دراسات

الحوار بين الثقافات والشعوب

ورقة بحثية للدكتور رائد المصري

المقدمة

الحوار الثقافي بين الشعوب والأمم هو من المرتكزات الأساسية للحفاظ على الهوية الثقافية وتثبيت حقوق الخصوصيات الذاتية والتنوع المجتمعي، فهو قائم على حوامل معرفية في تبادل الأفكار والقيم والمعتقدات والممارسات بين المجموعات الثقافية المختلفة، ومن خلال الحوار الثقافي والتلاقح الفكري الإنساني، يمكن للأفراد والمجتمعات التقارب والتعرف على عادات وتقاليد وأساليب حياة بعضهم البعض، فيمهِّد هذا التفاعل طريق التفاهم والاحترام والتقدير، القائم على الإعتراف المتبادل للتراث الثقافي لكل البشر، ويساعد على تمتين وتكامل التماسك الاجتماعي، وخاصة في المجتمعات متعددة الثقافات، حيث يشجع الحوار الثقافي الأفراد على إعتناق  وإبراز هويتهم الثقافية، مع ضرورة الإعتراف بالهويات الثقافية للآخرين وتقديرها، وبشكل عام، تكمن غاية الحوار الثقافي في الحفاظ على الإختلافات الثقافية والإعتزاز بها في نفس الوقت، مما يغني الفسيفساء الثقافية العالمية.

ولهذا صار حوار الثقافات بين الشعوب مشروع حياة البشرية الأبدي، فهو يدفع إلى التعامل الإنساني الرفيع القائم على أساس التعارف والتلاقي لا التنازع والتنابذ، ليشكل بديلاً عن وسائل العنف والقوة، كما يلعب دورًا حيوياً للتواصل بين الشعوب وفي تلاقح الثقافات، ويساعد على تبادل الأفكار والمعلومات والتجارب بين الأشخاص، من خلفيات وأصول وميول وأعراق مختلفة، وهذا بحد ذاته غنىً للإنسانية، كما يساعد الحوار على فهم وإحترام وتقدير الأفكار والقيم والثقافات المختلفة، ويؤدي إلى تعزيز التعاون والتفاهم بين الشعوب وتخفيف حدة الصراعات والتوترات، بالإضافة إلى ذلك ، يعتبر الحوار وسيلة لتعزيز التعلُّم المتبادل وتطوير الأفكار والحلول الجديدة للتحديات المشتركة. فالإنسانية الموحدة لا تكتمل عناصرها إلاَّ من خلال إحترام التعدد و التنوع والانسجام في المجتمعات.. لذلك ينبغي تعميق الوعي الإنساني بأن الأرض هي وطن للجميع، وهذا هو السبيل للحد من المشاكل المتشابكة والمعقدة التي تواجه العالم اليوم، وصار من الضرورة بمكان ترسيخ  الوعي الإنساني المتضامن في كل الفضاءات الثقافية والأنظمة التربوية، لأن ما ينقص العالم اليوم هو الوعْي المشترك بالإنتماء إلى الأرض كوطن للجميع، إنطلاقاً من تابثة متأصلة بأن التفاعل بين مختلف الحضارات والثقافات والتبادل الحضاري، هو ظاهرة إنسانية راسخة في التاريخ، ومن هنا ضرورة إرساء تواصل حي ودائم ومثمر بين مختلف الخصوصيات الثقافية، حتى يصبح العالم موطنا رحبا للجميع(1).

لذلك لم يكن المفكر والمناضل الأممي “عبدالله أوجالان”، الذي إنطلق في طرحه تفعيل وتعزيز الأمة الديمقراطية بعد تيقُّنه من إستحالة إنشاء الإشتراكية، المرتكزة الى دور الدولة وسلطتها عموماً والى الدولة القومية خصوصاً آتياً من فراغ، فهو قرأ في مستقبل البشرية بعد الإنهيار السريع للإشتراكية في تسعينيات القرن المنصرم، إثر الإنسداد التام في حل القضية الكردية، من خلال إخضاع سلطة الدولة القومية، ومردّه في ذلك، الى إستحالة الإرتكاز لدور الدولة القومية في تعزيز الخصوصيات الذاتية والعرقية والقومية في تحقيق تطلعاتها المستقبلية، وهذا واضح من خلال تناول العلاقات الكردية_التركية وفق المنظور القومي والدولتي. إذ أن أوجالان بذل جهوداً حثيثة لصياغة تحليلات شاملة، بحق نظام الدولة المدنية المركزية على مرِّ التاريخ، وتشكيل مفهوم السلطة وشكل الدولة في الحداثة الرأسمالية، التي تعدُّ الشكل السائد الخاص راهناً، فكانت النتيجة الأساسية التي خلُص إليها، هي أنه لا وجود لمبدأ الدولة القومية لدى الاشتراكيين، وأن عليهم التشبث بالأمة الديمقراطية والحوار بين الشعوب والتقارب بينها، كمبدأ حل رئيسي معني بالقضية الوطنية، مستنداً بذلك لدى تناوُلِ العلاقاتِ التركيةِ–الكرديةِ وفق المنظورِ القوميِّ والدولتيّ، الى أنه لا يُمكنُ التوصلُ إلى حلولٍ صائبةٍ، إذ أن ثمة تبادُلٌ ثقافيٌّ كثيفٌ يحدِّدُ المقارباتِ الجيوسياسيةِ والجيوستراتيجيةِ الوثيقةِ المُتَّبَعةِ، طيلةَ التاريخِ بين كِلتا الساحتَين اللتَين قَطَنَهما وتركَّزَ فيهما كِلا المجتمعَين (الكردي والتركي). فلا يمكن صياغةُ تحليلٍ صحيحٍ لتلك العلاقاتِ التي تخطُّ مصيرَ الحاضرِ واللَّحظة، إلاَّ بمعالجةٍ كليةٍ متكاملة وفق رؤية المفكر أوجالان. ذلك أنّ الحقائقَ الجيوسياسيةَ والجيوستراتيجيةَ، جعلَت مشاطرةَ السلطةِ والدولةِ الإسلاميةِ بين الشريحتَين الفوقيتَين لكِلا القومَين ضرورةً واجبة، ولَطالما تأسسَت هذه الشراكةُ بين الهرميةِ التركيةِ القوميةِ العليا والشريحةِ الكرديةِ العليا على الطواعية.

ومن هنا ينبغي الفهمُ العميقُ لهذا الواقعِ التاريخيِّ حيث أن جميعَ القوى الثقافية والشعوب والأمم، بل وحتى الدول القائمة في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ المقَسَّمةِ اجتماعياً على صعيدِ الدول، قد مُنِيَت بخسائر فادحةٍ في قواها، وتعرضَت للانقسامِ المتواصل، وإشتبَكَت فيما بينها بإستمرار، فأصبحت ضعيفةَ واهنةً خائرة، وقد أحرزَت الهيمنةُ الإنكليزيةُ نجاحَها تأسيساً على ذلك(2).

وعليه، وفي سبيل تحقيق ذلك لا بدَّ من العمل على تنمية الوعي والإحساس بالمشتركات الإنسانية ووحدة مصيرها، لبناء نظام إجتماعي عالمي، يحرِّر الإنسان من سطوة السلطة ورعونة الدولة، ويمنحه الثقة في حاضره ومستقبله، وهذا كفيل بأن يؤسس لقواعد الحوار بين الشعوب والحضارات، ويؤطرها في بوطقة ثقافية، تحافظ على بيئة الشعوب نقيةً، وتكون محركاً فعالاً للتنمية وإنفتاح الشخصية الإنسانية.


مفهوم الحوار الثقافي ودوره

الحضارة والعادات والتقاليد والثقافة، وكل البنى الفوقية للمجتمعات  متجذرة في نفس الإنسان، فهي متنوعة على مستوى العالم من حيث العادات والتقاليد والعلم، وكل أمة تتميَّز بمجموعة من المعايير والمواصفات والسلوكيات، تجعلها مختلفة تمامًا عن غيرها من الأمم، وهو ما يجعل التبادل الثقافي مهماً وضرورة بين الناس، لإنتقال العلم والمعرفة وعمليات التلاقح الفكري والثقافي من شخص لآخر ومن أمة لأخرى، ولهذا صار الحوار حاليًا من الضروريات الحياتية بين كل فكر وفكر آخر، وثقافة وثقافة أخرى، حتى تتكامل الثقافات والحضارات المختلفة، فهي الطريقة الوحيدة التي تضمن للإنسان التفاعل مع غيره بصورة إيجابية، لينتج توازن وتبادل إجتماعي بين الناس، فيعتمدون على  بعضهم إعتمادًا متبادلًا، في المنافع والمصالح وكذلك في العلم والثقافة، لذلك الحوار هو الذي يضبط هذه العملية وفق أسس ومعايير محددة.(3)

كما أن التواصل الحضاري، هو التواصل الذي يقصد به بين مجموعات بشرية مختلفة في العادات والتقاليد والثقافة وكل شيء تقريبًا، بحيث تظهر هذه الاختلافات في قيمهم ومعتقداتهم، وكذلك في المعايير والسلوك.

والتفاعل الثقافي أو المثاقفة يعني التأثير الثقافيّ المتبادل بين الأفراد والجماعات، عبر إحتكاكها وتواصلها مع بعضها، فكل طرف لديه الكثير من المعارف حول علوم الحياة وشؤونها والموروث التاريخي لها، وكل منهما يُعطي الآخر ما عنده، ويقوم هذا التفاعل على أساس الأخذ والعطاء، أي أن الشعوب تُعطي ما لديها من نتاج فكري وحضاري وتقدمه للآخرين على الملأ، فيتفاعل الطرف المُقابل بما عرفه عن الآخر، ويتبناه ويجعله جُزءاً أصيلاً من ثقافته الأُم.

من هنا فإن عملية صياغة الحوار هي الركيزة الأساسية من ركائز التواصل الثقافي بين الشعوب والمجتمعات، ومن ضروريات عصرنا، الذي لا يمكن فيه التعايش والتفاعل والتفاهم إلاَّ بقبول الآخَر، والإنفتاحِ على الآراء وتبادل الأفكار. ولهذا صارت فكرة حوار الثقافات تحتل صدارة الإهتمامات لدى الشعوب والدول والحكومات، وكل النخب المجتمعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، ولدى مراكز البحوث المختلفة والمؤسسات الثقافية والدولية، فهي الطريق الأسلم والأسهل لتجاوز الأزمات والمشاكل بين المجتمعات والسلطة، وما بين المجتمعات المحلية بذاتها، وما بين الدول من جهة أخرى، وقد سهَّلت العولمة هذه العملية ونظريتها، فصارت اللقاءات الوطنية والإقليمية وحتى الدوليةَ، لا تتمّ إلاَّ بالإعتماد على النظريات والأفكار العلمية التي يقدمها المختصُّون في كل المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتاريخية والجغرافية، والفلسفية والإعلامية، للارتقاء بالحوار في تلك المجالات الإنسانية الواسعة.

كما أن حاجة المجتمعات الإنسانية دفعت نحو تعزيز ثقافة الحوار، وخلقتْ مفهوماً جديداً يسمّى حوارَ الثقافات القائم  بين الشعوب والأمم، المساهم في بناء تبادل ثقافي ومعرفي، من خلال مشاركة الأفكار والآراء الثقافية المتنوعة بين فئات شعبية أو عرقية، ويؤدي إلى فهم الاختلافات بينها، والعمل على تقريب وجهات النَّظر حول الموضوعات المتباينة، كاللغة والأخلاق والتاريخ والدين والهوية الثقافية، وغيرها، إذ ينجح التواصل الحضاري عندما يكون الإنسان أكثر وعيًا وأكثر حساسية بــ “المعنى الإيجابي” تجاه الثقافات الأخرى المختلفة، فيكون على دراية بالأشياء المتشابهه والمشتركات، وكذلك الإختلافات الجوهرية، بل هي التي تميِّز كل مجموعة عن الأخرى، حيث تتفق المجموعات فيما بينها، على شروط ومرتكزات عملية بناء الحوار المشترك، كالإحترام المتبادل، وإحترام الخصوصية الثقافية والذاتية والسلوكيات، وتجنُّب إطلاق الأحكام المسبقة، فتكون نتيجته بناء جسور الثقة والتواصل، منعاً لنشوب حروب ونزاعات إقليمية أو محلية أو عرقية، وتقديم الدعم الاقتصادي والإجتماعي والأخلاقي.


الأهمية والدور

يلعب الحوار الثقافي الدور الأكبر في تفعيل التواصل بين الشعوب والأمم، وذلك بتسهيل تبادل الأفكار والقيم والمعتقدات والممارسات، ويحفز للأفراد مجالات أوسع والتطلع الى ثقافات مختلفة للتلاقي ومشاركة تجاربهم والتعلم من بعضهم البعض، ومن خلال الحوار الثقافي تستطيع المجتمعات تعميق فهمها لثقافات الآخرين، بالحدِّ من التحيُّز والإستتقطاب والتقوقع، وبناء الجسور بين المجتمعات المختلفة، ويساعد الحوار الثقافي أيضاً العمل على تعزيز الإحترام المتبادل والثقة والتعاون بين الأشخاص من خلفيات متنوعة، عبر المحادثات وورش العمل والمؤتمرات والتعبيرات الفنية وبناء الرؤى المشتركة والتطلعات المستقبلية، ليصل الى هدفه النهائي في تعزيز مجتمع أكثر إستيعاباً وتسامحاً وإنسجاماً، كما أن دور الثقافة في التواصل الحواري مهم، لأنه يشكل الطريقة التي يتفاعل بها الأفراد من خلفيات ثقافية مختلفة، وهي كلّها عناصر أساسية في التواصل الحواري، ولذلك، فإن فهم الاختلافات الثقافية أمر بالغ الأهمية في التواصل الحواري الفعال، لأنه يساعد على تعزيز التواصل المؤثر في بناء الثقة، وتجنب الصراعات، والجنوح نحو السلام.

شروط حوار الثقافات بين الشعوب وركائزه

هناك معادلة تاريخية مركبَّة تقول، بأن الأمة المثقفة تضمن لحاضرها ولمستقبلها تلقائياً إختيارات سياسية إيجابية، ذلك أن الأمة المثقفة ثقافة حرة تنتج مواطنين واعين وأحرار في إختياراتهم السياسية، وتؤسِّس لبناء مجتمع قادر على تجاوز كل الأزمات السياسية والاقتصادية والهوياتية التي تقف أو تعترض طريقه، ففي المجتمعات التي تتغلَّب فيها وتتعمَّم الثقافة والفنون وكافة التشكيلات الإجتماعية والبنى الفوقية، يكون المواطن فيها قادراً على إختيار الأفضل مع كل إستحقاق إنتخابي سياسي حاسم، وهو الإختيار الذي يعكس جزءاً من أحلامه وطموحاته الفردية والجماعية التي ينتجها حدْسه ومخيلته الثقافية.

لكن علينا أن نفرّق بحسب ما قاله الكاتب والمفكر الجزائري “أمين الزاوي” ما بين الثقافة الحقيقية من جهة وثقافة البروباغندا من جهة ثانية، فهما أمران مختلفان بل متعارضان، إذ إن الثقافة التنويرية هي فعل سياسي– إجتماعي، وحرية التخييل والخيال لدى منتجي الفنون والآداب مكفولة وخصبة، ويكون فيها الهدف الأساس هو إسقاط كل أشكال الجدران المرفوعة والإنغلاقية ضد الحرية الفردية والجماعية التي تمارسها السلطة السياسية القمعية.

بينما ثقافة البروباغندا التي سادت لمدة طويلة في العالم، ولا تزال قائمة بصورة من الصور في كثير من المؤسسات الثقافية في هذه البلدان، فهي عبارة عن نشاط عقيم ومشبوه، يتستّر بغلاف خارجي ثقافي أو جمالي كاذب، أدبي أو مسرحي أو سينمائي أو تشكيلي، لكن يكون فيه الخيال الإبداعي موظفاً، في النصوص الأدبية أو فنون الفرجة، لصعود ثقافة الشر، وتكريس عبادة الزعيم وتعميم الرداءة والغباء الحداثي(4).

فالثقافة والحوار يجب أن يكونا الحلقة الأولى في مركب التاريخ الإنساني، وليس كما تعيش المجتمعات العربية بأغلبيتها في حال الضياع والتمييع وفشل في القدرة على الإنتقال نحو مجتمعات الحداثة والتطوير، نتيجة البنية الإنتاجية التي تلازمها في الموروث التاريخي، القائمة على الزاراعة والإنتاج الزراعي والإستقرار في بيئات إجتماعية، تتطلب سلطة إستبدادية دائمة لتوزيع المياه بين الوحدات المجتمعية الفلاحية، ولذلك صار البحث عن السيد أو القائد المستبد مطلباً لدى هذه الشعوب على مر التاريخ والى اليوم، وهي ثقافة وسلوك إجتماعي يجب نزعهما فوراً، لأنها أخَّرت المجتمعات كثيراً عن ركب الحضارة والتطور والنمو لمئات السنين.

ولهذا ينبغي خلق فكر ديناميكي قادر على العمل بحرية، فهناك تعدد وتنوع ثقافي وإنساني، ولكنه قائم على وجود جوهر أخلاقي وقيَمي مشترك بين الإنسانية والمجتمعات والسلطة، والإنسانية لن تكون موحدة إلاَّ من خلال إحترام التعدد والتنوع، وهذا التنوع لا يكون مثمراً، إلاَّ في ظل الانسجام والوحدة، ولإرساء التضامن وهذه الوحدة ينبغي تعميق الوعي الإنساني ليقود الى حتمية الاتصال والتفاعل بين مختلف الحضارات والثقافات، على إعتبار أن التبادل الحضاري ظاهرة إنسانية متأصلة في التاريخ الإنساني، ومن هنا ضرورة إرساء تواصل حي ودائم ومثْمر، بين مختلف الخصوصيات الثقافية والأقوام والأعراق، حتى يصبح العالم كله وطناً رحباً للجميع، وهذه الحتمية في التواصل والتلاقي لا تعني إضمحلال الخصوصيات الثقافية وذوبانها للتوحد في حضارة عالمية واحدة، بل على العكس، هذا يعطي الخصوصيات مكانتها ويعزِّز من إحترامها وحضورها، ويحصِّنها من أية خروقات أو إنتهاكات عنصرية أو قومية، لذلك لا بدَّ من ترك مساحة للخصوصيات الثقافية لمختلف الشعوب من أجل بناء حضارة إنسانية سلمية مشتركة.

فأساس التعايش بين المجتمعات والأقوام وشروطه تكون بالحوار وقبول الآخر، والكف عن قمع الرأي الآخر ورؤيته في بناء مستقبله، والحوار بين الثقافات والشعوب لا تكتمل عناصره، إلاَّ إذا توفرت له شروط التكافؤ والإرادة المشتركة والإحترام المتبادل، فمن خلال هذه العناصر تتمكن الشعوب من فهم نفسها وبعضها، وتدرك خطورة من يسعى إلى تفريقها، لضرب قيمها الآمنة في داخل كياناتها، فليس هناك مستقبل لهذه الشعوب من دون إقامة حوار متحضِّر وعاقل بين ثقافاتها وحضاراتها ورؤاها الفكرية، يؤدي الى تشكيل ركائز التعايش الثقافي الرفيع.

فجدلية العالمية والخصوصية أمر حيوي في وضعنا الراهن، فالعالمية الحقيقية لا يمكن أن تكون إلاَّ في ظل إحترام التنوع الثقافي للشعوب، كما أن الخصوصيات الثقافية لا يمكن أن تثمر إلاَّ في ظل الإيمان بوجود مبادئ إنسانية مشتركة، لهذا فالأولوية تكون لما هو مشترك ولتشكيل هوية مشتركة جامعة في ظل إحترام التنوع، فكل الكيانات الثقافية هي كيانات متعددة الهوية، والإنسان سيصبح أكثر فأكثر متعدِّد الانتماءات والهويات، لذلك فإن البحث عن أصل واحد وجوهر واحد يؤدي ليس فقط إلى تخريب الثقافة، بل إلى أخطر الأصوليات (5).


-حوار الحضارات وثقافة الإختلاف

الإقرار بالتنوع الثقافي والتكفُّل بحمايته، هو اليوم من أهم مبادئ القانون الدولي، فلكل ثقافة كرامة وقيمة يجب إحترامهما والمحافظة عليهما، فإذا أراد المجتمع الدوليُّ أن يحافظ على شرعية القانون الذي يحكم  بين علاقات الأفراد والجماعات والحكومات، فإن ضرورة عيش الحياة فوق هذه الأرض في أمن وسلام، تفرض تعايش الثقافات والحضارات والأديان، وإقامة حوار جدّي وهادف فيما بينها، ولا مستقبل للبشرية إذا سارت في إتجاه معاكس لذلك كلِّه.

لذلك تبلورت مقولة “حوار الثقافات” في إطار أدبيات المؤسسات الثقافية الدولية، خصوصاً أدبيات منظمة اليونسكو، منذ إعلان مكسيكو الصادر عام 1982 حول السياسات الثقافية، الذي أدرج مفهوم التنوع الثقافي ضمن أولوياته، فكان ذلك بداية مسار متواصل أدى إلى صدور إعلان اليونسكو العالمي للتنوع الثقافي (نونبر 2001) وإقرار الاتفاقية العالمية لحماية التنوع الثقافي.

ذلك أن الأزمة الثقافية التي شهدتها أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، كانت بسبب الإنقلاب الصناعي الذي عرفته تلك البلدان منتصف القرن نفسه، حيث دخلت الثقافة في تساؤلات وجودية حول معنى الحياة بالتصادم، وتساؤلات الحنين والنوستالجيا، فتغذَّت أحلام أفكار شمولية الدولة وإيديولوجيتها العائمة على الخيال والخوف معاً، بالتقدم نحو هدف ومستقبل واعد للجميع، على أرض مفخَّخة وممزَّقة ما بين ماضٍ جميل قد تشوَّه، ومستقبل واعد يجب أن يُصان، لتأتي عولمة الإقتصاد الذي غذته مصالح الرأسمالية التجارية، وهذا تطلب بدوره عولمة الثقافة، وعادت نغمة الخوف التي لا يبدو أنها ستموت بين الأجيال.

فالغرب الذي نادى بالأسواق العالمية المفتوحة، وتعميم إقتصاد السوق والتبادل الحر، هو ذاته ينزع كثيراً نحو ممارسة أساليب الثقافة الإنعزالية وغلق الأبواب أمام الآخرين، وعمل على فرز الأعراق والأقوام والإثنيات المجتمعية، وهذه النزعة قد تركت بلا شك ندوباً وآثاراً مؤلمة على جسد العالم والشعوب المعذبة، فلم تعدْ شعوب العالم الثالث هي التي تشكو لوحدها من الغزو الثقافي، وإنما البلدان المتقدمة، وهي التي قامت على فكرة الغزو الثقافي، صارت تتلقى موجات من الإختراق الشامل لثقافة الشعوب، عبر الأقمار الصناعية والإنتاج البصري وأنظمة البث المعمم والمعلوماتية، فالديمقراطية ترفض الهيمنة، وتماهياً مع إزدواجية ثقافة الغرب في التعامل، فإن المطالبة بفتح الأسواق العالمية يجب أن يترافق مع فتح الأسواق للعمال، لأن العمل هو سلعة أيضاً يباع ويشترى كما في ثقافة السوق والرأسمال، والمناداة بالديمقراطية وحقوق الإنسان تتطلب فتح النوافذ على الثقافات الأخرى، فلا يمكن أن نعولم التجارة من دون عولمة الثقافة. ولذلك تكاثرت المخاوف عند الشعوب والحكومات التي تعاني من فرط الإزدواجية، ومع تعاظم الخوف وتراكمه، سيؤدي حتماً الى التدمير الذاتي للدول والشعوب، كما حصل خلال الحربين العالميتين، فالأزمنة والمراحل المضطربة والساخنة هي محطات مفتوحة على إحتمالات كثيرة بائسة.(6)

الصراعات الثقافية وأثرها على التماسك الإجتماعي

إحترام الرأي والاختلاف مع الآخرين شكل معضلة وإشكالية تاريخية، معضلة كانت ولا تزال ترافق البشر في مشروع بناء الحضارة الإنسانية، فالكثير من المشاكل والخلافات والأزمات والحروب، كان أحد أسبابها عدم وجود ثقافة الحوار وقبول الرأي الآخر،  ورغم أن عملية الإثراء الثقافي والعلمي ومقياس تطور المجتمعات والشعوب، تقوم على ثقافة إختلاف الرأي، إلاَّ أن إنغلاق العقول جعل من الاختلاف تصدعاً أضعف المجتمع.

وهذا يعود الى الموروث الإجتماعي السلبي التي إكتسبته أغلبية المجتمعات الإنسانية، مثل بعض العادات والتقاليد العصبية العشائرية، وكذلك عدم وجود توجيه وإرشاد ينمِّي ويطور هذه الثقافة في العملية التربوية والتعليمية، كما لا يتم توجيه وسائل الإعلام لنشر هذه الثقافة وتعزيزها من خلال البرامج والطروحات، وإستيراد أفكار وتجارب تفعيل هذه الثقافة من الدول الأخرى، وتقديم الندوات والمؤتمرات وورش التوعية والحلقات الحوارية وإعطاء الفرصة للآخر، لتعليمه كيفية السيطرة على إنفعالاته وأنانيته، ليتغلب على هذا الموروث الاجتماعي السلبي، فتنمية هذه الثقافة تحتاج إلى عمل تراكمي دائم، فثقافة إحترام الرأي والإختلاف تبدأ من الأسفل إلى الأعلى، من العائلة والمدرسة إلى أعلى الهرم، عندها إذا شعر المواطن بأن الحكومة تدعم هذه الثقافة يزداد إيمانه وعمله بها، ليحل التسامح والترابط بين مكونات المجتمع.

من دون أن ننسى فكرة القومية التي ساعد أيضاً على تأسيس دول الرفاه الحديثة، وعملت على تعزيز المساواة داخل الأمة نفسها لشعورهم وتطبعهم بذات الطباع والروح الإجتماعية في بناء المصير والمستقبل المشترك، ولأن الأيديولوجية القومية ترى أن الناس يمثلون هيئة موحدة دون اختلافات في المكانة فهي دخلت في علاقة تكافلية مع مبدأ المساواة لكنها تاهت في مسار الصراع والإتهامات والتشظي في غالب الأحيان.

فقد أدى الشعور بالإلتزام المتبادل والمصير السياسي المشترك، إلى نشر فكرة أن أعضاء الأمة، يجب أن يدعموا بعضهم في أحلك الظروف من خلال تأسيس أول دولة رفاه حديثة تحكمها المساواة، ولكن كما يعلم الجميع فإن للقومية جانبها المظلم أيضاً، حيث يمكن أن يؤدي “أو بالمعنى الأدق” قد أدّى الولاء للأمة إلى شيطنة الآخرين، سواء كانوا أجانب أم أقليات محلية بزعم أو تحت حجة عدم ولائها.

فأغلبية الدول المعاصرة تكونت عبر حرب قومية للإستقلال ضد الجيوش الإمبريالية، كما رافق ولادة دول قومية جديدة بعض من أكثر أحداث التاريخ عنفاً للتطهير العرقي، بشكل عام للأقليات التي إعتبرت غير مخلصة للأمة أو إشْتُبه في تعاونها مع الأعداء، فخلال حربَي البلقان التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1947، قُتل عدد هائل من الهندوس والمسلمين في عنف طائفي عندما أصبحت الهند وباكستان دولتين مستقلتين.

ربَّما يكون التطهير العرقي أكثر أشكال العنف القومي فظاعة، في حين أن الأكثر حدوثاً هي الحروب الأهلية التي تخوضها، إما الأقليات القومية التي ترغب في الانفصال عن دولة قائمة، وإما مجموعات عرقية تتنافس على السيطرة على دولة مستقلة حديثا.

رغم أن القومية تميل إلى العنف، وهنا لا نقصد الإمبراطوريات الكبرى التي تنضوي بداخلها قوميات متعددة، بل تلك الإمبراطوريات التي تنزع نحو تقديس الفكرة القومية الخاصة بها، فتدخل في صراع وتصفيات وحروب أهلية، فالإمبراطورية الإسلامية يوم حكمها الترك بإسم الإسلام، كانت تضم قوميات عديدة متعايشة في ظل الحكم الإسلامي. لكن بمجرد تصاعد النبض القومي للأتراك، أو النبض القومي عند الأمويين من قبلهم  بدأت الدولة بالتفسخ والتشقق، وهذا ما يعيده التاريخ في كل مرة لكن بلباس وأثواب مختلفة.

 فقد ظلت العديد من الدول تعيش بسلام بعد إنتقالها إلى دولة قومية، ففي بعض الدول، يتم تمثيل الأقليات والأغلبيات في أعلى مستويات الحكومة القومية بداية، كما فعلت سويسرا بدمج المجموعات الناطقة بالفرنسية والألمانية والإيطالية، في ترتيب ثابت لتقاسم السلطة لكن في دول أخرى، إستولت النُّخبة من مجموعة عرقية معينة على الحكم، ومنعت المجموعات الأخرى من المشاركة في السلطة السياسية كالسودان والعراق وسوريا ونظام الأبارتهايد الطائفي والمذهبي في لبنان، بل كذلك الانفصالية أو الحرب الأهلية التي تشنُّها الجماعات المُقصاة نفسها، التي تشعر أن الدولة تفتقر إلى الشرعية، لأنها تنتهك المبدأ القومي للحكم الذاتي، وتقدم سوريا حالياً مثالا متطرفاً على هذا السيناريو.

لكن سواء تطور تكوين السلطة في دولة بعينها بإتجاهٍ أكثر شمولية أم حصرية، فهي مسألة تاريخية، تمتد جذورها إلى ما قبل صعود الدولة القومية الحديثة، حيث تميل الإئتلافات الحاكمة والقومية الشاملة، إلى الظهور في الدول ذات التاريخ الطويل من المركزية والبيروقراطية، ففي كل من دول العالم المتقدم والنامي، ستبقى القومية قائمة، حيث لا يوجد حاليا أية نظرية آخرى يقوم عليه نظام الدولة العالمية، وليس من الواضح ما إذا كانت المؤسسات عبر الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي، يمكن له تولِّي المهام الأساسية للحكومات القومية، بما في ذلك الرفاهية والدفاع، والتي ستتيح لهم إكتساب الشرعية الشعبية. فالتحدي القائم أمام الدول القومية القديمة والحديثة، يتجسَّد في تجديد وبناء توافق بين الحكام والمحكومين توافق يربط الطرفين، وليس من خلال المراقبة الأيديولوجية من فوق، ولا من خلال محاولة تثقيف المواطنين حول ما ينبغي إعتباره مصالحهم الحقيقية.


ضعف الصراعات الثقافية

المؤسسات السياسية الديمقراطية تصمد وتستمر لفترات أطول، عندما تتحصن بتماسك ثقافي مقبول، في حين تقل هذه الفرص في بلد تكثر فيه الثقافات المختلفة والمتعارضة بشدة. فنلاحظ أن الثقافات المتمايزة والمترابطة، تتمظهر عادة حول فروقات اللغة والدين والعرق والهوية العرقية والمناطق والعقائد في بعض الأحيان، يتشارك فيها أفراد المجموعة الواحدة بهوية مشتركة، وبروابط عاطفية، ولذلك يفرقون بين ال “نحن” وال “هم”، مع السعي لبناء علاقات شخصية: أصدقاء، رفاق، شركاء في الزواج، جيران، ضيوف، فيمكن لهذه الثقافة بأن تصبح طريقة حياة فعلية لأفراد المجموعة، أو لبلد داخل بلد وأمة داخل أمة، وبهذه الحال يكون المجتمع منقسم عامودياً.

كما يمكن للنزاعات الثقافية أن تنفجر في ميدان السياسة حول الدين واللغة والأزياء والمدارس، أو حول المساواة في التحصيل العلمي، أو ممارسات لجماعات ضد أخرى، فهذه قضايا تمثل مشكلة للديمقراطية، إذ أن أتباع ثقافة معينة غالباً ما ينظرون الى متطلباتهم السياسية كقضية مبدأ وإيمان ديني عميق، وعلى أنها  تشكِّل مهمة مقدسة للحفاظ على الثقافة_المجتمع أو بقاء الجماعة.

ولذلك تمكنت بعض الدول في أغلب الأحيان، من تجنُّب الصراعات الثقافية الحادة، عن طريق الإستيعاب كما حصل داخل الولايات المتحدة، عبر تقليص النزاعات الثقافية التي سببتها الهجرة الواسعة، وكذلك عملية إتخاذ القرارات بالإجماع من خلال ترتيبات سياسية، تطلبت إجماعاً كاملاً على القرارات المتخذة في الحكومة أو البرلمان، أو من خلال النظم الانتخابية المتطورة، بعد أن يقوم السياسيون بتغذية الفروقات الثقافية، كما الانظمة الإستبدادية والقمعية التي تستخدم سلطتها التأديبية للتغلُّب على النزاعات الثقافية وإجهاضها، التي سرعان ما تعاود الإنفجار، وأخير العمل على الإنفصال في محاولة إستيعابية عندما تكون الانقسامات عامودية وحادة وعميقة، بحيث لا يمكن للحلول السابقة التغلب عليها ومعالجتها.

التماسك الإجتماعي

خلال القرن العشرين إنهارت عديد من الديمقراطية في بلدان كثيرة، لكن تمكَّن بعضها من تجاوز الأزمات التي ألمّت بها، وتغلبت على الفروقات الثقافية أو المجتمعات المتمايزة الحادة المتواجدة بداخلها، في حين أن غيرها من الدول فشلت بهذا الدور، بسبب إفتقارها الى مواطنين وقادة ونخب، تدعم بقوة الافكار والقيم والممارسات الديمقراطية وثقافة الإعتراف والحوار، حيث يجب أن تكون هذه المعتقدات والقيم مغروسة في ثقافة البلد، وتنتقل من جيل الى جيل.إذ تساعد الثقافة السياسية الديمقراطية على إنشاء مواطنين مؤمنين بأن الديمقراطية والمساواة السياسية هي من الأهداف المطلوبة، وأن الفروقات والإختلافات الناشئة بين المواطنين، بجب أن تقابل بأخوة وإنفتاح وحماية.

فثقافة فكر الممارسة الديمقراطية الحرة عندما تصبح جزء لا يتجزَّأ من ثقافة البلد، يكون الايمان بها مطلقاً، وهذا يتطلب البحث المطلق في التطورات التاريخية حول العديد من دول العالم، لكن يبدو أن التاريخ يعطي لبلاد معينة الثقافة السياسية ومبدأ الحوار البناء، وبدورها تدعم الثوابت والافكار الديمقراطية، وقليل ما تدعم في أسوأ الأحوال الحكم الإستبدادي(7).

تكامل الحضارات

على صعيد آخر، يرى مفكرون آخرون أن علاقة العالم وعلاقات الدول وبكل ما له خاصية بالحضارة الأوروبية الأمريكية، تطغى عليها سردية صراع الإيديولوجيات والثقافات، فسردية صراع الحضارات إنتهت كأسطورة في الخطاب الثقافي، لأنها مستندة على توصيفات زائفة لم تنجح في تهشيمها حتى العولمة وتكنولوجيا الاتصالات، وقد ظنَّ صامويل هنتنغتون المنظَر لهذا النوع الجديد من النزاع الذي يركّز على الهوية الثقافية، ظنَّ أن الاختلافات الثقافية والإيديولوجية المتجذرة عميقاً ستسيطر على السياسات والعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين، فيما أعاد المفكرون النيوليبراليون الجدد، ومنهم مَن يشكِّل هنتنغتون مصدر إلهامهم، الكشف عن المغالطات والأساطير القديمة المُسْقَطة على المجتمعات الحديثة إسقاطاً، والتي يعود تاريخ بعضها إلى الحروب الصليبية.


صراع الحضارات…نظرية خاطئة

الصراع بالأحرى، هو داخل الحضارات وليس بين الحضارات، لكن  توقعات نظرية هانتينغتون، ربما كانت صحيحة فيما يتعلَّق ببقاء الدين كمصدر للشكوك والريبة والكراهية والعنف، فما زال عديد من الأوروبيين لديهم الشعور، بأن تركيا مثلاً لا زالت مختلفة ومتخلِّفة إلى حدٍّ لا يمكن معه أن تنضوي في الاتحاد الأوروبي، أما في أماكن أخرى، وخاصة في الدول التي تحكمها ديمغرافيا الشباب الفتية، فستظل العقيدة الدينية بالتحديد لفترة طويلة، مصدراً محرضاً على العنف بأشكال مختلفة، لكنها تبقى توصيفات خاطئة للصراعات، فليس من الضروري أن يتم تعريف الحضارة عن طريق الدين، ففي مدن العالم تنمو طبقة وسطى معتدلة أو غير متدينة على الإطلاق، تهتم بالحصول على الوظيفة والتعليم والرخاء والتفاعل وتراكم حوارها في الثقافة والتلاقح الفكري، حيث الحضارة ليست رابطة الدم، كما أن الوطن من الممكن أن يكون عبارة عن مجموعة على شبكة الإنترنت عبر التفاعل والتلاقي والقبول والرفض في الفضاءات التكنولوجية المتطورة، التي ترسم الخطوط والتماسك الإجتماعي، وتنشر وعيها وتقاليدها وتعممها حول العالم، بما يخدم حقوقها ويصونها على الدوام (8).


في الختام

إن عملية الخروج من الأزمات المجتمعية لبناء وتدعيم البديل الحضاري العالمي في تشكل الوعي الإنساني، تكمن في فهم الحالة الراهنة للإنسانية كلها، بحيث تُدرس مآسيها وأزماتها المتراكمة في التاريخ، وهذا الذي أدَّى إلى تقاطعات وخلافات خطيرة، تحوَّلت إلى صراعات فكرية مذهبية وطائفية دينية، وإنقسامات داخل الدين الواحد، وإنشطارات داخل الفرق والمذاهب والطوائف.

ولذلك صار من  الواجب على المفكرين والباحثين والعلماء وغيرهم، الإهتمام بموضوع التعايش والتقارب لتعميم ثقافة الإعتراف بالآخر وتقديسها، نظراً لما تمر به المجتمعات العربية والغربية على حد سواء، من عدم ثبات وإستقرار إجتماعي مرفق بأزمات إقتصادية وإستقطابات تنزع نحو اليمين العنفي الإلغائي، وهذا بدوره يؤكد على أن الأصل والأساس في العلاقات الإنسانية السلم لا الحرب، والتلاقي والحوار وتعميم ثقافة الإعتراف بالآخر، وبحقه في الحياة وممارسة شؤونه وحياته وتقاليده الخاصة بكلِّ حرية، والتمتّع بممارسة ثقافته السياسية والتعبير عنها، بما يكفل حقوقه وصيانة كرامته كإنسان.لأن المجتمعات تكون دائماً أمام وقائع وتغييرات في الحياة الإجتماعية خلال مرحلة التحول الوطني الديمقراطي، وتطرأ عليها تبدلات كبرى في حياتها الملاسيكية بظل الحداثة الرأسمالية، وغالباً ما تكون شكلية ومعنية بالموضة وبالصورة الخارجية، التي تخفي تحتها كل عوامل الأمراض والتورُّمات الإجتماعية، فهذه البنية المجتمعية معرضة لتورُّم وتمدد سرطاني مع كل تراكم للنظام الرأسمالي، وبحكم طبيعته يحول التعاظم الإجتماعي الى نمط سرطاني كما نشهد في سلطة الدولة القومية، وفي التمايز الطبقي اللاهث خلف المجتمع الرتيب داخل المدن العملاقة المكدسة بأحزمة البؤس والفقر، فكل الدلالات تشير الى إستحالة تحمل الكوكب الأرضي والبيئة والمجتمع لذلك التضخم بهذه الصورة، والعالم أمام وحش يفترس كل ما تقع عليع عينه،إذ تحولت الحداثة الرأسمالية بذات نفسها في حاضرنا الى وحش يستهلك كل أشكال الحياة، أي أن الحداثة الرأسمالية هي وحش كاسر دائم الإلتهام(9).

من هنا يجب إعتبار الحوار بين الحضارات والثقافات بين الأمم والشعوب حاجة إنسانية، تقتضيها طبيعة الإنسان العاقلة المستنيرة، وتتطلّبها المتغيرات والتحولات الدولية المتسارعة التي يشهدها العالم، وهو ما يعني التنشئة على ثقافة الحوار والتلاقي وقبول الآخر، والبحث عن قواسم مشتركة تجمع البشرية، كذلك ضرورة تفعيل طرق الحوار بين الأمم والشعوب، لحل جميع المشاكل العالقة بينها، واللُّجوء إلى المواثيق والأعراف الدولية، وتجنيب الشعوب أنواع المآسي والكوارث التي يصنعها الإنسان ضد أخيه في الإنسانية، ويصادر بها حقَّه في الوجود والحياة الكريمة، ولا تكتمل هذه التوليفة، إلاَّ من خلال الحرص على البحث المتواصل عن سبل متطورة، تجنِّب الأمم والشعوب كل صدام يفكِّك لُحمتها، المرتكزة على الأخلاق والمعاملات الإنسانية الراقية، والسمو بالثقافات الإنسانية والإحترام المتبادل.

كذلك ضرورة المشاركة وإسهام مختلف فئات المجتمع في صياغة حلول ومبادرات تنتقل بالحوار من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق بما  يعزز ثقافة السلام، لدفع وإجبار الدول والمنظمات الدولية والهيئات غير الحكومية، على المساهمة في تمتين التفاهم ونشر ثقافة الحوار القائمة على رؤية الآخر من خلال الصورة التي يرسمها عن نفسه. وذلك لا يكون إلاَّ من خلال دعوة النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية، وأصحاب القرار ورجال التربية والتعليم، إلى التفكير المتواصل والمبادرات المستمرة، لإحداث التغيير الإيجابي في ثقافات الناس ونفوسهم وسلوكهم، والإستفادة من طريق الحوار بين الحضارات والثقافات، حتى يشعر الإنسان أن سعادته مرتبطة بسعادة الإنسان الآخر، وهو ما يعني القضاء النهائي على الصورة النمطية المشوّهة لثقافة الشعوب في نظر غيرها، القائمة على التنابذ والبغضاء والتقوقع والإنغلاق.

د.رائد المصري

أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية – لبنان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع

1- محمد سعدي/ من أجل أخلاقية عالمية للحوار ونشر ثقافة السلام

أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية/ جامعة محمد الأول- المملكة المغربية

https://www.bing.com/search?q=%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF+%D8%B3%D8%B9%D8%AF%D9%8A%2F+%D9%85%D9%86+%D8%A3%D8%AC%D9%84+%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9+%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9+%D9%84%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1+%D9%88%D9%86%D8%B4%D8%B1+%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85&pc=GD01&form=GDAVST&ptag=3101

2-عبد الله أوجالان /مانيفستو الحضارة الديمقراطية

المجلدالخامس/ صفحة 399و400/فقرة:انشاء السلام والحل الديمقراطي والامة الديمقراطية.

3- https://www.almrsal.com/post/1281159

4-أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1/ في مقال له صدر يوم الخميس 4 يوليو 2024 / اندبندت عربية.

5- Goytisolo(Juan)/Que peut la literature/Le monde Diplomatique.Novembre 1999.p28.

6-الصافي سعيد،سنوات المتاهة، الحرب المموهة والسلام الجريح على مذبح القرن العشرين،صفحة 302.

7-روبرت أ دال، كتابه عن الديمقراطية/صفحة 192و193

8- اقرأ المزيد في إسلام أون لاين: https://islamonline.net/%d8%ad%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b6%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%88%d8%ab%d9%82%d8%a7%d9%81%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%81/

9-عبد الله أوجالان /مانيفستو الحضارة الديمقراطية

المجلد الخامس/ صفحة 415و416. فقرة:الأمة الديمقراطية والحياة الإجتماعيـــــــــة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى