مقدمة
ظل الكرد والقضية الكردية ضحية للتطورات الدولية في إطار مطامع القوى الكبرى الدولية والإقليمية، وصراعات المنطقة المستمرة، ما أثر على تاريخ الكرد وجغرافيتهم، ولاسيما ما يتعلق بتأسيس جمهورية كردستان بمدينة مهاباد في غرب إيران، التي لم تستمر سوى لعام واحد فقط، ومن ثم وعلى آثر مصالح القوى الدولية قُتلت واندثرت وهي في مهدها، خاصًة بعد تغير الموقف السوفييتي الذي نتج عنه قطع الدعم المالي والعسكري عن مهاباد، ونجاح السلطات الإيرانية في استعادة الأراضي التي كان الكرد قد نجحوا في السيطرة عليها وتأسيس الجمهورية الكردية بها.
وقد كان الكرد منذ القدم أمام تحديات صعبة وقد كانوا بمجتمعيتهم المتماسكة واصرارهم على حريتهم، يهزمون كل من حلم بحكم أمتهم وأراد أن يقاتل ضدهم، ولم يقدموا أية تنازلات فيما يخص حقوقهم ووطنهم، حتى بعد فقدهم السلطة والسيادة نتيجة ظروف إقليمية ودولية، حيث ضحى الملايين منهم من أجل الحصول على الاستقلال والحرية، متحملين كافة المصائب التي لاحقتهم، كالتعذيب والقتل والسلب دون أن يكلوا من تحقيق أهدافهم وطموحاتهم، ولم يستسلموا في طريق تحقيق الحرية بإرادتهم القوية والعزيمة المستمرة التي عملوا بها على مواصلة النضال بقوة على مدار مختلف العصور والأزمنة.
تم تقسيم موطن الشعب الكردي كردستان في معاهدة قصر شيرين عام 1639، بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية، التي أنهت الحرب بينهما على حساب الشعب الكردي وأدت إلى تقسيم موطنه التاريخي، ومع الحرب العالمية الأولى والاتفاقيات الدولية تم تقسيم أراضي الكرد التي كانت تحت الاحتلال العثماني بين ثلاث دول، وبذلك أصبح الكرد متواجدين بشكل رئيسي في أربعة دول.
ويشكل شرق كردستان الذي تسيطر عليه “طهران” منذ عهود طويلة ثاني أكبر جزء من كردستان الكبرى بعد شمالها، فتبلغ مساحتها حوالي 125 ألف كم مربع، وعانى الكرد لعهود طويلة من سياسات التهجير والتجريد من السلاح والقمع بهدف نزع الهوية القومية عنهم من قبل السلطات الإيرانية، وهي ذات السياسة التي اتبعتها “أنقرة” في التعامل مع الكرد ومحاولة نزع هويتهم، كما مارست الحكومتين العراقية والسورية السياسات ذاتها أيضاً ضدهم.[1]
وعلى الرغم من ذلك، تمتع الوضع الكردي في إيران بمستوى طفيف من المرونة على المستوى الثقافي، نظرًا لأن الكرد والفرس ينحدرون من أولى المجموعات الآرية اثنيًا ولغويًا، وقد تكاملت هويتهما القومية الأولى في “عصر الكونفدرالية الميدية” (728-549 ق.م) بزعامة الكهنة الزرادشتيين. [2]
في هذا الإطار، تهدف تلك الدراسة إلى البحث في رحلة تحديد ملامح بناء الجمهورية الكردية الأولى كردستان أو كما بقول البعض جمهورية “مهاباد” في إيران، وظهورها واندثارها، وأسباب تدهور واختفاء هذه الجمهورية بعد نجاح الكرد في تأسيسها، خاصةً بالمرور إلى المواقف الدولية التي أثرت على القضية الكردية في الماضي والحاضر، وتوضيح السمات الرئيسية لجمهورية مهاباد، واهتماماتها قبل انهيارها السريع.
ظروف مهيئة للحكم الذاتي:
تعرض الكرد في إيران خلال فترة الحرب العالمية الثانية إلى عنف مارسته القوات الإيرانية ضدهم، حتى انسحب الجيش الإيراني بعد الهجوم السوفييتي الذي وصل إلى شمال كردستان الإيرانية حتى مهاباد، وانهار نظام “رضا شاه الكبير” أمام ضربات السوفييت، كما احتلت القوات البريطانية القسم الجنوبي من كردستان ودخلت إلى مدينة كرمنشاه، وتمكنت القوتين العظمتين من إجبار “رضا شاه” على التخلي والتنازل عن العرش الشاهاني لإبنه “محمد رضا بهلوي”، لكون “رضا شاه” مواليًا لألمانيا.[3]
وفي إطار محاولة الدفاع عن حقوق الكرد أمام سياسات العنف والإنكار، تحالفت القبائل الكردية وقامت بالاستيلاء على أسلحة ومقرات الجيش الإيراني، وبذلك تمكن الكرد من التسلح في عام 1941، وبلغ عدد المسلحين من أبناء العشائر حوالي 10 آلاف شخص، وانطلق النضال الكردي في مواجهة أعمال العنف الممارس ضدهم لعهود، وتمكن الكرد آنذاك من المطالبة ببعض المطالب السياسية للوصول إلى تفاهم مع الحكومة الإيرانية والتي من أهمها[4]:
- إعطاء الكرد الحق في التسلح بحرية داخل مدينة أورميه والمدن الأخرى.
- منح الكرد الحرية في إدارة شؤونهم القومية، وإنهاء أعمال القمع ضد هويتهم.
- فتح المدارس على نفقة الحكومة المركزية.
لكن على الرغم من سيطرة الاحتلال السوفييتي والبريطاني على الأراضي الإيرانية، ظلت مدينة مهاباد والمناطق الكردية بينها وبين سقر منطقة حرة، لا سلطة عليها إلا للمركز الأمني الإيراني الوحيد “شرطة مهاباد”، لكنها لا تمتلك السلطة الحقيقية في ظل حالة الفراغ السياسي والأمني بالبلاد، وأصبحت هذه المنطقة التي يقطنها غالبية كردية وأقلية أذرية محررة من نظام الشاه والممارسات القمعية التي كانوا يتعرضون لها من السلطات الإيرانية لعهود[5]، لذلك سمحت القوى الدولية المحتلة بظهور هذه الحالة من الفراغ، التي أعطت الفرة للكرد في تنظيم ذاتهم أمام السلطات التي ظلت تمارس القمع ضدهم.
وهنا تزايد التعاون بين الكرد، مع مرونة الحركة على الحدود مع جنوب كردستان، ونشاط الحركة التجارية معهم، وبدأ يتشكل الحلم المشروع في قيام دولة كردية على أرض كردية لشعب يتمتع بجميع مقومات الاستقلالية، ودون التأثير على سيادة أو كيان أي دولة من الدول المحيطة، بعد أن أثبت الكرد قدرتهم على تنظيم ذاتهم باستمرار دفاعا عن حقوقهم ومطالبهم المشروعة، وعمل بعض المثقفين الكرد على تقديم بعض الكتابات والأشعار الوطنية، لتشجيع الشعب الكردي وإثارة مشاعر النضال داخلهم، والعمل على تأسيس تنظيم يتولى الدفاع عن الحقوق السياسية والقومية لتحرير الكرد، وبلوغ الحرية والاستقلال، وعمل قاضي مدينة مهاباد “قاضي محمد” على مكافحة أعمال النهب في مهاباد وضواحيها، التي كان يمارسها آنذاك بعض الإقطاعيين ورؤساء القبائل ، وتمكن من إرساء قواعد الأمن والاستقرار بالمدينة.[6]
بعد أن فقدت السلطات الإيرانية السيطرة على المناطق الكردية، ظل مقر شرطة مهاباد الوجود الوحيد للنظام الإيراني في المدينة، وعندما اعتزم قائد القوات العسكرية في غرب إيران الجنرال “هوشمند أفشار” زيارة مقر الشرطة في مهاباد، خرج الأهالي في مظاهرات حاشدة تنديداً بهذه الزيارة، ورشقوه بالحجارة إلى أن اضطر للانسحاب ومغادرة مهاباد، وفي عام 1943 ألقى أحد المثقفين الكرد يُدعى “عزيز خان بيكزادة” خطابًا في اجتماع بساحة “جارجرا” في مهاباد حول الثقافة الكردية والهوية القومية للكرد، داعياً إلى إنهاء فعالية كافة المقرات الحكومية في المدينة، وبسبب وطنيته وتأثيره الشديد وعشقه للهوية الكردية والديمقراطية، تحرك الجمهور نحو المقر، وردت الشرطة الإيرانية عليهم بوابل من الرصاص أودت بحياة أحد المواطنين، مما أثار غضب الكرد وحميتهم وزحفوا نحو المقر وقتلوا عدد من ضباط مقر الشرطة وأسروا الآخرين، وتم الاستيلاء على المقر وإزالة أخر مظهر للوجود الإيراني في مهاباد.[7]
وبالتزامن مع ذلك نهضت جمعية الإحياء الكردي “KJK” المعروفة بـ “كوملي” في أنحاء شرق كردستان عام 1944، وانضم إليها “قاضي محمد”، وقدمت شبيبة الكوملي في 1945 مسرحية غنائية بعنوان “دايكي نيشتمان – الوطن الأم”، تروي عن امرأة تُدعى “دايكي نيشتمان – كردستان” اغتصبها 3 شقاة في إشارة إلى كلا من (إيران – تركيا – العراق)، وبعد الأهوال أُنقِذَت أخيرًا على أيدي أبنائها الشجعان، وبات الجو مشحونا بالوطنية وركزت المسرحية أثرًا عميقًا في نفوس مشاهديها.[8]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأسيس مهاباد:
تأسس الحزب الديمقراطي الكردي عام 1945 في مهاباد متخذاً “جمعية الإحياء الكردي” قاعدة له، بدعوة من “قاضي محمد” الذي دعا الشخصيات الكردية البارزة والزعماء القبليين إلى عقد اجتماع عام، بهدف تأسيس حزب جديد، وقد أعلن زعماؤه عن ارتباطه بعلاقات صداقة وثيقة مع الاتحاد السوفييتي، كما أكد “قاضي محمد” أيضًا آنذاك أن الرو ياندون الحزب في توفير حقوق الكرد[9]، وكان من أهم الأفكار والمعتقدات أو الأهداف التي أعلن عنها برنامج الحزب ما يلي:
- الحرية والحكم الذاتي للشعب الكردي داخل الدولة الإيرانية.
- حرية استخدام اللغة الكردية في التعليم وجعلها اللغة الرسمية في الشؤون الإدارية.
- تولي السلطة العليا في المنطقة الكردية للكرد.
- إقامة علاقات أخوية مع شعب أذربيجان في النضال المشترك مع بقية الأقليات القومية الأخرى.
- العمل على توفير مستويات أفضل على مستوى الأوضاع الاقتصادية باستثمار الموارد الطبيعية وتنمية الزراعة والتجارة وتطوير الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم.
وخلال الاحتفال بتأسيس الحزب تم إنزال العلم الإيراني من مبنى القصر العدلي ورفع علم كردستان المكون من الألوان الثلاثة: (الأحمر – الأبيض والأخضر)، وفي وسطه شمس مشرقة خلف الجبال، وعليها رأس قلم محاطة بسنبلتين من القمح، وسط هتافات الجماهير المرتفعة وزغاريد النساء وأصوات العبارات النارية وبدء الرقصات الشعبية الكردية، وتم تشكيل جيش وطني، وعُقدَت اتفاقية اقتصادية مع السوفييت واتفاقية صداقة وتعاون مع حكومة أذربيجان.[10]
كان لتطور العلاقات بين الكرد والسوفييت بعد طرد القوات الإيرانية وتولي الكرد حكم بلادهم، أثراً بالغاً في تأسيس الجمهورية الكردية في مهاباد، بعد أن وجه كبير الضباط السوفييتيين الجرال “سليم أتاكشيوف” دعوة إلى “قاضي محمد” وعدد من الشخصيات الكردية البارزة لزيارة مدينة باكو – عاصمة أذربيجان السوفييتية – للتباحث حول مستقبل كردستان والعلاقات البينية، وتُعد هذه الزيارة هي الزيارة الثانية بعد زيارة أخرى للكرد في باكو عام 1942 لم يكن لها صداها آنذاك، وفي هذه الزيارة كان السوفييت فيها في موقع المنتصر في الحرب، وعلى الرغم من رغبة الكرد في الحصول على الحكم الذاتي، عرض السوفييت عليهم أ يكو الحكم في أذربيجان الغربية أو قريباً منها، ودعمت أذربيجان السوفييتية الكرد بالعتاد الحربي كالأسلحة الخفيبفة والمتوسطة.[11]
في 22 يناير عام 1946 تم الإعلان عن تأسيس جمهورية مهاباد الديمقراطية، بعد أن جرت الانتخابات باجتماع الآلاففي ساحة مهاباد التاريخية، وإعلان “قاضي محمد” عن الجمهورية بمقولته الشهيرة “أقسم بالله، بالقومية الكردية والعلم المقدس لكردستان بأنني سأحمي جمهورية كردستان واستقلالها حتى أخر قطرة من دمي وحتى أنفاسي الأخيرة”، كما أكد “قاضي محمد” على دور الاتحاد السوفييتي في دعم الكرد لتحقيق ذلك، وحيا أخوانه الأذربيين، مؤكدًا على الدعم المتبادل والمساندة والأخوة بين الكرد وأذربيجان.[12]
ويمكن القول أنه وبعد مرور حوالي 77 عام على تأسيس مهاباد أن وحدة الكرد والفرص التي قد يحصلون عليها بفضل هذه الوحدة والتكاتف في ظل حالات التنافس والتوازن بالمنطقة، هي ما حقق وقد يحقق الفرصة لتحقيق مطالبهم، لعدم تخلي الكرد عن حقوقهم التي ظلوا يدافعون عنها على مر العصور المختلفة، دون أن يكلوا أو يتراجعوا عن المطالبة بها، والنضال الذي لا يتوقف في مواجهة العنف الذي يستهدف وطمس هويتهم وهدم أمانيهم المتعلقة بالأمة الديمقراطية والرغبة في استعادة وطنهم.
وقد تناول المفكر “عبد الله أوجلان” إلى هذه المطالب الكردية وما يواجهها من قمع ومحاولات إبادة، بوصفه الواقع الاجتماعي الكردي أنه مُعرض إلى التصفية شديدة الوطأة، بحجة خلق مجتمع متجانس في الدول التي يقطن بها الكرد ولاسيما إيران وتركيا كذريعة لاستمرار ممارسة العنف والترهيب ضد الشعب الكردي، ومحاولة إجباره على التخلي عن الكردايتية، وإن وصل الأمر إلى حد الإجبار القسري وتنفيذ إبادات في كثير من الأحيان بحق الكرد من قديم العصور.[13]
بالنظر إلى حجم التنظيم الذي أسسه الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني آنذاك، نجد أنه هو ما نشأت على أسسه الحركات الكردية فيما بعد، بما يشمل الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي وحزب العمال الكردستاني، حيث اتسمت جمهورية مهاباد التي حكمها الأكراد لعام واحد فقط بمجموعة من الاهتمامات أو السمات الرئيسية، وعلى رأسها الآتي:
- منح المرأة حقوقها وإشراكها بالمجتمع: وفرت مهاباد للمرأة مكانة خاصة وأشركتها في جميع تشكيلات الدولة، ويشمل ذلك التشكيلات الأمنية والعسكرية، وقد تم دعوة المرأة الكردية أحياناً للانضمام إلى الرجال والمشاركة في تحرير الوطن الأم، ة: اوكانت السيدة “مينا” زوجة قائد كردستان، والتي وصفها الشعراء بـ “نبع الحرية” الذي لم تدنسه يد الاستبداد، شديدة الاهتمام بترسيخ حقوق سيدات كردستان، وقد أسست تحت إدارتها الحزب الديمقراطي لنساء كردستان، الذي شكل الجناح النسائي للحزب الديمقراطي الكردستاني، ما أكد اهتمام مهاباد بوجود المرأة في الحياة السياسية للجمهورية.[14]
- الرغبة في توفير التعليم لأبناء الجمهورية: اهتم “قاضي محمد” بتطوير المجتمع وإتقان الأجيال الاختصاصات التعليمية لتحقيق ذلك، فنظر إلى العلم على أنه ما يدفع عجلة المجتمع إلى الأمام، ويبدو أن هذا النهج ذاته الذي استقى منه الملا “مصطفى بارزاني” في كردستان الجنوبية شمال العراق، وسار عليه حين بدأ في إرسال الشباب للخارج ليدؤسوا مختلف الاختصاصات ويكملوا مسيرتهم التعليمية حتى مستوى الدراسات العليا، ما نتج عنه تخرج نخبة من المتعلمين والأكاديميين والدكاترة شكلوا أساس تطوير إقليم كردستان، بعد حصوله على الحكم الذاتي.[15]
- الاهتمام بالمحور الثقافي والفنون الحديثة: تم إنشاء أول مسرح كردي في جمهورية مهاباد، بل وعمل الكرد على تطويره بدرجة عالية، وأُصدِرَت صحف ومجلات، كما تأسست دور نشر ومطبعة كردستان، وتم توظيف هذه المصادر للقوة الناعمة في تعريف الحقوق الكردية وأهمية التعليك وتطوير المجتمع الكردي في كافة المجالات، وفي هذه الأثناء تم اعتماد أول نشيد كردي مازال حتى اليوم نشيدًا لجميع الكرد، فقد كان “قاضي محمد” مثقفًا للغاية ويتقن الكردية والعربية والفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية والروسية، مما مكنه أن يكون مطلعًا على جميع ثقافات العالم، وكان من أعمدة بناء الجمهورية الكردية الأولى “مهاباد”.
- القناعة بضرورة الإنتاج الذاتي: رأى “قاضي محمد” أن المجتمع الذي لا يأكل من عمل يده ليس مجتمعًا حرًا، وبالتالي عمل على تطوير الزراعة والصناعة، ودمج بين هدفين رئيسيين لبناء الأمة الديمقراطية وهما الاهتمام بالتعليم والإنتاج الذاتي، للحفاظ على الأمة من تحولات النظام الدولي والقوى الكبرى التي تتحرك في الإقليم وفقًا لمصالحها الذاتية وطبيعة النظام الدولي، وقد كانت مهاباد نظرًا لذلك أفضل من كل مجتمعات الشرق الأوسط في هذا الوقت.
- إعطاء الأولوية والولاء للمسألة الكردية: لم تتجه مهاباد إلى تحقيق مصالح القوى الدولية أكثر من اهتمامها بمصالح الكرد، على النقيض من جمهورية أذربيجان التي كانت حريصة بدرجة أكبر على المصالح السوفييتية، خاصًة لتأثير شقيقتها وراعيتها “أذربيجان السوفييتية”، فاهتم “قاضي محمد” بتكريس نظام قومي واجتماعي كردستاني، يتمتع به الكرد بأقصى درجة من الحرية، ولاسيما حرية التعبير عن الثقافة الكردية واستخدام اللغة الأم والحصول على مستوى طور من التعليم، دون تقييد حقوق الكرد الذي عانى الشعب الكردي منه خلال حكم “رضا شاه”.[16]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انهيار الجمهورية الكردية:
انهارت مهاباد لعوامل في معظمها خارجية، فعلى الرغم من أنها كانت مدعومة من الاتحاد السوفييتي، إلا أن ساسة إيران تقربوا من بريطانيا، التي مارست دورًا محوريًا في الضغط على “موسكو” للتوقف عن دعم مهاباد وإنهائها، وقد سعى “قاضي محمد” إلى الحصول على اعتراف رسمي بحكم ذاتي كردي في إطار الدولة الإيرانية، وعلى الرغم من تقديم رئيس الوزراء الإيراني آنذاك “قوام السلطنة” اقتراحاً يضمن إقليم كردي يكون “قاضي محمد” أول حاكم له، على أن يكون تعيين الحاكم الكردي للإقليم من قبل الحكومة المركزية، ورغبة “قاضي محمد” في الموافقة على هذا الطرح، إلا أن موقف السفير السوفييتي من ذلك كان من أهم أسباب رفض العرض الإيراني، لاعتبار السوفييت أن قبول هذا الاقتراح يُعد بمثابة خيانة لهم، وبالتالي رُفِضَ العرض. [17]
بالتالي، فإنه على الرغم من دور الاتحاد السوفييتي في تأسيس مهاباد، لقد كان له دورًا كبيرًا في سقوطها، بمنع الجمهورية مرارًا وتكرارًا عن اتخاذ بعض القرارات المصيرية لاعتبارها تشكل خيانة للسوفييت، مما أدى لدخول الكرد في حرب مع طهران، في ظل انشغال السوفييت بالانتخابات الإيرانية لعرض اتفاقية للنفط على المجلس المُنتَخب، دون اكتراث لجمهوريتي الكرد والأذريين، ما نتج عنه انهيار أذربيجان دون تحرك الاتحاد السوفييتيي لأجل ذلك، ومن ثم دخول القوات الإيرانية إلى مهاباد، وبمجرد وصولهم قاموا بإغلاق المطبعة الكردية وأحرقوا جميع الكتب الكردية بما فيها المدرسية، وتم حظر التعليم باللغة الكردية، وفي مارس 1947 تم شنق “قاضي محمد” وبعض رفاقه في مهاباد بتهمة الخيانة في “ساحة جارجرا” بسرية تامة فجرًا، وهي الساحة ذاتها التي أُعلِنَ بها قيام الجمهورية الديمقراطية الكردية مهاباد، بينما فر وزير دفاع جمهورية مهاباد “الملا مصطفى بارزاني” منسحبًا بقواته إلى موسكو وبقى هناك حتى عودته للعراق عام 1958.[18]
وختامًا، يمكن القول أن جمهورية مهاباد وعلى الرغم من كونها لم تستمر لأكثر من عام واحد، فإنها تُعَد فصلًا رئيسيًا في النضال الكردي على مر العصور، فقد كانت هذه الجمهورية حلمًا كرديًا لم يستمر بسبب الظروف الخارجية والداخلية التي لم تساعد هذا النموذج في الحفاظ على ما حققه من إنجازات حقيقية ملموسة، ولذلك يُنظَر إلى قيام مهاباد بكامل الاحترام والتقدير لنضال الكرد.
وتشكل مهاباد الكردية التي تأسست في كردستان الشرقية تجربة حقيقية فريدة تمامًا في تاريح الكرد الحديث والمعاصر، واستطاع خلالها الكرد تحقيق مساعي تأسيس كيان مستقل لهم وعلى أرضهم،ما يدل على الوعي القومي بين الكرد وقوته، وتصميمهم على حكم ذاتهم ولا يجب إغفال أن مواقف وسياسات القوى الكبرى والدول التي يعيش على أرضها الكرد شكلت بصورة مستمرة عائقًا أمام الحقوق والمطالب الكردية، لكن نموذج مهاباد في إيران قد ثبت جذور الفكر الكردي الذي ترعرع في وجدان الشباب الكرد حول أول علم وأول نشيد وطني لهم، وبعد مرور أكثر من 75 عام على انهيار الجمهورية الديمقراطية الكردية في مهاباد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] عبد الله أوجلان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الخامس، “القاهرة: مركز القاهرة للدراسات الكردية، ط3، 2017”.
[2] ملا ع.الكردي، كردستان والأكراد، “بيروت: دار الكاتب، ط1، 1990”.
[3] المرجع السابق.
[4] عبد الرحمن قاسملو، أربعون عام من الكفاح من أجل الحرية، “بيروت: هوشنك كرداغلي، ط2، 1994”.
[5] المرجع السابق.
[6] عثمان علي، دراسات في الحركة الكوردية المعاصرة، “اربيل: مطبعة الثقافة، ط1، 2003.
[7] محمد شيرزاد، نضال الأكراد، “القاهرة: مطلعة التقدم، ط1، 1946”.
[8] عبد الله شكاكي، الجمهورية الديمقراطية الكردية، مركز الفرات للدراسات.
[9] عبد الرحمن قاسملو، مرجع سابق.
[10] Said Veroj, komara kurdistane a Mehkemekirina pesewa mihemed, wesanen sitav, 2019.
[11] المرجع السابق
[12] كيف تأسست جمهورية مهاباد وما سبب انهيارها، وكالة فرات للأنباء، 22 يناير 2023.
[13] عبد الله أوجلان، مرجع سابق.
[14] جيهان علو، مينا خانم قاضي… أم الكرد وزوجة الإمام الشهيد، مركز الخليج للدراسات الإيرانية، 4 مايو 2024.
[15] عبد الله شكاكي، مرجع سابق.
[16] زانا سيدي، قاضي محمد أيقونة النضال الكردستاني ومؤسس جمهورية مهاباد، وكالة أنباء هاوار، 31 مارس 2024.
[17] د. نازدار جنيل مصطفى، دراسة عن “سياسة الحكومة السوفييتية تجاه جمهورية مهاباد الكردية، مجلة مجلة قەاڵى زانست العلمية، المجلد 7، العدد 4، 2022.
[18] وليام إيغلتون، الجمهورية الكردية 1946 في مهاباد، “حسين أمين”، (بغداد: المدى للإعلام والثقافة والفنون، ط1، 2012).