قليلة هي الكلمات التي حوت في باطنها الدلالي وتطورها المعرفي هذا الكم من الثراء، وعلى رأس هذه الكلمات “ثقافة”. مفهوم سيال ومركب يحتاج بين الفينة والأخرى لإعادة تأسيس مفاهيمية. إذ أنه ليس ثمة مصطلح ارتبط بالتيارات السياسية والاجتماعية والحراك الفكري مثل الثقافة.. ولهذا شهد التناول الاصطلاحي تباينا في تعريف المفهوم من حقل معرفي لآخر، تبعا للمنطلقات المعرفية والإيديولوجية والغايات والأهداف المنشودة، الشيء الذي يدفع إلى الانفتاح على مفهوم الثقافة دون ادعاء الإحاطة التامة به، أو أحادية فهم واحد. لعل ما يشد الانتباه في كل مقاربة تحاول التحديد المفاهيمي، هو البعد اللغوي للمصطلح، وبالعودة إلى الجذر اللغوي (ثقف)، نجد معظم المعاجم اللغوية تتفق حول جلّ المعاني المستنبطة منه، مع اختلاف بيّن يرتبط بكسر عين الفعل تارة، ورفعها تارة أخرى، لنقف أمام فعلين هما ثقِفَ وثقُفَ. ومن ثم تتقدم جملة من المعاني اللغوية المرتبطة باللفظين؛ ففي لسان العرب لابن منظور يقول: “ثقِف الشيء ثقْفا وثقافة وثُقُوفة: حذقه، ورجل ثقْف وثقِفٌ، وثقُفٌ، حاذق، فهمٌ. وثقُف الرجل ثقافة أي صار حاذقا خفيفا. ومنه المثاقفة. وثقِف الرجل: ظفِر به، وثقفته ثقفا مثال بلعته بلعا أي صادفته. وثقفنا فلانا في موضع كذا أي أخذناه، والثقاف والثقافة: العمل بالسيف”.
وفي قاموس المحيط للفيروز أبادي: “ثقُفَ ثَقْفا وثَقَافَة: صار حاذقا خفيفا فطنا، فهو ثَقِفٌ، وثَقَّفَه تثقيفا: سوّاه، وثاقَفَه فثَقَفَهُ: كنصره”. أما المعجم الوسيط، فقد جاء تحت الجذر اللغوي ثقف ما يلي: “ثقِفَ ثَقَفا، صار حاذقا فطنا فهو ثقَفٌ. وثَقُفَ، ثقافة، ثقِف فهو ثقيف. وثاقَفَه مثاقفة، وثِقافا: خاصمه، وجالده بالسلاح. وثَقَّفَ الشيء، أقام المعوج منه وسوّاه. والثقافة: العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها، والثقافة: الملاعبة بالسيف”. أما في معجم اللغة العربية المعاصرة، لأحمد مختار عمر، نجد ثقف بمعنى الحذق والفطنة والذكاء، ومنه قوله: “ثَقُف، يثْقُفُ ثقافة فهو ثقِف، ثقَف الشخص: صار حاذقا فاطنا، وثقِف الشخص صار حاذقا فطنا، وثقِف الشيء: طفر به، أو وجده وتمكن منه. وتثاقف الشخص: ادعى الثقافة. تثاقف الشخصان: تبادلا الثقافة”. من جهة أخرى، فإن كلمة coulter (سكين المحراث)، وهي الكلمة القرينة لكلمة ثقافة culture تعني (شفرات المحراث). ونحن عادة نشتق الكلمة للدلالة على أسمى وأرفع الأنشطة البشرية في مجالات العمل والزراعة والحراثة والحصاد، وتعني كلمة ثقافة هنا نشاطًا، ومضى زمن طويل قبل أن تعني كيانًا. والجذر اللاتيني لكلمة ثقافة culture هو يفلح colere، والذي يمكن أن يعنى أي شيء ابتداء من حراثة وزراعة الأرض إلى السكنى والعبادة والحماية، وتطور معناها من يسكن أو يستوطن، وهو باللاتينية colonus إلى الكلمة المعاصرة استعمارcolonialism، والتي يمكن ترجمتها إلى استعمار استيطاني. ولكن كلمة colere اللاتينية ينتهي بها المطاف لتصبح cul-tus، شأن المصطلح الديني cult، وتعنى عبادة أو دين أو عقيدة، تماماً مثل فكرة الثقافة نفسها في عصرنا الحديث التي حلت بديلاً عن معنى أفل للدلالة على الألوهية والتعالي، وجدير بالذكر أن الحقائق الثقافية – سواء أكانت فنا رفيعا أو ترانا شعبيا – تبدو أحيانا حقائق ذات قدسية ويتعين حمايتها وتوقيرها. وهكذا ورثت الثقافة الغطاء المهيب للسلطة الدينية. ولكن لها أيضاً انتماءات ونسب ممجوج إلى الاحتلال والغزو.
وُلد مفهوم الثقافة في العلوم الإنسانية الغربية ولادة عسيرة. فلم يكن تحديده مهمة يسيرة، بل صعبة بالغة التعقيد بالنظر إلى الاختلاف الهائل في التعاريف والتصورات الإبستمولوجية التي أحاطت به في مختلف الحقول المعرفية لهذه العلوم. ورغم أنّ هذا المفهوم ظل عصيا ممتنعا على التعريف، بسبب ارتباطه بالإنسان منذ القدم، على اعتبار أنه الحامل للثقافة على مدى التاريخ، فقد شاب عملية تأصيله غياب التوافق حول معناه ودلالته، مما أدى إلى تباين التصورات وتمايُز الأطروحات. ارتحل مفهوم الثقافة إذن عبر الانثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والدراسات الأدبية والفكرية واللسانيات والدراسات الثقافية باحثا عن ماهيته الابستمولوجية، مثيرا نقاشات وسجالات فكرية عميقة وبناءة، امتدت أبعادها وتشابكت داخل كل حقل من الحقول المعرفية للعلوم الإنسانية.
طُرح هذا المفهوم في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وأثارت استخداماته المتعددة نقاشات عميقة في علم الأنثروبولوجيا في العقود الماضية، وهي التي شكلت في الواقع عنصرا مهما في التساؤل حول طبيعة هذا المفهوم وأهميته. يؤمن الباحثون في الأنثروبولوجيا الثقافية بأنّ الثقافة هو المفهوم الأساسي والمحوري في هذا الحقل، على الرغم من غياب التوافق حول معناه ودلالته، مما أدى إلى تباين تصوراتهم بين من يرى أنها سلوك يتعلمه الإنسان ويكتسبه، ومن يعتقد أنها ليست سلوكا البتة، بل هي صورة مجردة للسلوك مهما كان ذلك السلوك، ومن يعتقد بأنّ الثقافة توجد في عقل الإنسان، ومن يرى أنها تتكون من أشياء وأحداث يمكن معاينتها وتلمسها في العالم الخارجي، ومن يعتقد أنها مجرد أفكار، وهذا التصور الأخير قد اختلف رواده بين أطروحتين: الأولى ترى بأنّ هذه الأفكار موجودة في عقول الشعوب المدروسة، والثانية ترى بأنها موجودة في عقول الإثنوغرافيين. ورغم ذلك، كان هناك مستوى كبيرا من التوافق والفهم في استخدام مصطلح الثقافة بين الأنثربولوجيين، فخلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية السنوات الأولى من القرن العشرين تبنى معظم الأنثربولوجيين الثقافيين التصور الذي قدّمه إدوارد بورنيت تايلور عام 1871 في كتابه “الثقافة البدائية” حيث يقول:”الثقافة هي كل مركب يشمل المعرفة والمعتقد والفن والأخلاق والقوانين والعادات وكل القدرات والطبائع التي يكتسبها الإنسان باعتباره فردا من أفراد المجتمع”. لم يتحدث تايلور بشكل صريح في تعريفه هذا عن أنّ الثقافة خاصية إنسانية، لكنه يكتفي بالإشارة إلى ذلك بشكل ضمني عندما يميز التباين العقلي بين الإنسان والحيوان. فالثقافة بالنسبة إليه اسم يدل على كافة الأشياء والأحداث الخاصة بالجنس البشري..
إذن نرى، أن الثقافة كلمة معقدة، وهي بذاتها تمثل نقلة تاريخية إنسانية خالصة من حياة الريف إلى حياة الحضر، ولكن النقلة الدلالية تحمل في طياتها مفارقة: إذ يقال إن سكان الحضر هم المثقفون، بينما سكان الريف ليسوا كذلك. وإزاء هذه الأهمية الاجتماعية والعلمية للثقافة، حاول كثير من العلماء الاجتماعيين منذ القرن الماضي، وما زالوا يحاولون الوصول إلى تعريف أو تحديد لمفهوم الثقافة. وهو أمر ليس باليسير. وهكذا تزخر مؤلفاتهم بعشرات التعريفات لهذا المفهوم. ولعل من أقدم التعريفات للثقافة، وأكثرها ذيوعا حتى الآن لقيمته التاريخية، تعريف إدوارد تايلور الذي قدمه في أواخر القرن التاسع عشر في كتابه عن “الثقافة البدائية” كما ذكرنا. وهكذا يبرز تايلور العناصر اللامادية لحياة الناس في جماعة كالأخلاق والقانون والعرف التي تنشأ نتيجة للتفاعل الاجتماعي، وتأخذ طابعا إلزاميا، إلى جانب العنصر المادي للثقافة، علاوة على العلاقات بين الناس، وبين العناصر المكونة للثقافة. لقد هيمن تصور تايلور لمفهوم الثقافة لعقود في علم الأنثروبولوجيا، واستمر ذلك إلى الخمسينيات من القرن الماضي التي شهدت تعدد التعاريف وتنوع التصورات، وبرز التصور الذي تبناه كثيرون والقائل بأنّ الثقافة هي صورة مجردة للسلوك الإنساني، وهي الخلاصة التي توصل إليها كل من كرويبر وكلاكوهن في بحثهما “الثقافة: مراجعة نقدية للمفاهيم والتعاريف”، إلى جانب بروز التعريف الذي قدمه فيليكس كيسينغ في كتابه “الأنثروبولوجيا الثقافية” بكون الثقافة هي “سلوك نتعلمه وينتقل إلينا اجتماعيا”. ولقد ركزت معظم النقاشات التي تناولت مفهوم الثقافة في الفكر الغربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي على التمييز بين الثقافة والسلوك الإنساني. وحدد أغلب الأنثروبولوجيا ولزمن هذا المفهوم بكونه سلوكا خاصا بالجنس البشري، يُكتسب من خلال التعلّم وينتقل بين الأفراد والمجموعات والأجيال بواسطة آليات الإرث الاجتماعي. ومع نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 20 هيمنت الأنثروبولوجيا على مفهوم الثقافة واحتكرته بشكل قوي، بينما ارتبط هذا المفهوم في علم الاجتماع والعلوم السياسية بالفكر التنظيري للمفكر تالكوت بارسون، أمّا حركة الدراسات الثقافية فقد كانت محصورة في مركز بحث واحد في بيرمنغهام. وخلال الثمانينيات والتسعينيات، برز توجه من الدراسات الفكرية يَدرُس الثقافة ويوسعها إلى باقي الحقول الأكاديمية، ليدخُل هذا المفهوم في اهتمامات عدد هائل من التخصصات الأكاديمية؛ فأصبح محوريا في الدراسات الأدبية، كما أصبح يُعتمد في علم التاريخ على الأنثروبولوجيا في دراسة مفهوم الثقافة، مما أدى إلى بروز “تاريخ اجتماعي جديد” في الستينيات والسبعينيات وعقبه بعد ذلك ظهور “تاريخ ثقافي جديد” في الثمانينيات.
وفي أواخر السبعينيات برز اتجاه “سوسيولوجيا الثقافة” الذي بدأ في تطبيق المناهج السوسيولوجيا في دراسة الثقافة، ولاسيما في مجال الموسيقى والفن والمسرح والأدب. وبمنتصف الثمانينيات برز اتجاه “الدراسات الثقافية” بقوة في مجموعة من الفروع العلمية، على شكل الدراسات السينمائية والأدب ودراسات الأداء والعروض الفنية والتواصل. أما في العلوم السياسية، فقد تجدد الاهتمام بالإشكاليات التي يطرحها مفهوم الثقافة خاصة مع هيمنة الخطاب الديني والقومي والنزعة الإثنية، التي كانت محط اختلاف وصراع سياسي في التاريخ المعاصر. ومن ثمَّ، فإن الخطاب الذي أُنتج حول مفهوم الثقافة أصبح يتخذ طابعا متعدد الأوجه، فلم يعد هذا المفهوم خاصا بالأنثروبولوجيا فقط، على اعتبار أنه الحقل العلمي الذي ابتكر هذا المفهوم أو على الأقل صاغه في شكله الحالي، بل أصبح يدخل في مجالات علمية أخرى متعددة، خاصة وأنّ الأنثروبولوجيا عانت من أزمة كبيرة نتيجة اضطراب أدوات هذا الحقل الابستمولوجيا وخطواته المنهجية وتداعياته السياسية.
لقد تم تطوير ما نعتبره الآن الفهم الكلاسيكي لمصطلح “الثقافة” من قبل علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية على مدى القرن الماضي. يعتبر المفهوم الثقافات ككيانات متجانسة يتم تقاسمها بين الأفراد بطريقة منهجية. وهو مرتبط بأعمال ف. بوواس، وب. مالينوفسكي، وأ. كروبر وطلابهم. سيطر المفهوم على العلوم الاجتماعية الأخرى، بما في ذلك اللغويات وعلم الاجتماع والفلسفة. كانت هناك طريقتان رئيسيتان لفهم مفهوم الثقافة بعد الحرب العالمية الثانية. كانت المجموعة الأولى من العلماء واقعيين، أو ماديين، ما زالوا يعاملون الثقافة كمجموعة من السمات أو كنمط من أنماط الحياة الاجتماعية غير قابلة للفصل عن المجموعات الفعلية من الناس. وكانت المجموعة الثانية مثالية؛ عرّفوا الثقافة من حيث القواعد والأعراف والمعتقدات. كان هؤلاء المثاليون من أتباع العديد من المدارس النظرية المختلفة، مثل الوظيفية والوظيفية البنيوية والبنيوية وعلم الأعراف والأنثروبولوجيا الرمزية. بدأ المثاليون في رؤية الثقافة ككل متناغم بشكل منهجي. كانت هذه الفكرة عن تعدد الثقافات المتجانسة، التي يحتوي كل منها على مجموعة متماسكة ومستقرة من المعتقدات والمعرفة والقيم أو مجموعات الممارسات، هي إتمام للمفهوم النظري للثقافة، والذي يُفهم الآن على أنه نظرية.
هذا التمييز بين الثقافة كفئة نظرية والثقافة كجسم ملموس ومحدود من المعتقدات والممارسات، نادرا ما يتم. يجب أن يكون من الواضح، على سبيل المثال، أن مفهوم روث بنديكت حول الثقافات المختلفة بشكل حاد والمتكاملة للغاية يشير إلى الثقافة بالمعنى الثاني، في حين أن فكرة كلود ليفي ستروس حول أن المعنى الثقافي يتم هيكلته بواسطة أنظمة المعارضة هي ادعاء حول الثقافة بالمعنى الأول. تم تصور الثقافة كفئة من الحياة الاجتماعية بعدة طرق مختلفة. ولنقترب أكثر لنرى مثلا الثقافة المكتسبة: الثقافة في هذا المعنى هي الجسم الكامل للمعتقدات والمؤسسات والعادات والطباع والأساطير وما إلى ذلك التي يبنيها البشر وينقلها من جيل إلى جيل. في هذا الاستخدام، تقابل الثقافة الطبيعة: امتلاكها هو ما يميزنا عن الحيوانات الأخرى. عندما كان علماء الأنثروبولوجيا يكافحون لإثبات أن الاختلافات بين المجتمعات لا تستند إلى الاختلافات البيولوجية بين سكانها – أي على العرق – كان تعريف الثقافة كسلوك مكتسب منطقيًا. ولكن الآن بعد أن اختفت الحجج العرقية عمليًا من الخطاب الأنثروبولوجي، يبدو أن مفهوم الثقافة واسعًا جدًا بهذا الشكل، ولا يوفر أي زاوية أو شراء تحليلي معين لدراسة الحياة الاجتماعية. ظهر مفهوم أضيق وبالتالي أكثر فائدة للثقافة في الأنثروبولوجيا خلال الربع الثاني من القرن العشرين وكان مهيمنا في العلوم الاجتماعية بشكل عام منذ الحرب العالمية الثانية. إنه يعرف الثقافة ليس ككل سلوك مكتسب ولكن كفئة أو جانب من السلوك المكتسب الذي يرتبط بالمعنى. لكن مفهوم الثقافة كمعنى هو في الواقع عائلة من المفاهيم ذات الصلة. يمكن استخدام المعنى لتحديد مجال أو كرة ثقافية بأربعة طرق مختلفة على الأقل، يتم تعريف كل منها على النقيض من المجالات أو الكرات غير الثقافية المفاهيمية بشكل مختلف إلى حد ما.
الثقافة ككل مجال مؤسسي مخصص لصنع المعنى: يعتمد هذا المفهوم من الثقافة على افتراض أن التكوينات الاجتماعية تتكون من مجموعات من المؤسسات المخصصة لأنشطة متخصصة. على سبيل المثال، الفن والموسيقى والمسرح والأزياء والأدب والدين والإعلام والتعليم. دراسة الثقافة، إذا تم تعريف الثقافة بهذه الطريقة، هي دراسة الأنشطة التي تجري داخل هذه الأنشطة المحددة مؤسسيا والمعاني المنتجة فيها. والمشكلة في مثل هذا المفهوم للثقافة هي أنه يركز فقط على نطاق معين من المعاني، يتم إنتاجها في نطاق معين من المواقع المؤسسية – في مؤسسات “ثقافية” واعية بذاتها وعلى أنظمة المعاني التعبيرية والفنية والأدبية. إن استخدام هذا المفهوم إلى حد ما متواطئ مع الفكرة السائدة بأن المعاني ذات أهمية ضئيلة في المجالات المؤسسية “غير الثقافية” الأخرى: أنه في المجالات السياسية أو الاقتصادية، تكون المعاني مجرد زيادات بنيوية فائضة.
أي أن الثقافة مفهوما ولدت من رحم أفكار التنوع التي عمل عليها إدوارد تايلور في القرن التاسع عشر، وعلماء الأنثروبولوجيا عموما. كان تايلور يريد البرهنة على الاستمرارية بين الثقافة البدائية وبين الثقافة الأكثر تقدمًا. وخلافًا لمن قالوا بوجود انقطاع بين الإنسان المتوحش الوثني وبين الإنسان المتحضر التوحيدي، فقد انهمك في البرهنة على الرابط الأساسي الذي كان يوحد الأول بالثاني الذي لم يكن قادراُ على الاقتراب منه إلا لفترة محدودة. وبين البدائيين والمتحضرين لا يوجد فارق من حيث الطبيعة، إنما في درجة التقدم في طريق الثقافة. وناضل تايلور بحماسة ضد النظرية القائلة بانحطاط البدائيين، وهي نظرية مستوحاة من اللاهوتيين الذين عجزوا عن تصور أن الله قد خلق كائنات “متوحشة ” أيضا وقد سمحت هذه النظرية بعدم الاعتراف بأن البدائيين كائنات بشرية مثلها مثل الكائنات الأخرى. وخلافاً لذلك، فهو يرى أن البشر كلهم كانوا كائنات ثقافية تماماً، ولا بد من تقدير مساهمة كل شعب في تقدم الثقافة. وإذا عٌدّ تايلور مخترع المفهوم العلمي للثقافة، فإن بواس هو أول أنثروبولوجي يقوم باستطلاعات ميدانية عبر الملاحظة المباشرة والطويلة للثقافات البدائية. وبهذا المعنى يكون مخترع علم وصف الأجناس البشرية الأثنوجرافيا. ويمكن القول، إن أعمال بواس كلها تشكل محاولة للتفكير في قضية الاختلاف. فهو يعتبر أن الاختلاف الأساسي القائم بين الجماعات البشرية هو اختلاف ثقافي وليس اختلافًا عرقيًّا. وبما أنه درس الأنثروبولوجيا الفيزيائية فقد أولى هذا الفرع اهتمامًا كبيرًا، لكن اهتمامه انصب على تفكيك ما كان يشكل في تلك الفترة مفهومًا رئيسيًا وهو مفهوم “العرق”. وخلافاً لتايلور الذي أخذ عنه تعريفه للثقافة، وضع بواس نصب عينيه هدف دراسة الثقافات وليس الثقافة
يتشعب مصطلح الثقافة في المعنى إلى دوال عديدة، فدال الثقافة في أصله الاشتقاقي “ثقف” يشير إلى دوال الحذق والفطنة والتعلم، ويُطلق مثقف على المُلِم بمجالات متنوعة، ويتم استعمالها ايضاً للإشارة إلى معرفة واهتمامات مشتركة بين مجموعة من الأفراد، ما يضفي عليها طابع الجماعة المؤدلجة، فمصطلح Popular culture مثلاً يشير إلى الاشخاص الذين يدورون في فلك الاهتمامات التي تسببها العولمة وذوبان الثقافات. يمكن التفكير بكتب هاري بوتر أو الاهتمام بفرقة الكي بوب الكورية BTS، ومعرفة لوحة الموناليزا، فتُعتبر هذه الاهتمامات بمثابة منتجات ثقافية يتم انتاجها واستهلاكها. وتدل ايضاً على انماط سلوكية وأخلاقية جمعية، فمصطلح Culture of Honor يُطلق على سكان الولايات الجنوبية للولايات المتحدة للإشارة الى تحفظات اخلاقية مثل عدم الاساءة للآخر، او الحساسية المفرطة تجاه الاساءات الشخصية بشكل يجعلهم يميلون إلى العنف بخلاف سكان الولايات الشمالية.
الثقافة وارتباطها بالإمبريالية
عني الفكر الجمعي الغربي بوجود فروقات انطولوجية بين حضاراتهم والحضارات الاخرى، و”الاخرى” هي تجريدهم من العمليات الفكرية ورؤيتهم كصنف ثان من البشر يحتاج الى التثقيف. وقد درس ادوارد سعيد في كتابه “الثقافة والامبريالية” اعمالا مختارة مثل “قلب الظلام” لجوزيف كونراد، “مانسفيلد بارك” لجين اوستن، مجادلاً ان البلاد المستعمرة تم مناقشتها ليس بأماكن لها حيز تاريخي وشعبي في الوجود، وإنما كواجهة أعمال للشاب الاوروبي الطموح. وعلى الرغم من اختفاء الاستعمار الامبريالي كوجود ملموس، فإننا نجد اليوم بروز إمبريالية أخرى، تستعمل الخطابة والسياسة العالمية كأدوات لها، فنجد سلوكيات معينة توصف بالحضارية، وسلوكيات مقابلة لها توصف بالهمجية. فأصبح الصراع صراعاً ايديولوجياً بالدرجة الاولى يتخفى تحت الشعارات التي تنادي بالليبرالية والتحضر. وقد تطابقت حينا كلمتا الحضارة والثقافة خلال القرن الثامن عشر، حيث كانت تعني عملية عامة للتقدم الفكري والروحي والمادي. ومع نهاية القرن التاسع عشر بدأت الثقافة تخرج عن كونها مرادفًا “للحضارة” لتصبح النقيض، وهذا حدث نادر في التحول الدلالي، وهو تحول له دلالة تاريخية مهمة، أضحت الحضارة ذات دلالة وصفية معيارية جزئية. كما اكتسبت الحضارة أيضاً مفاداً استعماريا لا مناص منه. وكان هذا كفيلاً جداً بأن تتغير مصداقيتها في نظر بعض الليبراليين. ومن ثم برزت الحاجة إلى كلمة أخرى للدلالة على ما ينبغي أن تكون عليه الحياة الاجتماعية بدلاً عن وضعها السابق. واقتبس الألمان كلمة الثقافة الفرنسية لهذا الغرض، وأصبحت الثقافة الاسم الدال على النقد الرومانسي قبل الماركسي للرأسمالية الصناعية في باكر عهدها. وبينما تمثل كلمة الحضارة مصطلحاً اجتماعياً للدلالة على الاعتدال والسلوك المقبول، تمثل كلمة الثقافة وضعا آخر خصب الدلالات ومثقلا بالاحتمالات الروحية والنقدية ونبل المشاعر، وليس بالاطمئنان الممزوج بالبهجة إزاء العالم. وإذا كانت الأولى فرنسية الطابع والصياغة، فإن الثانية ألمانية الطراز والتحديد.
وبقدر ما تبدو الحضارة في واقعها الفعلي أكثر اعتمادا على السلب والحط من أقدار الشعوب بقدر ما تكون الثقافة أكثر التزاماً بموقف نقدي، ونرى النقد الثقافي في حرب مع الحضارة وليس في تكامل معها. وإذا كانت الثقافة قد بدت يوما متحالفة مع التجارة، فإن الاثنين الآن في تنافر مطرد. وعبر عن هذا رايموند ويليامز حين قال: كلمة دلت في السابق على عملية تدرب داخل مجتمع واثق بنفسه، ثم أصبحت في القرن التاسع عشر بؤرة استجابة عميقة الدلالة إزاء مجتمع يعاني مخاض تحول جذري أليم. ومن ثم، فإن أحد أسباب ظهور الثقافة هو واقع أن “الحضارة” بدأ جرسها يبدو أقل فأقل استساغة كمصطلح قيمي. ولهذا شهدت نهاية القرن التاسع عشر تشاؤمًا ثقافيًا متزايدًا. ولعل أهم وثيقة دالة على هذا كتاب أوزوالد شبنجار أقول الغرب. ويجد هذا الوضع صداه في أدنى صوره الإنجليزية في كتاب من تأليف إن أر. ليفيز، والذي اختار له عنواناً ذا دلالة مهمة وهو حضارة الأكثرية وثقافة الأقلية. وغنى عن البيان أن الربط بين الاثنين في العنوان يكشف عن مقابلة صارخة. ولد مفهوم الثقافة في قلب التنوير، ثم أصابته الآن وحشية أوديبية ضد السلف. كانت الحضارة مجردة مغتربة مجزأة، ميكانيكية نفعية عبداً لإيمان شديد بالتقدم المادي، وكانت الثقافة شمولية عضوية، حسية، ذاتية للغاية، حافظة للذاكرة. ولهذا فإن الصراع بين الثقافة والحضارة يعود إلى نزاع بلغ أوجه بين التقليد والحداثة. بيد أن هذا النزاع كان أيضاً، وإلى حد ما، حربًا كلامية. إن مجتمعًا ماديًا بشكل فاضح سوف يرى العناصر الساخطة التي ستدمره، ولكن الثقافة إذ تهذب وتصقل هؤلاء المتمردين ستجد نفسها الملاذ لإنقاذ الحضارة التي شعرت إزاءها بالازدراء. وإذا كانت الصلات بين المفهومين قد تعارضت وتناقضت على نحو سيئ للغاية، إلا أن الحضارة كانت في مجملها برجوازية، بينما كانت الثقافة لكل من الصفوة والعامة معا.
وإذا كانت كلمة الثقافة نصًا تاريخيًا وفلسفيًا، فإنها أيضًا موقع نزاع سياسي. وعلى الرغم من أن الثقافة كلمة رائجة على لسان ما بعد الحداثة، إلا أن أهم مصادرها لا تزال قبل حداثية. وتبدأ الثقافة كفكرة تكون ذات أهمية عند أربعة مواضع للأزمة التاريخية: عندما تصبح البديل الوحيد الظاهر عن مجتمع متحلل؛ وعندما يبدو أنه بدون تغير اجتماعي أصيل وعميق لن تكون الثقافة بمعنى الفنون والحياة المرهفة أمراً ممكن الوجود وعندما تهيئ شروط التحرر السياسي الذي تلتمسه جماعة أو يسعى إليه شعب من الشعوب وأخيراً عندما تضطر قوة إمبريالية إلى التوافق مكرهة مع أسلوب حياة من أخضعتهم لسلطانها. ولعل الاثنين الأخيرين من بين الأربعة هما اللذان وضعاً الفكرة بحسم ضمن جدول أعمال القرن العشرين. ونحن مدينون إلى حد كبير بفكرتنا الحديثة عن الثقافة للنزعتين الوطنية والاستعمارية، بالإضافة إلى تنامي الأنثروبولوجيا في خدمة القوة الإمبريالية. وجدير بالملاحظة أنه عند هذه اللحظة التاريخية تقريباً أضفى ظهور الثقافة الجماهيرية في الغرب على مفهوم الثقافة طابع الضرورة الملحة. والمعروف أنه على أيدي القوميين الرومانسيين من أمثال هردر ونيتشه ظهرت لأول مرة فكرة ثقافة عرقية مميزة تحظى بحقوق سياسية بفضل هذه الخاصية القومية لا غير. وأكد هؤلاء أيضاً أن الثقافة حيوية للنزعة القومية، بمعنى أن لم يعد لازما أن نقول صراع طبي، أو حقوق مدنية أو إغاثة من مجاعة. ذلك أن النزعة القومية، حسب منظور معين، هي ما يكيف الروابط البدائية لتتلاءم مع التعقيدات الحديثة. وحيث أن الأمة قبل الحديثة تفسح مكانها للدولة – الأمة الحديثة، فإن هيكل الأدوار التقليدية يصبح عاجزا عن الحفاظ على تماسك المجتمع. وهنا تنبري الثقافة بمعنى اللغة المشتركة، والوراثة، والنظام التعليمي، والقيم المشتركة، وما شابهه، وتكون المبدأ الأساسي للوحدة الاجتماعية. أو يمكن القول، تبرز الثقافة وتكون لها السيادة الفكرية عندما تصبح قوة مدعومة سياسيا..
وبدأ المعنى الأنثروبولوجي للثقافة كأسلوب فريد في الحياة يسود لأول مرة مع التوسع الاستعماري في القرن التاسع عشر. والمقصود هنا من أسلوب الحياة هو عادة أسلوب غير المتحضرين. وكما رأينا فإن الثقافة بمعنى الكياسة واللطف هي نقيض البربرية. ولكن الثقافة كأسلوب حياة يمكن أن تتطابق معها. ويعتبر هردر حسبما بری چیوفرى هارتمان، أول من استخدم كلمة ثقافة بالمعنى الحديث الثقافة الهوية: أسلوب حياة للمعاشرة الاجتماعية والشعبي والتقليدي، ويتميز بخاصية تطول كل شيء، وتجعل المرء يشعر من خلالها وبها أنه متأصل ضارب بجذوره في موطنه. والثقافة بإيجاز هى الشعب الآخر. وإذا كانت الأنثروبولوجيا تحدد النقطة التي بدأ عندها الغرب في تحويل المجتمعات الأخرى إلى موضوعات مشروعة للدراسة، إلا أن البادرة الحقيقية الدالة على وجود أزمة سياسية تتمثل عندما شعر بالحاجة إلى أن يفعل هذه الدراسة لذاتها. ذلك لأنه يوجد داخل المجتمعات الغربية أيضًا همج، مخلوقات مبهمة ونصف مفهومة تُحكّم انفعالات شرسة، ومستسلمين لسلوك نزاع إلى التمرد. وهؤلاء أيضاً سيكونون بحاجة إلى أن يصبحوا موضعا لمعرفة نسقية ومنضبطة.
هكذا تطورت الصيغة الرومانسية عن الثقافة مع الزمن وتحولت إلى صيغة توصف بالعلمية. ولكن ظلت هناك على الرغم من هذا روابط نسب. وهكذا فإن الصيغة الأولى التي أضفت صورة مثالية على الثقافات فرعية، ظلت على درجة من الحيوية ثانوية في أعماق مجتمعها هي أنها يمكن تحويلها في سهولة كبيرة إلى تلك الأنماط البدائية من البشر الذين يعيشون خارج البلاد لا في داخلها. إن كلا من الشعب والبدائيين هم رواسب الماضي داخل الحاضر، كيانات عتيقة ذات ظرف وجاذبية، يبرزون إلى السطح على نحو غير متوقع، شأن كثير من الانحرافات الوقتية التي يعرفها عصرنا. وهكذا استطاعت النزعة العضوية الرومانسية أن تعيد صوغ نفسها في صورة نزعة وظيفية أنثروبولوجية، مدركة أن هذه الثقافات البدائية متسقة منطقيا وغير متناقضة. وجدير بالملاحظة أن كلمة “كل في عبارة أسلوب حياة كلى أو جامع شامل، إنما هي كلمة تتأرجح في غموض بين الحقيقة الواقعية والقيمة، وتعنى صورة حياة يمكن أن تدركها على المسرح لأنك تقف خارجها، ولكنها أيضا صورة موحدة تفتقر إلى صورتك. وهكذا تضع الثقافة أسلوبك اللاأدرى والذرى في الحياة موضوعا للحكم عليه، ولكن على مبعدة كبيرة بالمعنى الحرفي تماما.
الثقافة إذن المظهر اللاواعي لوجه الحياة المتحضرة، المعتقدات والنزعات المسلم بها، والتي يجب أن يكون حضورها غائماً بالنسبة لنا حتى نستطيع أن نشرع في العمل. إنها ما يأتي طبيعيًا، وتسري في النخاع، ولا يدركها المخ عن وعى بها. ومن ثم لا غرابة إذ صادف المفهوم مكانة مهمة في دراسة المجتمعات البدائية، الأمر الذي هيأ للأنثروبولوجيين الوسيلة للتفكير فى أساطيرهم وطقوسهم ومنظومات القرابة وتقاليد وتراث السلف عندهم. إنها نوع من رؤى القانون (العرف العام الإنجليزي، ومجلس اللوردات عند جزيرة بحر الجنوب أو المحيط الهادي الذى يعيش في يوتوبيا الفيلسوف الإنجليزي إدموند بيرك حيث الغريزة والأعراف والتقوى وقانون السلف تعمل جميعها ذاتيا دون تدخل طفيلي من جانب العقل التحليلي. وهكذا أصبح للعقل الهمجي” أهمية خاصة للحداثة الثقافية حيث يمكن أن نجد فيه نقداً وهميا لعقلانية التنوير ابتداء من عبادات الخصوبة عند تي. إس. إليوت وحتى شعائر الربيع لسترافينسكي.
الثقافة إعادة إنتاج مفاهيمي
من العسير مقاومة نتيجة مفادها أن كلمة ثقافة عامة شديدة العمومية، ومحدودة شديدة المحدودية، بحيث لا نفيد بها فائدة كبيرة. إن معناها الأنثروبولوجي يشمل كل شيء ابتداء من أسلوب تسريحة الشعر وعادات الشرب، وصولا إلى الكيفية التي نخاطب بها ابن عم الزوج، بينما المعنى الجمالي للكلمة يتضمن إيجور سترافنسكي وليس الخيال العلمي. ونعرف أن أدب الخيال العلمي خاص بثقافة الجماهير أو الثقافة الشعبية، وهذه فئة تتأرجح على نحو غامض بين ما هو أنثروبولوجي و ما هو جمالي. وعلى العكس من هذا يمكن للمرء أن يرى المعنى الجمالي شديد الغموض والمعنى الأنثروبولوجي مقيدا للغاية. وجدير بالذكر أن المعنى الذي قال به أرنولد عن الثقافة بأنها الكمال والحلاوة والنور، أو أجمل ما نفكر فيه وما نقوله نرى الشيء كما هو في واقعه. ويمكن تلخيص الثقافة في عبارة فضفاضة، بالقول إنها مركب القيم والأعراف والمعتقدات والممارسات التي تؤلف أسلوب حياة جماعة بعينها. وإن هذا الكل المركب حسب الصياغة الشهيرة لعالم الأنثروبولوجيا إي. بي. تايلور في كتابه الثقافة البدائية، الذي يتضمن المعارف والمعتقدات والفنون والقوانين والأعراف وأي قدرات وعادات أخرى اكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع. ولكن أي قدرات أخرى فهي منفتحة العقل على نحو أخرق وهنا يتطابق الثقافي والاجتماعي. وبهذا تكون الثقافة كل شيء قابل للانتقال عن غير طريق الجينات. إنها كما قال عالم اجتماع الإيمان بأن البشر هم ما يتعلمونه. ويقدم لنا ستيوارت هول رؤية مماثلة عن الثقافة بأنها “الممارسات المعيشة” أو الأيديولوجيات العملية التي يتمكن بفضلها مجتمع أو جماعة أو فئة من أن يكتشف ويحدد ويؤول ويفهم ظروف وشروط وجوده.
والملاحظ في الوقت الحالي، أن الصراع بين المعنيين الأرحب والأضيق للثقافة اتخذ صورة تنطوي على مفارقة واضحة. والذي حدث هو أن فكرة محلية محدودة عن الثقافة بدأت تنتشر عالميا. وهذا هو ما أوضحه هارتمان في كتابه مسألة الثقافة المصيرية. يقول لدينا الآن ثقافة الكاميرا وثقافة البندقية، وثقافة الخدمة، وثقافة المتاحف، وثقافة الصمم، وثقافة كرة القدم ثقافة التبعية والتواكل، وثقافة الألم، وثقافة النسيان. وإن عبارة “ثقافة المقهى لا تعنى فقط أن الناس يزورون المقاهي، بل وأيضًا أن بعض الناس يرتادونها كأسلوب حياة، وهو ما لا يفعلونه افتراضاً في حال زياراتهم لأطباء الأسنان. ولهذا فإن الناس الذين ينتمون لمكان واحد أو لمهنة أو لجيل واحد لا يشكلون ثقافة. إنهم يشكلون ثقافة فقط عندما يشاركوا في عادات الحديث والحكايات الفولكلورية وأساليب أداء العمل، وأطر القيم وتكون صورة ذاتية جمعية. وسوف يبدو غريبا أن القول إن ثلاثة أشخاص يمثلون ثقافة، على عكس الحال بالنسبة لثلاثمائة أو ثلاثة ملايين شخص.
وإذا كانت الثقافة يوما فكرة شديدة الرفعة والنقاء، فإنها الآن مصطلح مترهل يكاد يسع كل شيء ولا يدع إلا أقل الأشياء. ولكنه في الوقت نفسه تخصص على نحو مفرط بحيث يعكس تشظي حياتنا الحديثة بدلا من التماس سبيل لإصلاحها على نحو ما كان الحال مع المفهوم الكلاسيكي للثقافة. وكما هو خطر الزعم بأن فكرة الثقافة تواجه الآن أزمة، إذ منذ متى لم تكن هكذا؟ إن الثقافة والأزمة قرينان دائما، ومع هذا واجه المفهوم تغيرًا حاسمًا. إذ أنه منذ ستينيات القرن العشرين دارت كلمة الثقافة حول محورها لتعنى العكس تماماً. إنها الآن تعنى تأكيد هوية محددة – قومية جنسية إقليمية – وليس التعالي لها. وحيث أن هذه الهويات جميعا ترى نفسها مقموعة، فإن ما كان يعتبر في الماضي مجالاً لتوافق الآراء، تحول إلى أرض صراع. وانتقلت الثقافة بإيجاز من كونها جزءاً من كل إلى كونها جزءًا من المشكلة. لم تعد وسيلة لحسم صراع سياسي، أو بعداً سامياً، أو عميقا يمكن أن نتلاقى فيه مع بعضنا كبشر رفاق منزهين، وإنما العكس إنها جزء من نفس قاموس الصراع السياسي. يقول إدوارد سعيد نأت الثقافة عن كونها مملكة السكينة للنبالة الأبولونية، لتصبح أو تكاد ساحة القتال تكشف فيها القضايا الخلافية عن نفسها في وضح النهار وتتصارع معًا. وإذا تأملنا الصور الثلاثة للسياسة الراديكالية التي هيمنت على جدول أعمال الكوكب على مدى العقود القليلة الماضية – القومية الثورية، والحركة النسائية، والصراع العرقي – نجد الثقافة من حيث العلاقة، والصورة والمعنى والقيمة والهوية والتضامن والتعبير عن الذات هي العملة الوحيدة للامتثال السياسي وليس بديلها الأوليمبى أي المتعالي عن الصغائر. لم تكن الثقافة في البوسنة أو فى بلفاست هي ما تسجله على شريط الكاسيت، إنها ما تقتل من أجله، وإن ما فقدته الثقافة من السمو والنبالة استعاضت عنه تطبيقا عمليا. ولا شيء في مثل هذه الظروف أكثر زيفاً بالنسبة للخير والشر من اتهام الثقافة بأنها مترفعة عن الحياة اليومية.
وهناك أخيراً حلقة ربط أخرى بين الثقافة والسلطة. ليس بإمكان أية سلطة سياسية أن تبقى بصورة مرضية عن طريق القسر الفاضح. إذ ستفقد الكثير جدا من مصداقيتها الأيديولوجية، ويثبت ضعفها الخطير في وقت الأزمات. ولكنها لكي تضمن رضا من تحكمهم تكون بحاجة لأن تعرفهم على نحو أوثق مما هو الحال، باعتبارهم رسوما أو إحصاءات بيانية. وحيث أن السلطة الحقة تتضمن استدخال القانون في النفوس لذلك فإن ما تلتمسه السلطة هو أن تترك بصمتها هي على الذاتية البشرية نفسها في كل ما يبدو في ظاهره حرية وخصوصية لها. ولكي تنجح في حكمها يتعين عليها أن تفهم النساء والرجال في ضوء خبايا نفوسهم وما يرغبون فيه، وما ينفرون منه، وليس فقط عاداتهم في الاقتراع أو تطلعاتهم الاجتماعية. إنها إذا شاءت أن تنظمهم من الداخل فيجب عليها أيضا أن تتخيلهم من داخل. وليست هناك من صور المعرفة ما هو أبرع من الثقافة الفنية لرسم خارطة مكنون الفؤاد بكل ما فيه من تعقيدات. ولهذا أصبحت الرواية الواقعية على مدى القرن التاسع عشر مصدراً للمعرفة الاجتماعية وأكثر نبضا بالحياة بما لا يقارن بعلم الاجتماع الوصفي. وإن الثقافة العالمية ليست شيئًا من قبيل تآمر الطبقة الحاكمة، وإذا حدث أحيانا وأنجزت هذه الوظيفة المعرفية فإن بإمكانها أيضًا أن تفسدها في أحيان أخرى.
حروب الثقافة
عبارة حروب الثقافة توحى بنشوب معارك ضارية بين الشعبيين والنخبويين. ولكن الصدام بين الثقافة العليا والثقافة المحلية لم يعد مجرد معركة تعريفات كلامية أو صراعاً كوكبيًا. إنه مسألة سياسة فعلية وليس مجرد مسائل أكاديمية. إنها جزء من صيغة سياسات العالم في الحقبة الألفية الجديدة. ولذلك فإن حروب الثقافة التي تعنينا تتعلق بقضايا مثل التطهير العرقي، وليست الجدارة النسبية لكل من راسين والأوبرات العاطفية. فقد تكوَّنَتْ ثقافات العالم المهمة — بما فيها الأمم، واللغات، والحركات الفلسفية والفنية، والتقاليد الاجتماعية، والأديان — على نحوٍ تراكميٍّ على مدار مئات بل آلاف الأعوام. تملك أغلب الأفكار المعرِّفة لهذه الثقافات — بما فيها الأفكار غير الصريحة — تاريخًا طويلًا من التناقل من شخصٍ لآخَر. لكن الثقافات تتغيَّر؛ إذ يُعدِّل الناسُ الأفكارَ الثقافية في أذهانهم، وأحيانًا ما يتناقلون تلك النُّسَخَ المعدَّلة، فلا مناص من حدوث بعض التعديلات بغير عمدٍ كذلك، يقع بعضها نتيجةً للخطأ الصريح، وبعضها لصعوبة توصيل الأفكار غير الصريحة على نحوٍ دقيق؛ فما من سبيلٍ لنقلها مباشَرةً من عقلٍ لآخَر كمثل برامج الكمبيوتر. إن تعريفات المتحدثين الأصليين لنفس اللغة للكلمة الواحدة تتباين، لذا لا تجد شخصين لديهما نفس الفكرة الثقافية بالضبط في عقلَيْهما إلا نادرًا. ولهذا السبب بمجرد أن يموت مؤسِّس حركةٍ سياسيةٍ أو فلسفية، أو دين، أو حتى قبل ذلك، يقع الشقاق بين التابعين. كثيرًا ما يُصدَم أصدق معتنقي الحركة لاكتشاف الاختلاف فيما بينهم حول الماهية «الحقيقية» لعقائدها، ولا يختلف الأمر كثيرًا حين يكون للدين كتابٌ مقدس تُذكَر فيه العقائد بوضوح؛ فحينئذٍ تنشب الخلافات حول معاني الكلمات فيه، وتأويل الجمل.
وعلى هذا، فالثقافة لا تُعرَّف عمليًّا على أنها مجموعة من الميمات التامة التماثل، بل على أنها مجموعة من التنويعات التي تُنتج سلوكياتٍ أساسيةً يختلف بعضها قليلًا عن بعض. تميل بعض التنويعات إلى التأثير على معتنقيها بتنفيذها أو الحديث عنها أكثر من غيرها، في حين أن البعض الآخَر يقل تأثيره في هذا النطاق، هذا بالإضافة إلى أن بعضها أسهل في النسخ إلى أذهان متلقيه المحتملين من غيره. تؤثر هذه العوامل مع غيرها على مدى إمكانية تناقُل كل تنويعٍ من أحد الميمات على نحوٍ دقيق، غير أن بعض التنويعات الاستثنائية تميل — بمجرد أن تبزغ في عقل واحد — إلى أن تنتشر في الثقافة برُمَّتها دون تغييرٍ يُذكَر في معناها (كما يتبيَّن من السلوكيات التي تنجم عنها). مثل هذه الميمات مألوف لنا؛ إذ تتكوَّن منها الثقافات الطويلة العمر، ولكنها مع ذلك أنواع فذَّة من الأفكار؛ فأكثر الأفكار قصيرُ العمر. يفاضل العقل البشري بين أفكارٍ عدةٍ قبل أن ينتقيَ أيَّ فكرةٍ يتصرَّف بناءً عليها، وتُنتج نسبةٌ ضئيلةٌ من هذه الأفكار المنتقاة سلوكًا يلاحظه الآخَرون، ولا ينسخ الآخَرون إلى عقولهم من هذه الأخيرة إلا نسبةً ضئيلة؛ وبذلك تختفي الأغلبية العظمى من الأفكار في عمرٍ واحدٍ أو أقل؛ ومن ثَمَّ يتحدَّد جزءٌ من سلوك الأشخاص في الثقافات الطويلة الأمد جزئيًّا بواسطة الأفكار الحديثة التي لن تلبث أن تزول، وجزئيًّا بواسطة الميمات «الطويلة الأمد»؛ أيِ الأفكار الاستثنائية التي نُسِخت بدقةٍ لمراتٍ عديدةٍ متلاحقة.
تبلغ فكرة تطوُّر الثقافات من القِدَم على الأقل ما لفكرة التطوُّر من القِدَم في علم البيولوجيا، ولكن أغلب محاولات فهم كيفية تطوُّرِها بُنِيت على فهمٍ خاطئٍ للتطوُّر. اعتقد المفكِّر الشيوعي كارل ماركس مثلًا أن نظريته عن التاريخ كانت نظريةً تطوريةً لأنها تحدَّثت عن ارتقاءٍ عبر المراحل التاريخية حدَّدته «قوانينُ الحركة» الاقتصادية، لكن نظرية التطوُّر الحقيقية لا علاقةَ لها بالتنبُّؤِ بسمات الكائنات الحية من خلال سمات أسلافها. اعتقد ماركس أيضًا أن نظرية داروين عن التطوُّر «تقدِّم أساسًا في العلوم الطبيعية لصراع الطبقات التاريخي»؛ إذ كان يقارن بين فكرته عن الصراع المتأصِّل بين الطبقات الاجتماعية الاقتصادية وبين المنافسة المفترضة بين الأنواع البيولوجية. ولقد استَخدمَتْ بالمثل الأيديولوجياتُ الفاشية كالنازية أفكارًا تطوريةً محرَّفةً أو غير دقيقةٍ مثل «البقاء للأقوى»، وذلك من أجل تبرير العنف؛ على أن المنافسة في التطوُّر البيولوجي في حقيقة الأمر ليست بين الأنواع، بل بين «تنويعات جينية في النوع الواحد»، وهو ما لا يجسِّد ذلك «الصراعَ الطبقي» المزعوم بالمرة. «بإمكان» هذه أن تُثير العنفَ أو غيره من صور التنافس بين الأنواع، ولكن بإمكانها أيضًا أن تؤدِّيَ إلى التعاون (مثل التعايش بين الزهور والحشرات)، وكلِّ درجات الخليط المعقدة بين هذا وذاك.
وللمزيد يمكن الرجوع إلى:
تيري إيجلتون: فكرة الثقافة، ترجمة شوقي جلال، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٥
عادل القريب: ما الثقافة
https://www.mominoun.com/articles/ما-الثقافة-8878
البشير معاد: أزمة مفهوم الثقافة في العلوم الإنسانية الغربية.
ميكل تومبسون وآخرون: نظرية الثقافة، ترجمة علي سيد الصاوي، مراجعة الفاروق علي يونس، عالم المعرفة ع ٢٢٣، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ١٩٩٧
https://journals.sagepub.com/eprint/cfv3vzFaMqQAVuhCYUP8/full
ديفيد دويتش: بداية اللانهاية تفسيرات تغير وجه العالم، ترجمة دينا أحمد مصطفى، مراجعة مصطفى محمد فؤاد، هنداوي للنشر