![](https://i0.wp.com/www.atoonra.com/wp-content/uploads/2024/09/430-3خ4.jpeg?resize=750%2C375&ssl=1)
مقدمة
لقد أثبتت الحياة لآلاف المرات أن قضايا المراة في الشرق الأوسط لا تقل في أهميتها عن قضايا مصيرية مهمة كتطور العلم لدى كافة الأمم والشعوب، ورغم أن لتطور العلم ثمن؛ فلا يجب أن يكون ذلك الثمن هو التخلي عن الأخلاقيات ونزاهة الأساليب المستخدمة في دعم ذلك التطور، فالغاية لا تبرر الوسيلة مهما بلغت قيمتها؛ حتى وإن كانت هي الداعمة للنظريات المُنتجة للمعرفة العلمية المتجددة.
فإذا تناولنا في الإطار السابق قضايا المرأة الشرق أوسطية تناولًا نزيهًا لا غلو فيه ولا شطط؛ سوف نجد أن قضايا تلك المرأة قد تحولت من مجرد الإشكاليات الحقوقية إلى أن أصبحت قضايا تحرُر حقيقية؛ فالظلم الذي اتسع مداه وصار مُقيدًا لحريتها قد وصل إلى درجة قتلها حسيًا ومعنويًا بصورةٍ لا كابح لها، وهنا لا بد لنا من وقفةٍ ثابتةٍ لا ننحني فيها لرياح العنت والتشدد الذي فرضته وقائع زائفة؛ صارت راسخةً في مجتمعاتنا رسوخ الجبال.
لم تعد التصفية للمرأة الشرق أوسطية تصفية جسدية فحسب؛ بل وصلت إلى حد قهرها معنويًا لتُحرم من حقها في ممارسة إنسانيتها في كافة مناحي الحياة، ولكي نُعيد تأهيلها لتساهم في تنشئة أبنائها، وخدمة وطنها ومجتمعها في شتى المجالات، فعلينا أن نخوض حربًا على كل من ساهم في اغتصابها بدنيًا وروحانيًا واجتماعيًا وإنسانيًا.
فهل نحن بصدد الولوج في حرب أهلية شاملة من أجل حقوق المرأة؟ أم هي ثورة على كل ما اعتنقناه من أفكار ومعتقدات باتت لها بيننا قناعة اعتناق الأديان !
فإذا تناولناها كحربٍ أهلية فماذا سيكون وقعها على المجتمع وعلى الأُسر وعلى الأبناء؟ وإذا تناولناها كثورة؛ فإن الثورة في أبسط تعريف لها؛ تعني مسارات التقدم والتطور الاجتماعي والثقافي والعلمي، فكيف يكون هناك مجال لكل ذلك إذا ظلت المرأة موؤدة في حُفر الماضي السحيق، بعد أن حُرمت من حقوقها في المساواة العادلة مع الطرف الآخر في التعليم، وحرية الرأي، وطرح الفكر والمشاركة المجتمعية البناءة –فعلًا وتطبيقًا -، كيف ذلك وقد تطور الأمر إلى منعها من حق الحياة الإنسانية العادلة.
إن الأمر قد بات جللًا، ولا يقل خطورة عن وضع الاستعمار الروحي والنفسي والاستعباد والظلم للمرأة في مجتمعٍ لا يأبه إلا للذكورة بمختلف معانيها وانعكاساتها التسلطية على الجنس الأنثوي المضطهد.
عجبًا ! كيف أصبحت المرأة التي تُمثل الأُم، والأُخت، والزوجة، والإبنة، هي الجبهة المُعادية التي يشن عليها الرجال حربًا شاملة، تُطال كل شيءٍ في شخصيتها وحياتها، بل إنسانيتها.
المرأة والتفرقة العنصرية بالمجتمعات الشرقية
لا يوجد اليوم في كل بُلدان الدنيا من يعاني تفرقة عنصرية تُمارس على المرأة، مثلما نراه في مجتمعاتنا الشرقية، ولكنها تفرقة قد غُلِّفت بمعاني الحماية والحِفاظ عليها، تَفرقة تحت مُسمى أنهن الجِنس الأضعف، والأقل قُدرة على ممارسات الحياة؛ فالمجتمع الذُكوري بلا جدال قد رصد جهوده طوال السنوات الماضية في ترسيخ تلك المفاهيم وبثها عبر الأجيال؛ فالأنثى في مفهومه – أو ما يبتغي أن يُشكِل به وجدان الأجيال القادمة – هي الكائن الذي يجب السيطرة عليه؛ لعدم قدرته على مجاراة تغييرات الحياة الشاملة، ولا يُصرحُون في ذلك بمعنى الاضطهاد للمرأة أو النيل من حُرياتها؛ بل يُخضِعُون ذلك بوسائلهم التحايلية لمعنى رعاية الأنثى والحفاظ عليها؛ لكونها تُمثل العنصر الأساسي في الأسرة كأداة لتربية النشء، ورعاية الزوج، والسعي لتحقيق الراحة لأفراد أسرتها، وفي حقيقة الأمر يسلبونها حرياتها وحقوقها شيئًا فشيئًا؛ حتى صارت تلك المعتقدات لدى العديد من النساء هي مبادئ حياتهن.
لقد وصل اضطهاد المرأة في بعض بلدان الشرق الأوسط إلى حد جعل المرأة إما أن تقبل بالخضوع طوعًا أو أن تُنهي حياتها، وقد ظهر ذلك في أحاديث لنساءٍ تمكنَّ من الهروب إلى خارج بلادهن، وأُجريت معهن لقاءات وأحاديث في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، لقد قُفلت في وجوه النساء المدارس والجامعات وأبواب العمل في بلدان عديدة؛ لأنهم يرون في المرأة عدوًا لهم، ولهذا شنوا عليها حربًا تجاوزت حدود الإرهاب، هذا إن لم تصل إلى حد الإبادة.
إن النساء المنكوبات بالاضطهاد الذكوري يعشن معاناة مزدوجة، فهن أمهات وزوجات وفتيات تمزق ما بقي منهن، فما بين مطرقة الذكورة وسندان الحياة القاتمة تعاني المرأة التي خُلقت لتكون هي والحياة وجهان لعملة واحدة، فكيف يتطور الأمر لتلك الصورة القاتمة؛ رغم أنه لا فرق بين المرأة والأرض التي يعيش عليها البشر؛ فالأرض تُعطي النماء والخُضرة والحياة، والمرأة تهبُ الحياة، وتحتضن البشرية بعاطفتها وطبيعتها المِعطاءة.
المرأة والطبيعة وبدايات الحياة
هناك العديد من الدلائل التي أكدت أن المرأة منذ بدء الخليقة كانت هي النواة التي تتمحور حولها القضايا المجتمعية، فكونها الأم المسؤولة عن الأسرة وحماية الأطفال وتغذيتهم وتنشئتهم؛ فقد طوعتها تلك الطبيعة للإبداع والتفكير الدائم بشكل متجدد؛ بل وبثت فيها تلك الطبيعة ذكاءً عاطفيًا فطريًا أدى بها إلى القدرة على تحليل الأمور بشكل صائب، حيث تشكلت نواة المجتمع البشري، وكانت الطبيعة البشرية ما زالت في طور النقاء.
وتعد العصور البدائية عصورًا ذهبيةً للمرأة عامةً وللزوجة خاصةً، إذ كانت هذه الأخيرة عصب العائلة وعضد الكيان الاجتماعي الأول، فينتسبُ إليها الإبن، ولها مرتبة تساوي مرتبة الرجل، وكانت مكانتها تُحترم من طرف البنية الأُسرية الأولى المتمثلة في العائلة، ثم انسحب ذلك على المؤسسة واسعة النطاق؛ حيث حظيت المرأة بالتقديس؛ لأنها السبب في استمرارية البشرية، فقد أدرك الإنسان القديم أن مكمن القوة هو المرأة؛ فسعى منذ فجر التاريخ إلى ترسيخ فكرة تأليه الأنثى؛ فهي التي تُنجب الأطفال وترعاهم وتوفر لهم احتياجاتهم الإنسانية والطبيعية، بل وهي التي شكلت روح القبائلية، والقواعد الأخلاقية للأسرة، والعلاقات الإنسانية، ونظمت مُعطيات الحياة اليومية، وفترات العمل والراحة، وفترات الترفيه، والقيام بالعبادات والطقوس الروحانية، وساهمت بإيجابيتها في وضع ما سُمي بعد ذلك بالتقاليد والأعراف، وكانت المسؤولة عن صحة الزوج والأبناء؛ فاكتشفت أهمية الزروع والنباتات، وكيفية استخدامها في التطبيب والعلاج، بعد تجارب عديدة مارستها، فخففت من مصاعب الحياة ومعاناتها على أسرتها وقبيلتها، وأضفت قدسية على العلاقة الأسرية والقبلية، وكانت ترى نفسها جزءً من الطبيعة، ويراها الجميع بفطرتهم “سيدة الطبيعة”.
ولم تكن الرغبة في السيطرة الذكورية قد وُلدت بعد؛ لذا ظهرت فكرة الآلهة الأم، التي تعود إليها كل معاني الأشياء، فصارت فكرة الأمومة، أوالأم، سائدة في كل شئ؛ فالطبيعة هي الأم، والحرية السائدة في المجتمع هي أم العلوم جميعُها، وهي قوة البناء الأساسية للمجتمع، وتشكلت حولها الأخلاق الاجتماعية؛ فعاشت الأنثى أوج مجدها ورونقها الفطري الطبيعي والاجتماعي، وعاشت البشرية في ظل نظام متكامل ينعم بالاستقرار في ظل الأمهات.
المرأة والصراع الذكوري في الحضارات القديمة
ظلت المرأة على مكانتها تتربع على عرش الطبيعة منذ فجر التاريخ، وقد نُسجت حول تلك المكانة الراقية العديد من القصص والأساطير؛ التي وصلت إلينا عبر الحضارات والديانات المختلفة؛ فمنها ما يؤكد أنها قد نالت حقوقها كاملة وازدهرت الحياة بازدهارها وحملها للمسؤولية الأسرية؛ عندما كان الرجل لا يعبأ بذكوريته بقدر ما يهتم بأسرته ومجتمعه.
وﻴﺸﻬﺩ ﺍﻟﺘﺎﺭﻴﺦ ﺃنه لم يكن ﻟﻠﻤﺭﺃﺓ ﺘﺎﺭﻴﺦ ﻤﻨﻔﺼل ﻋﻥ ﺍﻟﺭﺠل، ﺒل ﺃﻨﻬﻤﺎ ﺼﺎﻨﻌﺎ التاريخ المشترك، ﻭلهذا كانت ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﺠﺯﺀً ﻻ ﻴﺘﺠﺯﺃ ﻋﻥ ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ بأكمله، قد التحمت معركتها ﻤـﻊ ﻤﻌﺭﻜـﺔ ﺘﺤﺭﻴـﺭ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﺍﻹﻨﺴﺎﻥ، ﻭ ﺘﺴﺨﻴﺭ ﺍﻟﻤﻭﺍﺭﺩ ﺘﺴﺨﻴﺭًﺍ ﻴﺤﻘﻕ ﺍﻟﺭﻓﺎﻫﻴﺔ ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ، ﺭﺠﺎلًا ﻭ ﻨﺴﺎﺀً؛ ﻤﻥ ﺨﻼل ﻤﺸـﺎﺭﻜﺘﻬﻡ ﺍﻟﻔﻌﺎﻟـﺔ في ﺼـﻨﻊ ﺤﺎﻀﺭﻫﻡ ﻭﻤﺴﺘﻘﺒﻠﻬﻡ ﻭ ﻤﺴﺘﻘﺒل ﺃﺠﻴﺎﻟﻬﻡ ﻤﻥ ﺒﻌﺩﻫﻡ.
ولكن باختلاف النظرة الذكورية لحقوق المرأة، وحينما وصلت “البراديغما الذكورية”[1] إلى ذروة الطُغيان، اتضحت بجلاء إشكالية السيطرة الجِنسوية من قِبل الرجل، وظهرت الأنظمة التي تعتمد على فكرة عبودية المرأة وهضم حقوقها؛ بل ورغب البعض في حرمانها حق الحياة.
وعليه فإن الإشكالية العامة التي نتناولها تتمحور حول أوضاع المرأة في الحضارات القديمة، وكيف تبدلت عبر العصور حتى صارت إلى الوضع التي هي عليه الآن.
وباستحضار بعض الأمثلة عن كيفية الانسلاخ الذكوري من فكرة حقوق المرأة في منطقة الشرق القديم، نجد أن المرأة في العراق (بلاد الرافدين) كان لها الحق في أن تدير شؤون بيتها ومزرعتها، فقد منحت الشرائع الميزوبتامية[2] للمرأة حقوقًا من أهمها حق البيع فقط؛ إلا أن الرجل كان هو المسيطر في شؤون التجارة والتملك؛ فكان من حقه بيع زوجته سدادًا لديونه، كما أن الحكم الأخلاقي على الرجل اختلف عن المرأة؛ فزنا الرجل كان يُعد من النزوات التي يُمكن الصفح عنها، أما زنا المرأة فكان عقابه الإعدام.
وفي قوانين حمورابي – التي تعتبر أكمل نص تشريعي قديم ظهر حتى اليوم – أعطى فيه الأب سلطة بيع أفراد أسرته أوهبتهم للغير، كما نص القانون بأن المرأة إذا أهملت زوجها أو تسببت في خراب بيتها تُلقى في النهر، ونص كذلك على أنه عند اتهام الزوجة بالزنا دون دليل على ذلك وقد تناولتها ألسنة الناس، تُلقي في النهر ويتم إغراقها عمدًا في الماء، فإذا استطاعت الخروج على وجه الماء كانت بريئة، وإذا غطست اعتُبرت آثمة وتُترك لتموت.
أما شريعة القصاص فقد تدنت بمنزلة المرأة تدنيًا كبيرًا، فكانت المراة تدفع ثمن أخطاء وجرائم الرجل؛ سواء زوجها أو أباها، فمن يقتل منهم أنثى كان عليه أن يُسلم ابنته أو زوجته لتُقتل جزاءً لفعلته، ولم يكن للمرأة البابلية أن ترث إلا في حالة عدم وجود الذكور، أو إذا كانت تشغل مكانة كاهنة المعبد، أما الأرملة فلم يكن لها من الميراث شيء؛ إلا بقاءها في منزل الزوجية، كما كان يتصل بالهياكل عدد من النـساء؛ مـنهن الخادمـات ومـنهن السراري للآلهة أو ممثليهم، الذين يقومون مقامهم على الأرض، ولم تكن الفتاة في تلك الفترة ترى شيئًا من العار في أن تخدم الهياكل على هذا النحو، وكان أبوها يفخـر بـأن يَهـِب جمالهـا ومفاتنها لتخفيف ما يعتري حياة الكُهان المُقدسة من ملل وسآمة، وكان يحتفل بإدخال ابنته في هذه الخدمة المُقدسة، من هنا نجد أن المرأة في بلاد الرافدين قد خنعت لقهر الرجل أيًا كان؛ سواء والدها أو زوجها أو كاهن المعبد، فالجميع قد سيطروا عليها وفرضوا ذكوريتهم الغاشمة بكل السبل، مما جعلها تستكين وتخضع تحت شعار الضعف الأنثوي.
المرأة في الحضارة المصرية القديمة
أما المرأة في الحضارة المصرية القديمة فقد كانت لها مكانة مقدسة وحقوق موسومة لم تحصل عليها مثيلاتها في الحضارات الأخرى؛ فقد وصلت إلى عروش الممالك كأم حاكمة وزوجة حاكمة، وأحاطتها الأساطير وتميزت بالألقاب الملكية، وكانت المرأة المصرية ذات سلطة قوية على إدارة البيت والأرض واختيار الزوج، كما شُيدت لها المعابد وصُنعت لها التماثيل، ونُقشت صورها وأمجادها على جدران المعابد وأعمدة القصور والمقابر الملكية، وقادت الحروب وتصدرت سدة الحكم، وساندت الأب والأخ والزوج في حكم البلاد بل وانفردت بعرش مصر.
لكن بسيادة الحكم الذكوري، ونشوء الفكر الاقتصادي القائم على الرعي والصيد؛ وانتشار الاعتقاد بأن ذلك كان هو سبب التطور البشري لحياة الإنسان، ثم المقارنة غير العادلة بين مهام الرجل والمرأة، أدى كل ذلك إلى فرض “النظرية البراغماتية” التي أدت للانحراف عن فكرة تمكين وتأليه المرأة، وتحول فكر الرجل إلى التحايل والسيطرة على مفردات الطبيعة وإخضاعها بما فيها لمصالحه الذكورية ورغبته في التمكن والتحكم في كل شئ.
مما سبق يتضح أن فكرة التضحية بالفتيات كقرابين لإرضاء الآلهة، ونشوء فكرة إلقاء الفتيات أحياء بنهر النيل في كل عام فترة الفيضان، كانت من الأفكار الذكورية التي اختلقوها للحد من فكرة تأليه المرأة، وتحويلها من الأم المقدسة (سيدة الطبيعة) الحاكمة المهيمنة على الأسرة والمجتمع إلى أن تصبح قربانًا وأضحيةً، وبث الخوف بين النساء والفتيات للخضوع للسلطة الذكورية الحاكمة حتى وإن تمثلت تلك السلطة في رجال الدين وكهنة المعابد.
المرأة في بلاد الشرق القديم حتى ظهور الإسلام
ولم يختلف حال المرأة كثيرًا في بلاد الفرس عنه بين الرومان؛ ففي بلاد الشرق القديم تماثلت أحوال المرأة ومعاناتها في صور شتى، عانت فيها من تسلط الرجل ونظرته الدونية لها، وظلت على هذا الوضع حتى ظهور الإسلام؛ الذي أعاد للمرأة مكانتها المحترمة، ومنحها كل حقوقها كاملة غيرمنقوصة، وبلغت المرأة في الإسلام مكانة عالية، لم تبلغها أمة ماضية ولا أمة تالية بما منحه لها من حقوق وحريات.
وقد اختلفت نظرة الشعوب إلى المرأة عبر التاريخ، واختلف الناس في تحديد قيمتها وفي تقدير مكانتها الاجتماعية، فهي تختلف من عصر إلى عصر، فطورًا يًحسنون إليها، وأطوارًا أخرى يُسيئون إليها، فالقوانين الخاصة بالمرأة كانت تتسم في أغلب الأحيان بعدم االاعتدال.
أوجلان وقضية تمكين المرأة في مجتمع الشرقِ الأوسط:
بدايةً يجب أن نعلم إن تقييم القضايا التي تعاني منها المرأة داخل المجتمع الشرق أوسطي تحتل الدرجة الأولى بلا جدال، وهذا التقييم لتلك القضايا يشمل كافة أبعادِها التاريخيةِ والاجتماعيةِ؛ فقضيةُ المرأةِ هي الأساس الذي تنبع منه كلِّ القضايا.
ويرى المفكر عبد الله أوجلان أن الهرميةً الذكوريةً قد فُرضت على المرأة بدايةً من النظام الأبوي الصارم الذي سيطر عليها منذ نشأتها، وترسخت مفاهيمه الاستبدادية بداخلها، ووصولًا إلى حياتها الأسرية الخاصة؛ حتى قبل ظهور النظام الطبقي في المجتمع، ثم نظام الدولة. ويستدل على ذلك بسرد العديد من الملاحم التي تعكس الكثيرِ من الصياغات الميثولوجية (الأسطورية) والدينية التي تم اختلاقها لتمويهِ تسلط وتحكم الرجل، ويؤكد أوجلان من خلال السرد النقدي لتلك الملاحم جميعها سواء البابلية منها أو السومرية أن المرأة كانت تَئِن جرّاء مَكرِ وتعسفِ الذكوريةِ الحاكمةِ ضمن ذلك النظامِ الهرمي الذي أُقحِمت فيه.
قضايا المرأة والأديان التوحيدية
تؤكد نظرية أوجلان في هذا الصدد أن وضع المراة لم يتغير حتى بظهور الأديان التوحيدية؛ وإن اختلفت المثيولوجيا المعبرة عن ذلك الوضع؛ فالمرأةُ التي شُيدت لها المعابد وتم تقديسها كحاكمة وزوجة وأم؛ هي التي صارت عاهرةِ المعبد، ومتنفس الملذات والترفيه للكهنة بما تحمله من الجمال ومفاتن الجسد؛ وهي التي رفعتها ذكورية الفكر البراديغمي بالكاد إلى مرتبة جاريةِ القصر.
والقارئ لما بين السطور بتمعنٍ ورويةٍ يستشف رؤية أوجلان وقناعته بأن وضع المرأة بهذا الشكل ليس بسبب ما شرعه الإسلام؛ وهو الذي تبنى قضية حرية المرأة، بل وقد أكدت جميع الرسالات السماوية على تكريمها، ومنحها كافة الحقوق؛ فاﻹﺴﻼﻡ قد وضع ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓ ﻓﻲ ﻨﻁﺎﻗﻬﺎ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ، ﻓﺴﺎﻭﻯ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﺭﺠل ﻭ ﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﻓﻴﻤﺎ ﺘﻤﺎﺜﻼ ﻓﻴﻪ ﻭ ﻓﻲ ﻫﺫﺍ ﻴﻘـﻭل ﺍﻟﻨﺒﻲ صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: (ﺇﻨﻤﺎ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﺸﻘﺎﺌﻕ ﺍﻟﺭﺠﺎل)[3]
إن كل ما سبق يؤكد حرية المرأة في الشرائع والرسالات السماوية؛ إلا أن ذُكورية الرجل وحاكميته الاستبدادية أبت إلا أن تظل المرأة موضوعَ العبودية التي لا تنتهي، فإن لم تكن جارية تُباع وتُشترى بالأسواق، فهي الجارية في منزل والدها ثم زوجها، ولا مكانَ لها في ممارسة السياسة أو الحكم والإدارة.
أما عن مكانة المرأة في المدنيةِ الأوروبية، فلم تكن إلا أداةٌ جنسيّةٌ مُستغلة بشتى الوسائل، وفي المدن القائم اقتصادها على سيطرة رأس المال؛ كانت مجرد عاهرة بمقابل مادي.
ومن هذا المنطلق أصبحت الصورة الافتراضية التي صنعتها ذكورية الرجل هي صورة المرأة التي خُلقت للممارسة الجنسية فقط، وقد تم إخضاعها فكرًا وتطويعها تطبيقًا لهذه الممارسات الخاطئة.
ويرى أوجلان أن نظرية التأنيث وعبودية المرأة قد انسحبت على المجتمعات المعرضة للاستغلال والقمع والاضطهاد، فبينما تنتقلُ الطبقة الذكورية الحاكمة المتسيدة للمراكز السياسيةُ إلى مرتبةِ الجنسويةِ الحاكمة بالمجتمع، فإن شرائح المجتمع المحكومةَ تتعرض للاستئناث التدريجي بهدف الإخضاع الكامل لرغبات الحاكم، فلم تعد فكرة التأنيث قاصرة على المرأة بل انسحبت على المجتمع المحكوم بالقهر والتسلط الذكوري ابتداءً من عمرِ الشباب.
ومن هنا تستفحل حالات الشذوذ الجنسي الناجمة عن استئناث المجتمع، وانعكاس صيغة التعاطي الجنسويِّ مع المرأة على باقي مفرداته، والتي تم رصدها على نطاقٍ واسعٍ على مرِّ عصورِ المدنية، فبقدر ما أصبحت المراة جارية؛ أصبح الرجلُ العبدُ أيضًا بمثابة الزوجة الخاضعة.
ومن خلال تلك الرؤية الأوجلانية للقضايا ذات الجذور التاريخية الناجمة عن قمع المراة؛ فإنه يؤكد على أن ما وصل إليه المجتمع الشرق أوسطي من تدهور للظروفِ السياسية والاقتصادية كان سببه الرئيس هو قمع المرأة واستغلالها وإخضاعها وتضييع حقوقها؛ والذي أثر سلبًا على المجتمع بأثره دون استئناء مما أفقده رجاحة ميزان العدالة الإنسانية.
ويستطرد المفكر أوجلان في طرحه العميق فيؤكد أن إنسانية المرأة التي تم إدراكها حديثًا قد تمنح الأمل في تنحّي التعاطي الجِنسويِّ المتشدد عن مكانه لصالحِ الاحتياج إلى وجود الأنثى كصديقٍ ورفيق للحياة وليس لمجرد فكرة الممارسات الجنسية القاصرة.
ويرى أن ظهور فكرة الجدال حول وضع المرأة في الآونة الأخيرة يُعتبر من الأمور الإيجابية وأن عيش الحياة في صورتها المُثلى من الجمال الحسي والمعنوي لن يتأتى إلا بتحقيق التوازن في التعامل مع المرأة، ومن هذا المنطلق يؤكد على ضرورة تصحيح الممارسات العملية في علاقة الرجل بالمرأة الشرق أوسطية، انطلاقًا من الوعي بأن الحياة الراقية الرائعة في معناها يستحيل تحقيقها إلا مع وجود المرأة التي نالت حريتها وكرامتها وتتمتع بكامل نضوجها الفكري وهو ما أكد عليه قول الله تعالى (وجعل بينكم مودة ورحمة)[4].
أوجلان واستشراف ثورة المرأة الشرق أوسطية:
إن القارئ المتفحص لفكر أوجلان تجاه وضع المرأة الشرق أوسطية يستشف بكل وضوح نظريته المؤكدة أن التحليلاتِ الجنسويةِ الاجتماعيةِ تجاه المرأة هي تحليلات وضعية، وأن رموز العبودية التي بُثت في تكوينها النفسي عبر العصور لا يمكن حصرها بشكل أقرب للدقة، ولكنه يثبت قناعاته الشخصية بأن العلاقة بين الرجل والمرأة لا تسلم من الانغماس في الفكر الشهواني الذكوري المحض، ويشير إلى أن ذلك الفكر الشهواني قد انتقلت سلبياته للأنثى وترسبت في معتقداتها، وأنّ هذه العقليةَ الجنسوية تتسبب في تثبيط مهاراتِ الإنسانِ الأخرى.
ويرى أوجلان أن أمر التواصل الحسي بين الرجل والمراة هو أمر لا تخلو منه الغرائز لدى الكائنات الأخرى كالنبات والحيوان، ولكنه يرى أن الغرائز البشرية قد اتَّخذت لدى البشر حالةً من الإغراق لا حدود لها ولا رادع من ظروف اجتماعية ولا توقيتات زمنيّة، ومن هنا تأثرت وظيفتِها كنصف أخر للمجتمع إلى أقصى الحدود. كما يرى أن هذه القضية الأولية للمرأة هي أصل جميع القضايا في الشرق الأوسط بلا جدال.
بيد أنه في إمكانِنا أن نرصد ظاهرة تعسف الرجلِ تجاه المرأةِ بصورة جلية بمرور الزمن، ويفسر أوجلان قدرة الرجل على قتلها جسديًا وروحانيًا بأنه أمر لا يمكن لمن يمتلك ضميرًا حيًا أن يغض الطرف عنه، ولا تفرقة يراها في ذلك بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، ولا يأبه الرجل في ممارسته لذلك بأي وازع من خُلق أو دين أو قاعدةٍ حقوقيّة.
ويستنكر المفكر أوجلان أن تُرتكب كل تلك الجرائم تجاه المراة باسمِ العشق، ويرى أن تلك الأقوال لا يمكن وصفها إلا بالرياء والانحطاط، فلا يمكن لإنسان يمتلك ضميرًا وقلبًا عاشقًا أن تصدر عنه تلك الممارسات الدونية؛ التي لا تنم إلا عن الحاكميةِ والاستغلال الحسي والمعنوي، وهذا الأمر هو الذي يتصدرُ كافة الأحداث التي ينبغي الإشارة إليها قبلَ كل شيء.
مما سبق يمكننا القول أن تشبث المرأة بالحياة العادلة بشتى صورها وجوانبها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية بمقدوره أن يحقق لها ما تصبو إليه من حياة متكافئة مع الرجل.
ولكن يطرح المفكر أوجلان سؤالًا في هذا السياق ألا وهو؛ لماذا يصبحُ الرجلُ حَسودًا ومتحكِّمًا وجانيًا لهذه الدرجةِ بشأنِ المرأة؟ ولماذا لم يتخلى عن فكرة العيشِ في وضعِ المغتَصِب لها والمعتدي عليها؟
وهو في ذلك يرى أن استغلالِ المرأة اجتماعيًا يتمثل في السيطرة عليها جنسيًا في المقام الأول؛ ويعتبر ذلك استهلاكًا لمعنوية المرأة وحسها الروحي والنفسي، فالجنسويةُ الاجتماعيةُ تُعَبِّرُ في رأيه عن فناءِ غِنى الحياةِ ورونقها وجمالها تحت نِيرِ وسيطرة الجنسويةِ الاستهلاكية؛ التي تؤدي إلى شلل الروح وتصلب النفس تجاه الحياة، وما يتولدُ عن ذلك من موقفٍ تَحَكُّمِي.
ويبرر أوجلان نظريته تجاه الذكورية الحاكمة القائمة في أساسها على الممارسة الجنسية؛ بأن طبيعة التواصل بين الرجل والمراة تهدف إلى استمرار الحياة، ولكن لن يبلغا بها “المعرفةِ المطلقة” للكون والحياة؛ فالتكاثر الجنسي بهدف الحفاظ على استمرارية الحياة ليس هو الهدف الأسمى في العلاقة بين الذكر والأنثى.
هذه التقييماتِ المقتَضَبة التي أشرنا إليها آنفًا تثبت بلا شك أنّ المرأةَ تَخضَعُ لقمعٍ واستغلالٍ اجتماعي مؤسس وممنهج؛ فعبوديةُ المرأةِ بهذا المقياس تُعد عُبودية تتسم بالتعقيد لدرجةٍ يستحيلُ معها مقارنتها بأيِّ شكلٍ آخرمن أشكالِ العبودية.
ومضات أوجلانية …..
“عبودية المرأة بين الرأسمالية والتشاركية”
يرى أوجلان أن الرأسمالية هي أحد أهم الوسائل التي رسخت لفكرة عبودية المرأة واستغلالها، فما بين أسواقُ بيعِ العبيدِ، ومؤسساتُ تجارة الجواري القائمةُ ضمن سياقِ التاريخِ انعكست ظاهرةَ عبودية المرأة في أشد صورها، ولكنّ ممارساتِ الحداثةِ الرأسماليةِ في تطبيقِ صورة الاستعبادِ على المرأة تتكاثر في مجتمعاتنا الحالية بما لا يُمكِنُ ردعه؛ رغم اختفاء مسمى العبودية؛ إذ ما من نظام تلاعَب بمقدرات المرأةِ وكان سببًا لاستغلالَها بقدرِ الرأسمالية؛ حيث استُغِلَّت تلك الأنظمة الرأسمالية في إخضاع النساء الأكثر احتياجًا للحياة الكريمة؛ كي تقبلن فكرة عرض أنفسهِن طوعًا لعبوديةٍ مُستَساغةٍ في كافةِ مناحي الحياةِ، فلم يعد لديهن قدرة على إدراكِ هذه الحقائق، لذلك؛ وكي تتمكُّنِ المرأة من أن تحظى بكرامةِ الحياةِ وعِزَّتِها ، فإنّ علينا تبديدَ ما يحيطها من ضبابِ كي ترى بوضوح ما يُنسج حولها.
ويستشرف أوجلان ما يجب أن تكون عليه فكرة الإصلاح منذ زمنٍ بعيدٍ، ويجد أن الفرصةَ تتمثل في “ثورةٌ نسائيةٌ” تُخاضُ، وأنْ تَكُون أعمق ثوراتِ الحريةِ والمساواة، فيرى ضرورة خوض صراعٍ متواصلٍ في وجهِ الأيديولوجيةِ الجنسوية، كما يرى أن ثورةُ المرأةِ تقتضي تجذيرَ الحربِ أخلاقيًا وسياسيًا تجاه عقليةِ الاغتصاب، ويؤكد على وجوب رفضَ ظاهرةِ إنجابِ الأطفالِ بهدفِ السلطةِ والاستغلال، وتركَ ذلك الموضوعِ لإرادةِ المرأةِ المتحررة.
إن قضية المرأة في رأيه تتطلبُ ثورةَ في أيديولوجيةِ الكيان والسلالةِ والأسرة، ويَبدو أنّ الأهمَّ من ذلك أنها تقتضي تجاوُزَ فلسفة الحياةِ الحاليةِ؛ إذ ينبغي عدم تقييمِ التعايش مع المرأةِ ارتباطًا بمفهومِ امتلاكِ الأطفالِ والعلاقة الزوجية، بل تقييمه من خلال تشاطُرِ الحياة بِعَدلٍ وحرية، باعتبارِهما أوثق أواصرِ الصداقةِ والمشاركة المجتمعية.
ويَشتَرِطُ مفكرنا في ذلك أن يكون القرن الحادي والعشرين، هو قرن الأولويةِ لثورةِ المرأةِ والرافع لشعارُ المساواة والحرية؛ فإذا وضعنا هذا الطرح موضع التقييم الحيادي نجد أنه يؤيد عدم وجود ﻗﻴﻭﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ﺇﻻ ﺍﻟﻘﻭﺍﻋﺩ ﺍﻷﺨﻼﻗﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺭﻭﻓﺔ، ﻭﻫﻲ ﻟﻴﺴﺕ ﺇﻨﺘﻘﺎﺼًﺎ ﻤﻥ ﻤﻜﺎﻨﺘﻬﺎ؛ ﻓﻘﺩ ﻜﺎﻥ ﻟﻠﻤﺭﺃﺓ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ﻤﻥ ﺍﻟﻘﺩﺭ ﻭﺍﻟﻤﻜﺎﻨﺔ ﻭﺍﻟﻌﻠﻡ، ﻤﺎ ﺠﻌﻠﻬﺎ ﺘﻌﺘﺭﺽ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﻱ ﺍﻟﺭﺠﺎل ﺇﺫﺍ ﺃﺨﻁؤﻭﺍ ﻭ ﺘﺭﺩﻫﻡ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺼﻭﺍﺏ، ﻭ ﻟﻡ ﻴﺤـل ﺒﻴﻨﻬﺎ ﻭ ﺒﻴﻥ ﺫﻟﻙ ﻗﻴﺩ ﻤﻥ ﺍﻟﻘﻴﻭﺩ ﺍﻟﻤﺯﻋﻭﻤﺔ؛ ﺍﻟﺘﻲ ﻴﺩﻋﻰ ﻀﺭﺒﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ﻓﻲ ﻜل ﻨﺎﺤﻴﺔ ﻤﻥ ﻨﻭﺍﺤﻲ ﺤﻴﺎﺘﻬﺎ.
ويلقي أوجلان الضوء على حقيقةِ مهمة ألا وهي استحالةِ الحياةِ من دون المرأة، وفي نفس الوقت يؤكد أنه من المستحيل مشاطَرةِ حياةٍ مُشَرِّفة مع امرأةٍ حُطَّ شأنُها إلى درجة العبوديةً.
ويرى أن السبيل الصحيح لنقاء الحياةِ وتَحَرُّرِها، هو التحلي بالفطنة الناتجة عن التحليلِ والممارسةِ المجتمعية التشاركية الصحيحة مع المرأةِ، ويوجه رسالة للطامحين إلى العشقِ أنْ يَتَذَكَّروا كلَّ لحظة، أنّ الطريق للعشق هو النقاء والتجرد من الشهوات، وأن أي تناول آخر تتخلله الشهوة الذكورية هو خيانةٌ للعشقِ وخدمةٌ للعبودية، أي أنه يرى استحالة بلوغُ العشقِ دون التوصلِ إلى الحقيقةِ المجتمعية الوسطية التشاركية بين الرجل والمرأة.
ولا غرو أن المجتمعَ والمرأة الشرقَ أوسطيَّين قد أُخرِجا من كَينونتِهما، لذا يرى مفكرنا أنه لا جدال في أهمية فرضِ ثورةِ المرأة والمجتمع الشرق أوسطي فرضًا واقعيًا.
حقوق المرأة الشرق أوسطية المعاصرة في العالم العربي :
من كل ما سبق نجد أن ما تم طرحه من قضايا المرأة الشرق أوسطية يقودنا إلى أن نصنع إطارًا لدراسة وضع المراة دراسة تحليلة محايدة، فما زالت المرأة في الشرق الأوسط في عصرنا الحاضر تخطو الخطوات الأولى نحو ترسيخ كينونيتها ووضع أطراف اقدامها في ساحة التحرر السياسية والاقتصادية والقضائية، وإن كانت على صعيد العمل الاجتماعي بات لها نصيبًا ملحوظًا من التشاركية المجتمعية مع الرجل؛ بيد أن ذلك الأمر الأخير يُعد أمرًا طبيعيًا بالنسبة لها بما أنها تمثل الأساس في البنيان الاجتماعي مُنذ القدم.
وتؤكد الإحصاءات البيانية إن تمثيل المرأة في الأجهزة القضائية بمنطقة الشرق الأوسط أقل بكثير من تمثيلها في الساحة السياسية، كما يقل عدد القضاة من الإناث بدرجة لا تتناسب مع العدد الكلي للنساء؛ فأغلب بلدان منطقة الشرق الأوسط لا تخصص حصصًا للمرأة في البرلمان، إلا أن العراق جاءت فيها أعلى نسبة لتمثيل المرأة في البرلمان وذلك بنسبة 25%، تليها في ذلك المغرب 15%، ثم مصر والأردن بنسبة 10%.
فإذا تأملنا معظم الإصلاحات التي تُسهم في تحسين وضع المرأة نجدها لا تصدر عن البلدان المتقدمة؛ بقدر ما تسعى إليها وتسهم فيها بلدان العالم النامية، ووفقا لتقرير”المرأة وأنشطة الأعمال والقانون 2016” الصادر عن البنك الدولي[5] فإن هناك نحو 65 بلدًا في العالم قامت خلال الأعوام الأخيرة بسن ما يزيد عن التسعين إصلاحًا بهدف تحسين الأحوال المعيشية للمرأة
ومع هذا، فإن الإصلاحات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط لم تزد على 10% من الرقم سالف الذكر، هذا إن لم تكن أقل من أي منطقة أخرى. كما أن الحواجز القانونية والتجارية التي تحول دون التحاق المرأة بالقوى العاملة في منطقة الشرق الأوسط تتسبب في خسائر تقدر بنحو 27% من الدخل القومي.
إن تقليص القيود القانونية المتعلقة بالفروق بين الجنسين من شأنه أن يمنح المرأة صوتًا أكبر في الاختيارات الحكومية، وهو ما يُترجم إلى قرارات أفضل بشأن الدخل القومي. وقد أكدت بعض البحوث أنه خلال عام من حصول المرأة على حق التصويت في بعض بلدان العالم، تحولت أنماط التصويت إلى زيادة في مخصصات الإنفاق العام في مجال الصحة ومجال التعليم والرعاية الاجتماعية بنسبة 35%
لمحات إيجابية حول قضايا المرأة الشرق أوسطية
لا جدال في أن العلاقة المعقدة والمترابطة بين الدولة والقوانين والدين في منطقة الشرق الأوسط، جعلت من إصلاح القوانين المتعلقة بحقوق المراة وهُويتها السياسية والاجتماعية مهمة صعبة، ولكننا نرى أن من إحدى سبل حلّ هذه المسألة إثبات أنّ هذه القوانين تُسيء لهوية الدول بشكل عام، فلا توجد دولة تُصرح علنًا بالعنف ضدّ المرأة ولا تقبل ذلك، بل إن رجال الدين قد يكونوا الأكثر تحفظًا في هذا الجانب. ومن هنا نرصد بعض الحملات الإيجابية التي أطلقتها بعض المنظمات الدولية دعمًا لحقوق المرأة الشرق أوسطية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر “منظمة التضامن النسائي” التابعة للأمم المتحدة والتي شنت مؤخّرًا حملة عالمية في المؤتمر الستين بهدف تسليط الضوء على العلاقة بين قانون الأسرة والعنف. ومن شأن حملات كهذه تمكين مجتمعات بأكملها من فهم العنف الجنسي ضد المرأة ومناهضته، والسماح للمرأة بالتقدّم واتخاذ قراراتها الخاصة في ما يرتبط بالعلاقة بين إيمانها وحقوقها الإنسانية.
كما ترى جميع المنظمات الإنسانية والاجتماعية إن تمكين النساء في الأزمات والصراعات لهو أمر حيوي. فهن يشكلن نصف سكان العالم، ولذلك يجب أن يكن جزءً من حل قضايا المجتمع.
كما أكدت الدراسات القائمة حول حقوق المرأة وجوب المرالوفي إقامة اتصالات مباشرة مع النساء، ووضع آلية للتشاور معهن إن لم توجد منظمات حقوقية ببلادهن، وذلك للتأكيد على أن مشاركة المرأة في السياسات والقوانين هي مشاركة وجوبية وليست استكمالية.
كما تؤكد تلك المنظمات الحقوقية على وجوب مشاركة المرأة في المفاوضات ومحادثات السلام، فالحروب والصراعات والعنف السياسي لا تفرق بين المراة والرجل، لكنها لا تعترف بالأشكال المختلفة للعنف التي تعاني منها النساء وعلى هذا النحو؛ فإن المحادثات والاتفاقات في مرحلة المشاورات التمهيدية السابقة للتفاوض تشكل تحديًا كبيرًا أمام المرأة والمجتمع المدني ؛ حيث أن هذه المحادثات والاتفاقات تحدد مرحلة وهيكل المحادثات الرسمية.
وقد تكون هناك أيضاً فرص لدعم عمليات الحوار الموازية بين النساء والجهات الفاعلة في المجتمع المدني، ولكن هذا يتوقف كثيرًا على الحالة الأمنية في البلاد، وبمجرد أن يكون هناك وضوح أكبر في إمكانية عقد محادثات رسمية، من الأهمية بمكان العمل مع النساء والمنظمات النسائية والمجتمع المدني لمساعدتهن في الإعداد لمشاركتهن في عمليات السلام – سواء كان ذلك مباشرة على طاولة المفاوضات الرسمية أو في المسارات والهياكل والعمليات الموازية.
دور المرأة الشرق أوسطية في عمليات السلام
تؤدي النساء أدوارًا متنوعة في عمليات السلام المعقدة والمتعددة المسارات في الشرق الأوسط، وأمكنهن الجلوس على طاولة المفاوضات الرسمية، وترأس لجان المباحثات والمشاورات، وأن ينخرطن كأطراف فاعلة يمثلن المجتمع المدني، لصياغة مطالبهن وحقوقهن، وقد لعبت معظم الأصوات النسائية دورًا مهمًا في تأمين عدد من القوانين واللوائح المنظمة لوضع النساء ومشاركتهن في الاتفاقيات، وتفعيل الخبرات النسائية الممثلة للمجتمع المدني، وكان لهن بصمات واضحة في ضمان أن تشمل الدساتير والأحكام القانونية والآليات والمؤسسات الجديدة اهتمامات المرأة ووجهات نظرها واحتياجاتها، وكذلك كان الحال أيضًا بالنسبة لإصلاح المحاكم والشرطة وقطاع الأمن والمؤسسات الحكومية الأخرى، فإن كانت الأحكام القانونية بالغة الأهمية؛ فإن آليات التنفيذ تحظى أيضًا بنفس الأهمية، لذا يجب أن تشمل هذه الإصلاحات فرصة فريدة لإدماج الأهداف الاستراتيجية المتعلقة بالنوع الجنساني وحقوق الإنسان وتمكين المرأة والحد من العنصرية الجنسية ومعالجة الجذور الهيكلية لعدم المساواة.
وإن كنا نرصد حتى وقتنا الحالي أن هناك ميل إلى النظر لقضايا المرأة بطريقة ضيقة إلى حد ما – وخاصةً قضاياها في مجال القانون والأمن وخدمات الحماية الاجتماعية؛ فإننا نرى بل ونؤكد أن الإصلاح في تلك المجالات يعد أمر بالغ الأهمية بالنسبة للنساء بنفس قدر أهميته للرجال. فعلى سبيل المثال، لا يزال العنف ضد المرأة ظاهرة عالمية ومصدرًا رئيسيًا لانعدام الأمن بالنسبة لها – سواءً حدث ذلك في المنزل، أو العمل، أو الأماكن العامة؛ لذا ينبغي أن تشارك النساء في إصلاح خدمات الأمن والمحاكم لأن الحاجة جدية لإدماجهن في عمل هذه المؤسسات؛ ولكي تتمكن النساء والجهات الفاعلة في المجتمع المدني من المشاركة في هذه العمليات وضمان قاعدة عريضة من المشاركة، يجب تفعيل آليات تلك المشاركات قانونًا.
ويجب أن يكون تمكين النساء في الأزمات والنزاعات من أهم الأدوات في عملية السلام، فاستخدام الوسيطات والناشطات الحقوقيات أو الشبكات القائمة على المرأة، يمكن أن يكون نقطة بداية جيدة لإدراك أهمية إشراكها في مباحثات السلام.
وأخيرًا …
نخلص إلى أن مشاركة المرأة تعد أمرًا محوريًا وإيجابيًا على كافة الأصعدة الاجتماعية والثقافية والسياسية والحقوقية، فاستبعاد المرأة يهدم تلك الصورة باكملها وهذا ما أكدته كافة الدراسات والأبحاث العلمية والإنسانية، فالمرأة هي مفتاح الحل لكافة المشكلات القائمة على أرض الوطن الأم؛ فمشاركة المراة هي التي تصنع دستورًا متكاملًا، وهي التي ترسم طريق الخلاص من الصراعات الشرق أوسطية، وتُكمل الهياكل السياسية والقانونية والاقتصادية للحكومات؛ وتقدم خطة إعادة الإعمار بعد انتهاء الحروب؛ وتُسهم في تحديد دور المنظمات الحقوقية الدولية؛ فإن أروع ما قيل عن المرأة: أنها مِثل الحياة، بدأت بالسلام، وبدأ السلام بوجودها.
المصادر والمراجع:
- ﺴﻤﻴﺭ ﻋﺒﺩﻩ: ﺍﻟﻤﺭﺃة العربية بين ﺍﻟﺘﺨﻠﻑ ﻭ ﺍﻟﺘﺤﺭﺭ، ﻁ1، ﻤﻨﺸﻭﺭﺍﺕ ﺩﺍﺭ ﺍﻵﻓﺎﻕ ﺍﻟﺠﺩﻴﺩﺓ ﺒﻴﺭﻭﺕ،1980، الصفحات 146.
- عبد الرحمن زكي: الشرق الأوسط، قسم النزاعات والحروب في الشرق الأوسط، مكتبة النهضة المصرية، 2020م، الصفحات 292.
- عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديمقراطية، أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط، ترجمة زاخو شيار، ط3، مركز القاهرة للدراسات الكردية، مصر، 2016م
- فوزة اليوسف: لماذا علم المرأة، ط 1، دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، القاهرة، 2011م
- مدونات البنك الدولي: الاستثمار في النساء والفتيات من أجل مستقبل أفضل، 2024م
- منشورات الأمم المتحدة: حقوق المرأة من حقوق الإنسان، تقرير المؤتمر العالمي الرابع، وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بالمرأة والسلام والأمن، الأحكام الرئيسية، 2014م
- نشرة مجموعة البنك الدولي، تقرير المرأة وأنشطة الأعمال والقانون، يونيو 2016م
- ﻨﻌﻴﻤﺔ ﺸﻭﻤﺎﻥ: ﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﻤﻨﺫ ﺍﻟﻌﺼﺭ ﺍﻟﺤﺠﺭﻱ ﻭﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﻓﻲ ﺍﻹﺴﻼﻡ ﻜﺈﻨﺴﺎﻥ، ﻁ1، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻔﺎﺭﺍﺒﻲ، لبنان، 2011م، الصفحات 143.
[1] براغمـاتية – بإختصار – تعني : نفعيــة. أو علاقات قائمة على المصلحة بين الدول أو الأفراد وليس على الحب أو القيم الأخلاقية
[2] أطلق الإغريق على العراق القديم اسم «ميزوبوتاميا» نسبة إلى نهريه (دجلة والفرات)، وقصدوا بهذه التسمية العراقَ بحدوده الحديثة إضافة إلى مناطق تجاوره وتتبع إيران وسوريا وتركيا حاليًا، ومعنى ميزوبوتاميا هو «بلاد ما بين النهرين» التي قد تُسمى «بلاد الرافدين» أيضًا.
[3] رواه الخمسة وهم أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه.
[4] الأية 21 من سورة الروم
[5] تقرير المرأة وأنشطة الأعمال والقانون، نشرة مجموعة البنك الدولي، يونيو 2016
- الاستثمار في النساء والفتيات من أجل مستقبل أفضل، مدونات البنك الدولي 2024