دراسات

شمال كردستان: تاريخ القضية الكردية مع الدولة التركية

تحليل الباحث: محمد صابر

مقدمة

تشكل القضية الكردية أحد أهم القضايا الأساسية في المنطقة وكذلك في تقييم الحكومات التركية من تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، بعد أن تم تخلى الجانب التركي عن التزماته وتعهداته في حرب الاستقلال بمنح الكرد حقوقهم ضمن الجمهورية التركية، حتى أن هذه القضية المركزية في تركيا، باتت هاجساً مزمناً تعتبره تركيا يهدد أمنها القومي واقتصادها ومسار التنمية الشاملة، كما تستغل الذرائع وتختلقها لمواجهة القضية الكردية خارج الحدود التركية أيضاً، لأنها ترى أن ذلك الهاجس الكردي يحد من دورها الإقليمي خلال الصراعات الإقليمية الحالية، وتعتبر قضية حصول الكرد على حقوقهم هي قضية “بقاء الدولة التركية” من عدمه، ولذلك لتركيا سياسات متشددة منذ 1923 وحتى اليوم، وويتضح ذلك في صراع الدولة التركية مع الكرد وحزب العمال الكردستاني في خمسين السنة الأخيرة داخل تركيا وخارجها، وكذلك التدخل التركي في شمال العراق وشمال سوريا منذ الأزمة السورية، وفي ضوء التوترات وسيطرة تنظيمات إرهابية على أجزاء واسعة من الأراضي السورية والعراقية، اتسع الدور الذي قدمه الكرد في تحقيق تقدم بقضايا دولية هامة، لاسيما ما حققته قوات سوريا الديمقراطية المكونة من الكرد والعرب في مواجهة مخاطر تنظيم الدولة الإرهابية “داعش” وكذلك الدور الذي لعبه قوات حزب العمال الكرستاني في حماية سنجار وكركوك ومخمور وأربيل.

وكان الكرد دائماً شعباً شديد التمسك بهويته وثقافته ومخلصاً لشعوب المنطقة وحالة التعايش والتكامل، واستمروا في الدفاع عن المنطقة دفاعاً شديداً في مواجهة التحديات والأخطار الخارجية، فشكلت كردستان أحد المعاقل الهامة في مختلف مراحل التاريخ، فقد تصدى الكرد أكثر من مرة لموجات الغزو التتري المغولي، ولاسيما مقاومة الكرد ومشاركتهم في الحروب الصليبية، وبشكل خاص القائد الكردي “صلاح الدين الأيوبي” ودوره الرئيسي في الدفاع عن المنطقة وتوحيد شعوبها، كما هناك العديد من النماذج الكردية التي مازال آثرها باقياً في الأمة حتى اليوم، مثل يوسف العظمة وبديع الزمان والكواكبي والنورسي وابن الآثير والدينوري.

خلال العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي بدأ القمع التركي الذي مارسته الحكومات المتتالية في تركيا إزاء الانتفاضات الكردية المطالبة بحقوق الكرد، فاستمرت “أنقرة” في إنكار وجود المشكلة الكردية، وعانى الكرد من الإنكار والتهميش والإقصاء ضدهم، إلا أنهم استمروا في التمسك بقضيتهم وأثبتوا باستمرار قدرتهم على تنظيم أنفسهم والبحث عن الحقوق التي حرموا منها، وقد تزايدت الأبعاد الإقليمية والدولية للقضية في السنوات الأخيرة، خاصةً بعد العقد الأخير ونيل فرصة تاريخية للحصول على حقوقهم وتحقيق تطلعاتهم في إدارة مناطقهم ومجتمعهم.

بناءً على ما سبق، تسعى هذه الدراسة إلى البحث في التاريخ الكردي في شمال كردستان، ومراحل تطور الصراع مع الحكومات التركية، في ظل المطامع التركية التوسعية وعدم الرغبة في الاعتراف بحقوق الكرد، خاصةً في ظل سياسات حزب العدالة والتنمية، وتوضيح الرؤية التركية والكردية، لتحليل التطورات وخلفية الصراع الكردي – التركي.


التطور التاريخي للقضية:

مرت العلاقة بين الكرد والعثمانيين بمراحل خداع كبرى، حين اعتمد الكرد على الأتراك على أنهم حليف إستراتيجي، بينما تعامل العثمانيون معهم على أنهم حليف مؤقت مع مطامع في الهيمنة على ثرواتهم في المستقبل، ولم يشفع للكرد الدور الذي قدموه في حروب الدولة العثمانية مع السلاجقة أو البيزنطيين لاسيما في معركة “ملاذكرد” عام 1071 وحربها مع الصفويين في معركة “تشالدران” عام 1514، وحتى الحرب العالمية الأولى 1919 أمام المطامع التركية، فمنذ دخول كردستان تحت السيطرة العثمانية في 1914، تم توقيع اتفاقية السلطان العثماني “سليم الأول” مع الأمراء الكرد في 1515 اعترف العثمانيون في مضامينها بسيادة الأمراء الكرد على كردستان وبقاء الحكم الوراثي فيها، متعهداً بمساندة الآستانة لهم عند التعرض للغزو أو الاعتداء، في مقابل أن تدفع الإمارات الكردية رسوماً سنوية نظراً لتبعيتها للدولة العثمانية، وبعد أربعة عقود فقط نقض العثمانيون الاتفاقية وعقدوا اتفاقية آخرى مع الدولة الصفوية “اتفاقية أماسيا” قضت بموجبها تقسيم كردستان رسمياً، مما تسبب في اندلاع العديد من الثورات الكردية، والتي امتدت عبر التاريخ مروراً بعصر الدولة العثمانية إلى انتفاضات الكرد في عصر الجمهورية التركية والتي من أبرزها ثورة الشيخ سعيد بيران وحركة عبد الله أوجلان.[1]

استمر الكرد في تقديم المساعدة للأتراك خلال حروب الاستقلال (1919 – 1923) بعد الحرب العالمية الأولى أمام ما حذر به الأتراك من مخاطر سيطرة دولة أرمينيا عليهم، آملين أن تكون تركيا حليفاً داعماً كما كانوا عوناً لها، بعد أن قاتلوا أيضاً في صفوف الجيوش العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وقد شكلت هزيمة الدولة العثمانية 1918 وتوقيع معاهدة سيفر عام 1920 نقطة تحول للقضية الكردية، فتوقع الكرد المساواة في الإدارة للدولة الجديدة، حيث تم إشراك الكرد في أول برلمان تركي، لكن بعد توقيع اتفاقية لوزان 1923 التي ألغت اتفاقية سفير، ومع تطرف الكماليون في التعامل مع الشعب الكردي ورفض “أتاتورك” لحقوق الكرد التي تضمنتها نصوص معاهدة سيفر جعل الحكومة التركية الجديدة تنقلب على الكرد وتفرض سياسات التتريك لصهر الهوية الكردية في المجتمع التركي، وتزايدت حالات القمع العنيفة واستخدام القوة خاصةً بعد إصدار الحكومة الجديدة بقيادة اينونو لقانون حفظ النظام “Takrir-i Sükûn Kanunu” في عام 1925.[2]

وفي بداية دفاع الكرد عن وجودهم أمام سياسات الإبادة والإنكار، تكونت الحركة المسلحة بقيادة الشيخ “سعيد بيران” وامتدت معارك الانتفاضة الكردية التي قادها بيران آنذاك إلى 14 ولاية في معظم الأراضي الكردية في جنوب شرقي تركيا، ونجحت الانتفاضة في محاصرة مدينة آمد / ديار بكر الإستراتيجية، لكن قامت قوات أتاتورك بتفكيك الحصار وتمكنت من قمع الانتفاضة وتم اعتقال الشيخ سعيد ورفاقه من قادة الحركة والحكم عليه بالإعدام ومعه 47 من قادة الكرد، حتى تم تنفيذ حكم الإعدام في 30 مايو 1925، وشنت الحكومة التركية حملة اعتقالات وتصفيات واسعة بالمناطق الكردية في تركيا، حتى بلغ عدد القتلى من الكرد في تلك الأحداث عشرات الآلاف، كما تم اعتبار التلفظ بكلمة أكراد بمثابة عملاً جنائياً.[3]

تُعتبر انتفاضة الشيخ سعيد حجر الزاوية الذي قامت عليه الكثير من نقاط التحول في الملف الكردي، فمع القضاء على كل انتفاضة كان التمسك بالقضية يزداد أكثر فأكثر لدى المكون الكردي، الي أثبت قدرته على تنظيم ذاته باستمرار في طريق الدفاع عن النفس والحقوق المطالب بها، وعدم التنازل عن البندقية والنزول عن المعاقل الجبلية قبل الحصول على الحقوق الكردية المسلوبة، وأدى القمع التركي للهوية الكردية إلى صراع دموي طال أمده لأكثر من قرن، فقد نفذت الحكومة الكردية في 1925 مجزرة في ديار بكر أعدمت فيها مدنيين وسوت قرى كاملة بالأرض، لاسيما تدميرها حوالي 200 قرية وقتل 15200 شخص، كما عملت على إعادة توطين المئات ومُنع استخدام اللغة الكردية، وحُرم الكرد من كافة الحقوق الإنسانية، لاسيما أنه كان يحظر قول كلمة أكراد، فأطلق عليهم “أتراك الجبل” وتم قمع كافة المحاولات الرامية لاستعادة حقوق الكرد.[4]

وفي عام 1927 وقعت انتفاضة كردية جديدة “انتفاضة أرارات” على الحدود التركية مع إيران استمرت ثلاث سنوات قاتلت بها القوات الكردية الجيس التركي، وفي عام 1930 قصفت القوات الجوية التركية المواقع الكردية حول جبل أرارات قصفاً عنيفاً ومن جميع الاتجاهات، ما أجبر بعض المقاتلين على الفرار ومن ثم أسرهم، وانسحب الكرد إلى ارتفاع 5000 متر في نهاية يوليو 1930، وانتهت الحملة التركية في نهاية سبتمبر من ذات العام، إلى أن وقعت أنقرة وطهران اتفاقية تتعلق بالحدود بين المنطقتين نصت بتمكين تركيا من السيطرة الكاملة على جبل أرارات وما حوله والأراضي الواقعة بين قريتي كيبران وكوج داك الأرمنية، وفي المقابل حصللت إيران على تسعين ميل مربع في ضاحية قطور.[5]

وتصاعدت ممارسات الإبعاد التي قامت بها تركيا تجاه الكرد حتى 1934، وصدور قانون تركي يشمل إعادة التوطين القسري للمواطنين، ومع تزايد التوطين القسري للقبائل الكردية، وقد شبه المؤرخ الإيطالي “جوليو سابيلي” سياسات أتاتورك في الحرب ضد الكرد بأنها مهمة في نظره للحفاظ على التفوق التركي[6]، وفي 1937 نشب انتفاضة درسيم، وهو انتفاضة كردية ضد الحكومة التركية قادها الرزعيم الكردي الشيخ “سيد رضا” ضد سياسات التتريك وقمع الكرد والترحيل، وهي أكبر ثورة كردية بعد ثورة الشيخ سعيد بيران، إلا أنه قد تم قمعها بكل عنف وقُتل فيها ألاف الكرد والعلويين والزازيين حيث تم قتل حوالي 14000 كردياً ونقل 11000 قسراً من درسيم، وشكلت هذه الأحداث جدلاً في القرون الحادي والعشرون حول ارتكاب تركيا إبادات جماعية ضد الكرد، وانتهت بتقديم رئيس الوزراء التركي آنذاك نيابة عن الدولة “رجب طيب أردوغان” في 2011 اعتذاراً رسمياً عن مذبحة درسيم واصفاً إياها بأنها واحدة من أكثر الأحداث المآساوية في تاريخ تركيا الحديث.[7]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تأسيس حزب العمال الكردستاني:

انطلقت حركة المفكر والقائد السياسي “عبد الله أوجلان” ورفاقه في بداية سبعينيات القرن الماضي، للانتفاضة ضد القمع التركي المستمر للهوية الكردية، خاصةً مع بلوغ العنصرية التركية أشدها في كافة المناطق، التي رأها الكرد تشكل محاولة دفن العزيمة الكردية بعد إعدام الشيخ سعيد بيران وقمع كافة المحاولات التي وُلدت بعده لاستعادة حقوق الكرد أو على الأقل حجب القمع عنهم، وفي 1978 تأسس “حزب العمال الكردستاني PKK” بطريقة سرية على أيدي مجموعة من الطلاب على رأسهم “عبد الله أوجلان”، وتولى أوجلان رئاسة الحزب.

وكانت فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أكثر فترات الصراع الدموي بين تركيا والمقاتلين الأكرد، خاصةً مع مرور تركيا بتقلبات عديدة وتزايد القمع الذي أدى إلى لجوء الكثير من المقاتلين الكرد إلى دول الجوار وانتقل أكثرهم بين سوريا والعراق ومنهم من لجأ إلى دول الاتحاد الأوروبي واستمر في العمل على نشر التوعية بآفاق القضية الكردية وحقائق اضطهاد الكرد في تركيا، واستقر المفكر السياسي “عبد الله أوجلان” آنذاك بين لبنان وسوريا ومناطق مخيمات الحركات الفلسطينية وبدأ بإدارة الحزب، وفي عام 1984 تم التجهيز لشن عملية مسلحة ضد أهداف عسكرية تركية رداً على القمع التركي للهوية الكردية، وانطلق حينها النضال مرة أخرى وكانت هذه هي أبرز الانتفاضات الكردية، الذي استمرت خلاله المواجهات المسلحة بين القوات التركية وعناصر حزب العمال الكردستاني، وتعاظمت قوة الحزب في بداية التسعينات واتخذ قراراً بزيادة العلاقات الخارجية وإصدار بعض الصحف منها صحيفة الشعوب الحرة وصحيفة البلاد وديلان، كما تم تأسيس حزب العمل الشعبي للمشاركة في الانتخابات البرلمانية التركية، والانخراط في الساحة السياسية.[8]

يعتبر الدعم الذي وفرته سوريا لـ “أوجلان” عاملاً أساسياً في تزايد التوتر بين سوريا وتركيا، واتخاذ تركيا ذلك ذريعة لمحاصرة الحدود ومطالبة الحكومة السورية بالتوقف عن دعم حزب العمال الكردستاني، واشتدت الأزمة السياسية بين البلدين في أكتوبر عام 1998، لاسيما وأن تركيا قد حشدت قواتها على الحدود مع سوريا وهددت باجتياح الحدود في حال استمرارالدعم السوري للأكراد، وتدخلت مصر والجامعة العربية وإيران للتوسط في إنهاء هذا التصعيد، وتوصلت الأطراف إلى تفاهم بين الحكومتين السورية والتركية، اقتضى على أنه اعتباراً من هذه اللحظة لن يكون عبد الله أوجلان متواجداً في سوريا ولن يسمح له بدخول الحدود السورية مرة أخرى، كما لن يُسمح لعناصر حزب العمال الكردستاني مرة أخرى بدخول سوريا، وأن يتم تعليق كافة أنشطة الحزب ومعسكراته المتواجدة في سوريا في هذا الوقت.[9]

واضطر أوجلان إلى الانتقال لروسيا ثم إيطاليا ومنها إلى اليونان ثم كينيا، وفي 1999 عقدت تركيا صفقة مع الموساد الإسرائيلي، لاختطاف عبد الله أوجلان، ونجحت في اعتقاله وإعادته لتركيا ومحاكمته بتهمة الخيانة العظمى والتي قضت فيها المحكمة بإعدامه، وفي 2002 حولت تركيا حكم إعدام أوجلان إلى السجن المؤبد، ضمن سياسة إلغاء عقوبة الإعدام في تركيا آنذاك للتلائم مع قوانين الاتحاد الأوروبي، وتم اعتقال أوجلان في سجن “إمرالي” وهو سجن شديد الحراسة وكان أوجلان نزيله الوحيد حتى نوفمبر من عام 2009، حيث تم نقل سجناء أخرين إليه، كما أن لجنة التعذيب التابعة للأمم المتحدة عبرت كثيراً عن قلقها من العزلة المفروضة على أوجلان في إمرالي، وينادي الكثير من المؤيدين لعبد الله أوجلان برفع حالة العزلة عنه، خاصةً مع عمل تركيا على منع لقاء أوجلان بمحاميه داخل السجن، ويطالبون بأحقيته في العثور على حريته بعد قضاءه أكثر من 25 عام في السجون التركية.[10]

ويمكن القول بالنظر إلى ما أسهم به “أوجلان” في إدارة النضال الكردي، خاصةً بتقديمه أطروحة “الأمة الديمقراطية”، أنه يُعتبر نموجاً حقيقياً للتنظيم السياسي والاجتماعي الذي تجاوز نموذج الدولة القومية، الذي يعبر عنه المجتمع وليس السلطة، فلم تنتهي مسيرته باعتقاله وإنما استمرت أفكاره تنتشر ويجري تطبيقها في الانتفاضة الكردية المستمرة المنادية بحقوق الكرد، فباتت هي الأساس الذي يقوم عليه الوعي الكردي المتطور لتأكيد الهوية الثقافية الكردية وتطويرها أمام التحديات التي تهدف لإعاقتها لاسيما أنظمة الحكم التي تعتبرها تشكل تهديداً لوحدة أراضيها.[11]

وقد أشار “أوجلان” في كتابه الخامس ضمن “مانيفستو الحضارة الديمقراطية” إلى كون الواقع الاجتماعي الكردي في تركيا مُعرض إلى التصفية شديدة الوطأة، بحجة خلق مجتمع متجانس كذريعة للإفناء وسحق الرؤوس، بهدف فرض التخلي الجماعي والكلي عن الكردايتية، حتى لا يتبقى سوى أشخاص يائسون يخجلون من هويتهم الكردية، عاطلون عن العمل، مؤكداً أن هذه المحاولات الزائفة للإرغام القسري والإبادة في كثير من الأحيان تتطلب ضرورة عدم الاستخفاف بتاتاً حتى بالموقفية في ذكر الحقائق بشق الأنفس في السطور.[12]   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهاجس التركي المستمر:

حاول “أوزال” التلويح بحل القضية الكردية، بإصلاح سياسات الدولة تجاه الكرد، عندما أصدر عفواً عن السجناء السياسيين شمل الألاف من الكرد، واستبدال الحظر الكلي عن اللغة الكردية بحظر جزئي في 1991، كما عقدت أول مفاوضات غير مباشرة بين حزب العمال وتركيا في 1993، بوساطة الرئيس العراقي وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، وبتكليف من “تورغوت أوزال”، بعدما أعلن أوجلان وقفاً لإطلاق النار، كبادرة حسن نية وتجاوب مع مبادرة أوزال، لكن بعد وفاة أوزال باءت كل المحاولات والجهود السابقة بالفشل، نتيجة معارضة القوى التقليدية التركية لها وموقف القوميين الأتراك المتعنت[13]، وعملت حكومة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على أداء بعض الحلول والمبادرات الشكلية في ظل رفضها اللغة الكردية وثقافة الكرد، فأظهرت بعض الانفتاح على الكرد، كما سمحت الحكومة التركية في البداية باستعمال اللغة الكردية في بعض التعاملات، مع حظرها في المعاملات الرسمية باعتبارها لغة متدنية في نظرها، وعلى الرغم من إنشاء محطة تليفزيونية باللغة الكردية في تركيا، فضلاً عن المحطات الخاصة ومتحف ودور نشر ناطقة بالكردية، إلا أنه قد استمر الرفض التركي لضمان الحقوق الكردية ومطالب الاعتراف بإقليم كردستان، ونشب صدام مسلح جديد في يوليو 2011 بين المقاتلين الكرد والقوات التركية بعد انتفاضة جديدة للكرد ومحاولة إعلان الإدارة الذاتية لـ آمد / ديار بكر، وعملت الحكومة التركية على قمع هذه الانتفاضة، واستمر الصراع المسلح سمة رئيسية في العلاقة بين الحكومة التركية والكرد، فبعد إعلان نهاية الكفاح المسلح ووقف إطلاق النار وبدء المحادثات مرة أخرى في 2013، عاد الصراع المسلح يخيم من جديد بعد قصف أنقرة لمواقع حزب العمال الكردستاني في 2015، بالإضافة إلى تنفيذ تركيا لعمليات عسكرية ضد مواقع سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري. [14]

وعلى الرغم من مدى إمكانية التوصل إلى حلول جذرية وعقلية للقضية الكردية، فإن القضية الكردية لا يزال جرحها نازفاً، ويعد حلها أمراً مستحيلاً عملياً، في ظل الرفض المطلق لدى “أنقرة” لكافة المطالب الكردية، وتزايد الصراعات المسلحة بين الطرفين، ويتزايد التوغل التركي مؤخراً بالتعدي على شمال العراق وقصف طائرات تركيا لمقاتلي حزب العمال الكردستاني خلال يوليو 2024، بالإضافة لعمل أنقرة على تدمير البنية التحتية لمناطق سيطرة الكرد في سوريا، فقد أقدمت تركيا على محاربة الكرد في سوريا والعراق، وليس فقط قمعهم داخل الأراضي التركية، وبذلك اتخذت تركيا من القضية الكردية أيضاً ذريعة لاحتلال مناطق واسعة من أراضي الدول العربية المجاورة، وتوسعة نفوذها الإقليمي، وفي هذا الإطار يمكن تقسيم الدوافع التي تنطلق منها الرغبة التركية في قمع الكرد في الداخل والخارج على النحو التالي:

(*) مخاوف أمنية: تعتبر تركيا أن حصول الكرد على حقوق سياسية في أي من دول الجوار يشكل مصدر تهديد أمني لها، فقد صنفت الكرد بأنهم مجموعات إرهابية وعملت على قمع الهوية الكردية على مدار عقود بل وقرون، فمازالت السياسة التركية في التعامل مع الملف الكردي نابعة عن رؤية أمنية ترتبط بهواجس من الهوية الكردية، خاصة لتخوفها من تنامي رغبات الإدارة الذاتية ومطالبها لدى الكرد في الداخل التركي.[15]

(*) تهديد النفوذ الإقليمي: حققت “أنقرة” تفوق في فرض النفوذ على مناطق واسعة من أراضي الدول المجاورة في سوريا والعراق، وتمكنت من الإمساك بالكثير من ورقات الضغط إزاء حكومات هذه الدول لاسيما في ملف المياه، وحققت العديد من المكاسب تحت ذريعة محاربة التنظيمات التي تصنفها على أنها إرهابية، لاسيما قوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري، وحزب العمال الكردستاني في العراق.[16]

(*) حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي: يبقى التطلع التركي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قائماً وتقدم “أنقرة” الكثير من أجل الوصول إلى هذا الهدف، لكن تبقى هناك بعض العوائق المتعلقة بشروط الانضمام عائقاً أمام تركيا منذ عام 1987، والتي من بينها توافر درجة عالية من الاستقرار السياسي داخل الدولة، ويشكل الكرد 20% من تركيا مما يهدد إمكانية فرض السيطرة وحفظ الاستقرار، لاسيما في حال تصاعد رغبات الكرد، ومطالبتهم بإدارة ذاتية لإقليم منفصل إدارياً مساواة بالوضع في إقليم كردستان العراق.[17]

(*) عدم الاستعداد لتسوية المسألة الكردية: على الرغم من توافر القناعة لدى كل من الأتراك والكرد بأن الحلول الأمنية والعسكرية أصبحت شبه مستحيلة لإنهاء الصراع وتوفير الاستقرار، وانطلاق بعض المبادرات مع وصول حزب العدالة والتنمية في 2002 لتسوية القضية الكردية، لا يبدو أن تركيا لديها أي استعداد للنظر في حل القضية الكردية، أو إجراء تغييراً نسبياً في سياساتها تجاه الكرد، لأن ذلك يتطلب مجموعة شروط تتعلق بالطرفين، وأخرى متعلقة بالبيئة الإقليمية والدولية، والتي من دون توافرها يبقى هناك صعوبات عديدة أمام حل القضية الكردية، فلم تتغير هواجس تركيا من الهوية الكردية، كما أن التحولات الدولية التي قد تمنح الفرص للمبادرات الرامية إلى تقديم الحلول للملف الكردي تبقى نسبية ومتغيرة. [18]

(*) عدم وجود قرار دولي لحل القضية الكردية: وتشكل المواقف الأوربية السلبية وفي غالبية المراحل إحدى أهم معوقات الحل، وبخاصة أن أوربا كان لها دور كبير في تقسيم الكرد وبقائهم من دون حقوق وجعل وطنهم بؤرة توتر خدمة لأجندات القوى الكبرى ومصالحها. وهنا لابد أن نذكر حادثة مقتل أووفاة الرئيس التركي أوزال وإزاحة أربكان عن الحكم لأنهم أكدوا أنهم يفكرون في حل القضية الكردية سلمياً.

في الختام، يمكن القول أن الأساس الذي تقوم عليه سياسات تركيا تجاه الكرد هو اتباع السياسات المتشددة وانتهاج الحلول الأمنية، ولذلك لا يمكن فهم العنف التركي المتصاعد في التعامل مع الكرد حتى في سوريا والعراق، دون استحضار تاريخ أنقرة المناهض للتنوع العرقي أو الديني للشعوب الموجودة ضمن الجمهورية التركية، فقد أصبحت الهوية القومية التركية اليوم عنصر تفريق بدلاً من أن تكون مصدر التوحيد والجمع، وقد تأثر حزب العدالة والتنمية بحالات الانشقاق في المجتمع التركي، وهو ما يتضح من خلال هزيمته في الانتخابات الأخيرة بأكبر المدن التركية لاسيما إسطنبول.

وفي هذا الإطار يجب التأكيد على أي مبادرة تركية لحل المسألة الكردية أن تشتمل نقاط اتفاق مقبولة للطرفين مثبتة بالتزامات وتعهدات حقيقية وتطبيقية، وليس بخطوات شكلية معتمدة على الوعود بالمستقبل الجيد دون توافر سبل وإستراتيجية مفصلة توضح كيفية تحقيقها، فالإبادة والقمع لحركة التحرر الكردية لم يعد لهم آثر فعال في تحقيق التقدم دون استئناف جديد للعنف، ولعل اتفاقية أو مطابقة “دولما بخجلي” ذات البنود العشرة والتي تم الإعلان عنها من جانب الوفدين الكردي والتركي بعد مشاروات ومحادثات كثيرة للدولة مع القائد عبدالله أوجلان في سجنه بإمرالي كونه المحاور والمخاطب الاساسي لدى الجانب الكردي، كانت إحدى المحاولات الجيدة، ولكن السلطة انهت الحوارات بينها وبين الجانب الكردي وأنهت وقف اطلاق النار الذي كان سائداً ورجعت للتعامل الأمني كما هي في المرات السابقة التسعة التي تم فيها وقف اطلاق النار من قبل الجانب الكردي والقائد أوجلان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

  1. محمد أمين زكي، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، (القاهرة : مطبعة السعادة، ط1، 1939).
  2. محمد أرسلان علي، القاهرة بعد قرن من مؤتمر الأربعون حرامي، (القاهرة : دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، ط1، 2021).
  3. نري باركي، القضية الكوردية في تركيا، (أربيل : مؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، ط1، 2007).
  4. أحمد تاج الدين، الكرد .. تاريخ شعب وقضية وطن، (القاهرة : دار الثقافة للنشر، د.ط، 2001).
  5. سميرة مرسي، حزب العمال الكردستاني وصراعات الشرق الأوسط، (القاهرة : دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، ط1، 2022).
  6. بله. ج. شيركوه، القضية الكردية ماضي الكرد وحاضرهم، (بيروت : دار الكاتب، ط1، 1986).
  7. مجموعة مؤلفين، عبدالله أوجلان مسيرة نضالية تحدت الصعاب، (القاهرة : مركز المحروسة للدراسات، ط1، 2024).
  8. عبد الله أوجلان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الخامس، (القاهرة : مركز القاهرة للدراسات الكردية، ط3، 2017).
  9. حيدر جاسم، واقع السياسة الخارجية التركية حيال الاتحاد الأوروبي ومستقبلها، جامعة الشرق الأوسط، كلية الآداب، 2013.
  10. زينب ماهر السيد مرسي، العلاقات التركية – العراقية .. دراسة لحالة الكرد، المركز الديمقراطي العربي، 14 أغسطس 2015.
  11. المشكلة الكردية والطموحات التركية، التقرير الإستراتيجي العربي، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية 1991.
  12. عقيل محفوض، تركيا والكرد: كيف تتعامل تركيا مع المسألة الكردية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مارس 2012.
  13. قراءة في أحوال تركيا بعد أيام من إعدام سعيد بيران، المركز الكردي للدراسات الإستراتيجية، 15 أغسطس 2022.
  14. عبد الله بن بجاد العتيبي، تركيا والكرد والحقد التاريخي، جريدة الشرق الأوسط، 9 نوفمبر 2019.

[1] محمد أمين زكي، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، “القاهرة: مطبعة السعادة، ط1، 1939”.

[2] محمد أرسلان علي، القاهرة بعد قرن من مؤتمر الأربعون حرامي، “القاهرة: دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، ط1، 2021”.

[3] المرجع السابق.

[4] قراءة في أحوال تركيا بعد أيام من إعدام سعيد بيران، المركز الكردي للدراسات الإستراتيجية، 15 أغسطس 2022.

[5] هنري باركي، القضية الكوردية في تركيا، “أربيل: مؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، ط1، 2007”.

[6] عقيل محفوض، تركيا والكرد: كيف تتعامل تركيا مع المسألة الكردية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مارس 2012.

[7] أحمد تاج الدين، الكرد .. تاريخ شعب وقضية وطن، “القاهرة: دار الثقافة للنشر، د.ط، 2001”.

[8] سميرة مرسي، حزب العمال الكردستاني وصراعات الشرق الأوسط، “القاهرة: دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، ط1، 2022”.

[9] بله. ج. شيركوه، القضية الكردية ماضي الكرد وحاضرهم، “بيروت: دار الكاتب، ط1، 1986”.

[10] مجموعة مؤلفين، عبدالله أوجلان مسيرة نضالية تحدت الصعاب، “القاهرة: مركز المحروسة للدراسات، ط1، 2024”.

[11] عبد الله أوجلان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الخامس، “القاهرة: مركز القاهرة للدراسات الكردية، ط3، 2017”.

[12] المرجع السابق.

[13] زينب ماهر السيد مرسي، العلاقات التركية – العراقية : دراسة لحالة الكرد، المركز الديمقراطي العربي، 14 أغسطس 2015.

[14] عبد الله بن بجاد العتيبي، تركيا والكرد والحقد التاريخي، جريدة الشرق الأوسط، 9 نوفمبر 2019.

[15] المشكلة الكردية والطموحات التركية، التقرير الإستراتيجي العربي، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية 1991.

[16] مرجع سابق، زينب ماهر السيد مرسي، العلاقات التركية – العراقية : دراسة لحالة الكرد، المركز الديمقراطي العربي، 14 أغسطس 2015.

[17] حيدر جاسم، واقع السياسة الخارجية التركية حيال الاتحاد الأوروبي ومستقبلها، جامعة الشرق الأوسط، كلية الآداب، 2013.

[18] مرجع سابق، زينب ماهر السيد مرسي، العلاقات التركية – العراقية : دراسة لحالة الكرد، المركز الديمقراطي العربي، 14 أغسطس 2015.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى