قبل أقل من شهرين تقريبا من الانتخابات الأمريكية وبعد المواجهة التي تمت بين المرشحين الرئاسيين الأمريكيين كامالا هاريس ودونالد ترامب كان لدى كامالا الكثير لتثبته أولها أنها كانت لها اليد العليا في هذا اللقاء والذي بدأته بمصافحة منافسها فيما اعتبر بمثابة “مفاجأة الحفل”.
كانت المخاطر كبيرة بشكل خاص بالنسبة للديمقراطيين. وإذا كانت كامالا قد استفادت من شهر عسل طويل منذ انسحاب جو بايدن الا أن شعبيتها كانت لاتزال متراجعة مقارنة مع دونالد ترامب الذي احتل بالفعل المكتب البيضاوي بين عامي 2016 و2020. ولذلك كان عليها أن تقدم نفسها للناخبين الذين تعتبرهم سندا لها. الواقع يقول انها نجحت بالفعل بعد ان استفادت من ضعف جو بايدن في مناظرته مع ترامب في نهاية يونيو الماضي حيث بدا ضعيفا للغاية بينما بدت هي في مناظرتها جادة وقوية ما شتت ترامب وأربكه. لم يكن هذا هو الإرباك الأول لترامب بل أن الدخول المفاجيء والمتأخر لكامالا هاريس في الترشح للرئاسة فاجأه وحرمه من جزء من حججه للتنكيل بالمنافس فبدا وكأنه وقع في «كمين» سياسي.
وليس أدل على هذا الارتباك الذي لازمه في المناظرة بينه وبين كامالا من تناوله الأخبار الكاذبة التي نشرها معسكره في الساعات الأخيرة والتي تفيد بأن المهاجرين الهايتيين يأكلون قطط الأمريكيين في سبرينجفيلد بولاية أوهايو ما جعل كامالا تظهر وهي تضحك في إشارة الي سخريتها مما يقوله منافسها الذي بدا وكأنه أضحوكة. الأمر الذي جعله يدعي انها تكره إسرائيل خاصة وانها أعلنت رفضها لعمليات القتل الدائرة هناك وانها ايضا لم توضح خطتها لاستعادة السلام بين غزة وإسرائيل وذلك على عكس الصراع بين روسيا واوكرانيا التي راوغ ترامب في توضيح كيفية تحقيق السلام بينهما.
الأداء الجيد لكامالا هاريس ليس بأي حال من الأحوال علامة على المستقبل فالفوز في المناقشة لا يعني الفوز في الانتخابات. اذن على المرشحة الديمقراطية أن تتواصل مع الناخبين المعتدلين فكما أثبتت الدراسات مراراً وتكراراً فإن المناظرات تعمل إلى حد كبير على تعبئة الناخبين الملتزمين بالفعل بقضية هذا المرشح أو ذاك وليس الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم بعد والدليل على ذلك أن استطلاعات الرأي متقاربة بين كامالا وترامب رغم أن نوايا تصويت كامالا أكثر بقليل من نوايا تصويت ترامب ولكن تظل الانتخابات الرئاسية لعام 2024 تُجرى في حفنة من ” الولايات المتأرجحة”. وبحسب آخر استطلاعات الرأي حصلت نائبة الرئيس كامالا هاريس على نحو 48% من نوايا التصويت مقابل 47% لمنافسها الجمهوري دونالد ترامب كما أن نتائج الاستطلاعات متقاربة جدًا في الولايات القليلة التي ستكون حاسمة في الانتخابات الرئاسية لعام 2024.
وقد وصف أحد الخبراء في علم الاجتماع في مجلة بوليتيكو هذه الانتخابات الرئاسية لعام 2024 بين كامالا هاريس ودونالد ترامب بـ “معركة بالسكاكين في كشك الهاتف” ورغم انه مصطلح عنيف للغاية الا انه يعكس بوضوح الطبيعة الوحشية والمتهورة لهذه الانتخابات.
المناظرة التي جرت مؤخرا أثبتت أن الأمريكيين اعتبروا أن كامالا هاريس كانت الأفضل والأكثر إقناعا وذلك وفقا لـ 63 % ممن تابعوها فمنذ انسحاب جو بايدن والمرشحة الديمقراطية الجديدة كامالا هاريس تتمتع بشعبية غير مسبوقة بين الديمقراطيين وأظهرت استطلاعات الرأي أنها حصلت على نوايا تصويتية أكثر مما حصل عليه جو بايدن ما يجعل فوزها نتيجة محتملة بشكل متزايد رغم تقلب استطلاعات الرأي بسهولة من يوم لآخر لكن الاتجاه والزخم يصبان لصالحها.
المشكلة تكمن في أن الولايات المتحدة دولة منقسمة سياسيا للغاية فهناك ولايات تصوت تقليديا بأغلبية ساحقة لصالح الديمقراطيين، مثل كاليفورنيا وميريلاند. بينما ولايات أخرى تصوت تلقائيا للجمهوريين مثل مونتانا أو ولايات الغرب الأوسط. ولكن هناك عشرات الولايات التي يكون ميزان القوى فيها أكثر دقة ويمكن للناخبين إمالة أصواتهم لصالح مرشح واحد أو آخر وهذه “الولايات المتأرجحة” هي الأكثر استهدافاً من قبل المرشحين الرئاسيين لأن من يفوز في الانتخابات التمهيدية عادة ما يفوز في الانتخابات.
من يصوت لكامالا هاريس؟ من يصوت لدونالد ترامب؟
تسلط الدراسات التي أجريت حول علم الاجتماع الانتخابي الضوء على انقسامات واضحة بين دعم كامالا هاريس ودعم دونالد ترامب حيث يميل الرجال أكثر إلى تفضيل ترامب (52%) على هاريس (46%)، بينما العكس هو الصحيح بالنسبة للنساء. كما يدعم الناخبون السود هاريس بأغلبية ساحقة (84٪). كما تدعمها أيضا الأغلبية من الناخبين الآسيويين بينما غالبية الناخبين البيض يؤيدون ترامب.
يجب ايضا أن نعرف أن الناخبين الأمريكيين سيذهبون الي صناديق الاقتراع في الخامس من نوفمبر ليس لانتخاب رئيس البلاد ولكن لتعيين 538 ناخباً موزعين على عدد ممثلي كل ولاية في الكونجرس وهم الذين سينتخبون بعد ذلك الرئيس ونائبه في السابع عشر من ديسمبر.
ولكن هل تستطيع كامالا هاريس التغلب على دونالد ترامب؟
تفاجأ الجميع بظهور كامالا هاريس في المشهد الانتخابي اذ أصابت الهدف منذ ان كانت نائبة للرئيس ولذلك فهي مصممة على التغلب على خصم تعرفه جيدًا كما أن رحلتها الشخصية مثيرة للإعجاب فهي أمريكية من أصل أفريقي من خلفية جامعية كما انها أصبحت أول امرأة تُنتخب مدعية عامة لمنطقة سان فرانسيسكو قبل أن تصبح مدعية عامة لكاليفورنيا من عام 2011 إلى عام 2017. لذلك فجميع قادة الحزب يقفون خلفها الآن حيث أن لديها نقطة قوة أخرى وهي انها ستجمع أكثر من 600 مليون دولار من تبرعات الحملات الانتخابية بحسب وسائل الإعلام الاقتصادية الأميركية وهذا أكثر بثلاث مرات من دونالد ترامب. وهي مكاسب غير متوقعة يمكن أن تتحقق في ولايات رئيسية حيث يتم بث مقاطع انتخابية باهظة الثمن لإقناع المترددين.
من سيفوز؟
أحد المؤرخين المتخصصين في التوقعات الرئاسية رأى أن فوز كامالا هاريس لا يعتمد على استطلاعات الرأي بل على معايير “تقنية” أكثر بكثير. كان هذا المؤرخ واحدًا من القلائل الذين توقعوا فوز دونالد ترامب على هيلاري كلينتون متحديًا كل استطلاعات الرأي وخلال آخر عشر انتخابات رئاسية صدقت تنبؤاته تسع مرات وكان خطأه الوحيد هو انتخاب جورج دبليو بوش عام 2000. ولذلك فهو يعد مرجع حقيقي في التنبؤات الرئاسية ولذلك انتظر الأمريكيون تنبؤاته بفارغ الصبر والذي قال فيه أن كامالا هاريس ستصبح أول رئيسة للولايات المتحدة لتفتح صدعاً كبيراً في السقف الزجاجي إن لم تكن تحطمه بالكامل. وقد بنى المؤرخ استنتاجاته على مايسمى بمفاتيح البيت الابيض والتي بناء عليها يجب ان تفوز هاريس رغم انها لا تتمتع بالكاريزما لأنه على المرشح أن يكون واحدًا من هؤلاء المرشحين الذين يأتون مرة واحدة فقط في الجيل والذين يكونون ملهمين حقًا وقادرين على التغيير ويرضون جميع الأطراف ولكن بالنسبة لكامالا هاريس فهي لاتملك المفتاح “الكاريزمي” في نفس الوقت الذي لم تفقد فيه مفتاح مايسمى بـ”الاضطرابات الاجتماعية” والذي اعتبر البعض أن المظاهرات ضد الحرب بين إسرائيل وغزة كافية لجعل هاريس تفقده ولكن لكي يصبح هذا واقعًا يجب أن تكون هناك اضطرابات اجتماعية ضخمة ودائمة تستدعي مشاكل اجتماعية كبيرة اي التشكيك في استقرار البلاد. اما بالنسبة للمفتاحين الرئيسيين فان النجاح العسكري الأجنبي والفشل العسكري الأجنبي لا يزالان “غير مؤكدين”، “لكنهما لن يكونا كافيين لعكس الوضع لصالح ترامب على اية حال. فبعد يومين من المناظرة الرئاسية الأولى بين المرشحين توافقت توقعات المؤرخ الكبير مع استطلاعات الرأي التي تنسب إلى كامالا هاريس نية التصويت بنسبة 47% مقابل 44% لدونالد ترامب حيث حققت المدعية العامة السابقة معظم أهدافها بدرجات متفاوتة وأنهت حجتها بنبرة متفائلة من خلال دعوة الأميركيين إلى طي صفحة سنوات ترامب الفاسدة. فمنذ البداية بدا واضحاً أن كامالا هاريس مستعدة جيداً ولديها خطة وترسانة من النقاط الأساسية والتي اوقعت ترامب في فخ المبالغات والأكاذيب والادعاءات السخيفة ليدعم دون قصد الرسالة القائلة بأن الوقت قد حان لطي الصفحة والانتقال إلى وجه انتخابي جديد خاصة بعدما سمح لغضبه بالسيطرة عليه بل والقيام بصياغة نظرية مؤامرة جديدة تقول أن كامالا هاريس كانت تعرف الأسئلة مسبقًا دون أن يدري أن الاستعداد ليس مؤامرة وان استمراره بهذه الطريقة يعني أنه غير قادر على الاعتراف بالهزيمة ولا يرغب في احترام روح أو نص القواعد الديمقراطية وبالتالي سوف يكون لزاماً على الأميركيين أن يقرروا ما إذا كانوا سيطويون صفحة هذه الرؤية السياسية أم لا.
الشعب الأمريكي يريد الأفضل
كامالا هاريس تريد مجتمع أكثر عدلا فهي تعارض بوضوح آراء دونالد ترامب بشأن الإجهاض والهجرة والنظام القانوني الأمريكي كما انها ترفض كذلك أية استراتيجية تقوم على تقسيم الأفراد وفقا لانتمائهم العرقي الحقيقي أو المفترض وهو مايفعله ترامب دوما حيث استخدم طوال حياته المهنية العرق لتقسيم الشعب الأمريكي لذلك فهي بدورها تريد دفع الناس للأمام لا هدمهم ويعتقد العديد من المراقبين أن هاريس فازت على المستأجر السابق للبيت الأبيض بفارق كبير. ووفقا للصحافة الأمريكية فإن ترامب غالبًا فقد السيطرة في هذه المناظرة شديدة التوتر بالنسبة له ما جعل الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم في ولاية بنسلفانيا وهي ولاية رئيسية من المتوقع أن تكون حاسمة في السباق إلى البيت الأبيض يقولون أن كامالا هاريس فازت في هذه المناظرة بقوة حيث بدت وكأنها استعادت الثقة بنفسها عندما رأت ترامب يتأرجح تحت الأسئلة المتواصلة. وبشكل عام ترى الصحافة العامة الأميركية أن كامالا هاريس كانت أكثر راحة طوال المناظرة وأن دونالد ترامب تعرض لزعزعة الاستقرار في عدة لحظات. فبعد أن بدا الملياردير البالغ من العمر 78 عاماً وكأنه يسير على الطريق الصحيح لاستعادة البيت الأبيض فإن كامالا هاريس المرشحة الديمقراطية تطغى عليه الآن رغم محاولته القاء اللوم عليها في الانتكاسات التي شهدتها أسواق الأسهم الأمريكية واتهامها بشكل خاص بأنها سوداء فوالدها جامايكي وأمها هندية. عنصرية ترامب هذه والتفرقة على اساس اللون هو ما جعل هاريس تتساءل عن نوع البلد الذي يرغب الأمريكيون في العيش فيه. هل هو بلد الحرية والرحمة وسيادة القانون أم بلد الفوضى والخوف والكراهية؟
اذن فمن حيث الشكل فإن النصر سيذهب بلا شك إلى المرشحة الديمقراطية التي رغم عدم خوضها أية مناظرات قبل ذلك الا انها بدت شديدة القوة والتحكم في الاعصاب والهدوء لتهاجم خصمها منذ بداية اللقاء وتستغل غروره لتوقعه في المزيد من الأكاذيب التي لايملك حيالها سوى المزيد من النباح على حد تعبير الصحف الامريكية.