز الكثير من القوة والموارد في أيدي بضع مئات من الأشخاص. وبالتالي، يصبح النشاط السياسي امتيازًا للنخبة لأن المواطنين العاديين غير مجهزين ويفتقرون إلى الموارد اللازمة للمشاركة الفعالة في السياسة الانتخابية. أصبحت السياسة مهنة ومسيرة مهنية، وبالتالي يتم اختيار “النخبة” وفقًا لمعايير وأسس غير سياسية بعمق. ومن طبيعة أنظمة الأحزاب أنه لا يمكن للمواهب السياسية الحقيقية أن تفرض نفسها إلا في حالات نادرة، ومن النادر جدًا أن تنجو المؤهلات السياسية المحددة من المناورات التافهة للسياسة الحزبية مع مطالبها بالبهرجة البسيطة. لذلك، فإن الترتيب الذي يسمح لمئات قليلة بتمثيل وحكم ملايين من الناس يبدو وكأنه “خدعة” كما وصفها بعض دعاة الديمقراطية المباشرة ([37]).
إذن، تخلت حركة التحرير الكردية عن مبدأ تقرير المصير القومي وتصورت مجتمعًا سياسيًا آخر غير الأمة. ابتعدت الحركات الكردية في تركيا وسوريا عن سياسات الدولة القومية لأنها ترى الدولة والدولة القومية ونظام الدول القومية على أنها المشكلة، والقوة القامعة في آن. لذلك، جعل زعيم هذه الحركات من تطوير نموذج بديل للتنظيم السياسي مهمة حياته. يرى أوجلان الدولة على أنها “المصدر الأساسي للقمع في المجتمع”. ويجادل بأن “نظام الدول القومية أصبح عقبة جدية أمام تطور المجتمع والديمقراطية والحرية منذ نهاية القرن العشرين”. وبالتالي، يجسد مشروعه “شكلاً جديدًا من السياسة، ينطوي على خلق مساحات وعلاقات مستقلة بدلاً من تمثيل الهويات أمام السلطة”. ويقدم مؤسسات وعمليات صنع قرار سياسي بديلة لتحقيق ديمقراطية جذرية – “جذرية بمعنى أنها تحاول تطوير مفهوم الديمقراطية خارج نطاق الأمة والدولة”. وعلى الرغم من أن أوجلان وأتباعه يروجون لفكرة أن للكرد الحق في إقامة إدارة ذاتية في كردستان، إلا أن هذا لم يُتصور على أنه عملية تكتمل بطريقة إقصائية كما هو نموذجي في المطالب القومية. وغالبًا ما يؤكد أوجلان وقادة الحركات الكردية التي ألهمها أنه ليس لديهم نية في بناء دولة قومية كردية. ويشددون على أن كردستان لا تخص الكرد فقط، مع الاعتراف بأن العديد من المجتمعات والشعوب يعيشون في كردستان ويعتبرونها وطنهم. ويؤكدون مجدداً أنهم يرغبون في إقامة بيئة سياسية ديمقراطية للجميع. كما يرفض المشروع الكردي أيضًا الحدود الوطنية التي فرضتها الدول القومية الأربع تركيا وسوريا وإيران والعراق ويعترض على تهميشه أو تهميشه لمجموعات أخرى من خلال إنشاء مؤسسات تمثيلية كآلية وحيدة لصنع القرار. على الرغم من أن تفويض السلطة أمر لا مفر منه في مرحلة ما من صنع القرار السياسي، فإن المؤسسات التمثيلية ليست الآليات الوحيدة لممارسة السلطة السياسية. المشاركة السياسية المباشرة وغير المباشرة هي القاعدة داخل المشروع الكردي. ثالثًا، لا تُحدد المواطنة على الهوية الثقافية بل على الإقامة الطوعية. وهكذا، تقترح الحركات الكردية الرئيسية في تركيا وسوريا بديلاً ديمقراطيًا جذريًا يعيد تشكيل السيادة والمواطنة والإدارة الذاتية ([38]).
إذن ما يمكن قوله هنا، أن التفاعلات السياسية العالمية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أدت إلى ترك الكرد دون وضع قانوني وسياسي معترف به دوليًا. ومنذ ذلك الحين، حاولوا تشكيل كيان سياسي ضد كل الصعوبات. بالبناء على التفسيرات النظرية للتوسع النمطي والمهيمن للدول القومية والقومية إلى جانب الحداثة الرأسمالية، ووضعها في حوار مع تأملات أوجلان النظرية. لقد كان المشروع الاتحادي الديمقراطي يهدف إلى ممارسة تكوين أمة تستبعد الإقصاء من خلال بناء استجابة إقليمية لأزمة الحداثة الرأسمالية ([39]). ولنقترب الآن من مفهوم الأمة الديمقراطية، لنرى كيف أسس أوجلان لهيكل الحل الديمقراطي للمشروع الكردي بأكمله.
الأمة كحل ديمقراطي
الأمةُ الديمقراطيةُ مفهوم حاول أوجلان من خلاله إعادة فعل السيادة، في لحظات الانتقال الديمقراطي، للجماهير في صيغتها الخام، قبل أن يصبحوا أدوات في بنية الدولة الحديثة. وقد عرفها أوجلان كالتالي: هي قيامُ الشعبِ بذاتِ نفسِه بتحقيقِ تحوُّلِه الوطنيِّ عبر التسيسِ اللازم، ودون الاعتمادِ على السلطةِ أو الدولة. ولا يقتصرُ الأمرُ على التسيس فحسب. بل إنها تجهدُ لإثباتِ جدارةِ الشعبِ في التمكنِ من تحقيقِ التحولِ الوطنيِّ وتكوينِ نفسِه كأمةٍ ديمقراطية، من خلالِ مؤسساتِ الاستقلالِ الذاتيِّ المعنيةِ بحقلِ الدفاعِ الذاتيِّ والميادين الاقتصاديةِ والحقوقيةِ والاجتماعيةِ والدبلوماسيةِ والثقافية، دون اللجوءِ إلى التدولِ أو التحولِ السلطويّ. بينما وحسب مقدساتِ الحداثةِ الرأسمالية، ثمة شكلٌ واحدٌ معقولٌ وممكنٌ للدولةِ في عصرِنا، ألا وهو شكلُ الدولةِ القومية. وعلى عكسِ ما يُعتَقَد، فالدولةُ القوميةُ الكامنةُ في الليبرالية، ليست علمانية. بل إنها الشكلُ العصريُّ المَطلِيُّ بالطلاءِ الوطنيِّ لرؤيةِ الدولةِ الثيوقراطيةِ القروَسطية. وعلى حدِّ تعبيرِ هيغل، فهي الحالةُ المجسَّدةُ للإلهِ الهابطِ على الأرضِ تزامناً مع الثورةِ الفرنسية. وتفسيرُ هيغل هذا محاكمةٌ صائبةٌ للغاية. فبقدرِ ما ننبشُ في الدولةِ القومية، نجدُ أنّ أوثانَ آلهةِ العصورِ الأولى والوسطى تستعرُ بالمِثلِ في أعماقِها. وعليه، لن نستطيعَ فهمَ أو تحليلَ أيةِ قضيةٍ وطنيةٍ أو اجتماعية، ما لَم نستوعب الوجهَ الباطنيَّ للدولةِ القوميةِ بهذا المنوال. لذا، فحلُّ الأمةِ الديمقراطيةِ هو حلُّ القضيةِ الوطنيةِ الأكثرَ سِلماً وحريةً وعدلاً وخلواً من الدماء، فيما يتعلقُ بالمجتمعاتِ البشريةِ والمجموعاتِ الأثنيةِ ومختلفِ الفئاتِ الاجتماعية، التي مزَّقَتها الحداثةُ الرأسماليةُ إرباً إرباً، وأَغرَقَتها في بحورٍ من الدماءِ عبرَ حروبِ الدولةِ القوميةِ الناشبةِ في غضونِ القرونِ الأربعةِ الأخيرة ([40]).
إنّ حلَّ القضيةِ الكرديةِ في كردستان ضمن إطارِ الأمةِ الديمقراطيةِ سيُقدمُ إسهاماً عظيماً حيالَ أزمةِ الدولةِ القوميةِ في الشرقِ الأوسطِ وما تسبَّبَت به من انسداد. هذا ويتجلى منذ الآن أنّ تجاوزَ الصراعاتِ والمآزقِ والأزماتِ الناجمةِ عن الدولِ القوميةِ في العراق وإيران وسوريا وتركيا غيرُ ممكنٍ إلا عبر حلِّ الأمةِ الديمقراطية. فالإصرارُ على الدولةِ القوميةِ يعني مزيداً من القضايا والتناحرِ والنزاع. وحتى لو أُريدَ بناءُ دولٍ قوميةٍ أخرى فإنها لن تجلبَ الحلّ. بل ولن تؤدي سوى إلى إضافةِ قضايا جديدة. أما المزيدُ من الرأسماليةِ والصناعوية، والذي سيُطرَحُ على أنه سبيلُ الحلّ؛ فلا يعني سوى مزيداً من الأزماتِ والبطالةِ والصراعِ ودمارِ البيئةِ واختلالِ المناخ، مثلما يُلاحَظُ في الجهاتِ الأربعِ من المعمورة. إنّ الثورةَ الكردستانيةَ التي لن تُنجَزَ ضمن إطارِ الأمةِ الديمقراطيةِ فحسب، بل وضمن عنصرَي الاقتصادِ الكوموناليِّ والصناعةِ الأيكولوجيةِ من العصرانيةِ الديمقراطية، سوف ترتقي على ميراثِ الثوراتِ المنصرمة، وستتخطاها، لتَكُونَ –ربما– واحدةً من أحجارِ الزاويةِ ونقاطِ العَلاّم لثوراتِ القرنِ الحادي والعشرين ([41]).
في مفهوم الأمة الديمقراطية تغدو الإدارة كيان لا دولتي بل يمكن القول إنها تمتاز بنوع من التشاركية التي لا تعطي حائزها سلطات زائدة وقوة مفرطة. لأنّ الإدارةَ فيه ظاهرةٌ شفافة مُسَخَّرةٌ لخدمةِ الحياةِ اليومية. والجميعُ فيه مُؤَهَّلٌ لأنْ يَكُونَ موظفاً إدارياً، في حالِ تلبيتِه المتطلباتِ والمقتضيات. أي أنّ الإدارةَ فيه قَيِّمة، لكنها ليست مقدَّسة. ومفهومُ الهويةِ الوطنيةِ فيه منفتحُ الأطراف، وليس كعضويةٍ أو عقيدةٍ دينيةٍ منغلقة. والانتماءُ فيه إلى أمةٍ ما، ليس امتيازاً ولا عَيباً. بل ويُمكن الانتماء فيه إلى عدةِ أمم. أو بالأصح، قد تُعاشُ فيه قومياتٌ مختلفةٌ متداخلة. إذ بمقدورِ الأمةِ الديمقراطيةِ وأمةِ القانونِ أنْ تعيشا سوية، وبكلِّ يُسر، في حالِ تمكينِ الوِفاقِ بينهما. أما الوطنُ والعَلَمُ واللغة، وإلى جانبِ قيمتِهم العالية، لكنهم ليسوا مقدَّسين. والعيشُ في ظلِّ تشاطُرِ الوطنِ المشترك واللغاتِ والأعلامِ المشتركةِ بشكلٍ متداخلٍ على دربِ الصداقة. نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ.. يُنعِشُ ثانيةً دمقرطةَ العلاقاتِ الاجتماعيةِ التي مَزَّقَتها النزعةُ الدولتيةُ القوميةُ إرباً إرباً، ويُفعِمُ الهوياتِ المتباينةَ بروحِ الوفاقِ والسلامِ والسماحة ([42]).
ويمكن التتبع التاريخي للتفكير في جدوى الدولة ذاتها كإطار سياسي وثقافي جامع للطيف الاجتماعي للحرب العالمية الثانية، عندما فَرَضَت تجربةُ الفاشيةِ في أوروبا خلال الحربِ العالميةِ الثانيةِ، أنْ تُعيدَ الحداثةُ النظرَ ثانيةً في مشروعِ المجتمعِ النمطيّ. فعُمِلَ عن طريقِ مشروعِ الاتحادِ الأوروبيِّ على الرجوعِ إلى التعدديةِ الثقافيةِ كبديل. وإلى جانبِ مشاطرةِ ما وراء الحداثةِ للتعدديةِ الثقافيةِ كقيمةٍ أساسيةٍ مضموناً، إلا إنها بعيدةٌ عن أنْ تَكُونَ بديلاً للحداثةِ الرأسمالية. أما جميعُ الثقافاتِ التي خارجَ نطاقِ الهويةِ الثقافيةِ الرسمية، فيُفرَضُ عليها في نهايةِ المطافِ أنْ تصبحَ هامشيةً وتُواجِهَ حقيقةَ التصفيةِ والزوال، تلقائياً كان أم بالإبادةِ غيرِ المباشرة: بأساليبِ القمعِ والاستغلالِ الرأسماليّ أو عبرَ سياساتِ الدولةِ القوميةِ في خلقِ مجتمعٍ نمطيٍّ رسميّ. والسبيلُ الأصحُّ للوقوفِ في وجهِ ذلك ولصَونِ وجودِها الثقافيِّ وجعلِه حراً طَليقاً، هو تَبَنّي مفهومِ الهويةِ الثقافيةِ منفتحةِ الأطراف، وتوحيدُها مع الثقافاتِ الأخرى في تركيبةٍ جديدة، وصياغةُ مشاريعِ العيش المشترك الأرقى. هذا وتُعَدُّ الأمةُ الديمقراطية، المواطَنةُ الدستورية، الجمهوريةُ الديمقراطية، ومفهومُ الثقافةِ التعدديةِ والوطنِ التعدُّدِيِّ بعضاً من هذه المشاريع الأساسية. أما أساليبُ السياسةِ الديمقراطيةِ ومنظماتِ المجتمعِ المدنيِّ وشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، فهي وسائلُ التطبيقِ الأساسيةُ لتلك المشاريع ([43]).
ولهذا لا ينفك أوجلان، يعود مرارا لمحاولاته تفكيك خطورة تأثير تجذر أبجديات الدولة القومية في الفعل السياسي الدولي. أحدُ أشنعِ ذنوبِ الحداثةِ الرأسماليةِ تجاه ظاهرةِ الوطن، هو طرحُها الزائفُ لمفهومِ الحدودِ الصارمةِ التي لا تُمَسُّ والتي تحتوي أمةً واحدةً فقط، وعرضُه على أنه أقدسُ المصطلحات. أي إنّ مفهومَ الحدودِ لدى الدولةِ القوميةِ يُفَعَّلُ كعبادة، إشارةً إلى كيفيةِ صونِه لِما يُزعَمُ أنه الوطن. في حين أنه مضموناً يعني أكثرَ حدودِ المُلكيةِ تصعيداً وتعميماً. إنه أعلى أشكالِ المُلكية، وآخِرُ محطةٍ يَصِلُها تاريخُ المُلكيةِ المبتدئةِ بتسييجِ محيطِ حقلٍ ما. إذ تُصَيَّرُ الحدودُ صارمةً لدرجةِ أنه تُخاضُ الحروبُ فداءً لِما يُسمى بشِبرٍ منها. لا ريب في وجودِ حدودٍ لأوطانِ الشعوبِ والأمم. لكنّ تَشَكُّلَ تلك الحدودِ والدفاعَ عنها ضمن مفهومِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ مغايرٌ كلياً لِما عليه في عقليةِ الدولةِ القومية. فالحدودُ في هذا المفهومِ ليست تعصُّباً للمُلكية. بل هي خطُّ التضامنِ والصداقةِ والكياناتِ الاجتماعيةِ العليا، التي يتحققُ فيها أكثر أشكالِ التعاونِ والتشاطرِ والتبادلِ والتركيبِ الثقافيِّ الجديدِ حيويةً وازدهاراً مع الجِوار. هذه الساحاتُ التي غالباً ما تتحققُ فيها تعدديةُ الأممِ والثقافات، هي الحلقاتُ الخلاّقةُ التي تتخمرُ فيها الثقافةُ والحضارةُ بمستوى أرفع ويَسودُها السِّلمُ والأخوّة، لا النزاعُ والحروب. والحدودُ التي طالما احتضنَت هكذا نشاطاتٍ في التاريخ، قد تحولَت في ظلِّ الحداثةِ الرأسماليةِ إلى خطوطٍ شَهِدَت أكثر العداواتِ والحروب ([44]).
إنّ الواقعَ الكرديَّ المُجتَثّ من موطنِه الأمّ هو واقعٌ جريحٌ يحتضر. وعجزُه عن تبنّي وطنِه الأمِّ والدفاعِ عنه، يعني التخلي عن تاريخِه وثقافتِه. ويؤولُ في النهاية إلى التراجعِ عن العيشِ على شكلِ مجتمع، وعن كينونةِ الأمة. من هنا، محالٌ تعريفُ واقعِ المجتمعِ الكرديِّ من دونِ وطن. ومحالٌ على مجتمعٍ بلا وطنٍ أنْ يستمرَّ بوجودِه، أو أنْ يتخلصَ حينها من التعرضِ للتصفيةِ والزوالِ والتشرذمِ على التوالي. من المستحيلِ إنكارُ وجودِ كردستان، حتى لو كانت واقعَ وطنٍ يعاني من نيرِ الاستعمارِ والإبادة. بل سيستمرُّ وجودُها حتى آخرِ فردٍ صامدٍ يطمحُ في العيشِ بحُريةٍ وبما يليقُ بواقعِ تاريخِه ومجتمعِه وملتزماً به. وفي هذه الحالة، فإنّ كردستان لن تبقى موطنَ الكردِ فحسب. بل وستَغدو وطناً مشتركاً يتشاطرُه الأرمنُ والسُّريانُ والتركمانُ والعربُ أيضاً، ضمن أجواءٍ مفعمةٍ بالديمقراطيةِ والحريةِ والمساواة. وسيتشاركُ فيه كلُّ فردٍ أو ثقافةٍ تطمحُ في العيشِ على ثَراه بحرية. وعليه، فإنّ انعدامَ الدولةِ القوميةِ على أراضيها لن يَغدوَ سوءَ طالعٍ لها، بل حظاً سعيداً. أي إنّ كردستان لن تصبحَ هذه المرةَ وطناً لتمدنٍ طبقيٍّ جديدٍ مُعادٍ للأيكولوجيا، ولا لمدنيةٍ دولتيةٍ قوميةٍ جديدة. بل ستُصبح وطناً يبزغُ فيه فجرُ العصرانيةِ الديمقراطيةِ على الشرقِ الوسط، ويترعرعُ بين أحضانِه ([45]).
فالوطنُ الأمُّ لَم يُصَيَّرْ وطناً قومياً. بل وكان يُشارُ إلى أنه وطنُ الدولِ القوميةِ الحاكمة. أي أنّ المكانَ الأساسيَّ للتحولِ إلى أمة كان يُخرَجُ من كونِه موطناً، ويُنظَرُ إليه مندرجاً في لائحةِ الانتماءِ إلى أممٍ أخرى. كما كانت تدورُ المساعي لصهرِ الوجودِ القوميِّ بذاتِ نفسِه في بوتقةِ الأممِ الحاكمة، قبل تَحَقُّقِ التحولِ الكردايتيِّ أو التحولِ إلى أمةٍ كردية. وهكذا، كان يُصَيَّرُ موضوعاً شيئياً، ويُستَعمَرُ ويُصهَرُ على يدِ ثقافاتِ الدولِ القوميةِ الحاكمة، العربيةِ منها والتركيةِ والفارسية.. وبهذا المعنى، لَم تَعُد القضيةُ الكرديةُ قضيةً بورجوازيةً بالأساس. بل أضحت قضيةَ مجتمعِ الكادحين. كانت حتى أبسط بوادرِ الإرادةِ السياسيةِ لصيرورةِ الأمة تُسحَقُ بلا هوادةٍ تحت ذريعةِ “وحدة الدولةِ وسيادتها” التشويشية. أما ثقافةُ السياسة الديمقراطية، التي تُعَدُّ شرطاً لا غنى عنه بالنسبةِ لأيِّ مجتمع، فكانت تُوصَمُ بـ”الانفصال” و”التقسيم” لمُواراةِ الممارساتِ التي تصلُ حدَّ الإبادةِ الجماعيةِ والتطهيرِ العرقيّ. في حين أنّ القطاعَ الاقتصاديّ، الذي يلبي الاحتياجاتِ الماديةَ الأساسيةَ التي لا يمكنُ لأيِّ مجتمعٍ العيش بدونِها، كان يخضعُ لرقابةٍ تامّة. وهكذا كان الاقتصادُ يُستَخدَمُ كوسيلةٍ للتجريدِ من كينونةِ الأمة. أي، كان الاقتصادُ بذاتِه يُصَيَّرُ أهمَّ وسيلةٍ لتكريسِ العجزِ عن تحقيقِ التحولِ القوميّ. كما كان لا يُعتَرَفُ بأيةِ وثيقةٍ أو وضعٍ قانونيٍّ فيما يخصُّ الهويةَ الكردية. أي، كانت الهويةُ الكرديةُ تُصَيَّرُ خارجةً على القانونِ والحقوقِ لدى تطلُّعِها إلى التحوُّلِ إلى أمة، فكان لا يُعتَرَفُ بوجودِها في هذا الإطار. بالتالي، كان يُحكَمُ عليها بأنْ تغدوَ هويةً بلا تعريفٍ وبلا اسم، ولا علاقةَ لها البتة بأيِّ قانون. هكذا، فالوجودُ المجتمعيُّ الذي يناهزُ تعدادُ سكانِه الأربعينَ مليون نسمة، كان في حُكمِ العَدَم في القانونِ الوطنيِّ والدوليّ ([46]).
السيادة والمشاركة الديمقراطية
يمكن القول أن ثمة علاقة شائكة ما بين السيادة والدولة الحديثة. بالنسبة إلى كارل شميت، وعلى غرار بودين وهوبز من قبله، كانت الدولة كيانًا تاريخيًا يمكن استبداله بنفس السهولة – وبنفس العنف – الذي ظهر فيه النظام السياسي السابق. لم يكن موقعها المهيمن محددا مسبقًا. والجدير بالذكر أن شميت جادل بأن الليبرالية الدستورية لا يمكنها توقع كل الاحتمالات، وأبرزها حالة الاستثناء. وفقًا لشميت: كل قانون هو “قانون موقف”. إن من يملك السيادة هو من ينتج ويضمن الموقف بكامله. لديه احتكار على هذا القرار الأخير. يكمن فيه جوهر سيادة الدولة، التي يجب تعريفها قانونيًا بشكل صحيح، ليس كاحتكار للإكراه أو الحكم، ولكن كاحتكار لاتخاذ القرار. على الرغم من أن كلمة “سيادة” لا تظهر بشكل متكرر في كتابات أوجلان، إلا أنها تتناول مفهوم الدولة بطريقة غير مباشرة. يضع أوجلان الدولة القومية في سياق تاريخي، حيث يربط تطورها، بحجة أن “الرأسمالية والدولة القومية أصبحتا مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا ببعضهما البعض لدرجة أنه لا يمكن تخيل وجود إحداهما بدون الأخرى”. ثم ينتقل أوجلان إلى العلاقة بين الدولة القومية والدين. حيث يكتب: “الدولة القومية دولة مركزية ذات صفات شبه إلهية نزعت سلاح المجتمع تماما واحتكرت استخدام القوة”. يمكن هنا أن نرى تأثير كل من كارل شميت وماكس ويبر على تفكير أوجلان. يظهر ذلك جليا من خلال استشهادات أوجلان بهذين المفكرين النظرين في كتاباته. استفاد أوجلان من فكرة كارل شميت الذي يرى أن “جميع المفاهيم المهمة في النظرية الحديثة للدولة هي مفاهيم لاهوتية علمانية”. أما التأثير الوايبري فهو نابع من مصدرين. أولا، من المقولة الشهيرة لويبر التي تعرف الدولة بأنها “ذلك المجتمع البشري الذي يطالب (بنجاح) باحتكار العنف المادي الشرعي داخل منطقة معينة”. وثانيا، والأكثر إثارة للاهتمام في رأيي، مفهوم ويبر للدولة على أنها “رابطة إجبارية ذات أساس إقليمي”. كذلك استفاد أوجلان من مفهوم ويبر عن المجتمع بأنه “محبوس في قفص حديدي”، وهو مفهوم يشير إليه أوجلان مرارا وتكرارا لتمييز المؤتمرية الديمقراطية عن مفاهيم مثل الحداثة الرأسمالية ([47]).
ونظرًا للمخاوف النظرية والعملية – والمتمثلة في أن مفهوم السيادة مرتبط نظريًا بالاستبداد والسيطرة والهيمنة واضطهاد الأقليات، وأن التمثيل لا يُنظر إليه تجريبيا كآلية عادلة للمشاركة السياسية، حيث يتعين على الأقليات التنافس على الوصول إلى السلطة السياسية مع أغلبية تفوقها عدديًا بشكل كبير على أرض غير مستوية وبموارد محدودة للغاية – فقد جرب النموذج الكردي للمجتمع السياسي بدائل عن السيادة الوطنية والديمقراطية التمثيلية. استفاد صياغة أوجلان للمشروع الكردي من الموارد النظرية المتاحة في سياق تصميم مجتمع سياسي، بالإضافة إلى مراقبة التطورات على الأرض عن كثب، خاصة في حالات الحركات السياسية التي رنت لاحتلال الفضاء العام، كما حدث في إسطنبول، كما أشرنا آنفًا. وقد حقق المشروع الكردي للديمقراطية الكنفدرالية تقدمًا في السياسة المحلية عبر الأحزاب السياسية والمجالس القائمة على النوع الاجتماعي والشباب والتعاونيات الاقتصادية حتى أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لكن التركيز على مؤسسات المشاركة السياسية المباشرة زاد بعد أن اكتسبت حركات احتلال زخمًا أكبر في السياسة العالمية ([48]).
ومن ثم، فإن أهم تحول شهدته الحركات الكردية هو أنها “لا تتجه نحو الاستيلاء على سلطة الدولة، أو تركز على الدولة، ولكن على تطوير أشكال بديلة لممارسة السلطة السياسية من خلال التنظيم الذاتي”. فبمجرد أن “حرروا” أنفسهم من البرنامج الثوري التقليدي المتمثل في الاستيلاء على السلطة السياسية من خلال السيطرة على المؤسسات السياسية المركزية، بدأوا في الترويج لفكرة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القاعدية وبناء مثل هذه المؤسسات أينما أمكنهم. وكان الهدف النهائي هو إقامة الإدارة الذاتية من خلال بناء مؤسسات شعبية، مثل الكوميونات والمنتديات والجمعيات والمجالس. من خلال هذه المؤسسات، يمكن للأفراد والجماعات أن يصبحوا مشاركين فعليين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اليومية، وبالتالي يحلون تدريجياً محل مؤسسات الدولة دون القيام بثورات عنيفة داخل الدولة القومية. إذا لم تتدخل الدولة القومية المعنية بعنف، يمكن للإدارات الذاتية الموازية والإدارة المركزية أن تتعايشا من حيث المبدأ. وكذلك في التطبيق، كما توضح حالات البلديات الذاتية الزاباتية في تشياباس، المكسيك، واتحاد شمال شرق سوريا (إدارة روج آفا). بما أن الحركات الكردية تبنت نهجًا للمشاركة المباشرة في السياسة، فإن القضية الرئيسية بالنسبة لها ليست “مزيدًا من وصول المواطنين إلى حكومة نائية”، ولكن “تغييرًا كاملاً من سياسة القوة” القائمة على علاقات هرمية وبدعم من ثقافة سياسية مناسبة إلى “سياسة المشاركة” التي يتعاون فيها المواطنون المتساوون فيما بينهم لحل مشاكلهم الخاصة. الفكرة هي أن المجموعات الصغيرة بما يكفي لاتخاذ قرارات وجها لوجه يجب أن تفعل ذلك، ويجب أن يكون التفويض خيارًا فقط إذا لم يكن ذلك ممكنا ([49]).
إذن ونظريًا، يعتمد النموذج الكردي للإدارة الذاتية على مفهوم شعبي جماهيري وليس فعل سيادي دولتي. أساس المجتمع السياسي ليس الهوية الثقافية بل الإقامة، والذي يبدو أنه صيغة مشابهة لمبدأ والدرون حول القرب. يستند مفهوم قرب والدرون إلى المبدأ الكانطي الذي ينص على أن المجتمعات السياسية يجب أن تتشكل من قبل وبين أولئك الذين هم على مقربة من بعضهم البعض لأنهم أكثر عرضة للدخول في صراع. ومع ذلك، يقترح النموذج الكردي أنه يجب تشكيل المجتمعات السياسية بين أولئك الذين يشاركون في جغرافية مشتركة بحكم العيش جنبًا إلى جنب وليس لأنهم أكثر عرضة للصراع. يختلف هذا عن مبدأ والدرون لأن الإدارة الذاتية الكردية تقوم على مبدأ القرب كحق عالمي وطبيعي وليس كاتفاق عقلاني يمكن التوصل إليه بين الكائنات العقلانية. لا يتعين على المجتمعات إثبات أو إقناع الآخرين بأنهم يستحقون الفرصة لإدارة فضائهم السياسي والمجتمعي بأنفسهم، وكذا اتخاذ قراراتهم الخاصة بشأن حياتهم. بهذا تغدو الإدارة الذاتية حق وليس امتياز ([50]).
يؤكد روسو في كتابه “العقد الاجتماعي” على أن الإرادة السياسية لا يمكن تمثيلها وأن السيادة لا يمكن ممارستها من خلال آليات تمثيلية. وجادل روسو بأنه “في اللحظة التي يسمح فيها شعب ما لنفسه بأن يتم تمثيله، فإنه لم يعد حرًا: لم يعد موجودًا”. ومن ثم، يمكن القول، أنه بالنسبة للحركة السياسية الكردية، فإن الأمر لا يتعلق بإعادة اكتشاف الإرادة العامة ولكن باستعادة “الكنوز المفقودة” للثورات الحديثة (أي مجالس المواطنين ومجالس الشعب). وفي الفصل السادس من كتاب “عن الثورة”، تلاحظ حنه أرندت أن ما تشترك فيه جميع الثورات الحديثة (الأمريكية والفرنسية والروسية) هو انتشار المجالس والجمعيات في الأحياء والبلدات والمدن وفشل المؤسسات السياسية اللاحقة في دمج تلك الآليات الديمقراطية في الدساتير. وقد كان ثمة تأثر للحراك السياسي الكردي في تركيا وسوريا بمثل هذه التحليلات. على سبيل المثال، كان أهم عنصر في نموذجهم هو استعادة المجالس الثورية وتأسيسها في مدن وبلدات كردستان. ويمكن ملاحظة توازي بين صياغة أوجلان لممارسة السلطة السياسية بشكل مباشر وتحليل أرندت للكنز المفقود للثورات. تشير أرندت إلى المجالس بأنها “جمهوريات ابتدائية” و “أجهزة سياسية شعبية”، وتلاحظ أنه، لو تم تطوير هذه الصورة من الحكومة بشكل كامل، لكانت قد أخذت مرة أخرى شكل الهرم، وهو بالطبع شكل حكومة استبدادية في الأساس. ولكن في حين يتم تنقيح السلطة في جميع الحكومات الاستبدادية التي نعرفها من الأعلى، فإن السلطة في هذه الحالة لم تُنشأ من الأعلى ولا من الأسفل، ولكن في كل طبقة من طبقات الهرم؛ ومن الواضح أن هذا يمكن أن يشكل حلاً لإحدى أكثر المشكلات خطورة في كل السياسة الحديثة، والتي لا تكمن في كيفية التوفيق بين الحرية والمساواة ولكن في كيفية التوفيق بين المساواة والسلطة. يبدو أن أوجلان تأثر برواية أرندت عن تدفق السلطة السياسية على شكل هرم. في بيانه الذي أطلق عليه اسم “إعلان الكونفدرالية الديمقراطية” الذي صدر عام 2005، جادل أوجلان بأن “البديل الوحيد هو الكونفدرالية الديمقراطية، وهو نموذج تنظيم يشبه الهرم. هنا تتحدث المجتمعات وتناقش وتتخذ القرارات. من القاعدة إلى القمة، سيشكل المندوبون المنتخبون نوعًا من هيئة التنسيق الفضفاضة ([51]).
في هذا البيان، يبدو أن أوجلان يستخدم عناصر إيجابية من مجتمعه السياسي المثالي لإبراز العيوب التي يحددها في الديمقراطيات التمثيلية. تبدو المشكلة الرئيسية بالنسبة لأوجلان هي العجز الديمقراطي في الديمقراطيات البرلمانية، وابعاد المواطنين عن السياسة، والفهم المتجانس للسيادة الشعبية الذي يشرعن حتى الأنظمة القمعية والاستبدادية مثل تركيا وسوريا. لذلك، فإن المشروع الذي تم تطويره يشمل الكوميونات المستقلة ومجالس الأحياء والبلدات ومجالس المدن والمناطق. تتراتبط هذه المجالس تحت كونفدرالية تحل محل الدول القومية المركزية في الشرق الأوسط أو تعيش جنبًا إلى جنب معها. وفقًا لإطار عمل أوجلان، تفتقر البرلمانات الوطنية والمؤسسات السياسية التمثيلية والعمليات الانتخابية إلى آليات تضمن المشاركة الفاعلة لجميع المواطنين. البديل، في روايته، هو ترتيب لا تتدفق فيه السلطة السياسية من المركز إلى الأطراف بل تتدفق من الكوميونات والمجالس والجمعيات إلى الاتحادات الكونفدرالية من خلال التفويض الشعبي. يهدف أوجلان من خلال تصوره للسلطة السياسية في مجتمع سياسي على هذا النحو إلى الحفاظ على إرادة المواطنين الأفراد سليمة؛ لا يتم نقل إرادتهم إلى شخص أو هيئة سيادية تمثل الأمة. يحتفظ المواطنون الأفراد بإرادتهم السياسية ويكونون نشيطين قدر الإمكان في الشؤون العامة المحلية من خلال المشاركة في مجالس ولقاءات المجتمع. من ناحية أخرى، تفوض المجالس سلطتها التنفيذية (وليس إرادتها السياسية) إلى مجالس وجمعيات أعلى، دون التخلي عن وضعها المستقل وسلطتها في اتخاذ قرارات تتعلق بالشؤون العامة المحلية، بما في ذلك الدفاع عن النفس. وعليه، فتصور أوجلان للسيادة خالٍ من المركز. فكلما كان المجتمع أصغر، زادت القوة التي يتمتع بها. يتم تصفية هذه القوة إلى البلدات والمدن والمناطق والكونفدراليات والأمم عبر المندوبين (وليس الممثلين بالمعنى الديمقراطي البرلماني). يحاول أوجلان الحفاظ على تشتت السلطة في جميع أنحاء المجتمع السياسي من خلال بناء مؤسسات مفوضة بين المجتمعات السياسية الأصغر التي تلعب دورًا عندما لا تكون الديمقراطية المباشرة قيد التطبيق. ومع ذلك، لكي تعمل كموزع للسلطة، لا يمكن لهذه المؤسسات أن تكون فردية أبدًا. وهكذا تظهر السلطات العليا المتعددة، في شكل منتديات ومجالس وجمعيات ومؤتمرات، كأعضاء رئيسيين في ممارسة السلطة السياسية ([52]).
إذن وكما رأينا، إن حل الأمة الديمقراطية لا ينفي بالضرورة وجود الدولة القومية من وجهة نظر أوجلان الذي يقول: “إنّ الحلَّ الذي يفرضُه نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ لا يقتضي إنكارَ الدولِ القومية. بل يُحَتِّمُ على هذه الأخيرةِ الالتزامَ بالحلِّ الدستوريِّ الديمقراطيّ. فقرينةُ الدولةِ–الديمقراطيةِ المتداخلةُ في أوروبا الغربية، ليست نموذجَ الحلِّ الوحيد. على العكس، إنها نموذجٌ إشكاليٌّ للغاية، ويعملُ على تأجيلِ حلِّ القضايا. بينما النموذجُ الذي يتعينُ اختبارُه في الشرقِ الأوسطِ هو الحلُّ الدستوريُّ الديمقراطيّ، الذي يتَّخذُ من أمةِ الدولةِ ومن وجودِ الأمةِ الديمقراطيةِ واستقلالِها الذاتيِّ أساساً. وفي حالِ العكس، فإنّ نماذجَ الوحدةِ التي ستظهر، لن تتعدى من حيث أدوارِها نطاقَ الكياناتِ من قبيلِ “المؤتمرِ الإسلاميِّ” و”الجامعةِ العربية”. لا شكّ في عظَمةِ التطورِ الذي سيَكُونُ ثمرةً من ثمارِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ”، الذي ستُشَكِّلُه الأممُ المنضويةُ تحت النظامِ الدستوريِّ الديمقراطيِّ فيما بينها داخلياً (المقصودُ بمصطلحِ الأمةِ هنا هو الأمةُ العليا أو أمةُ الأممِ المنبثقةُ من وفاقِ أمةِ الدولةِ مع الأمةِ الديمقراطية). فهو لن يدلَّ فقط على استتبابِ السلامِ المستدام. بل وسيُشيرُ إلى أنّ الحشودَ المتحررةَ كلياً من البطالةِ ستشهدُ نهضةً ثقافيةً وإنتاجاً اقتصادياً ملحوظَين من خلالِ تلاحُمِ الاقتصادِ الكوموناليِّ مع الصناعةِ الأيكولوجية. هذا ولا يَحقُّ لأيِّ كائنٍ كان أنْ ينظرَ بعينِ القَدَرِ المحتومِ إلى ما يَعُمُّ المنطقةَ من بطالةٍ وعُقمٍ اقتصاديٍّ وحياةٍ ثقافيةٍ مُحبِطةٍ في عصرِ المعلوماتيةِ والتكنولوجيا. ومَن يتحلى بهكذا رؤية، إما أنه مُصابٌ بالعمى الأيديولوجيّ، أو أنه غارقٌ في الهيمنةِ الأيديولوجيةِ للنظامِ القائم. هذا ولا يُمكنُ للشرقِ الأوسطِ استرجاعُ دورِه الكونيِّ الذي دامَ لأمَدٍّ طويلٍ جداً في التاريخ، إلا تحت رايةِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطية”. وبوسعِ الكردِ أنْ ينطلقوا هذه المرة من الحضارةِ الديمقراطية، للقيامِ بدورٍ مماثلٍ لذاك الذي أدَّوه في فجرِ الحضارة. إذ تُقدِّمُ آفاقُ الثورةِ الكردستانيةِ وحلُّ الأمةِ الديمقراطيةِ الكرديةِ شتى أنواعِ القوةِ (الفكرية والجسدية) اللازمةِ لذلك. إنّ الثورةَ الكردستانيةَ هي ثورةٌ شرقُ أوسطيةٍ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. والتحولُ الوطنيُّ الديمقراطيُّ الكرديُّ يعني “اتحادَ الأممِ الديمقراطيةِ الشرقِ أوسطية” ([53]).
ويمكن القول أن الحركات الكردية المهيمنة في تركيا وسوريا تتبعت النموذج الذي وضعه أوجلان؛ فقد سعت إلى تأسيس شكل معدّل من المجتمعات السياسية الأرسطوطالية وجها لوجه والتي تهدف إلى تقويض المركزية السياسية. الهدف هو إلغاء مبدأ وممارسة السيادة الوطنية. يُعرف هذا باسم الإدارة الذاتية الديمقراطية، وهي “إدارة أو حكم من الأسفل” على عكس “الحكم من أعلى”. تؤكد الإدارة الذاتية الديمقراطية أن “اختصاصات أو ممارسات الناس” هي التي يجب أن تحدد ترتيب الشؤون والمكاتب العامة. هنا، لا يشير مصطلح “الناس” إلى فئة ثقافية أو سياسية معينة أو إلى موضوع سياسي كما هو الحال في الشعب الكردي. إنه يشير إلى مجموعة عشوائية من الأفراد والمجتمعات في منطقة جغرافية معينة – السكان، على وجه التحديد. تكمن الفكرة في أن سكان القرى والأحياء والبلدات والمدن يتمتعون بمساحة معتبرة من الإدارة الذاتية الديمقراطية لترتيب شؤونهم العامة ومكاتبهم العامة دون تدخل من الكيانات والسلطات السياسية الخارجية. وهذا هو عكس الحكم الذاتي الإقليمي أو الثقافي الذي يتجلى في الوضع القانوني الذي تعترف به سلطة سياسية أعلى أو تمنحه، وهو الشكل السائد للحكم الذاتي في النظرية والممارسة السياسية المعاصرة. بهذا المعنى – وهذا هو المفتاح – تبدأ الحركة الكردية “بفعل التأسيس”: فهي تعمل كقوة تأسيسية، كقوة تقيم مجتمعًا سياسيًا جديدًا بحسب توصيف ارندت ([54]).
أهم جانب من جوانب الإدارة الذاتية الديمقراطية ينعكس في معارضتها لتكوين مجتمعات سياسية حول فكرة السيادة بمفهومها الدولتي. إذ تعتمد منطقية الإدارة الذاتية الديمقراطية على فكرة أن جميع المجتمعات التي تتعامل وجها لوجه لا تقل أهمية عن السلطة المركزية في الدولة القومية عندما يتعلق الأمر بالمسائل العامة التي تقع ضمن اختصاص ذلك المجتمع. كما أنها تنشئ إدارة عامة على مبدأ اللامركزية وتؤسس للمشاركة السياسية المباشرة. وبالتالي فإن الإدارة الذاتية الديمقراطية توزع ممارسة السلطة السياسية، في جميع أنحاء المجتمع، وحتى أصغر وحدة في التكوين الاجتماعي تغدو متمتعة بدرجة معتبرة من السيطرة على شؤونها العامة ومواردها الطبيعية. يمثل هذا المفهوم دمجًا علميًا بين السيادة والإدارة الذاتية الديمقراطية، لكن بنكهة أكثر شعبية. بعبارة أخرى، لا يتعين على المجتمعات تقديم التماسات أو مطالبات للحصول على الإدارة الذاتية من سلطات الدولة المركزية، بل تقوم بإنشاء سلطات حكومية من القاعدة وتفويض الإدارات على مستوى أعلى من خلال أعمالها وإجراءاتها. ولهذا، يمكن التعامل كل تجمع بشري، على أنه يحمل إمكانية التحول لمجتمع سياسي، وتمارس المجتمعات على هذا النحو السلطة السياسية من خلال الجمعيات الشعبية (أي هيئات المشاركة السياسية المباشر) ([55]).
يهدف المشروع الكردي هنا إلى تعزيز الإدارات المحلية إلى درجة لا يمكن فرض أي قانون أو لغة أو ثقافة أو نظرة للعالم من أعلى عليها. إذن، فإذا لم تمنح أي سلطة الإدارة الذاتية، فلا يمكن لأي سلطة أن تسلبها.. علاوة على ذلك، يتمتع كل مجتمع مستقل في النموذج الكردي بحق الدفاع عن النفس. وفي حالة تعرض المجتمع للهجوم أو إجباره على التخلي عن وضعه المستقل، يحق للمجتمع وقوته الدفاع عن نفسه. هذا الجانب من جوانب فهم منطق الإدارة الذاتية الديمقراطي، مهم للغاية لدرجة أنه يغير تعريف ويبر للدولة. لأن كل تجمع سكني يتم صياغته على أنه أساس أنه مستقل ومسلح، ولم يعد احتكار استخدام العنف المشروع تتمتع به الدولة المركزية وفقط. وربما هذا الجانب التأسيسي أو المقترح المفاهيمي، هو الأكثر ثورية من أي شيء أخر هنا هذا في النموذج الكردي. لأنه إذا نجحت الحركة الكردية في إقامة الإدارة الذاتية الديمقراطي، فلا يمكننا عندئذٍ التحدث عن الدولة أو الدولة القومية بعد الآن؛ إذ لن يكون هناك سوى مجتمعات مستقلة مسلحة تمارس السلطة السياسية بشكل مباشر عبر الجمعيات والهياكل المباشرة. ونظرًا لصغر حجمها، فقد تكون فريسة لكيانات سياسية أكبر، فإنها تتعاون وتتصل ببعضها البعض من خلال المجالس وتشكل هيكلًا كونفدراليًا (كما اقترح روسو، على سبيل المثال في العقد الاجتماعي، الفصل الخامس عشر). وبالتالي يشير اسم “الإدارة الذاتية الديمقراطية” المعطى للمشروع بأكمله إلى تشكيل مثل هذا الاتحاد من قبل المجتمعات المستقلة. ولهذا، فإن الإدارة الذاتية الديمقراطية هي العمود الفقري للنموذج الكردي للمجتمع السياسي ([56]).
في النهاية إن قيمة حل الأمة الديمقراطية يتمثل في تسكين فورانات الغضب المجتمعي وتحقيق درجة ما من العدل السياسي للشعوب المغبونة سلطويا، والعاجزة بفعل فاعل على تحقيق تحولها الديمقراطي. ولندع للمفكر الإنساني عبد الله أوجلان يختزل لنا مسار الفكرة وجدواها: إذا نجحَت الثورةُ الكردستانيةُ في مأسسةِ حلِّ الأمةِ الديمقراطيةِ تأسيساً على الإداراتِ الكونفدراليةِ والاقتدارِ الديمقراطيّ، فقد يؤدي هذا النموذجُ إلى تحولاتٍ جذريةٍ في حلِّ العقدِ السلطويةِ الكأداء والأمراضِ الدولتيةِ العضال التي تُعاني منها منطقةُ الشرقِ الأوسطِ طيلة آلافِ السنين. إذ تَشعرُ شعوبُ وثقافاتُ الشرقِ الأوسطِ بأنها في أمسِّ الحاجةِ إلى الاقتدارِ الديمقراطيّ. وفيما خلا ذلك، فكلُّ حملةِ حلٍّ ترتكزُ إلى تجربةِ القوةِ وسيادةِ الدولة، لن تؤولَ إلا إلى حياةٍ اجتماعيةٍ يصعبُ الاستمرارُ بها تحت وطأةِ القضايا المستفحلة، مثلما يُرصَدُ ذلك في جميعِ الأمثلةِ المُجرَّبةِ حتى الآن ([57]).
المراجع والمصادر
[1] Dillon Foster: More Friends than the Mountains, A Comparative Conjunctural Analysis of Kurdish Autonomy Movements in Rojava and Bakur, Thesis master, Providence Rhode Island, 2022, p31
[2] Hanifi Baris: sovereignty autonomy and citizenship in the Kurdish model of political community, in trevor stack and rose luminiello (edited): engaging authority citizenship and political community, Rowman & Littlefield, London, 2022, pp 109-110
[3] Francesco ventura and Jacopo custodi: Nationality Beyond the Nation-State? The Search for Autonomy in Abdullah Öcalan and Otto Bauerhttps://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/14650045.2023.2265308
[4] Mehmet Sait Guler: Road to Democratic Confederalism – from idea of Socialist Kurdish State to Autonomous Administration, Acta Politica Polonica nr 2/2023 (56) | www.wnus.usz.edu.pl/ap | p 86
[5] فتحي المسكيني: الحرب والدولة القومية وتكون نظام العالم الحديث، مجلة التفاهم، ع ٦٩، ص ص ١٢٣ – ١٢٥
[6] Hanifi Baris: op cit, pp 105-106
[7] Yasin sunca: The bifurcated trajectory of nation formation in Kurdistan: Democratic confederalism, nationalism, and the crisis of capitalist modernity, First published: 10 March 2020, https://onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/nana.12609
[8] حتى القرن التاسع عشر، عاش معظم الكرد تحت حكم إمارات تتمتع بالحكم الذاتي. لكن، بعد سياسة المركزية والتحديث التي تبنتها الإمبراطورية العثمانية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر فصاعدًا، تم تفكيك الإمارات الكردية. وسقطت آخر إمارة كردية عام ١٨٤٦ وهي إمارة الأمير بدرخان بك في جزيرة بوطان.
[9] Martin van bruinessen: Kurdish society and the modern state: ethnic nationalism versus nation-building, in, Turaj Atabaki and Margreet Dorleijn (eds): Kurdistan in search of ethnic identity. Utrecht: Department of Oriental Studies, 1991, pp. 26
[10] Martin van bruinessen: op cit, pp. 25
[11] Mehmet Sait Guler: op cit, p 86
[12] ofra bengio edited: Kurdish awakening Nation Building in a Fragmented Homeland, university of Texas prees, 2014, pp 4-5
[13] Ibid: pp 4-5
[14] Ibid: pp 4-5
[15] ofra bengio edited: op cit , pp 4-5
[16] Benyamin neuberger: Kurdish Nationalism in Comparative Perspective, in ofra bengio edited: Kurdish awakening Nation Building in a Fragmented Homeland, university of Texas prees, 2014, pp 19- 20
[17] Ibid: pp 22-23
[18] Benyamin neuberger: op cit, pp 24-25
[19] Ibid: pp 26-29
[20] Michael eppel: Historical Setting: The Roots of Modern Kurdish Nationalism, in ofra bengio edited : Kurdish awakening Nation Building in a Fragmented Homeland, university of Texas prees, 2014, pp 37-38
[21] Ibid: pp 37-38
[22] Martin van bruinessen: op cit, pp. 24
[23] Benyamin neuberger: op cit, pp 16-17
[24] Benyamin neuberger: op cit, pp 17-19
[25] Ibid: pp 17-19
[26] Martin van bruinessen: op cit, pp. 34
[27] ofra bengio edited : op cit, p8
[28] ofra bengio edited : op cit, p 2 – 3
[29] Ibid: pp 2 – 3
[30] Michael (joma) Clevenger: Sovereignty in the Political Thought of Abdullah Öcalan and its Application in North and East Syria,
https://www.academia.edu/45588264/Sovereignty_in_the_Political_Thought_of_Abdullah_Öcalan_and_its_Application_in_North_and_East_Syria
[31] Michael (joma) Clevenger: op cit
[32] Francesco ventura and Jacopo custodi: : op cit
[33] Ibid
[34] Hanifi Baris: op cit, pp 101-104
[35] Hanifi Baris: op cit, pp 101-104
[36] Ibid: pp 101-104
[37] Ibid:, pp 101-104
[38] Hanifi Baris: op cit, pp 105-106
[39] Yasin sunca: op cit
[40] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس القضة الكردية وحل الأمة الديموقراطية دفاعا عن الكرد المحصورين بين فكي الإبادة الثقافية ، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٥٠٥
[41] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ص ٥٠٨
[42] نفسه: ص ص ٤٤-٤٥
[43] نفسه: ص ١٣١
[44] نفسه: ص ١٣٨
[45] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ، ص ١٣٨
[46] نفسه: ص ٢٠٩
[47] Michael (joma) Clevenger: op cit
[48] Hanifi Baris: op cit, pp 109-110
[49] Ibid: pp 109-110
[50] Ibid: pp 109-110
[51] Hanifi Baris: op cit, pp 111=112
[52] Ibid: pp 111=112
[53] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ص ٥١٠
[54] Hanifi Baris: op cit, pp 113-116
[55] Ibid: pp 113-116
[56] Ibid: pp 113-116
[57] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ص ٥٠٨