نضالات شعب ومصالح إمبراطورية.. الكرد والبيئة الدولية بدايات القرن العشرين
تحليل: د. أحمد أنبيوه
وسم النضال الكردي منذ بدايات القرن العشرين بارتباطاته بآفاق وتعقيدات بنية العلاقات الدولية المركبة. وربما ما يحدث هو ما يمكن تسميته بالتغيير العادل في موازيين السياسة الدولية، ذلك أن الكردُ ربما يكونوا أكثرَ شعبٍ ذهبَ ضحيةَ الألاعيبِ الدبلوماسيةِ عالمياً خلال الماضي القريب، أي في عهدِ الحداثةِ الرأسمالية. حيث لعبوا دورَ كبشِ الفداءِ في تقسيمِ الشرقِ الأوسطِ وإخضاعِه لهيمنةِ النظامِ الرأسماليِّ على مرِّ القرنَين التاسع عشر والعشرين. ونخصُّ بالذِّكرِ أنهم كانوا أكثرَ القرابين مأساويةً خلال الحربَين العالميتَين. ولَطالما أُنيطوا بدورِ الورقةِ الرابحةِ خلال دبلوماسياتِ الدولِ القوميةِ في الشرقِ الأوسط، مما نَمَّ عن نتائجَ وخيمة، وواجَهوا مشاهداً أليمةً وصلَت حدَّ التطهيرِ الثقافيّ. وبقدرِ ما للمتواطئين الكردِ من دورٍ في ذلك، فإنّ افتقارَ المقاوماتِ الكرديةِ للأساليبِ العصريةِ أيضاً لعبَ دورَه في ذلك ([1]).
وطالما أثار الكرد الدهشة بتصدر الأخبار المتعلقة بهم عناوين الأخبار العالمية. إذ كان تأثير القضية الكردية على أجندة العلاقات الدولية المعاصرة كبيرًا. ولهذا تعكس الأدبيات المزدهرة حول الكرد هذه التطورات. فمن تدفق الأعمال الأكاديمية حول أصول وتطور القومية الكردية، وعن تجربة الكرد في دول الشرق الأوسط المختلفة، شهد العقد الماضي أو نحو ذلك سيلًا حقيقيًا من الأعمال الجديدة حول تاريخ وسياسة ومجتمع وثقافة الكرد. تضع هذه الأعمال الكرد في صميم المناقشات الحالية حول العلاقات الدولية. سواء أكان دور الأقليات، أو عودة ظهور القومية، أو أزمة الدولة، أو الكرد كهدف للتدخلات الإنسانية وغيرها من أشكال التدخلات الجديدة، أو الشتات الكردي، أو ببساطة الكرد كمصدر للصراع والأزمات في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فقد حظيت الجوانب المختلفة للقضية الكردية بتغطية واسعة وإن كانت غير متكافئة ([2]). حقيقة إن الكرد كانوا طوال سنوات القرن العشرين، في قلب أتون العلاقات الدولية ومعادلاتها الصراعية. وحتى نستوعب هذه المساحة التي احتلها الكرد في مجرى العلاقات الدولية مؤخرا؛ فإننا نعود إلى الماضي قليلا لمزيد من محاولات الفهم وتفكيك تعقيدات السياقات الآنية.
في هذا الإطار، سنحاول في هذه الدراسة استكشاف بنية مصالح القوى الإمبراطورية الكبرى، التي دارت حول كردستان في بديات القرن العشرين، والتي شكلت وقولبت مسار تطور القضية الكردية لبقية القرن العشرين، وحتى الآن. كمحاولة بحثية ممتدة في دراسات لاحقة ستبدأ من بدايات القرن العشرين وستقف لدى الوقت الراهن. وستحاول استكشاف مكانة الكرد وتشابكات وجودهم ووضعهم الجيوسياسي في بيئة العلاقات الدولية.
المسألة (القضية) الكردية إعادة إنتاج جيوسياسي في بيئة دولية متغيرة
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، واجهت الأقليات العرقية في الدولة العثمانية خيارًا صعبًا. فلطالما رغبت العديد من هذه الأقليات في الخروج من مظلة الحكم العثماني، كما أن الشعبية المتنامية للقومية التركية كانت تهدد بتقويض هوية واستقلال الفئات العرقية غير التركية الموجودة ضمن حدود الدولة. ومع اندلاع الحرب، مثّل الوجود المفاجئ لجيوش الغزاة البريطانيين والفرنسيين والروس فرصةً لإضعاف الحكومة العثمانية وتأمين وضعٍ أفضل عقب انتهاء الصراع. وكانت فرصة الحصول على الاستقلال تحت حماية قوة إمبريالية جديدة أمرًا مغريًا ([3]).
وقبيل اندلاع الحرب العالمية الأولي، شمل الصراع والتنافس في منطقة الشرقين الأدنى والأوسط جميع الدول الكبرى ولاسيما بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا. وكان لكردستان بوصفها جزءاً غنياً ومهماً من الناحية الاستراتيجية في هذه المنطقة، موقع خاص في مخططات الدول الكبرى سواء في سنوات ما قبل الحرب أو خلالها، وكانت بريطانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا تسعى منذ سنوات طويلة، بكل الوسائل، لتعزيز مواقعها وتثبيت أقدامها في هذه البلاد بغية الاستحواذ على ثرواتها ولربطها بأسواقها هي، وكان النفط أحد العوامل الخفية الرئيسية في ذلك.. وهكذا فقد كان النفط، بوصفه قوة محركة كبرى في سياسة الدول الغربية إزاء المنطقة، في تعاظم مستمر، وكان يحركها في سنوات الحرب أشد من ذي قبل بغية الاستحواذ على أرض كردستان بأية صورة كانت.. وهكذا فإن ثروات كردستان الطبيعية وموقعها الاستراتيجي كانت تجلب اليها اهتمام الدول الكبرى يوماً بعد يوم أكثر من ذي قبل. وقد أدى ذلك لأن تولي هذه الدول ولاسيما ألمانيا وبريطانيا وروسيا انتباهًا كبيرًا لتثبيت مواقعها في كردستان. وقد تجلى ذلك بوضوح في سنوات ما قبل الحرب وخلالها. ([4]).
تضاعف اهتمام الإنجليز بكردستان منذ السنوات الأولى للقرن العشرين وكان ذلك نتيجة لاكتشاف النفط والاهتمام البالغ الذي أولوه لما لبلاد الرافدين، حيث كانوا يريدون أن يتخذوا منها ومن كردستان العراق قاعدة مهمة لبث نفوذهم في الشرقين الادنى والاوسط والحفاظ عليه فيها، وفي هذه الآونة كان عدد الإنكليز الذين يفدون إلى كردستان ويتجولون فيها في ازدياد، وكان يعينهم على دراسة حياة الكرد وتفهم اوضاع بلادهم من كل الوجوه، إلى حد أن بعضهم كانوا قد تعلموا اللغة الكردية، ورحلة الميجر سون المعروفة وكتاباته نماذج جلية وصارخة في هذا المضمار.. وقبيل ابتداء الحرب اخذ نائب القنصل البريطاني في وان يقيم صلات قريبة مع الرؤساء المتنفذين في منطقة بدليس. ومن جهة ثانية فإن القنصلين البريطانيين في ديار بكر والموصل اخذا يبثان الدعاية بهمة ونشاط ضد روسيا التي كانت تتطلع، نحو كردستان الشرقية والشمالية. كل هذه العوامل جعلت الناس في مختلف الجهات يعتقدون أن الشرق الأوسط كله سيقع في مستقبل قريب جدًا تحت السيطرة البريطانية المباشرة.. كان الإنجليز يسعون في الوقت ذاته للاستفادة من الأقليات القومية والدينية في كردستان ولتثبيت مواقع اقدامهم بينها، وقد بذلوا مساعي كبيرة بهذا الهدف ([5]).
كان الروس هم الآخرون، شأنهم شأن الإنجليز، يركزون انظارهم منذ حين على كردستان، ولا سيما المناطق الواقعة منها على حدودهم الجنوبية أو على مقربة منها، يرتبط تغلغل نفوذ روسيا القيصرية في كردستان واهتمامها بها، بتوجهاتها منذ قرون سبقت الحرب العالمية الأولى نحو مناطق القوقاز والمياه الدافئة وفيما بعد بأطماعها الواسعة في الشرق الاوسط. أدت حروب روسيا مع الدولة العثمانية ثم مع إيران إلى ازدياد اهتمام الروس بالكرد. فقد بدأت القيادة العامة للجيش الروسي في منطقة القوقاز تولي دراسة المناطق الكردية اهتماما متزايدا. حققت فعلاً نتائج ملموسة في هذا المجال منها كسب عدد من رؤساء العشائر الكردية ووضع خرائط تفصيلية دقيقة لأهم المناطق الاستراتيجية التي كانت تهمها بشكل خاص.. كانت خطط الروس بالنسبة للكرد تتركز أساساً على الحرب المقبلة وآفاقها التي كانت تدور حول تحقيق قفزة جديدة باتجاه الجنوب كان من المتوقع لها أن تشمل هذه المرة جزءاً حساساً من كردستان. وهذا ما يفسر لنا سر اهتمام الروس بالمنطقة مع اقتراب الحرب العالمية الأولى، فارتفع عدد الذين زاروها وتجولوا في أصقاعها النائية، وتحمس المسؤولون أكثر لإقامة علاقات ودية مع رؤساء العشائر الكردية المتنفذين، كما ازداد عدد البحوث والدراسات والخرائط المتعلقة بالكرد ومناطق سكنهم بشكل ملحوظ ([6]).
إذن وتبعا لهذا كله، كان من الطبيعي أن كردستان لم تكن لتخلو من تأثيرات الحرب، بل إنها استجابت بسرعة لمفاعيلها. ذلك لأن روسيا القيصرية وبريطانيا وفرنسا من جهة، وكل من ألمانيا والدولة العثمانية قد اشتبكت قواتهم على أرض كردستان. أضف كردستان والمناطق المجاورة كانت قد أصبحت في السنوات الأولى من القرن العشرين مسرحاً لتغلل سياسي كثيف قام به الإمبرياليون، وبصراع تنافسي شديد بينهم، حيث واجهت فيه روسيا كل من ألمانيا عدوتها المقبلة، وكذلك واجهت حليفتها الجديدة انكلترا، وحاولت كل دولة من الدول المتصارعة كسب تأييد الكرد الذين انبروا للنضال التحرري. . كما كشفت الحرب العالمية الأولى، العلاقة العضوية بين صعود النظام الكولونيالي الأوربي من جهة، وحاجته الملحة للتوسع والاستحواذ على مناطق واسعة من العالم من جهة أخرى، كما كانت الحرب ترجمة عملية لهذا الصعود والتوسع الكولونيالي جغرافياً. بمعنى أن الحرب كانت تجسيداً وترجمة للرغبة، وللحاجة الكولونيالية إلى تقسيم الشرق الأدنى، والاستحواذ بشكل عملي على تركة الإمبراطورية العثمانية، ومن ضمنها كردستان.. دخلت كردستان بسبب هذا الاستهداف مرحلة شديدة الحساسية والخطورة بعد نهاية الحرب، ففي الوقت الذي كانت مجتمعات كردستان قد أُنهكًت تماماً بعد دفعها ضريبة معارك الاستقلال الطويلة الأمد، غمر طوفان الحرب أراضيها وجوارها القريب، فكانت هذه الدول الكبرى مشغولة وقت المعارك بوضع خطط وترتيبات ما بعد الحرب، لتحقيق أغراضها التي سبق أن أدت الى اشتعال نيران الحرب بالأساس. ومن الواضح أنه كان لكردستان، مكاناً بارزاً في تلك الخطط ([7]).
وقد مهدت اتفاقية سايكس – بيكو كمدخل لمعاهدة سيفر، للخطة الكولونيالية العملية التي بموجبها اتفقت سراً كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا على تقسيم وتوزيع كيان الدولة العثمانية فيما بينهم في أيار سنة 1916. وباتت النوايا الكولونيالية واضحة في أنها تريد تقسيم وتوزيع مناطق غرب آسيا فيما بينها، وبموجب خطوط الاتفاقية، التي لم تكن متوافقة مع أي شكل من أشكال التقسيمات الإدارية والسياسية السابقة، كما لم يعد ممكنا تشكيل أي كيان سياسي له علاقة متوازنة وصحيحة مع المجتمعات المحلية. لدرجة أن وصفت بالاتفاقية الغبية في محتواها من قبل العديد من الساسة والدبلوماسيين الأوربيين: “وصف دافيد لويد جورج في مذكراته بعد الحرب اةأن اتفاقية سايكس بيكو اغبى وثيقة. فعندما وضعت اتفاقية سايكس بيكو اعتزم واضعوها بلا شك على شيء شبيه بصورة خيالية تعني وضعية لم تكن قائمة آنذاك، والتي من الصعوبة بمكان أن تنشأ يوماً ما. وبحسب كريزون فان الخبير البريطاني مارك سايكس لم يوافق على هذه الاتفاقية وعمل بإكراه من وزارة الخارجية” ([8]).
السياق الدولي للحلم الكردي
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، شرع الكرد في سعى حثيث لإقامة كردستان حرة موحدة ومستقلة، يتفاوضون أحيانًا مع الشعوب المجاورة، وفي أحيان أخرى مع القوى العظمى، لكنهم لم يتراجعوا قيد أنملة عن الكفاح المسلح لتحقيق التحرير الوطني. حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن معظم الأمريكيين قد سمعوا عن الكرد أبدًا، وكان القليل ممن سمعوا بهم في حيرة من التنافسات القبلية والعرقية والدينية المعقدة دائمًا، والسخيفة أحيانًا، التي ابتليت بها المنطقة الفاصلة بين ميزوبوتاميا والأناضول ([9]). لكن ومع انتهاء الحرب، والهزيمة اللاحقة للدولة العثمانية، تسارع النشاط الدبلوماسي الهادف إلى تقسيم الإمبراطورية العثمانية المنهزمة. وجدت الولايات المتحدة نفسها في خضم تخطيط إنشاء نظام الانتداب في الشرق الأوسط. وقبل انتهاء الحرب، أسس الرئيس وودرو ويلسون “مركز أبحاث” مخصص لدراسة أهداف الولايات المتحدة بعد الحرب. صاغت هذه المجموعة التي أطلق عليها “ذا إنكوايري” (والتي أنشأها العقيد هاوس – مستشار الرئيس ويلسون وموضع ثقته) ما سيصبح مقترحات السياسة الأمريكية الخاصة بأراضي القوى المهزومة في الحرب: النمسا-المجر وألمانيا والعثمانيين. قُسم تقرير “ذا إنكوايري” إلى الرئيس إلى قسمين. تناول القسم الأول المبادئ والأهداف العامة الموجهة نحو ألمانيا. أما القسم الثاني فاهتم بموقف الولايات المتحدة بشأن أراضي “بلجيكا، شمال فرنسا، الإلزاس واللورين، الحدود الإيطالية، البلقان، بولندا، النمسا-المجر، والدولة العثمانية”. وهنا تطورت أصول مبادئ ويلسون التي ستشكل في النهاية النقاط الأربع عشرة الشهيرة ([10]).
وعلى الرغم من إدراك وودرو ويلسون جيدًا لتطلعات بريطانيا وفرنسا في تجزئة ما تبقى من الدولة العثمانية، إلا أنه عارض بشدة معاهدة سايكس- بيكو ومعاهدة سيفر (اللتان كانتا معاهدتين سريتين أُبرمتا في زمن الحرب عامي 1916 و1917 على التوالي). قادته معارضته هذه إلى تخطيط الموقف الأمريكي، الذي سيتم تبنيه في مؤتمرات السلام التي ستعقد بعد الحرب. في اجتماع مع ويلسون في الأول من أكتوبر عام 1917، أشار العقيد هاوس إلى أنه “يجب التصريح بأنه لا ينبغي للدول المتحاربة تقسيم تركيا، بل يجب أن تحصل أجزاؤها المختلفة على حكم ذاتي”. علاوة على ذلك، طور ويلسون هذه السياسة التركية قبل خطابه الشهير حول النقاط الأربع عشرة الذي ألقاه في الثامن من يناير 1918. وفي برقية إلى العقيد هاوس، علق ويلسون على الأجزاء التركية من الإمبراطورية العثمانية الحالية، بأن “يجب ضمان سيادة آمنة لها، ويجب ضمان حصول القوميات الأخرى الخاضعة للحكم التركي حاليًا على فرصة كاملة للتطور الذاتي”. لم يتغير موقف ويلسون بشأن تركيا بشكل كبير عندما ألقى خطابه أمام جلسة مشتركة للكونغرس في الثامن من يناير 1918. وفي حديثه عن الإمبراطورية العثمانية، صرح ويلسون في النقطة الثانية عشرة: “يجب ضمان سيادة آمنة للأجزاء التركية من الإمبراطورية العثمانية الحالية، ولكن يجب ضمان حصول القوميات الأخرى التي تقطنها وفقًا للخطوط العرقية على فرصة للتطور الذاتي” ([11]).
ومن هذه النقطة فصاعدًا، ارتبط خطاب ويلسون بفكرة تقرير المصير القومي، واستغلته لاحقًا القوميات الموجودة داخل الإمبراطورية العثمانية (بما في ذلك الكرد). ومع ذلك، فإن تقرير المصير في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، لم يكن له علاقة كبيرة بمطالب الشعوب المعنية، إلا إذا كانت تلك المطالب متوافقة مع المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية للقوى العظمى. علاوة على ذلك، ربط ويلسون مفهوم تقرير المصير بمفهوم الديمقراطية، والذي لم يكن شكلاً مجربًا للحكم في هذا الجزء من العالم على وجه الخصوص. كما روّج لينين لمفهوم تقرير المصير في سياق صراع الطبقات. حيث كانت النزعات الانفصالية تُنظر إليها على أنها أداة لمحاربة الدولة أو الأمة “المضطهدة”، ومع ذلك فقد حُظر تطبيق هذا المفهوم من قبل الأقليات داخل الاتحاد السوفيتي، الذي كان لديه أيضًا أقلية كردية صغيرة في القوقاز. لن يتم تطبيق فكرة تقرير المصير في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى بشكل عام على من سعوا إليها، وهو ما سرعان ما أدركه الكرد. وحظي خطاب ويلسون من النقاط الأربع عشرة بترحيب كبير من قبل الدبلوماسيين في مؤتمر السلام في باريس. ومع ذلك، وبعد فترة وجيزة من إصدارها، سيتم توضيح هذه النقاط وتعديلها بشكل كبير من قبل القوى الأوروبية الرئيسية، حيث ستُقدم تنازلات كبيرة لمصالحها الاستعمارية الخاصة ([12]).
على الرغم من الترحيب الذي حظيت به نقاط ويلسون الـ 14 في مؤتمر باريس للسلام، إلا أن الولايات المتحدة نفسها سرعان ما عملت على توضيح صياغتها الغامضة، خاصة فيما يتعلق بالنقطة 12، ليشمل فكرة السيطرة الإلزامية من قبل القوى الأوروبية. ولم يتم وضع أي تفاصيل بشأن استقلال الأقليات العثمانية. استندت هذه التعديلات إلى مبدأ الواقع السياسي (Real politic) أكثر من كونها تغييرًا في موقف إدارة ويلسون. ولعب تفكك الإمبراطورية العثمانية من الداخل وسلسلة الاتفاقيات السرية في زمن الحرب دورًا أكبر في تحديد حقبة ما بعد الحرب أكثر مما كان يفضل ويلسون. وحتى تلك الأثناء، لم تظهر تطلعات الكرد بشكل جلي في اللغة الدبلوماسية لمؤتمر باريس للسلام. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن أول ذكر أساسي للكرد فيما يتعلق بالانتدابات التي سيتم إنشاؤها قريبًا يأتي فقط بالتزامن مع إنشاء دولة في بلاد الرافدين. ذكرت لجنة تحقيق أمريكية أن “الكرد يشكلون جزءًا أساسيًا من سكان المنطقة التي ستشكل ولاية بلاد الرافدين، وأنهم قومية لها تقاليدها الخاصة بها، ويجب منحهم فرصة للحكم الذاتي تحت حكومة عربية مسؤولة”. ولم يكن هذا بالضرورة ترجمة لرغبة الكرد في تلك الفترة. ومن وجهة نظر القوى الأوروبية، كانت مسألة الكرد قضية ثانوية إلى حد ما في سياق تقسيم الإمبراطورية العثمانية ([13]).
على الرغم من اللهجة القاسية على ما يبدو في المذكرة الدبلوماسية الموجهة إلى الحكومة التركية، لم يتم تجاهل القضية الكردية، وتم متابعتها لاحقًا بناء على طلب تقرير لجنة كينج-كرين للرئيس ويلسون، والذي أُجري عام 1919 لاستكشاف دور الولايات المتحدة في السيطرة الانتدابية داخل منطقة ميزوبوتاميا والأناضول. وبناءً على ذلك، طرح تقرير لجنة كينج-كرين اقتراحًا مفاده أنه في باقي الأراضي في المنطقة التي لم يتم تقسيمها بعد فإن المسار الوحيد “المستحسن” فيما يتعلق بالحكم الذاتي لأي أقلية محددة هو إنشاء كردستان. واقترحت اللجنة إنشاء منطقة حكم ذاتي تقع بين ولاية أرمينيا وولاية العراق، بحيث يكون الحدود الفارسية هي الحدود الشرقية والأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات هي الحدود الغربية. وعلى الصعيد السياسي، تم اقتراح ارتباط أوثق بقوة انتدابية مع اقتراح إما “استقلال تام أو اتحاد مع مناطق مجاورة في اتحاد ذاتي أكبر”. اعتبرت اللجنة في تقريرها النهائي أن القوة الانتدابية على العراق هي الجهة الأقدر على الإشراف على منطقة الحكم الذاتي الكردستانية المقترحة [باعتبارها الخيار الأفضل لإدارة هذه المنطقة]. ومع ذلك، فقد أضيفت إلى توصية إنشاء منطقة الحكم الذاتي الكردستانية شريطة “الضمان الواضح بأن يتم الحفاظ بعناية على حقوق الأقليات السريانية والكلدانية والآشورية المسيحية في المنطقة بأكملها” ([14]).
مؤتمر السلام في باريس
على الرغم من عدم امتلاكهم لدولة أو تمثيل رسمي في مؤتمر السلام في باريس، لم يكن الكرد خاملين تمامًا. فقد اجتمع كرد بارزون كانوا يعيشون في المنفى خلال الحرب العالمية الأولى لتعزيز حقوق الكرد لدى دول الحلفاء المنتصرة. وتوجت هذه المطالب على يد الشيخ شريف باشا الذي سُمح له بالتعبير عن تطلعات الكرد في مؤتمر السلام عام 1918. ومع ذلك، فقد عمل انقسام القادة الكرد ضد اقتراح كردي موحد، وأبعد الفصائل المتنافسة عن بعضها البعض سياسياً وفكرياً. على الرغم من جهود بعض المغتربين الكرد، فإن الواقع السياسي على الأرض كان يحرك الحركة الكردية نحو الحكم الذاتي في عدد من الاتجاهات المختلفة والمتناقضة. كانت الحكومة العثمانية، المحاصرة من قبل اليونانيين والإيطاليين، تعزز التضامن الإسلامي ضد جيوش الغزو المسيحية، وهو ما أثار المخاوف، وأثار قلق الكرد من المسيحيين. وقد شملت هذه الدعاية البريطانيين في العراق. وكان تأثير الدعاية فعالًا جدًا. وفي مايو 1919، تم تعيين مصطفى كمال، بصفته قائدًا للجيوش العثمانية في شرق الأناضول، ولضمان تعاون الكرد مع الحكومة العثمانية في مسعاها لصد جيوش الغزو، استمر كمال في الخطاب المعادي للمسيحية، مما دفع الحكومة البريطانية إلى المطالبة باستدعائه إلى إسطنبول. استقال كمال لاحقًا وأنشأ حركة قومية تركية تهدف إلى طرد جيوش الغزو الأوروبية. في النهاية، نجح كمال في قمع أي حركة انفصالية للكرد، وآمن المطالب الإقليمية التركية بالوسائل العسكرية والدبلوماسية بحلول عام 1923. بالمقابل، كان البريطانيون يبحثون عن إمكانية قيام كردستان، ويفضل أن تكون مرتبطة بإحدى الانتدابات التي تسيطر على المنطقة، لتكون بمثابة حاجز بين ولاية أرمينيا والولاية العراقية، وكذلك لتكون حاجزًا مع الدولة التركية. كما ركزت اهتمامات بريطانيا بكردستان على الحفاظ على خط إمداد إلى الهند الاستعمارية، بالإضافة إلى تعزيز السيطرة على شمال العراق، الذي يشمل ولاية الموصل. وقد ثبت لاحقًا أن هذه المنطقة تحتوي على احتياطيات نفطية ضخمة ([15]).
ازداد اهتمام بريطانيا بكردستان بشكل ملحوظ عندما فهمت أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على تولي السيطرة الانتدابية على أرمينيا واسطنبول بسبب القيود السياسية الداخلية في الولايات المتحدة. تجلت هذه القيود في نهاية المطاف في يونيو 1920، عندما رفض مجلس الشيوخ الأمريكي فكرة الانتداب الأمريكي على أرمينيا. ومع معرفة مسبقة باعتزام الولايات المتحدة الانسحاب من الانتداب على أرمينيا، تحركت بريطانيا لتشجيع الحوار بين ممثل الكرد في باريس، شريف باشا، والممثل الأرمني، بوغوص نوبار باشا. كان نوبار باشا قلقًا بشأن تصاعد موجة كمال أتاتورك المعادية للأقليات غير المسلمة، وبالتالي قرر التعامل مع الكرد كقوة موازنة محتملة للقوة المتنامية للدولة التركية، والتي قد تهدد في نهاية المطاف جدوى الانتداب الأرمني. وفي 20 نوفمبر 1919، أصدر شريف باشا ونوبار باشا إعلانًا مشتركًا ينص على: “نحن متفقون تمامًا على السعي المشترك لدى مؤتمر [السلام] لتشكيل أرمينيا موحدة ومستقلة وكردستان مستقلة، وفقًا لمبادئ القوميات، بمساعدة دولة عظمى … ونؤكد أيضًا على اتفاقنا الكامل على احترام الحقوق المشروعة للأقليات في الدولتين.” جذب إعلان الأرمن-الكرد اهتمام القوى العظمى برغبة الأرمن في الحماية، وفكرة حماية حقوق الأقليات داخل هاتين الكيانين المقترحتين، وإمكانية وجود دولة حاجزة بين أرمينيا وبلاد الرافدين ([16]).
على الرغم من إعلان الأرمن-الكرد، كانت هناك مطالب متنافسة على منح الكرد الحكم الذاتي. أصبحت هذه المطالب المتنافسة أكثر ملمحًا في ضوء شائعة تقسيم كردستان من قبل الفرنسيين والبريطانيين، والتي تم الاتفاق عليها بالفعل بين القوتين على النحو المبين في معاهدة سايكس-بيكو. عرض ضاماد فريد باشا، وهو مسؤول سابق في الحكومة العثمانية، على مختلف القبائل الكردية الحكم الذاتي لمناطقها مقابل دعمهم ضد مصطفى كمال. وقد تردد قادة القبائل الكردية بسبب عدم وجود ضمانات من بريطانيا بحمايتهم من الكماليين في حال فشل الخطة. بالإضافة إلى ذلك، واجه فصيل من المثقفين الكرد المتمركزين في اسطنبول، وهم من يطلقون على أنفسهم “الكرد الشباب”، شريف باشا بخطة تقضي بالانحياز إلى الحكومة العثمانية، التي وعدت الكرد بالحكم الذاتي والمشاركة في البرلمان التركي. ورأى العديد من الكرد أن هذا الخيار أفضل من التقسيم بين عدد من الدول الجديدة غير الكردية. وألقى عبد القادر، وهو شخصية كردية بارزة في “النادي الكردي” بإسطنبول، بدعمه وراء خطة كردستان موحدة، ويفضل أن تكون تحت حماية البريطانيين. ومع ذلك، لم يستبعد خيار كردستان مستقلة.. ورفض رفضا قاطعا أي تحالف مع الأرمن. شكل هذا التشرذم بين كبار الشخصيات الكردية عقبة كبيرة يجب التغلب عليها من أجل المضي قدما في مشروع الاستقلال الكردي. ازداد هذا التشرذم أيضًا عندما كُشف عن صفقة شريف باشا مع الأرمن في باريس. وبغض النظر عن أي انقسام كان موجودًا قبل إعلان التصريح الكردي-الأرمني، فقد تعمق هذا الانقسام فقط بعد الإعلان علنًا. سرعان ما تراجع أولئك البارزون الذين كانوا لديهم تحفظات بشأن الانفصال عن تركيا تمامًا عن الانفصال. وبالمثل، شعر هؤلاء البارزون الذين سعوا إلى حكم ذاتي كامل أن الاقتراح الأرمني لم يمنح الكرد سيادة كافية. أجبر الجدل الذي أثارته إصدار البيان المشترك شريف باشا على التراجع عن بيانه، مدعياً أن أرمينيا قد تجاوزت مطالبها الإقليمية. بعد ذلك، شرع شريف باشا في شرح حق تقرير المصير الكردي على أساس مبادئ ويلسون. وأدت الفوضى التي أعقبت ذلك في الدوائر السياسية للوجهاء الكرد إلى استقالة شريف باشا من منصبه كممثل للكرد لدى السفير البريطاني في محادثات سلام باريس. وبالتالي، ترك هذا الإجراء الكرد دون تمثيل في الوفد البريطاني في المؤتمر، مع اقترابه من خاتمته. لم تعد القوى العظمى، التي كانت تركز اهتماماتها على تأمين مصالحها الخاصة في المنطقة، ترى ضرورة لإشراك الكرد بشكل أكبر ([17]).
معاهدة سيفر ١٩٢٠
مع اقتراب معاهدة سيفر من مراحلها النهائية، لم تعد تتحقق الآمال الأولية التي راودت أطراف الحرب، مثل إمكانية وجود تفويض أرمني بقيادة أمريكية، واحتمالية وجود حكومة تركية متعاونة. أدى انسحاب الولايات المتحدة، وصعود الكماليين، وفشل تشكيل صوت سياسي كردي موحد، جميعها دورًا في المعادلة عندما وقع البريطانيون على المعاهدة، على الأرجح وهم يعلمون أن الواقع السياسي سيفرض نتيجة أخرى. واستنادًا إلى هذه الحقائق المذكورة سابقًا، تضمنت معاهدة سيفر بنودًا لإنشاء كردستان، وذلك نظريًا فقط. إذ حددت المعاهدة أحكام الحكم الذاتي الكردي في القسم الثالث، المواد 62-64. حددت المادة 62 الإطار الذي يمكن من خلاله إنشاء منطقة كردية تتمتع بالحكم الذاتي: “ستقوم لجنة تجتمع في اسطنبول وتتألف من ثلاثة أعضاء يعينهم كل من الحكومات البريطانية والفرنسية والإيطالية على التوالي، بصياغة مخطط للحكم الذاتي المحلي للمناطق ذات الأغلبية الكردية الواقعة شرق الفرات، وجنوب الحدود الجنوبية لأرمينيا كما سيتم تحديدها لاحقًا، وشمال حدود تركيا مع”.. أما المادة 63 فتثير الاهتمام، من حيث محاولتها تقنين الالتزامات التركية بضمان القبول التركي للكيان الكردي الجديد. واللافت للنظر أن الحكومة التركية التي وقعت على المعاهدة كانت خاضعة بحكم القانون لسيطرة البريطانيين في إسطنبول التي تحتلها قوات الحلفاء. بالإضافة إلى ذلك، كان الكماليون في صعود، ولن يلتزموا بأفعال الحكومة التركية التي تسيطر عليها قوات الحلفاء، خاصة فيما يتعلق بفكرة دولة كردية في منطقة يعتبرها القوميون الأتراك منطقة تخصهم. وأما المادة 64، وهي بلا شك أهم مادة بالنسبة للكرد، فتضع عبء الوحدة على الشعب الكردي كشرط مسبق للحكم الذاتي. تنص المادة على: “إذا ما خاطب الشعب الكردي في المناطق المحددة في المادة 62 مجلس عصبة الأمم المتحدة خلال عام واحد من دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، بطريقة تُظهر أن أغلبية سكان هذه المناطق ترغب في الاستقلال عن تركيا، وإذا اعتبر المجلس بعد ذلك أن هؤلاء القوم قادرون على تحقيق مثل هذا الاستقلال وأوصى بأن يُمنح لهم، فإن تركيا توافق بموجب هذه الوثيقة على تنفيذ هذه التوصية” ([18]).
على الرغم من المظهر الخارجي لأحكام المادة 64، فمن المؤكد أنها صيغت لإحباط أي محاولات من قبل الكرد للوصول إلى دولة مستقلة. من المرجح أن تكون التعاملات البريطانية مع القادة السياسيين والقبليين الكرد قد رسخت نمطًا من الانقسام بين الفصائل الكردية المختلفة، وهو ما يجعل من الصعب عليهم التحدث بصوت واحد. علاوة على ذلك، لم يكن من المرجح أن يوصي مجلس عصبة الأمم المتحدة بالاستقلال الكردي، بالنظر إلى المصالح البريطانية والفرنسية في المنطقة. وبالفعل، لم يحدث أي من هذا. ومما يلفت الانتباه في معاهدة سيفر اللغة المستخدمة حول وضع الكرد والأرمن. تتعارض الصياغة الغامضة إلى حد ما المحيطة بالدولة الكردية بشكل صارخ مع صياغة المادة 88 بشأن إنشاء الدولة الأرمنية. تنص المادة على: “تعترف تركيا، وفقًا للإجراء الذي اتخذته الدول المتحالفة بالفعل، بأرمينيا كدولة حرة ومستقلة.” مرة أخرى، تعكس صياغة المصالح الأرمنية المميزة وضعهم كأقلية مسيحية؛ وهي فكرة ستظهر مرة أخرى لاحقًا في مؤتمر لوزان، حيث لن يتم التعامل مع الكرد كأقلية مسلمة بنفس الطريقة ([19]).
كانت الحقائق السياسية تتحرك ضد فكرة الحكم الذاتي للكرد. إذ كان مصطفى كمال، خلال الأشهر التي سبقت معاهدة سيفر، من خلال حركته القومية، يخوض حملته الخاصة التي تستهدف الأراضي التي حددتها المعاهدة للكرد والأرمن. وفي وقت مبكر يعود إلى 28 يناير 1920، تم إصدار الميثاق الوطني التركي، والذي يحدد أهداف الحركة القومية التركية. وشمل ذلك رفض التقسيم، بما في ذلك المناطق التي يُفترض أن يتم منحها للكرد والأرمن. واعترفت المادة 2 من الميثاق، على سبيل المثال لا الحصر، بحق الكرد في تقرير المصير بشرط أن يكون ذلك من خلال تصويت حر يقتصر على ثلاثة أقضية كردية معينة. ولإرضاء مصالح القوى المتحالفة ربما، نصت المادة 5 على “تأكيد حقوق الأقليات كما حددتها المعاهدات.. وضمانها من قبلنا”. كان الكماليون، حتى توقيع معاهدة سيفر وخلالها، ينخرطون عسكريًا في طرد الجيوش الغازية. حتى هذه النقطة، كان هذا يعني مواجهة الفرنسيين والأرمن وعدد من القبائل الكردية المتمردة. وبالمثل، تجدر الإشارة إلى أن الحملة الدعائية التي بدأها كمال في عام 1919، والتي تهدف إلى كسب دعم الكرد في قتال الجيوش المسيحية الغازية، حققت نجاحًا كافيًا. وسياسياً، أنشأ مصطفى كمال الجمعية الوطنية الكبرى بحلول أبريل 1920 في أنقرة، مع توليه رئاسة الجمعية. أدى هذا عمليًا إلى تركيز جميع أنشطة المقاومة تحت سيطرة نظام أنقرة ([20]).
على الرغم من فشل معاهدة سيفر، لم يتخل البريطانيون عن الأمل في إقامة منطقة كردية عازلة. يُنظر إلى دعم البريطانيين لمصالح الكرد كوسيلة لتأمين دولة حاجزة صديقة ضد الحكومة التركية القوية بشكل متزايد في أنقرة. في ضوء ذلك، اعترف البريطانيون بعدم جدوى التمسك بمعاهدة سيفر ودعوا الأتراك للعودة إلى لندن. هنا، قدم البريطانيون نسخة معدلة من نفس المعاهدة، والتي تضمنت تغييرات على المواد 62-64. طالب الأتراك من حكومة أنقرة بأن يتم إجراء أي خيار يتعلق بالكرد في سياق إدراجهم كجزء لا يتجزأ من تركيا. علاوة على ذلك، زعم الوفد التركي أن غالبية الكرد لا يريدون الاستقلال عن دولة تركية مسلمة، وأن أقلية صريحة فقط هي التي.. “ما تزال قائمة” تتبنى فكرة الاستقلال ولا تمثل الكرد ككل. في هذا الصدد، رفض الأتراك بشكل قاطع التعديلات البريطانية، والتي أدت في النهاية إلى معاهدة لوزان. كان من الواضح للبريطانيين أن تصريحات الكماليين بشأن إدراج الكرد ضمن تركيا لا أساس لها من الصحة. ومع ذلك، مع تزايد القوة العسكرية التركية، لم يكن لدى البريطانيين خيار سوى القبول بالواقع السياسي الجديد. أدى ذلك في النهاية إلى التوقيع على معاهدة لوزان في عام 1923، والتي ألغت فعليًا معاهدة سيفر. لم يتضمن نص معاهدة لوزان أي أحكام بشأن الحكم الذاتي الكردي أو دولة كردية مستقلة. وعلى الرغم من ذلك، رفض البريطانيون الاستسلام تمامًا فيما يتعلق بمصالحهم في المنطقة. حيث سعوا إلى إيجاد حل لوضع جنوب كردستان في علاقتها بالانتداب على العراق (المملكة العراقية). في عام 1921، رأى البريطانيون أن شمال العراق لا يجب بالضرورة أن يخضع للولاية العربية تحت حكم الملك فيصل في العراق. وفي هذا الصدد، تم التفكير في خيارات للتعامل مع الكرد في شمال العراق ([21]).
استوعب البريطانيون جيدًا أن تصريحات الكماليين بشأن ضم الأراضي الكردية إلى تركيا تشمل لواء الموصل (كردستان الجنوبية) كرد فعل على المطامح التركية، سعى البريطانيون إلى إيجاد حل لموقع كردستان الجنوبية في علاقتها بالعراق التي كانت حينها تحت الانتداب البريطاني (المملكة العراقية الوليدة). في عام 1921، رأى البريطانيون أن شمال العراق لا يجب بالضرورة أن يخضع للحكم العربي بقيادة الملك فيصل. وفي هذا السياق، تم التفكير في خيارات للتعامل مع الكرد في شمال العراق. تمحور أحد الخيارات حول بقاء شمال العراق تحت السيطرة الانتدابية البريطانية بشكل منفصل عن العراق ككل، إلى حين يقرر الكرد بأنفسهم الانضمام إلى العراق. وخلال عام 1921، تم النظر في خيارات أخرى على هذا المنوال. إحدى هذه الخيارات تمثلت في عرض جزء من لواء الموصل على مصطفى كمال، باستثناء المناطق المنتجة للنفط. وتم التخلي عن هذا الخيار، لأنه لم يُعتقد أنه سيفي بمطالب كمال باللواء بأكمله. أما الخيار الثاني فكان يقضي بأن يتوصل كمال والملك فيصل إلى اتفاق فيما بينهما. وتم التخلي عن هذا الخيار أيضًا، حيث كان يعتقد أن فيصل سيخسر السيطرة على اللواء لصالح كمال في حال نشوب مواجهة عسكرية. وعلى نحو مفاجئ، فضل الملك فيصل ضم الكرد إلى الدولة العراقية ليعزز موقفه تجاه الأغلبية الشيعية في مواجهة الأقلية السنية التي ينتمي إليها. ومع ذلك، لم يرغب البريطانيون في منح فيصل القدرة على مضايقة كمال، خوفًا من تكرار سيناريو خسارة السيطرة لصالح الجيش التركي الأقوى ([22]).
مؤتمر لوزان.. المصالح البريطانية فوق تطلعات الكرد
عُقد مؤتمر لوزان بعد نجاح الكماليين في إجبار جميع القوات الأجنبية على المغادرة، باستثناء قوة تحالفية صغيرة متبقية في إسطنبول. وتلت هذه النجاحات الكمالية إلغاء الخلافة العثمانية في 1 نوفمبر 1922، وإعلان انتهاء سلطة الدولة العثمانية رسميًا. وهكذا، حمل النظام التركي الجديد، الذي أصبح الآن تحت قيادة مصطفى كمال، أفكارًا راسخة في الميثاق الوطني لعام 1920 إلى طاولة المفاوضات الدبلوماسية في لوزان. علاوة على ذلك، اعتبرت الحكومة التركية الجديدة أن مفاوضات سيفر لاغية وباطلة، وسعت إلى استعادة التنازلات التي قدمتها في سيفر، بما في ذلك إلغاء أي لغة تتحدث عن دولة كردية أو أرمينية. على الرغم من أن الولايات المتحدة اختارت عدم المشاركة في مؤتمر لوزان، إلا أنها حافظت على موقف محايد إلى حد كبير. أما بالنسبة للقضية الكردية، فقد تم تجاهلها إلى حد كبير في لوزان. لم يتضمن نص معاهدة لوزان أي أحكام بشأن الحكم الذاتي الكردي أو دولة كردية مستقلة. حافظت الولايات المتحدة على موقف المتفرج خلال مؤتمر لوزان، ولم تشارك بشكل مباشر في مفاوضات السلام النهائية مع تركيا. وفي مذكرة رسمية إلى الحلفاء بتاريخ 30 أكتوبر 1922، أعلنت الولايات المتحدة أنها لا ترغب في المشاركة في المفاوضات أو تحمل مسؤولية عن التعديلات السياسية والإقليمية التي قد يتم إجراؤها انصب تركيز الولايات المتحدة بشكل رئيسي على ضمان حرية المعاملات التجارية داخل الدولة التركية الجديدة، وعدم تفويت أي مكاسب اقتصادية محتملة من جراء المفاوضات. وهذا الموقف يتناقض بشكل صارخ مع المثالية التي عبر عنها الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون في نقاطه الأربع عشرة. وقد أصدر وزير الخارجية الأمريكي تشارلز إيفانز هيوز توجيهات أخرى للمراقبين الأمريكيين في مؤتمر لوزان في نفس التاريخ. ركزت التوجيهات على سياسة الولايات المتحدة تجاه الأقليات في تركيا، لكنها لم تتطرق إلى الأقليات غير المسيحية، مثل الكرد ([23]).
من جهة ثانية، دخلت بريطانيا، صاحبة النفوذ الأكبر في جنوب كردستان، مفاوضات لوزان وهي مصممة على الحفاظ على سيطرتها على لواء الموصل. كان البريطانيون يرون أن السيادة التركية (طالما لم تشكل تهديدا على الموصل) كانت خيارا أفضل بكثير من أي دولة كردية غير مستقرة إلى الشمال من العراق. وقد سعى البريطانيون إلى المصالحة مع النظام الكمالي الجديد لأسباب منها الخوف من تنامي النفوذ السوفيتي لدى كمال، وتداعيات تحالف تركي- (سوفيتي) محتمل شمال العراق، وهو ما يتعارض مع السياسة البريطانية المتمثلة في احتواء السوفييت. اقترح ونستون تشرشل أن السلام مع تركيا سيحقق هدفين: الأول تقليل الحاجة إلى إبقاء أعداد كبيرة من القوات في شمال العراق، والثاني احتواء السوفييت من خلال التقارب مع الأتراك ([24]).
وبهذا، غاب ذكر الكرد كجماعة أقلية في معاهدة لوزان التي وقع عليها جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الأتراك، في 24 يوليو 1923. ولم تتضمن المعاهدة أي إشارة إلى بنود معاهدة سيفر بشأن دولة كردية مستقلة. على الرغم من أن المواد من 37 إلى 44 في معاهدة لوزان تناولت حقوق الأقليات (وخاصة غير المسلمة)، إلا أن الضغوط التركية نجحت في إقصاء أي حقوق للكرد. وقد آمل البريطانيون أن يؤدي إسقاط أي لغة تتعلق باستقلال الكرد أو حكمهم الذاتي إلى تهدئة المخاوف التركية بشأن نوايا بريطانيا في إنشاء دولة حاجزة. باختصار، تجاهل مؤتمر لوزان إلى حد كبير تطلعات الشعب الكردي إلى الحكم الذاتي أو الاستقلال. وقد لعبت المصالح السياسية والاقتصادية للدول الغالبة، إلى جانب ضعف الموقف التفاوضي الكردي، دورا رئيسيا في تهميش القضية الكردية على طاولة المفاوضات. وكانت القضية الوحيدة التي لم تُحسم في مؤتمر لوزان كانت مسألة السيطرة على لواء الموصل، تلك المنطقة الغنية بالنفط ذات الأغلبية الكردية. وبسبب عدم التوصل إلى اتفاق بين تركيا وبريطانيا العظمى حول مصير اللواء، تقرر اللجوء إلى عصبة الأمم لتحكيم النزاع. ومن المفارقات الغريبة أن هناك نقاشًا مطولًا جرى بين اللورد كيرزون، رئيس الوفد البريطاني في المؤتمر، وعصمت إينونو، نظيره التركي، حول قضية الكرد في لواء الموصل. تكمن المفارقة في طبيعة النقاش الذي ركز على تعريف ماهية “الكردي” بالضبط. لم يكن لدى أي من الطرفين مندوبين من كرد ضمن وفودهم، وكان كل منهما يتحدث فقط بما يعزز حجته بشأن مسألة الموصل ([25]).
جادل إينونو بأن “سكان اللواء [الكرد] يطالبون بشدة بالعودة إلى تركيا”. وأضاف: “لا يختلف الكرد عن الأتراك بأي حال من الأحوال”. ومضى يقول: “إن الشعب الكردي… مستعد لتحمل أي تضحية من أجل توحيده مع تركيا”. في المقابل، رأى كيرزون أن الأتراك والكرد مختلفون تمامًا عن بعضهم البعض، لدرجة أنه استطرد قائلا: “يمكنني أن أتعهد بانتقاء كردي من بين الأتراك في أي يوم من أيام الأسبوع، ولا يمكنني الخلط بينهما إلا إذا كنت أعمى تمامًا”. لم يُحسم النقاش بين هذين السياسيين، وأُحيل الأمر إلى عصبة الأمم التي اتخذت قرارًا في 16 ديسمبر 1925، يقضي بتسوية النزاع الحدودي لصالح بريطانيا العظمى، ومن ثم ضم لواء الموصل إلى العراق. ورغم تجاهل القضية الكردية بشكل عام في معاهدة لوزان، إلا أن فقرة 3 من قرار عصبة الأمم أشارت إليها، حيث نصت على “دعوة الحكومة البريطانية، بصفتها السلطة المنتدبة، إلى أن تعرض على المجلس الإجراءات الإدارية التي سيتم اتخاذها بهدف ضمان حقوق السكان الكرد المذكورين في الاستنتاجات النهائية لتقرير اللجنة”. وشملت هذه الاستنتاجات البنود التالية المتعلقة بالكرد: ضرورة الاهتمام بالرغبات التي عبر عنها الكرد بتعيين مسؤولين من أصول كردية لإدارة مناطقهم وتطبيق العدالة والتعليم باللغة الكردية في المدارس، وأن تكون الكردية اللغة الرسمية لجميع هذه الخدمات. وكذلك اتخاذ التدابير اللازمة لمنع فصل هذه الجماعات الكردية عن بعضها البعض ([26]).
بعد قرار عصبة الأمم، أعادت القضية الكردية رسم خرائطها مرة أخرى. فبينما كان الحديث الدبلوماسي قبل معاهدة سيفر يدور حول إنشاء دولة كردية في المستقبل، أصبح النقاش الدبلوماسي الآن يركز فقط على منح الكرد حكما ذاتيا داخل لواء الموصل كجزء من الدولة العراقية. بوضوح، تقلصت أهمية القضية الكردية في نظر القوى الإقليمية الفاعلة. ومع ذلك، كان على الكرد تحمل تبعات المعاهدات التي ستقسمهم بين الدول التي نشأت حديثًا في الشرق الأوسط. واجه الأتراك صعوبة مع قرار عصبة الأمم، حيث من المحتمل أن تقيم منطقة كردية تتمتع بالحكم الذاتي على حدود المناطق ذات الأغلبية الكردية في تركيا، وذلك في الوقت الذي يسعى فيه الأتراك إلى تتريك المنطقة.
علاوة على ذلك، جادل كمال أتاتورك بأن الموصل ستصبح عاجلاً أم آجلاً جزءًا من تركيا، ربما بالقوة العسكرية ([27]).
وفي نهاية المطاف، اختارت تركيا حلاً دبلوماسيًا لقضية لواء الموصل. ففي 5 يونيو 1926، تم توقيع معاهدة الحدود بين المملكة المتحدة والعراق وتركيا. اعترفت المعاهدة رسميًا بالحدود بين العراق وتركيا، وأدمجت لواء الموصل في العراق. وتعويضًا عن الخسارة الإقليمية لتركيا، نصت المادة 14 على ترتيب تدفع بموجبه العراق لتركيا عمولة قدرها 10٪ من عائدات النفط المتولدة داخل اللواء لمدة الخمس والعشرين عامًا التالية. ومرة أخرى، لم يذكر الكرد بالاسم في المعاهدة. ومع ذلك، أشارت المواد 6-8 إلى الكرد، ونصت على أن جميع الأطراف المشاركة في المعاهدة ستـ “تعارض بكل الوسائل المتاحة في جعبتها أي استعدادات يقوم بها فرد أو أفراد مسلحون بهدف ارتكاب أعمال نهب أو سطو في الدولة المجاورة”. وبالمثل، أشارت المادة 12 إلى الكرد وتحدثت عن امتناع كل من تركيا والعراق عن “تحريض الشيوخ أو زعماء القبائل أو غيرهم من أفراد العشائر…” في أي من الدولتين. أنهى إبرام معاهدة الحدود عام 1926 الحدود بين تركيا والعراق، وألغى فعليًا أي تطلعات فورية لإنشاء دولة كردية في ميزوبوتاميا والأناضول، وأعاد الكرد إلى الوراء سياسياً لسنوات قادمة. وكما ذكر سابقًا، فإن عدم وجود وحدة هدف بين القبائل في شمال العراق سمح لبريطانيا والعراق باستبعاد الكرد فعليًا عن أي تعزيز للحكم الذاتي. كان من الممكن أن يساعد جبهة موحدة، خاصة خلال الدبلوماسية المحيطة بمصير لواء الموصل، الكرد في تحقيق أساس متين للحكم الذاتي داخل العراق. ومع ذلك، استمرت الحركات القومية الكردية في السعي نحو تحقيق تطلعاتها المشروعة، لكنها واجهت عقبات جمة بسبب ضعف الوحدة الداخلية والضغوط الإقليمية ([28]).
وإذن، فقد شهدت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى تفكك الإمبراطوريتين النمساوية المجرية والعثمانية، وشهدت انتقالًا لاحقًا من كيانات سياسية ضخمة متعددة الجنسيات إلى دول قومية. تضمن هذا الانتقال، من بين العديد من التغييرات الأخرى، إعادة رسم خريطة المنطقة على أساس مفترض للجنسية، مع حدود صارمة تقريبًا، وهو مفهوم غريب على الأراضي الإسلامية إلى حد كبير. وفي هذا السياق، شكلت القومية الكردية تحديًا جديًا لكل من القوى المنتدبة (أي فرنسا وبريطانيا العظمى) التي كان عليها تكييف سياساتها مع النظام الدولي الجديد الذي طبعه حق تقرير المصير، والدول التي تأسست حديثًا (أي تركيا، والانتداب الفرنسي على سوريا والانتدابات البريطانية على فلسطين والعراق))[29](. وكانت خصوصية القومية الكردية أو الحركة القومية الكردية، التي كانت نتيجة مباشرة لانهيار الإمبراطورية العثمانية، أنها لم تكن نتاج حرب تحرير ضد الاحتلال، ولا قضية مقاومة للاستعمار، بل كانت تحديًا مباشرًا للدول القومية التي تأسست أو شُيِّدت حديثًا. في سياق أصبحت فيه المجتمعات الكردية التي تسكن الأراضي العثمانية القديمة الآن دولًا منفصلة تحت الانتداب، تطورت القومية الكردية كحركة تهدف إلى توحيد هذا الكيان السكاني المتفرق تحت دولة قومية واحدة. وهكذا، لم تكن الدولة القومية فقط مسرحًا للنزاع الكردي، ولكنها أيضًا القضية الرئيسية له، حيث جسدت عملية تسوية “مسألة الموصل” تبلورًا للقضايا الرئيسية في هذه الفترة من عدم اليقين. بهذا المعنى، كانت “مسألة الموصل” هي “الخلاف حول خط الحدود الدقيق بين تركيا والعراق [أي] حول حيازة ولاية الموصل”. وبمعنى أوسع، كانت مسألة “الحدود والانتماء” داخل نظام الدولة الشرق الأوسطية الجديد. ما خلق هذه المسألة هو رفض معاهدة السلام في سيفر التي تم توقيعها بين دول الحلفاء والإمبراطورية العثمانية عام 1920 من قبل الجمهورية التركية الوليدة. لم يتم اعتماد هذه المعاهدة 6 واستعيض عنها بمعاهدة لوزان لعام 1923. ومع ذلك، لم يحل عقد معاهدة السلام النزاع حول الموصل، مما ساهم في تطور قضية أخرى، وهي القضية الكردية في العراق ([30]).
وعليه فقد يقدم فهم كيفية إدارة البريطانيين للقومية الكردية في ولاية الموصل خلال الفترة 1918-1926، عندما كانت كل من القومية الكردية وبناء الدولة العراقية في طور التكوين – إن لم يكن في مرحلة الطفولة – مساهمة في توضيح تطور القومية الكردية كظاهرة حديثة، وكذلك خصوصيتها. والحجة الأولى من حجتين مترابطتين لإثبات هذا، هي أن السياسات البريطانية الجديدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى كانت أيضًا في طور التكوين، حيث تم تشكيلها من خلال مسألة إعادة الهيكلة الجيوسياسية والحدودية التي فرضها النظام الدولي الجديد. الحجة الثانية تذهب إلى أن القومية الكردية في ولاية الموصل تطورت في ظل السياسات البريطانية، لتشكل ورقة رابحة وتحديًا للسكان الكرد في آن واحد. هذه الازدواجية، التي كانت نتيجة مباشرة للسياسات البريطانية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت السمة الرئيسية للقومية الكردية في التكوينات المستقبلية في العراق على وجه الخصوص، والشرق الأوسط بشكل عام. وعلى العموم، تميزت السياسات البريطانية في هذه الفترة بتعدد الأقطاب والتسويفات إلى حد كبير، وذلك بسبب عدم اليقين الناجم عن فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، مثل ضرورة التكيف مع المبادئ الجديدة للنظام الدولي والتنافس بين الإدارات المختلفة. تجلى هذا التعدد من الآراء والتسويفات في عملية بناء الدولة العراقية، خاصة قبل تسوية قضية الموصل، أي المحافظة العثمانية القديمة التي يقطنها عدد كبير من الكرد. بعبارة أخرى، أعيد هيكلة السياسات البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بكل تقلباتها، خلال الفترة والمنطقة التي تمت دراستها ([31]).
من المسلم به الآن أنه تم توجيه ضربة قوية للكرد بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. منذ ذلك الحين، حدث تحول واضح من الحكم الاستعماري في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى حكم ما بعد الاستعمار الموسوم بالأنظمة القومية الثورية الاستبدادية، حيث تعرض الكرد للاضطهاد والتهميش والإخضاع إلى حد كبير. وبعد الإطاحة بنظام صدام حسين بعد الغزو الأمريكي عام 2003، وبشكل رئيسي ونتيجة لانتفاضات الربيع العربي، يمكن رؤية علامات مبكرة على الحكم الديمقراطي في الشرق الأوسط. وفي خضم هذه التطورات، تمكن الكرد من قلب الموازين، وما كان يعتبر مستحيلاً يبدو الآن في متناول اليد. إن الاعتراف المذهل الذي أبداه مسؤولو السياسة الخارجية والاستخبارات السابقون والحاليون الكبار بأن اتفاقية سايكس بيكو – اتفاقية سرية عام 1916 لتقسيم جزء كبير من الشرق الأوسط بين بريطانيا العظمى وفرنسا – قد أصبحت الآن ملغاة بالفعل بعد مرور 100 عام بالضبط على توقيعها، ويشير الجميع إلى الوضع المتغير بسرعة البرق في المنطقة ([32]).
وإذن يمكن القول أن اتفاقيةُ سايكس بيكو (تقسيم الشرق الأوسط بين إنجلترا وفرنسا) كانت أرضيةً لاتفاقيةِ سيفر، التي رتَّبَت بدورِها لتقسيمِ بلادِ الأناضول وميزوبوتاميا العليا. لَم تَضَعْ حربُ التحريرِ الوطنية حداً نهائياً لمعاهدةِ سيفر مثلما يُزعَم. بل أدت إلى شلِّ تأثيرِها نسبياً، في حين طُبِّقَ القسمُ المهم منها. علاوةً على أنّ التخلي عن كركوك والموصل للإنكليز كان نتيجةً أفرزَتها اتفاقيةُ سيفر. بناءً عليه، فثاني تقسيمٍ مهم لكردستان في العصرِ الحديث، هو السببُ الرئيسيُّ للقضيةِ الكردية. فالدولتان الصُّغرَيَتان المُشادتان في العراقِ والأناضول، تَعنيان عمليتَين حربيتَين تمزقان جسدَ الكردِ وكردستان. ومنه، لن نتمكنَ من إدراكِ أسبابِ تجزيءِ كردستان، أو دوافعِ استمرارِ القضيةِ الكرديةِ عالقةً وتتخبطُ في اللاحلّ كلَّ هذه المدة؛ ما لَم نستوعبْ موضوعَ الدولةِ القوميةِ على هذه الشاكلة ([33]).
ولهذا، يمكن القول في المنتهي، أن معاهدة سيفر ١٩٢٠، رغم أنها ظلت حبرًا على ورق، إلا أنها تعتبر مع ذلك نقطة تحول في تطور القضية الكردية. فلأول مرة في التاريخ بحثت وثيقة دبلوماسية دولية في فرعها الثالث (المواد ٦٢ – ٦٤) “الاستقلال المحلي للمناطق التي تعيش فيها أكثرية كردية”. واعتبارا من هذا التاريخ، أصبح تدويل المسألة الكردية أمرًا مؤكدًا ([34]).
[1] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس الـــقــضـــيــــة الـــكـــرديــــــة وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ١٤٣
[2] Louise Fawcett: Down but not out? The Kurds in international politics, Review of International Studies (2001), 27, pp 109 – 112
[3] دان ماكي: العلاقات البريطانية الكردية خلال حملة بلاد الرافدين ١٩١٤ – ١٩١٨
https://www.qdl.qa/العربية/العلاقات-البريطانية-الكردية-خلال-حملة-بلاد-الرافدين-١٩١٤-١٩١٨
[4] كمال مظهر أحمد: كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، ترجمة محمد الملا عبد الكريم، دار الفارابي، بيروت، ٢٠١٣، ص ٣١ و ٣٣ و ٣٧
[5] نفسه: ص ٤٥
[6] نفسه: ص ص ٥٠ – ٥٤
[7] أزاد علي: استقلال كردستان العثمانية بين سيفر ولوزان ١٩٢٠ – ١٩٢٣
https://rudawrc.net/ar/article/astqlal-kwrdstan-althmany-byn-syfr-wlwzan-1920-1923-2023-07-09#_ftn3
[8] نفسه
[9] Douglas little: the United States and the kurds, Journal of Cold War Studies, Fall 2010, Vol. 12, No. 4 (Fall 2010), p 63
[10] Lambert, Peter J: The United States and the Kurds: Case studies in the Unites States’ engagement. Research submitted to the United States Navy, Naval Postgraduate School. NPS, (1997), p 3-4
[11] Ibid, p 3-4
[12] Ibid, p 5-6
[13] Ibid, p 5-6
[14] Ibid, p 8-10
[15] Ibid, p 8-10
[16] Ibid, pp 11-13
[17] Ibid, pp 11-13
[18] Ibid, pp 15 – 18
[19] Ibid, pp 15 – 18
[20] Ibid, pp 15 – 18
[21] Ibid, pp 19 – 22
[22] Ibid, pp 19 – 22
[23] Ibid, pp 19 – 22
[24] Ibid, pp 23 – 28
[25] Ibid, pp 23 – 28
[26] Ibid, pp 23 – 28
[27] Ibid, pp 23 – 28
[28] Ibid, pp 23 – 28
[29] Zeynep Arıkanlı: British Legacy and Evolution of Kurdish Nationalism in Iraq (1918-1926): What Significance the Mosul Question,
https://www.files.ethz.ch/isn/146154/ME16.pdf
[30] Ibid
[31] Ibid,
[32] Gareth Stansfield and mohammed shareef (editors): the Kurdish question revisited, oxford university press, 2017, p xxvii
[33] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس الـــقــضـــيــــة الـــكـــرديــــــة وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٤٧١
[34] باسيلي نيكيتين: الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ترجمة نوري طالباني، دار الساقي، ٢٠٠١