دراسات

الغرب والسياق الكردي بعد الحرب العالمية الثانية

تحليل:  د. أحمد انبيوه

رأينا آنفا أنه خلال سنوات الحرب العالمية الأولى أعيد إنتاج مكانة الكرد في فضاءات العلاقات الدولية؛ ففي السنوات التي تلت الحرب غدوا لاعبًا مؤثرًا في إيقاعات القوى الكبرى وعلاقاتها بإقليم الشرق الأوسط. لقد ترسخت بعد الحرب العالمية الأولى ولعقود، عدد من ميكانزيمات الفعل الدولي ومفاهيمه المؤسسة من قبيل: “استراتيجيات السلام” “التراب الوطني”، وكلها إيقاعات نظرية تدعم بشكل محوري الجانب الدولتي على حساب العدل الإنساني والحق التاريخي الذي يطالب به الكرد، وأطروا به حراكهم الثوري والسياسي طوال السنوات القرن العشرين، إزاء منظومات السيادة والدولة القومية. ولهذا يغدو الهم البحثي هنا تناول القضية الكردية وفق مبدأ الأفق العام لا النظرة الداخلية التي تتعاطى مع الجسد الكردي وفق المبدأ التفتيتي القومي الحداثي.  

وكما تابعنا في الدراسة السابقة، برزت القضية الكردية كحالة حساسة منذ 1916، أي بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية إلى دوائر نفوذ من قبل القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. وحتى قبيل التفكيك كانت رقعة المنطقة قد تعرضت للتفتيت بفعل اتفاقية سايكس – بيكو السرية للعام 1915 بين فرنسا وبريطانيا، التي قسمت منطقة الشرق الأوسط إلى دوائر نفوذ لكل من الطرفين، كما نصت على سيطرة إدارية لكل منهم. وأخذ الأمر شكلًا عمليًا حين كُلفت بريطانيا بالانتدابين على فلسطين والعراق في مؤتمر سان ريمو في العام 1921. وبالنسبة إلى البريطانيين كان الكرد في تلك المرحلة أمة موجودة تحتاج إلى الاستقرار في أرضها الخاصة بها من ضمن الدولة العراقية الوليدة. لكن في المؤتمر الذي أعقب الحرب، تراجعت القوى العظمى فيما بعد عن قرارها الأولي بإعطاء الكرد دولة، خوفاً من التداعيات المحتملة لهذا القرار على قابلية العراق للحياة كدولة في ضوء موقع حقولها النفطية في الشمال) وعلى التوازن الإقليمي للقوى (استجابة لمطالب أتاتورك وحساباته حول أهمية الدول التركية الوليدة). وهكذا، أدى تشكيل المصالح هذا، وفي سياق خلق نظام شرق أوسطي جديد، أصبح الكرد موزعين بين خمس دول. فالإضافة إلى الاتحاد السوفيتي، أصبح الجسد الكردي موزعًا ما بين العراق وسوريا وتركيا وإيران. ومنذ أربعينيات القرن العشرين، بدأت المنطقة تشهد تغيرات عميقة في موازيين القوى وخريطة التحالفات وبنية المصالح، على إثر انتقال السيطرة الإقليمية من الأوروبيين إلى الولايات المتحدة. وترافق مع هذا بالتبعية تدويل للقضية الكردية ودخول لاعبين جدد بمصالح مغايرة، وأضحى الكرد لاعب إقليمي وازن أشكال التفاعل لسياسي والتطورات الدولية ([i]). وسيستمر هذا الدور إلى السياق الآني، وهذا ما سنراه هنا وفي الدراسة القادمة.  

لذلك، وبغض النظر عن التعبيرات المختلفة حول الطموحات الكردية، تشكلت القضية الكردية بالتزامن مع التوزع الكردي بين أربع مناطق مختلفة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكذلك برفض القوى الإقليمية والأجنبية السماح للأمة الكردية باستخدام الأرض التي يطالبون بها تاريخيًا لتأسيس دولة كردية. واليوم، وفيما قد يمثل الكرد الحالة المحددة الوحيدة للاعب في السياسة الدولية لا يشكل دولة، يتسم بهذه الدرجة من التنوع، يعرف الجميع أنفسهم، على الرغم من كل ذلك، بأنهم كرد. فالقضية الكردية «مسألة» للكرد الذين يبحثون عن إجابة عن السؤال المتعلق بما إن كانوا سيمنحون دولة يوماً ما. لقد استخدمت القوى الخارجية والإقليمية تاريخياً، «المسألة» نفسها للترويج لمصالحها الخاصة بها لكنها بقيت مترددة حول استعدادها لمحاولة الإجابة عن السؤال الصعب ([2]). أو بصيغة أخرى يمكن القول، كانت فترةُ ما بين الحربَين العالميتَين الأولى والثانيةِ مرحلةً ستتصاعدُ فيها الحركةُ القوميةُ الكرديةُ المعاصرة. لكنّ تجزيءَ كردستان، وتصفيةَ الحركاتِ السقيمةِ التي ظهرَت خلالها، ومن ثم تطبيق سياساتِ الصهرِ المُرَكَّزةِ قد قضى على فرصةِ التحولِ إلى حركةٍ قوميةٍ معاصرة. كما أدت الألويةُ الحميديةُ الدورَ المُعيقَ عينَه قبلَ الحربِ العالميةِ الأولى. كِلتا المرحلتَين تُعادِلان نصفَ قرنٍ من الزمن تقريباً. وفي غضونِ نصفِ القرنِ هذا، كانت الحركاتُ القوميةُ بدأَت بالتطورِ والنضوجِ بين صفوفِ جميعِ الشعوبِ التي تتميزُ بالخصائصِ المماثلةِ على الصعيدِ العالميّ. إلا إنّ الكردَ كانوا قد أضاعوا فرصةَ النجاحِ والتحولِ إلى حركةٍ قوميةٍ معاصرة، نتيجةَ الألويةِ الحميديةِ وحملاتِ التقسيمِ والتجزيء ([3]).

خلال سنوات النصف الأول من القرن العشرين، لم نكن أمام واقع كردي جديد، بل كان الجديد هو التقسيم الجبري للجسد الكردي، فالتفتيت لم يصب لا الوجدان الجمعي الكردي، ولا وحدة القضية لدى المؤمنين بها. فلطالما تواجدَت حقيقةُ الوطنِ الأمِّ تاريخياً بالنسبةِ للكرد، بدءاً من الكردِ الأوائلِ إلى أولئك المُعاصرين. فمصطلحاتُ كورتيا لدى السومريين، وكُوردِيوَانا (غوندوانا، أي موطن الكرد) لدى اللويين، وكاردوكيا لدى الهيلينيين مُشتقةٌ جميعُها من الجذرِ عينِه. وقد طرأ عليها التحولُ مع الوقت، لتتخذَ شكلَها الأخيرَ رسمياً باسمِ “كردستان” اعتباراً من عصرِ نفوذِ السلاطين السلاجقةِ في بلادِ إيران (القرن الحادي عشر الميلاديّ). إذ شاعَ استخدامُ مصطلحِ “كردستان” في مئاتِ الفرمانات (أوامر السلطان) في عصرِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ أيضاً. ولدى تأسيسِ الجمهورية، لجأَ مصطفى كمال بذاتِ نفسِه إلى استخدامِ مصطلحِ “كردستان” كتابةً ولفظاً مراتٍ كثيرة، وعرَّفَ النُّوَّابُ الكردُ الأوائلُ في البرلمانِ التركيِّ أنفسَهم بـ”مندوبي كردستان”. لكن، واعتباراً من عام 1925م، حُظِرَت كلُّ التسمياتِ وشتى أنواعِ الإرثِ المعنيِّ بالكردِ وكردستان والكردايتيةِ على حينِ غَرّة وبأساليبَ وحشيةٍ فظيعة، في مساعٍ لإخراجِها من كونِها ظاهرةً قائمةً بذاتِها ([4]). أما الحدودُ المرسومةُ على يدِ الهيمنتَين الإنكليزيةِ والفرنسيةِ عقبَ الحربِ العالميةِ الأولى، فبكلمات عبد الله أوجلان من جديد؛ كانت ثانيَ تقسيمٍ مهم بالنسبةِ إلى الكرد. إذ كان الغرضُ منها القضاءَ على الكردِ تأسيساً على المصالحِ المشتركةِ بمَعِيّةِ الهيمنةِ التركية. وبشكل أكثر تحديدا، كان هذا التقسيمُ أكثرَ خطواتِ الحداثةِ الرأسماليةِ والقوى الكبرى تدميراً بالنسبةِ للكرد. فمثلما أنها أعاقَت تحولَهم القوميّ، فقد كانت تُيَسِّرُ تجريدَهم من كينونةِ الأمةِ أيضاً. وتحديدا، كانت الهيمنةَ الإنكليزية، التي كانت تَعتَبِرُ الإبقاءَ على الكردِ في وضعٍ إشكاليٍّ دائمٍ من أنسبِ الأساليبِ المتماشيةِ ومصالحَها فيما يتعلقُ بتحكمِها بمنطقةِ الشرقِ الأوسط. أي إنّ الإشكاليةَ بذاتِ نفسِها كانت تُصطَنَع، للإبقاءِ عليها واحدةً من الدعاماتِ الأساسيةِ لتأمينِ سيرورةِ النظام ([5]).

وبالتالي كان من الطبيعي نتيجة لهذا سحقَ العصياناتُ الكرديةُ التي حاولت التمرد على تركة التقسيم الثقيلة، كي لا تظلَّ كردستان وطناً للكرد. هكذا، راحَ شعبٌ بوطنِه بعدَما كان يأخذُ مكانَه في تأسيسِ الجمهورية، ليغدوَ مجردَ وحوشٍ يتعينُ سحقُها واعتبارُها غيرَ موجودةٍ بكلِّ ما فيها. وحوشٌ بلا لسانٍ ولا وطن. اسمُها محظور. أما بريطانيا بوصفِها قوةً مهيمنةً رأسمالية، فقد كانت الحليفَ الأقربَ لهذه السياسة. إذ لَم تَنبُسْ ببِنتِ شَفة. بل ساندَت هذه السياسةَ من وراءِ الستار. وبالأصل، فلهذا السببِ كانت قد استولَت على مكامنِ النفظِ في الموصل وكركوك. في حين كانت موالاةُ الدولةِ التركيةِ لفرنسا وتَبَنّي مفهومِها في القانونِ والأمةِ العلمانيةِ أمراً كافياً كي تنسى فرنسا تلك الممارساتِ اللاإنسانية. أما ألمانيا، فكانت بالأصلِ عضواً مؤسِّساً. في حين كانت ممارساتُ تركيا في كردستان بنظرِ أنصارِ الاشتراكيةِ الروسِ انتصاراً للتقدميةِ على الرجعية. جمهوريةُ مهاباد الكرديةُ في شرقي كردستان أيضاً كانت ضحيةَ السياسةِ عينِها- كما سنرى بعد قليل. ما تمّ بُرهانه هنا هو عدمُ تَواني قوى الحداثةِ الرأسماليةِ الأوروبية عن التضحيةِ في غمضةِ عينٍ بوطنِ شعبٍ عمَّرَ آلافَ السنين، وعن النظرِ إليه بعينِ العدمِ كرمى لمصالحِها اليومية. أما واقعُ جنوبِ كردستان، فقد سُخِّنَ على نارِ حساباتِ الحربِ الباردة – كما سنحاول تبيانه بعد برهة. حيث أُبقِيَ هناك على كردستان مُصَغَّرةٍ كورقةٍ احتياطيةٍ دائمة، بغيةَ جعلِها بيدقاً أمامياً للنظامِ القائمِ من جهة، ولسدِّ الطريقِ أمام تنامي وعيِ الشعبِ الكرديِّ من جهةٍ ثانية؛ كي لا يتمكنَ من التحكمِ بمصيرِه، بعدما استطاعَ الحفاظَ على وجودِه ولو جسدياً. لقد كانت منافعُها تقتضي ذلك هذه المرة. حيث أُدرِجَت الظاهرةُ المسماةُ بـ”كردستان العراق” في جدولِ الأعمالِ بشكلٍ مُطابقٍ تماماً للحُكمِ الصادرِ بحقّ الشعبَين الهيلينيِّ والأرمنيِّ؛ وذلك بإرضاءِ كلٍّ منهما بجزءٍ صغيرٍ من الوطنِ مقابلَ خُسرانِه لوطنِه التاريخيّ ([6]).


الولايات المتحدة وبريطانيا والكرد خلال فترة ما بعد الحرب

ومع ذلك، بحلول أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي متورطين في حرب باردة تصعيدية حيث امتدت منطقة ساخنة مبكرة من المضائق التركية عبر العراق وإيران إلى الخليج العربي. مع تصاعد الصراع الأيديولوجي، اكتشفت واشنطن أن القومية الكردية يمكن أن تكون مفيدة في الحد من نفوذ موسكو في الشرق الأوسط. في قصة حرب باردة كلاسيكية تتكرر من المرتفعات الوسطى في فيتنام إلى السافانا الوعرة في أنجولا، استغل صانعو السياسة الأمريكيون خطوط الصدع العرقية والقبلية القديمة داخل كردستان لتحقيق ميزة جيوسياسية قصيرة المدى. لم يُظهر المسؤولون الأمريكيون أي التزام دبلوماسي ولا تعلق عاطفي تجاه الكرد، الذين نظروا إليهم على أنهم ليسوا أكثر من ورقة مساومة في صراع دام 40 عامًا لإبقاء الاتحاد السوفيتي وعملائه العرب مثل العراق في حالة عدم توازن. على الرغم من أن الكرد بدأوا بالظهور الوجيز في نشرات الأخبار المعاصرة في السبعينيات، إلا أن الوثائق التي رفُعت عنها السرية حديثًا تجعل من الممكن الآن تتبع العلاقة الأمريكية الغامضة مع القومية الكردية خلال الحرب الباردة بشكل أكثر اكتمالاً ([7]).

في أوائل عام 1946، كانت إدارة هاري ترومان قلقة بشأن النفوذ السوفيتي المتزايد في شمال إيران، حيث كانت جمهورية مهاباد الكردية قصيرة العمر مدعومة من الاتحاد السوفيتي. خشيت واشنطن من أن تكون جمهورية مهاباد مجرد مقدمة لمحاولة سوفيتية أوسع للسيطرة على إيران ومواردها النفطية الغنية. لذلك، دعمت الولايات المتحدة سرًا حكومة إيران في قمع جمهورية مهاباد، التي سقطت في أواخر عام 1946. وأعدم المئات من القادة الكرد، بمن فيهم رئيس جمهورية مهاباد، قاضي محمد. شعر الكرد بالخيانة مرة أخرى، حيث تخلت عنهم القوة العظمى الوليدة.  في غضون ذلك، وصل آرشي روزفلت، ضابط استخبارات عسكرية أمريكي وخبير ناشئ في الشرق الأوسط وحفيد ثيودور، إلى كردستان حيث أكد أن الاتحاد السوفيتي كان بالفعل يصطاد في المياه العكرة. ومع ذلك، أصر روزفلت على أن القادة الكرد الذين التقاهم لم يكونوا مجرد دمى سوفياتية. وعلى الرغم من أن الكرد الإيرانيين “تمكنوا بمساعدة سوفياتية من إقامة جمهورية كردية مستقلة فعليًا” في مهاباد، كما يتذكر روزفلت بعد فترة طويلة، “لم يكن السوفييت يتدخلون علنا في الشؤون الداخلية لكردستان”. باختصار، “كانت حركة قاضي محمد وطنية وليست شيوعية، وقد قبل بها عدد كبير من الكرد في دول أخرى”، بما في ذلك مصطفى بارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق. ومع ذلك، لم يقبل شاه إيران بجمهورية مهاباد، وبمجرد خروج القوات السوفيتية بأمان من مملكته، أرسل قوات إيرانية إلى كردستان، حيث قبضوا على قاضي محمد وأجبروا مصطفى بارزاني وعدة مئات من مقاتلي الكرد على اللجوء إلى الاتحاد السوفيتي. وانطلاقًا من استيائه من قرار شاه إيران بإعدام قاضي محمد في مارس 1947، عاد روزفلت إلى واشنطن في وقت لاحق من ذلك الربيع للانضمام إلى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) التي تم تأسيسها حديثًا، حيث أمضى العقد التالي في تخطيط لسلسلة من حملات مكافحة التمرد والعمليات السرية الممتدة من إيران إلى اليونان ([8]).

أثار قلق روزفلت ومسؤولين أمريكيين آخرين أن يؤدي تعامل الشاه القاسي مع الكرد إلى نتائج عكسية. خوفا من أن تشير جولة جديدة من العنف في كردستان في سبتمبر 1947 إلى “بداية حرب عصابات على غرار اليونان على الحدود الإيرانية السوفيتية، ربما تشمل البارزانيين”، حث وكيل وزارة الخارجية روبرت لوفات الإيرانيين على النظر في شكل من أشكال الحكم الذاتي للكرد، الذين “لو تم تهميشهم من قبل الحكومة الإيرانية بسبب سياسة الجيش الانتقامية، فقد يصبحون بسهولة سلاحًا سوفيتيًا ضد إيران وليس فقط تركيا والعراق أيضًا”.  بيد أن الشاه انتهج نهجا صارما على مدار العقد التالي، حيث سجن القادة الكرد، وحظر اللغة الكردية، وبمساعدة من النظام المؤيد للغرب في بغداد، دمر المعاقل الكردية المتبقية على طول الحدود الإيرانية مع العراق. وعاجزًا عن مقاومة محور طهران وبغداد، أمضى مصطفى بارزاني وقته في موسكو، يتعلم الروسية، ويتشاور مع الخبراء السوفييت بشأن تكتيكات حرب العصابات، ويستعد للعودة إلى كردستان ([9]).

في 14 تموز/ يوليو 1958، فاجأ ضباط يساريون بقيادة العقيد عبد الكريم قاسم روزفلت وزملائه في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بالاستيلاء على السلطة في بغداد، وقتل العائلة المالكة، واللجوء إلى الاتحاد السوفيتي للحصول على الدعم. بعد أربعة أشهر، دعا قاسم مصطفى بارزاني للعودة إلى العراق، على أمل أن يخدم زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني المنفي كموازنة لقبيلة منافسة من الكرد الموالين للغرب ولهم علاقات وثيقة مع إيران. ومع ذلك، بدأ بارزاني على الفور بالضغط على النظام الجديد لمنح جميع الكرد العراقيين حكما ذاتيا، وهو ما لم يكن قاسم على استعداد للنظر فيه لأنه كان سيعني في النهاية منح الحزب الديمقراطي الكردستاني السيطرة على حقول النفط بالقرب من الموصل وكركوك. وغير قادر على تحقيق الحكم الذاتي على طاولة المفاوضات، عاد بارزاني إلى ساحة المعركة في سبتمبر 1961، وأمر قوات البيشمركة (كلمة كردية تعني “الذين يواجهون الموت”) بفتح النار على قوات قاسم في شمال العراق. اقتنع قاسم بأن الكرد يتلقون الدعم والتشجيع من الولايات المتحدة. وكان صانعو السياسة الأمريكيون يناقشون طرقًا لإقالة “الزعيم الأوحد” المعلن لنفسه في العراق منذ ما يقرب من ثلاث سنوات. ففي وقت مبكر من مايو 1959، أفاد دبلوماسيون بريطانيون في بغداد بأن الاتصالات الأخيرة بين “المخابرات الأمريكية والكرد” في المنطقة المحايدة بين العراق وإيران تعني أن “قاسم يشتبه يقينا في تآمر الإيرانيين والأمريكيين ضده”. وبعد سبعة أشهر، أكد تقرير سري صادر عن وكالة الاستخبارات المركزية أن “الكرد الإيرانيين قادرون على خلق اضطرابات في العراق إذا حثتهم حكومتهم على ذلك” وأن “معظم القادة الكرد في العراق لا يدعمون حكومة قاسم”. وبحلول ربيع عام 1960، كانت الوكالة على ما يبدو تفكر حتى في إجراءات أكثر تطرفًا لتحقيق تغيير النظام في بغداد، بما في ذلك تعريض الزعيم الأوحد لسم قاتل بيولوجي ([10]).

في نهاية المطاف، اختارت وكالة الاستخبارات المركزية العمل السياسي بدلاً من الاغتيال. وعلى الرغم من عدم ظهور أي دليل حتى الآن يشير إلى أن إدارة كينيدي أعطت فعليًا الضوء الأخضر للحزب الديمقراطي الكردستاني لشن حرب عصابات في خريف عام 1961، إلا أن تقريرًا صادرًا عن وكالة الاستخبارات المركزية في أبريل 1962 حول الوضع “المتأزم” في كردستان توقع أن “يسبب مصطفى بارزاني بعض المشاكل الحقيقية لقاسم هذا العام” في أقصى الشمال. وخلصت وكالة الاستخبارات المركزية إلى أن “الزعيم الأوحد” ليس عليه أن يقلق بشأن قيام بارزاني بغزو بغداد، لكنه “لا يستطيع تحمل المجازفة بخسارة كتائب قليلة من أشجع وأجرأ جنود العراق في الجبال”. وفي وقت لاحق من ذلك العام، اتصل ممثل عن الحزب الديمقراطي الكردستاني بروي ميلبورن، القائم بالأعمال الأمريكي في بغداد، حاملاً رسالة من بارزاني. وأفاد ميلبورن أن “الكرد وجهوا نداءً قويًا للحصول على دعم الولايات المتحدة لحركة الثورة”، وقالوا “إنهم يحتاجون إلى المال الآن وربما الأسلحة لاحقًا”. وعلى الرغم من أن بارزاني كان يفضل كثيرًا الحصول على هذا الدعم من واشنطن وليس من موسكو، إلا أن شعبه كان يواجه “إبادة جماعية”، و “قبل أن يسمح الكرد بذلك، سيقبلون المساعدة من الاتحاد السوفيتي أو حتى من آيا كان”. اتبع ميلبورن الإجراءات الرسمية وأبلغ زائره بأن الولايات المتحدة لا تتدخل أبدًا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ومع ذلك، بعد أن أعلن الزعيم الأوحد عن خطط في يناير 1963 لتأميم شركة نفط العراق (إي بي سي)، التي كان من بين مالكيها العديد من شركات النفط الغربية، أفاد مسؤولون بريطانيون بأن “حكومة الولايات المتحدة بدأت تنظر باهتمام أكبر إلى الشائعات التي تفيد بأن الكرد والقوميين العرب قد يتعاونون ضد قاسم” ([11]).

في الثامن من فبراير، وبينما كان معظم الجيش العراقي يراوح مكانه في جبال كردستان، قامت مجموعة صغيرة من الضباط العسكريين المرتبطين بحزب البعث السري بانقلاب عسكري دامٍ في بغداد، والذي توج باعتقال وإعدام عبد الكريم قاسم علنا في اليوم التالي. وبينما كان لا يزال الأمر مبكرًا الحسم بنجاح حراك البعثيين الثوري، أبلغ روبرت كومير، خبير الشرق الأوسط بالبيت الأبيض، الرئيس كينيدي بعد ساعات قليلة من سقوط قاسم. “إنها مكسب صافٍ بكل تأكيد بالنسبة لنا”. وتوقع مسؤول في البنتاجون أنه “إذا نجح الانقلاب، فستتحسن العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق بشكل ملحوظ”. ومع ذلك، بعد فترة وجيزة، تعقدت العلاقات الأمريكية مع النظام البعثي الجديد بسبب التطورات في كردستان العراق، حيث أصر مصطفى بارزاني على أن تكون المكافأة على مساعدته في إضعاف قاسم في صورة حكم ذاتي كردي. حاول المبعوثون الأمريكيون التوسط في صفقة بين البعثيين والكرد باستخدام الفائض من القمح من برنامج الغذاء من أجل السلام الأمريكي. جادل خبراء العراق في وزارة الخارجية الأمريكية في 17 مايو أيار بأن “نحن نعتبر القضية الكردية أخطر مشكلة تتعامل معها حكومة العراق، وقد تقطع بادرة من الحكومة [البعثية] نحو الإغاثة العامة وإعادة التأهيل في المناطق الكردية شوطًا طويلًا لتشجيع التسوية السلمية” ([12]).

لكن برفض المقترح الأمريكي جملة وتفصيلاً، أعاد البعثيون الجيش العراقي إلى كردستان في مطلع يونيو حزيران بأوامر بإطلاق النار للقتل. وقبيل انتهاء الصيف، أيد النظام العراقي أيضًا أجندة ناصر القومية العربية وتعهد بالمساعدة في تحرير فلسطين. كما سعى العراقيون للحصول على أسلحة من الاتحاد السوفيتي. وفي أوائل يوليو تموز، لجأ ممثلو الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني إلى عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في بيروت بعرض رأى الأمريكيون صعوبة رفضه. كان الكرد على استعداد لاستئناف حرب العصابات الشاملة، هذه المرة ضد النظام البعثي الجديد في بغداد، بشرط أن يتلقوا دعما. وحذر شوكت آكراوي من الحزب الديمقراطي الكردستاني وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بأنه “إذا تجاهلهم الغرب، فإن الكرد سيتعاونون مع السوفييت، وسيطالبون بالمتطوعين الدوليين ويحولون قضيتهم إلى ‘كوبا أخرى [أو] حرب أهلية إسبانية أخرى”. وبعد ثلاثة أشهر، أكدت الاستخبارات الأمريكية أنه ما لم يتلق الكرد مساعدة خارجية، فهم محكوم عليهم بالفشل. وأوضح محللو وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في 27 سبتمبر / أيلول 1963 أن “حكومة البعث تحركت في يونيو / حزيران الماضي ضد الكرد المتمردين في شمال العراق في هجوم كان أكثر وحشية وأكثر نجاحًا بكثير من أي هجوم تحت قيادة قاسم”. واعتقد النظام على ما يبدو أن القصف العشوائي، وقوة العدد، والقوة النارية الساحقة للجيش ستقوض في النهاية معنويات الكرد وتؤدي إلى تفكك تحالف بارزاني القبلي القتالي. تحسنت معنويات الكرد بشكل غير متوقع في 18 نوفمبر تشرين الثاني 1963 عندما استولى اللواء عبد السلام عارف ومجموعة من الضباط المعادين للبعث على السلطة في بغداد في انقلاب عسكري آخر. وكان عبد السلام عارف أكثر انفتاحًا على الحلول الوسط من البعثيين، حيث رتّب وقف إطلاق النار مع الكرد في 10 فبراير شباط 1964 ووافق على مناقشة الحكم الذاتي الكردي مع مصطفى بارزاني بعد فترة وجيزة. وعندما انهارت هذه المناقشات في يونيو حزيران، اتصل شوكت آكراوي، بالدبلوماسيين الأمريكيين في القاهرة لطلب “المساعدة للكرد من خلال دولة ثالثة في حالة تجدد القتال في العراق”. وكان رد فعل وزارة الخارجية الأمريكية الأولي هو “لا”، ولكن من الواضح أنه في وقت لاحق من ذلك العام بدأ وكالة الاستخبارات المركزية تشجيع إسرائيل وإيران على مساعدة الكرد ([13]).

في أعقاب ثورة 1963 في العراق، واجهت الحكومة الكردية شبه المستقلة بقيادة مصطفى البارزاني تحديات متزايدة من الحكومة المركزية في بغداد. دعمت الولايات المتحدة سياسة “الانتظار الحذر”، حيث سعت إلى تجنب التدخل المباشر في الصراع الكردي العراقي ولكنها قدمت أيضًا بعض المساعدات السرية للحزب الديمقراطي الكردستاني. ومع ذلك، أدت سياسة الانتظار الحذر إلى تآكل دعم الولايات المتحدة للحزب الديمقراطي الكردستاني. وشعر المسؤولون الأمريكيون أن البارزاني كان مترددًا للغاية في الانخراط في مفاوضات مع بغداد، وأن الحزب الديمقراطي الكردستاني كان يعاني من الفساد وعدم الكفاءة. في يوليو 1968، استولى حسن البكر وابن عمه صدام حسين على السلطة في العراق في انقلاب عسكري. اتخذ النظام الجديد نهجًا أكثر صرامة تجاه كردستان، حيث شن حملة عسكرية واسعة النطاق ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني. في مواجهة الضغوط العراقية المتزايدة، سعى الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى الحصول على دعم أمريكي أكثر قوة. في يونيو 1969، أبلغ وفد من الحزب الديمقراطي الكردستاني المسؤولين الأمريكيين بأنهم بحاجة إلى مساعدة أمريكية مباشرة من أجل “اتخاذ إجراء حاسم ضد الحكومة العراقية”. ومع ذلك، رفضت الولايات المتحدة طلب الحزب الديمقراطي الكردستاني. شعر المسؤولون الأمريكيون أن الحزب الديمقراطي الكردستاني كان ضعيفًا للغاية بحيث لا يمكنه هزيمة الجيش العراقي بمفرده، وأن التدخل الأمريكي المباشر من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد خطير للصراع ([14]).

كان ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر خلال السنوات الثلاث الأولى لهما في المنصب، مشغولين للغاية بالتعامل مع سياسة الانفراج وحرب فيتنام بحيث لم يوليا اهتمامًا كبيرًا للتيار المستمر من الكرد الذين تواصلوا مع المسؤولين الأمريكيين في واشنطن وطهران وبراغ. ولكن عندما قرر صدام حسين توقيع “معاهدة الصداقة والتعاون” لمدة 15 عامًا مع الاتحاد السوفيتي في أبريل 1972، سرعان ما جذب العراق انتباه البيت الأبيض. في فبراير 1972، زار صدام حسين موسكو حيث التقى بقائد الحزب الشيوعي ليونيد بريجنيف ورئيس الوزراء أليكسي كوسيجين ووضع الأساس للتحالف السوفيتي العراقي. في 31 مارس، أبلغ مدير وكالة المخابرات المركزية ريتشارد هيلمز البيت الأبيض بأن المصادر الكردية التابعة للوكالة تفيد بأن صدام حسين سيوقع معاهدة مع القادة السوفييت في أوائل أبريل وأنه ينوي أيضًا “تأميم جميع منشآت النفط الأجنبية في العراق” قبل نهاية العام. أخبر نيكسون الملك الإيراني في 30 مايو أن “القادة السوفييت يحاولون تجاوز منطقة الشرق الأوسط” وإثارة المشاكل للولايات المتحدة بين الراديكاليين العرب ومنتجي النفط العرب. وأشار الشاه إلى أنهما نفس الشيء في حالة العراق، وأعرب عن قلقه بشأن نفوذ موسكو المتزايد في بغداد. وأكد نيكسون على أن “لن نتخلى عن أصدقائنا”، وسأل كيسنجر الشاه: “ماذا يمكن عمله؟” في البداية، يجب أن تحصل إيران على “أحدث الأسلحة”، كما جاء في الرد، ولكن بالإضافة إلى ذلك “يمكن لإيران المساعدة مع الكرد ([15]).

عند عودة نيكسون وكيسنجر إلى واشنطن، كانت من بين الأمور التي تنتظرهما تقرير صادر عن وزارة الخارجية بعنوان “كرد العراق: تمرد متجدد؟”. مع تصاعد الضغط بين البشمركة المضطربة لاستئناف الكفاح المسلح ضد بغداد، توقع خبراء الوزارة في الشرق الأوسط أن “الضغط الإضافي لحرب كردية أخرى يمكن أن يسقط حكومة البعث غير الشعبية”. وأشار التقرير إلى أنه “في مناسبتين على الأقل، وبناء على نصيحة إيرانية على ما يبدو، حاول الكرد أيضًا الاتصال بالشيعة المغتربين المحافظين اجتماعيًا ودينيًا، في محاولة غير ناجحة لفتح جبهة ثانية في جنوب العراق”. وخلص التقرير إلى أن “الفرص تبدو أفضل من أي وقت مضى بأن يجد الملا مصطفى [برزاني] دعمًا خارجيًا كافيًا لتجديد تمرده”.

كانت هذه الاحتمالات على وشك أن تتحسن أكثر، ليس فقط بسبب الالتزامات الأمريكية الأخيرة تجاه شاه إيران ولكن أيضًا بسبب قرار العراق بتأميم شركة نفط العراق يوم 1 يونيو دون تعويض مالكي الكونسورتيوم النفطي الأمريكيين والبريطانيين. سرعان ما علم هارولد ساوندرز، موظف مجلس الأمن القومي الذي يراقب الشرق الأوسط، أن الشاه يريد من كيسنجر أن يجتمع سرًا مع اثنين من ممثلي بارزاني. وأعرب ساوندرز عن قلقه من أن يؤدي هذا الاجتماع إلى “تضليل” الكرد “بآمال مفرطة في الدعم الأمريكي المباشر”، ولكنه رأى أيضًا أسبابًا قوية لتشجيع انتفاضة أخرى. أولاً، “دعمت إيران وإسرائيل الكرد بشكل متقطع على مر الزمن كوسيلة لإشغال القوات العراقية في الداخل”، و”هناك الآن احتمال تدخل عراقي نشط في الخليج وهو ما يمكن أن يساعد عليه عدم الاستقرار الداخلي”. والأهم من ذلك، أن وكالات الاستخبارات الأجنبية “قد تكون قادرة على ربط الجهود الكردية بالاتصالات التي لديها بين المعارضين العسكريين العراقيين الذين قد يطيحون بالحكومة التي وقعت المعاهدة مع الاتحاد السوفيتي” واستولت على شركة نفط العراق. من ناحية أخرى، حتى مع القليل من المساعدة الأمريكية، فإن أفضل نتيجة يمكن أن يتوقعها بارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني بشكل واقعي هي “جمود مع الحكومة في بغداد”. وحذر ساوندرز كيسنجر في 7 يونيو من أن أسوأ حالة ستكون أكثر قتامة: “إذا انقلبت المعركة ضد الكرد، فلن يكون لدينا القدرة ولا الاهتمام لتقديم دعم حاسم” ([16]).


خيانة متكررة: الولايات المتحدة تتخلى عن الكرد مجددا

في أوائل عام 1974، انتهك صدام بنود اتفاقية آذار / مارس وفرض من جانب واحد نسخة مخففة من الحكم الذاتي للكرد. رد بارزاني بالسفر إلى إيران، حيث التقى بالشاه ورئيس محطة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لطلب دعم الولايات المتحدة لخطة تشكيل حكومة عراقية عربية كردية ترغب أن تكون الحكومة الشرعية للعراق. كما كتب كيسنجر في مذكراته عام 1999 “سنوات التجديد”، فإن طلب بارزاني “أثار طوفانًا من الاتصالات” بين المسؤولين الأمريكيين ركز على سؤالين: هل ستدعم الولايات المتحدة إعلانًا أحاديًا للحكم الذاتي وما هو مستوى الدعم الذي ترغب الولايات المتحدة في تقديمه الكرد؟ ووجهت وكالة الاستخبارات المركزية على وجه الخصوص تحذيرات من زيادة المساعدة الأمريكية. لكن كيسنجر رفض تحفظ مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام كولبي، وكتب: “كان تردد كولبي غير واقعي مثل حماس بارزاني”.قرر نيكسون في النهاية زيادة المساعدة الأمريكية للكرد، أرسل كيسنجر أوامر نيكسون إلى السفير الأمريكي في طهران. لكن مع هذا كان ثمة تأكيد أنه لا يمكن دعم الولايات المتحدة لحكومة كردية على المدى الطويل؛ لأنه لا يمكن إبقائه سراً، وكانت هناك مخاوف عميقة داخل الحكومة الأمريكية بشأن جدوى دولة كردية، ناهيك عن مخاوف الشاه نفسه بشأن الاستقلال الكردي، نظرًا لوجود أقلية كردية كبيرة في إيران. تم إبلاغ الكرد بهذه النقطة في بداية علاقتهم بالولايات المتحدة وأعيد التأكيد عليها طوال العملية الكردية. هذا يلقي الضوء على المشكلة الأساسية التي واجهها الكرد دائمًا، وهي المعضلة الجغرافية. فمن المؤكد أن كردستان المستقلة ستكون حبيسة اليابسة، مما يجعلها غير قادرة على المشاركة في الاقتصاد الدولي دون الاعتماد على قوى خارجية ومعادية مثل تركيا وإيران والعراق وسوريا. على سبيل المثال، إذا أراد الكرد تصدير النفط أو الغاز الطبيعي، فيجب أن يمر عبر أراضي الدول المجاورة عبر خط أنابيب للوصول إلى الأسواق العالمية. وإذا لم توافق أي من هذه الدول على ذلك، فإن اقتصاد كردستان سيعاني. وحتى الخدمات الأساسية مثل الرحلات الجوية ستعتمد على رعاة خارجية لأن الرحلات الجوية المتجهة إلى كردستان يجب أن تمر عبر المجال الجوي للبلدان المعادية – وهي دول لها بالفعل علاقات مع الولايات المتحدة. لهذا السبب، وعلى الرغم من التعاطف العميق مع الكرد وقضيتهم، كانت الولايات المتحدة دائمًا واضحة – مع نفسها، وإن لم يكن ذلك دائمًا في العلن – بشأن ترددها في دعم استقلال كردستان ([17]).

في أواخر عام 1974، شن الجيش العراقي هجومًا شاملًا على الكرد، محققًا مكاسب كبيرة في الجبال، بفضل التوجيه الوثيق للمستشارين العسكريين السوفييت. ولكن على الرغم من الجهود الإيرانية والإسرائيلية الكبيرة لتعزيز الكرد عسكريًا، تمكن العراقيون من الصمود في شتاء 1974-1975. دفع هذا كيسنجر والإسرائيليين إلى وضع خطة لتزويد الكرد بأسلحة بقيمة 28 مليون دولار. ولكن الأوان قد فات – تغيرت الأوضاع الجيوسياسية من تحت أقدام الكرد. في 18 فبراير 1975، التقى شاه إيران مع كيسنجر في زيوريخ. وأبلغ كيسنجر أن الكرد “لم يتبق لديهم قدرة على القتال”، وكان يفكر في لقاء صدام في مؤتمر منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في مارس ليرى ما إذا كان بإمكانه التخلي عن دعمه مقابل تنازل حدودي. ادعى كيسنجر في مذكراته عام 1999 أنه جادل ضد اقتراح الشاه وذكره بـ “تحذيراته المتكررة بأن انهيار الكرد سيؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها”. لم يجد ذلك نفعا. تم تقديم قرار إيران بالتخلي عن الكرد للولايات المتحدة كأمر واقع، وصفقة منتهية. في 6 مارس، أعلن الشاه وصدام اتفاق الجزائر، والذي بموجبه تم تبادل السيادة الجزئية على ممر شط العرب المائي، وهو ممر مائي استراتيجي على طول الحدود الإيرانية العراقية، مقابل عدم التدخل في شؤون بعضهما البعض. كان تدخل الكرد محكوما عليه بالفشل. أمر الشاه بإغلاق الحدود الإيرانية مع العراق، مما أدى فعليًا إلى دفع الكرد للاصطدام بالوحوش. مع إغلاق الحدود، أصبح الأمريكيون والإسرائيليون غير قادرين على تقديم مساعدة مستمرة للكرد. في اليوم التالي، شن العراقيون بعد ذلك كامل قوتهم العسكرية ضد الكرد، مما أجبر الآلاف من المدنيين على الفرار إلى إيران. صُدم ضباط المخابرات المركزية الأمريكية والقوات الخاصة الإسرائيلية الذين كانوا يساعدون حلفائهم الكرد في قتال العراقيين. وكذلك صُدم كيسنجر، الذي أمضى أفضل جزء من ثلاث سنوات يعمل بلا كلل لإعطاء الكرد فرصة للقتال. لم يكن هناك شيء يمكن القيام به لمنع المجزرة. مع انقطاع إيران الآن، لم يكن هناك طريق لمواصلة تقديم المساعدة الأمريكية. اجتاحت قوات صدام الكرد، ودمرت 1400 قرية بالأرض، وقبضت على آلاف من أتباع بارزاني، وفرضت حكمه على المنطقة. هذه النهاية المأساوية للتدخل الأمريكي لدعم الكرد ستشكل بداية العلاقة المتقلبة بين الولايات المتحدة والكرد التي لا تزال قائمة حتى اليوم. بعد انسحاب الدعم الأمريكي والإيراني والإسرائيلي في عام 1975، قُتل الآلاف من الكرد في العراق. وفي الثمانينيات، وجد الكرد والولايات المتحدة نفسيهما في طرفي نقيض خلال الحرب العراقية الإيرانية، التي شهدت استخدام صدام للأسلحة الكيمياوية بشكل منتظم ضد كل من إيران والكرد وأدت إلى إبادة جماعية واسعة النطاق في كردستان العراق. لكن سرعان ما تغيرت الأمور مرة أخرى في أوائل التسعينيات. بعد غزو العراق للكويت عام 1990، حثت الولايات المتحدة الكرد على الثورة ضد حكومة صدام، لكن إدارة جورج بوش الأب تخلت عنهم في وقت الحاجة. وفي أبريل 1991، أدرك البيت الأبيض خطأه ونفذ عملية توفير الراحة، التي أنشأت منطقة حظر جوي فوق شمال العراق وسمحت لكرد العراق أخيرًا بالعيش في سلام. وفي عام 1992، أنشأ كرد العراق حكومة إقليم كردستان المتمتعة بالحكم الذاتي، والتي أصبحت حليفًا أمريكيًا لا غنى عنه خلال حرب العراق والحرب على تنظيم الدولة الإسلامية فيما بعد في سنوات العقد الثاني من الألفية الثالثة ([18]).

سياسة براغماتية أكثر منها استراتيجية شاملة

إذن يمكن القول، أن الفترة من 1972-1975 تقدم نموذجًا من هذا الاستخدام المصلحي للشأن الكردي برجماتيا من جانب القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، كما أنها قد تعبّر في الوقت نفسه عن النتائج المتكررة التي آلت إليها العديد من الثورات الكردية. فهذه الفترة تُمثل ذروة ظهور تأثير القوى الدولية والإقليمية في القضية الكردية بسبب دخول الولايات المتحدة منذ عام 1972 في تنافس شديد على العراق مع الاتحاد السوفياتي، وبدئها فعليًا باستخدام القضية الكردية أداةً في هذا الصراع. فبعد أن كان الاتحاد السوفياتي الأكثر انخراطاً ونفوذا في علاقاته بالحكومات العراقية والكرد على حدٍ سواء منذ انقلاب عبد الكريم قاسم على الحكم الملكي عام 1958 وطوال الثورة الكردية في الفترة 1961-1970، كانت الولايات المتحدة قليلة الاهتمام بالطرفين بسبب تركيزها على تعزيز علاقاتها الإستراتيجية بحلفائها الإقليميين إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل فضلا عن انشغالها بحرب فيتنام. ولكنّ، انسحاب بريطانيا من الخليج في نهاية عام 1971، ومحاولة العراق ومن ورائه الاتحاد السوفياتي، ملء الفراغ في المنطقة وموازنة قوة إيران الإقليمية الموالية للغرب، ثم توقيع معاهدة التعاون والصداقة السوفياتية – العراقية في نيسان / أبريل 1972، التي كرست النفوذ السوفياتي في العراق وزادت من احتمالات تمدّده في المنطقة، أدى كل ذلك إلى إعادة الولايات المتحدة النظر في سياستها تجاه العراق والكرد ([19]).

وبالَإضافة إلى هذا التداخل من الولايات المتحدة في بنية السردية التاريخية الكردية في القرن العشرين كما ظهر آنفا في الحالة العراقية، فإنها سعت للتحالف مع الكرد في العديد من صراعات الشرق الأوسط، بما في ذلك مقدمة الحرب العراقية الإيرانية، وحرب العراق ٢٠٠٣، والحرب على داعش مؤخرًا. وفي المقابل، اعتمد الكرد على الدعم الأمريكي ضد الهجمات المتكررة من قبل الأنظمة السورية أو العراقية أو التركية، وغالبًا ما وجدوا أن الدعم الأمريكي ينتهي مع انتهاء تفويضهم الحالي في الشرق الأوسط. إذ أن الولايات المتحدة لم تدافع علناً عن تشكيل دولة كردية قط، لكنها لجأت مرارًا وتكرارًا إلى الكرد للحصول على المساعدة في صراعاتها في الشرق الأوسط، بل إنها سحبت دعمها مرارًا وتكرارًا عند تحقيق أهدافها السياسية قصيرة الأجل في المنطقة. وعلى حد تعبير هنري كيسنجر، الذي يُعتبر غالبًا مهندس العلاقات الأمريكية-الكردية الحديث، “حدد الغموض، وفي الواقع طغى، على الجهود الأمريكية في المناطق الكردية بالشرق الأوسط”. حقيقة لقد تغيرت المصالح والسياسات الأمريكية وحلفاؤها بشكل جذري في الشرق الأوسط على مدى القرن الماضي، ولكن على مر السنين، وجدت الولايات المتحدة نفسها على خلاف مع دول مختلفة وجهات فاعلة من غير الدول داخل الوطن الكردي. وبسبب وضعهم، لفت الكرد أنظار الولايات المتحدة التي كانت تبحث عن شركاء على الأرض في مساعي الشرق الأوسط المبكرة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. وفي ذلك الوقت، لم تهتم الولايات المتحدة كثيرًا بالنضال الكردي أو بالقضية الكردية من منظور شامل مجاوز لمبدأ المصلحة الضيق، لكنها أدركت مزاياها. وبالتالي، شرعت الولايات المتحدة في علاقة مضطربة مع الكرد بدأت جدياً في أوائل السبعينيات. قدمت الولايات المتحدة الدعم المادي والعسكري لمختلف الجماعات الكردية في صراعات مختلفة منذ بداية العلاقة الحديثة في السبعينيات. ساعدت أمريكا وسلحت المجموعات الكردية العراقية التي تحارب القوات الحكومية العراقية قبل عام 75 كما رأينا سابقًا، وقدمت المساعدة للكرد عام 1991 في أعقاب هجوم حكومي عراقي، ونسقت الجهود مع المقاتلين الكرد في الأيام الأولى من حرب العراق عام 2003، وساعدت المقاتلين الكرد في الحرب على داعش في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، يصعب وصف العلاقة الأمريكية-الكردية بأنها تكافلية. لقد شاب العلاقة العديد من الأفعال التي تعد في السردية الكردية خيانة بينما يرفضها الأمريكيون باعتبارها إجراءات تشغيلية قياسية. انتهت ملحمة دعم الولايات المتحدة للكرد في أوائل السبعينيات بغزو عراقي للأراضي الشمالية التي يسيطر عليها الكرد، بينما لم تنشأ جهود المساعدة الإنسانية عام 1991 إلا بعد مناشدات متكررة للمساعدة الأمريكية خلال هجوم عنيف على الأراضي الكردية في العراق. وبالمثل، لم يكن للولايات المتحدة أي دور يذكر في عام 1988، عندما ارتكبت قوات صدام حسين ضد المدنيين الكرد ما يمكن تسميتها بالإبادة الجماعية ([20]).  

علاوة على ذلك، فإن تأثير الكرد على السياسة الأمريكية يتضاءل مقارنة بتأثير تركيا. إذ تعتبر تركيا حليفة مقربة في حلف الناتو وشريكة في الدفاع المشترك للولايات المتحدة، وغالبًا ما تكون بمثابة أقرب بوابة للغرب في الشرق الأوسط إلى جانب إسرائيل. وفرت أنقرة لواشنطن قواعد عسكرية وتعاونًا وثيقًا بين الجيوش؛ فهي تعمل كقوة موازنة ضد قوى إقليمية أخرى وخصوم الولايات المتحدة مثل إيران؛ وقد انحازت تاريخيًا إلى القوى الغربية ضد القادة والحكومات المعادية في الشرق الأوسط. وأعلى درجة في الاهتمام الأمريكي في التعامل مع ملف أنقرة؛ هو الحفاظ على ارتباط تركيا بالمجتمع الأوروبي الأطلسي. وتظل تركيا حليفًا مهمًا للولايات المتحدة حتى مع اختلاف مصالح البلدين وأهدافهما قليلاً، وقد فرضت تركيا مطالب معينة بشأن السكان الكرد في الشرق الأوسط، والتي يسر الولايات المتحدة الرضوخ لها إذا كان ذلك يعني الحفاظ على تحالفها التركي. إذ لطالما اعتبرت أنقرة الكرد تهديدًا وجوديًا لسكانها وأراضيها في الجنوب الشرقي، واتخذت إجراءات صارمة للحد من المطالبات المتزايدة بحقوق الكرد داخل حدودها وخارجها. تخوض تركيا حربًا ضد الكرد منذ عقود، لكنها وسعت أيضًا عملياتها عبر الحدود في السنوات الأخيرة، وغالبًا ما يكون ذلك بمساعدة من الولايات المتحدة. عادة ما تؤدي دعوات أنقرة إلى واشنطن إلى اتخاذ سياسة أمريكية معادية للكرد ومؤيدة لتركيا، حيث أثبت صانعو السياسة الأمريكيون عدم رغبتهم في إثارة الوضع الحالي للعلاقات الأمريكية-التركية. أظهرت المساعي السابقة أن المصالح التركية ستتجاوز دائمًا المصالح الكردية في واشنطن. ربما تكون العلاقات الوثيقة بين البلدين الأعضاء في حلف الناتو أكبر عقبة أمام القادة الكرد الذين يسعون إلى موقف مؤيد للكرد في الولايات المتحدة ([21]). إذن وبسبب حلف شمال الأطلسي (الناتو)، دعمت الولايات المتحدة موقف الحكومة التركية بشأن القضية الكردية في تلك الدولة. وكان الهدف من ذلك هو رفض المطالب الكردية بحقوق الأقليات خشية أن تتصاعد إلى مزيد من المطالب التي تهدد السلامة الإقليمية التركية. وهكذا، أصبح الكرد الذين دعموا حزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا “كرد سيئين” من وجهة نظر السياسة الخارجية الأمريكية ([22]).

وإن كان ثمة تفسير أكثر اقناعا يحاول تفنيد انحياز القوى الغربية وعلى رأسها الولايات لجانب تركيا،  بوصفه يأتي في إطارِ الحربِ الخاصةِ المستمرةِ ضد الكردِ بدعمٍ مكثَّفٍ من قوى الهيمنةِ الخارجيةِ الغربية في المنطقة تتقدمُها أمريكا وبريطانيا وألمانيا، فقد تُرِكَ الكردُ لوحدِهم فيما خلا حفنة من الخَوَنةِ والمتواطئين، وفُرِضَت عليهم العزلةُ في كفاحِهم من أجلِ الوجودِ والحرية؛ وذلك مقابل استسلامِ تركيا اقتصادياً للنظامِ الماليِّ العالميّ، ومساندتِها التامةِ لسياساتِ تلك القوى في المنطقة، ومصادقتِها في المجالِ العسكريِّ على تضخيمِ الفرعِ التركيِّ لشبكةِ غلاديو التي تُعَدُّ الجيشَ السريَّ للناتو، وعلى استخدامِها في الحربِ الدائرة. بالتالي، لَبَّت جميعُ الدولِ القوميةِ متطلباتِ منافعِها بأقسى الأشكال، وانحازَت في هذه الوحشيةِ المُطَبَّقة، أو بقيت متفرجة. ونخصُّ بالذِّكرِ الدولةَ القوميةَ الإسرائيلية، التي وَسَّعَت في عام 1996م من نطاقِ اتفاقياتِها العسكريةِ السريةِ المُبرَمةِ منذ عامِ 1958م، مُصَعِّدةً بذلك من مستوى مؤازرتِها للدولةِ التركيةِ في حربِها الخاصة. إذ ما كان ممكناً تعريضُ أيةِ ثقافةٍ اجتماعيةٍ في بلادِ الأناضولِ وميزوبوتاميا للإبادةِ الجماعية، من دونِ دعمِ القوى المهيمنةِ في الحداثةِ الرأسماليةِ بحُكمِ مصالحِها (بما فيها روسيا الاتحادية) ([23]).

وقد عملت عدد من وسائل الإعلام منذ بداية التسعينيات، على كشف الوجه الآخر للناتو في العديد من البلدان الأوروبية ومن ضمنها تركيا. إذ ذكرت صحيفة النيويورك تايمز في ١٦ نوفمبر ١٩٩٠ ما يلي “ينصب تركيز التحقيق على عملية سرية تحمل الاسم الرمزي غلاديو، تم إنشاؤها قبل عقود لتسليح وتدريب مقاتلي المقاومة في حالة غزو الاتحاد السوفيتي وحلفائه في حلف وارسو. وطوال هذا الأسبوع، كانت هناك إفصاحات عن منظمات مماثلة في جميع دول أوروبا الغربية تقريبا”. “اعترفت كل من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا واليونان ولوكسمبورغ بأنها حافظت على شبكات على غرار غلاديو لإعداد مقاتلي حرب العصابات للقفز إلى العمل في حالة غزو حلف وارسو.” عمل الكثيرون تحت الاسم الرمزي Stay Behind. […] تؤكد التقارير الإخبارية في الأيام الأخيرة أن برامج مماثلة كانت موجودة أيضا في بريطانيا والنرويج والبرتغال وإسبانيا والنمسا وتركيا والدنمارك، وحتى في البلدان المحايدة مثل سويسرا والسويد. […] نقلت صحيفة الجارديان البريطانية اليوم عن القائد العام السابق لقوات حلف شمال الأطلسي في شمال أوروبا قوله إن الغرض هو وجود منظمة سرية لحرب العصابات إذا اجتاحت القوات الشيوعية بريطانيا ” ([24]). هذه الاخبار المتواترة أكدت التخمينات التي كانت تذهب إلى أن للناتو أدوارا سرية في أكثر من بلد أوروبي. كما أنها تتناص من جهة أخرى مع تحليلات أوجلان لشبكة الارتباطات التي جمعت الناتو بتركيا، والتي كانت مصوبة بشكل أساسي تجاه الحراك الثوري الكردي سنوات الثمانينات. فأهمُّ مرحلةٍ في حروبِ الغلاديو، هي المرحلةُ المبتدئةُ من عام 1985 وحتى مقتلِ تورغوت أوزال في 1993. ففي عامِ 1985 أُدرِجَت البندُ الخامسُ من القانونِ التأسيسيِّ للناتو حيزَ التنفيذ، والذي ينصُّ على أنّ “أيّ اعتداءٍ مسلَّح على إحدى الدول الأعضاء يُعتَبَرُ اعتداءً مسلحاً على باقي الدول”. لقد نُفِّذَت الممارساتُ ضمن إطارِ الغلاديو.      

وفي هذا يذكر عبد الله أوجلان، أنه في خلال سنوات الثمانينيات، كان نظامُ الدولةِ التركيةِ قد تحوَّلَ تماماً إلى شبكةِ غلاديو ضمن هذا الإطار. أي أنّ ما حصلَ في واقعِ الأمرِ كان استخدامَ الجيشِ السريِّ للناتو، أي شبكةِ غلاديو، على نطاقٍ واسع. فأهمُّ مرحلةٍ في حروبِ الغلاديو، هي المرحلةُ المبتدئةُ من عام 1985 وحتى مقتلِ تورغوت أوزال في 1993. ففي عامِ 1985 أُدرِجَت البندُ الخامسُ من القانونِ التأسيسيِّ للناتو حيزَ التنفيذ، والذي ينصُّ على أنّ “أيّ اعتداءٍ مسلَّح على إحدى الدول الأعضاء يُعتَبَرُ اعتداءً مسلحاً على باقي الدول”. لقد نُفِّذَت الممارساتُ ضمن إطارِ الغلاديو .. حاولَت الفاشيةُ التركيةُ البيضاء تسخيرَ الإمكانياتِ التي قدَّمَتها لها شبكةُ غلاديو لأجل محوِ الكردِ من صفحاتِ التاريخِ كلياً مع حلولِ عامِ 1985. وقد لاحَ التناقضُ بينهما في هذه النقطة. فمثلما الحالُ في النزاعِ حول الموصل وكركوك في 1923، فإنّ الفاشيةَ التركيةَ البيضاءَ الطامعةَ في بسطِ سيطرتِها على كردستان العراقِ أيضاً انطلاقاً من نفس الإطار، قد وجدَت إنكلترا وشريكتَها الاستراتيجيةَ أمريكا في مواجهتِها مرةً أخرى؛ تماماً مثلما كان الأمرُ أثناء ولادتِها. أي أنّ التناقضاتِ القديمةَ قد انتعشَت مجدَّداً. إذ كانت الفاشيةُ تبدو وكأنها تتطلعُ إلى القضاءِ على PKK. ولكنْ موضوعياً، كان الكردُ أجمعين يدخلون دائرةَ هدفِها. بالتالي، احتدمَ الصراعُ أكثر فأكثر مع القوى المعنية. واندرجَت الأنظمةُ الإيرانيةُ والعراقيةُ والسوريةُ أيضاً في السياق. علاوةً على أنه كان قد أُدرِكَ جيداً استحالةُ القضاءِ بسهولةٍ على PKK، على عكسِ ما كان عليه الأمرُ مع حركاتِ المقاومةِ البارزةِ خلال أعوامِ 1925 و1940. وهذا بدورِه ما كان يدلُّ على خَلخَلةِ وقَلقَلةِ أركانِ الهيمنةِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء ذاتِ الثمانين عاماً (1925–2002) من الأساس، وعلى معاناتِها من الانهيار. فبينما كانت البورجوازيةُ البيروقراطيةُ التركيةُ البيضاء قد أَسَّسَت لهيمنتِها التامة اجتماعيّاً (ببسطِ شبكة غلاديو التركية نفوذَها على كافةِ فروعِ النظامِ في حربِها ضد PKK)، بَعدَما تخلصَت من كلِّ منافسيها الداخليين (كانت قد شرعَت لأولِ مرة في إقصاءِ قِسمٍ كبيرٍ من شركائِها الصهيونيين أيضاً، بعد إلحاقِ ضرباتٍ جادةٍ بهم)؛ فقد لاقَت الهيمنةَ الأمريكيةَ–الإنكليزيةَ المضادةَ في وجهِها على غفلةٍ منها ([25]).

في الحقيقة، كانت مصادقةُ أمريكا وبريطانيا والحلفاءُ الغربيون الآخرون تامةً على تحصينِ نظامِ الغلاديو التركيِّ بالصلاحياتِ اللامحدودة (خاصة في عهدِ كلٍّ من: دوغان غوريش، تانسو تشيللر، سليمان ديميريل، أردال إينونو، ومحمد آغار). في حين كان التناقضُ ينبعُ من وجودِ PKK في كردستان العراق. لذا، فقد خططوا ونفَّذوا معاً شتى ممارساتِ الكونتر كريلا حتى نهايةِ الفترةِ الممتدةِ ما بين أعوام 1984–1999م . أما قوى الجنوبِ الكرديةُ المتواطئة، فقد قدَّمَت دعمَها التامَّ لذلك. لكنّ الفاشيةَ السلطوية التركيةَ كانت تطمعُ في المزيد، وتخططُ للقضاءِ على جميعِ الكرد. في هذه النقطةِ بالتحديدِ توقفَ النظامُ الغربيّ. وذُهِلَ نظامُ الفاشيّةِ التركيةِ البيضاء من بقائه وحيداً. ولو أنه استمرّ حينها، لَربما كانت ستبدأُ محاكمتُه كما حُوكِمَ هتلر من قَبله. وفي الأثناءِ التي احتدم فيها هذا التناقض، بدأَت تمشيطاتُ أمريكا وحلفائِها في العراقِ وأفغانستان. وفي هذه الحالة، انكَشَفَ الستارُ عن العلاقاتِ الاستراتيجيةِ بين شبكةِ غلاديو التركية من جهة، وبين نظامِ صَدّام حسين والاستخباراتِ العسكريةِ في باكستان من جهةٍ ثانية. وبنحوٍ غيرِ متوقَّع، باتت شبكةُ غلاديو لحلفِ الناتو وجهاً لوجهٍ مقابل شبكةِ غلاديو التركية (التي صُبِغَت حينها بالطابعِ القومويِّ المحض تحت اسمِ أرغانكون) ([26]).

إذن يمكن القول تعليقا على الأدوار السلبية للولايات المتحدة – بوصفها رأس حربة المشروع الغربية في المنطقة – في بنية القضية الكردية، على مدى عقود، لم تبد الولايات المتحدة اهتمامًا يذكر بالقضية الكردية. وباستثناء المساعدة الأمريكية في إنشاء إقليم كردستان العراق، فإن الولايات المتحدة حتى اليوم تسعى بنشاط إلى تجنب الحديث عن القضية الكردية على أمل الحفاظ على الخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط واسترضاء حليفتها في حلف الناتو تركيا. وحتى عند التعامل مع حكومات معادية (العراق في عهد صدام حسين، وإيران ما بعد الثورة، أو سوريا في عهد الأسد)، اختارت الولايات المتحدة الحفاظ على الوحدة الترابية لتلك الدول الثلاث بدلاً من دعم تطلعات الكرد في تقرير المصير أو الحكم الذاتي أو الاستقلال. وباستثناء تصريح الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون عام 1918 بأن الكرد يحق لهم دولة حرة ومستقلة بعد الحرب العالمية الأولى، لم تدعُ الولايات المتحدة قط إلى منح الكرد دولتهم الخاصة في الشرق الأوسط أو أي مكان آخر، ولم تتخذ موقفًا سياسيًا بذلك. ظهر الصراع الكردي الحديث نتيجة قمع الحكومات المركزية في العراق وإيران وتركيا وسوريا، وبالتالي كان ينبغي أن يتوافق مع المبادئ الأمريكية الخاصة بتقرير المصير وحماية حقوق الإنسان الأساسية، وهي امتيازات حرم منها الكرد في الدول الأربعة على مدى يقارب القرن. وبدلاً من ذلك، ظلت الولايات المتحدة صامتة بشأن القضية الكردية، ولا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال مدافعة جديرة بالقضية الكردية. ومع ذلك، وعلى الرغم من نهجها الصامت تجاه القضية الكردية، فقد اعتمدت الولايات المتحدة على الشعب الكردي لتنفيذ أجزاء من سياساتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط في العديد من المناسبات المختلفة. ولهذا يمكن أن نصدق المثل القائل بأن لا أصدقاء للكرد سوى الجبل فقط، وهو مثل أثبت الحديث آنف الذكر صحته.  فعندما يتم القضاء على حكومة معادية (كما في حالة نظام صدام حسين في العراق)، أو القضاء على تهديد (كما في حالة داعش)، أو عكس تحالف (كما في حالة العلاقات الأمريكية مع إيران والعراق في السبعينيات)، تسرع الولايات المتحدة بسحب دعمها للكرد وتتركهم يعتمدون على أنفسهم. أضف أن الولايات المتحدة كانت مستفيدة من الإضعاف المتعمد للكرد؛ إذ أن الولايات المتحدة استفادت استراتيجيًا من عدم وجود دولة كردية، وعملت بسياسة من التجاهل المتعمد تجاه القضية الكردية على أمل الحفاظ على ضعفهم كمجموعات أقلية معزولة موزعة عبر أربع دول ذات أهمية جيوسياسية خاصة لها ([27]).

حقيقة يمكن القول، لم تمتلك الولايات المتحدة حقًا استراتيجية كبيرة في سياستها الخارجية تجاه الكرد، بل وكان لدى صانع الساسة الأمريكي خشية من انفجار الوضع الهش بالأساس للشرق الأوسط. ولهذا كان المبدأ السائد في السياسة الأمريكية الخارجية خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أن الولايات المتحدة تفضل الحفاظ على وحدة الدول التي تحتضن الكرد بدلاً من دعم تحركات الكرد نحو الاستقلال، وذلك حتى لو كان ذلك يعني استمرار القمع الذي يتعرض له الكرد من قبل الدول التي يعيشون فيها. بعبارة أخرى، فإن سياسة الولايات المتحدة تجاه الكرد براغماتية إلى حد كبير، حيث تضع مصالحها الجيوسياسية الأوسع في المنطقة في المقام الأول، حتى لو كان ذلك على حساب تطلعات الكرد في حكم ذاتي أو حتى استقلال. لا تدعم الولايات المتحدة استقلال الكرد العراقيين خشية من تفكك العراق وزيادة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. يزداد موقف الولايات المتحدة صلابة بسبب مواقف دول أخرى مثل تركيا والحكومات العربية المختلفة، التي تعارض جميعها استقلال كردستان باعتباره تهديدا لوحدة أراضيها. تدعم الولايات المتحدة بشكل مؤقت حكومة إقليم كردستان كوسيلة للحفاظ على الوحدة السياسية للعراق وإرضاء الكرد. يمكن أن يكون هذا الموقف متناقضا بطبيعته، ويمثل خطًا سياسيًا دقيقًا يصعب تنفيذه بنجاح. ومن جهة أخرى، يؤكد العديد من المراقبين على مدى حب الكرد العراقيين للولايات المتحدة. ولكن يجب تفنيد هذا الادعاء، إذ يتذكر الكرد خيانتين أمريكيتين، الأولى في عام 1975 والثانية في عام 1991، وقد يتكرر الأمر مرة أخرى. في الواقع، بدأ بعض الكرد يخشون الأسوأ عندما اقترح تقرير مجموعة دراسة العراق بقيادة بيكر وهامل في ديسمبر 2006 أنه قد يتعين التضحية بالدولة الاتحادية الكردية التي تحققت بشق الأنفس من أجل الحاجة المتصورة لإعادة تأسيس دولة عراقية مركزية قوية. لحسن حظ الكرد، لم تعتمد الولايات المتحدة توصيات التقرير، لكن مجرد النظر فيها يوضح مدى هشاشة الدعم الأمريكي المستقبلي ([28]).


[i] ماريانا خاروداكي: الكرد والسياسة الخارجية الأمريكية العلاقات الدولية في الشرق الأوسط منذ ١٩٤٥، ترجمة خليل الجيوسي، دار الفارابي، بيروت، ٢٠١٣، ص ص ٢١  – ٢٤ 

[2] نفسه: ص ٢٤

[3] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس الـــقــضـــيــــة الـــكـــرديــــــة وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٢٤٠ 

[4] نفسه: ص ١٣٦ 

[5] نفسه: ص ٢١١ 

[6] نفسه: ص ١٣٧ 

[7]Douglas little: the United States and the kurds, Journal of Cold War Studies, Fall 2010, Vol. 12, No. 4 (Fall 2010), pp. 63

[8]Ibid: pp. 66-69

[9]Ibid: pp. 66-69

[10]Ibid: pp. 66-69

[11] Ibid:  pp. 66-69

[12]Ibid:  pp. 70-71

[13]Ibid: pp. 70-71

[14]Ibid: pp. 71-73

[15]Ibid: pp. 74- 76

[16]Ibid:  pp. 74- 76

[17]Bryan R. Gibson: The Secret Origins of the U.S.-Kurdish Relationship Explain Today’s Disaster,

[18]Ibid:

[19] عماد يوسف قدورة التأثير الإقليمي والدولي القضية الكردية في العراق دراسة حالة ١٩٧٢ – ١٩٧٥، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أكتوبر ٢٠١٦، ص ص ١- ٢  

[20]Davis maccool: the role of the kurds in u.s. foreign policy, honors theses, university of Mississippi, 2021, pp 7 – 8 

https://egrove.olemiss.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=2725&context=hon_thesis

[21]Ibid: pp 9 – 10 

[22]Michael m. Gunter: The Five Stages of American Foreign Policy towards the Kurds, Insight Turkey, SPRING 2011, Vol. 13, No. 2, debating “turkish model” in the middle east arab uprisings: towards democracy? American and turkish views on the kurds (spring 2011), pp. 95 – 96

[23] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ص ١٥٦ 

[24] Documentation for Gladio

https://militiasdb.sowi.uni-mannheim.de/militias-public/pgag/529/evidence

[25] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ص ١٧٨ و ص ٣٠١  

[26] نفسه: ص ١٧٨ 

[27]Davis maccool: op cit, pp 20 – 22 

[28]Michael m. Gunter:op cit, pp. 93

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى