الأزمات الإقتصادية في بلدان الشرق الأوسط .. الأسباب والتداعيات
تحليل: د. رائد المصري/ أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية

توطئة
كثيرة هي العوامل التي أثّرت ببناء الدولة في المجتمع العربي وفي منطقة الشرق الأوسط بالتحديد وجعلتها مأزومة ومعقدة، عوامل تمثَّلت في غياب الشعوب عن الفعل والتأثير في المسرح السياسي، وغياب القضايا الكبرى عن النقاش في المجتمع، كالديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، كذلك غياب العقلانية والنهج العلمي في إدراك وفهم المشكلات وحلِّها. مضافٌ إليها غياب القيم الاجتماعية، فهذه العوامل نتج عنها غياب القدرة في المجتمع الشرق أوسطي والعربي بشكل عام، على التحصُّن في وجه المفاسِد الداخلية والإنحراف الأخلاقي، أو في وجه الغزو الخارجي، لذلك فإنَّ الحديث عن الضرورة التاريخية لبناء منظومة سياسية متطورة وتحقيق تنمية ممأسسة وإدارة سليمة على قواعد ديمقراطية تتفهم الآخر وتعترف به، يجب أن يتم عبر رؤية وممارسة جديدتين، وهو أمر يقع بالدرجة الأولى على عاتق المثقف النخبوي أولاً وأخيراً، كونه الوحيد القادر أقله على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية، وبأن يأخذ دوره كاملاً في بناء وصياغة وهندسة مجتمع متماسك ومتنور. وكذلك بسبب طبيعة التركيب الإجتماعي/ الطبقي المشوّه للمجتمعات العربي والمشرقية، التي تتسم بتعدُّد الأنماط الإجتماعية القديمة والحديثة وتداخلها، الى جانب وضوح وتعمُّق تبعية البرجوازيات فيها للمركز الرأسمالي العالمي المعولم، بحيث أصبحت اليوم واحدة من أهم أدواته وآلياته في قيادة البلاد، كل ذلك يجعل من المثقف بديلاً ولو مؤقتاً ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسؤوليات وتضحيات في مجرى الصراع، لتوليد معالم المشروع النهضوي والتنموي ونشره في الأوساط الشعبية كفكرة مركزية أو رؤية وحدوية متآلفة مع الخصوصيات الذاتية لتحقيق التنمية والتطوير.
إنَّ هذه الرؤية تشكِّل اليوم هاجساً مقلقاً يتعلق في عقل وتفكير العديد من القوى الحية على مساحة المنطقة كلها، لكنها ليست دعوة الى القفز عن واقع كل المجتمع الشرق أوسطي الصعب والمعقد، أو أزمته الراهنة، والتي تتجلى على ما يبدو في ثلاث مظاهر أساسية: سياسية وإقتصادية وإجتماعية..
إشكالية سياسية وإجتماعية وإقتصادية
وفي ضوء ما تقدم، نجد أن الأزمة السياسية الإجتماعية والإقتصادية التي تعيشها منطقة وشعوب الشرق الأوسط بحالتها الراهنة، تتجلَّى في تغيير المفاهيم والمبادئ والأهداف، بعد أن تغيَّرت طبيعة الأغلبية الساحقة من الأنظمة وتركيبتها وركائزها الإجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية، بما يتوافق مع هيمنة المشروع الإستعماري وتوجُّهاته، حيث إنتقل النظام بمجمله الى أرضية التبعية والإنفتاح والإرتهان، وبعبارة أخرى لم تعد قضاياه الداخلية والخارجية عموماً، هي الحاكمة لأنساق بناء الدولة الحديثة. ومعها القضية الفلسطينية بالذات، تمثِّل صراعاً مصيرياً لا يقبل المصالحة بين طرفيه: الإمبريالية الإستعمارية العالمية وإسرائيل من جهة، وحركة التحرر الوطني العربية من جهة أخرى، حيث تحوَّل التناقض الأساسي الى شكل آخر أشبه بالتوافق العربي الرسمي الأمريكي الإسرائيلي، أوصل النظام العربي والمشرقي الى حالة من فقدان الوعي الوطني لثوابته، سواء بالنسبة للقضايا السياسية الاقتصادية الاجتماعية الداخلية، أو في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والحقوق التاريخية أو قرارت الشرعية الدولية، ولم يكن غريباً في مثل هذه الحالة من التراجع والإنكسار، بروز التناقضات في إطار التحوُّلات العالمية الجديدة أو العولمة، لتبدأ دورتها في تفتيت بعض الكيانات، في السودان بين الشمال والجنوب ولاحقاً دارفور واليوم بين السلطة المركزية وقوات الدعم السريع، وفي الجزائر بين البربر والعرب من جهة أخرى، وفي مصر عبر محاولات بثِّ الإنقسام والفرقة بين أبناء الشعب الواحد من مسلمين وأقباط، وفي سوريا التي تعج بالتناقضات: إثنياً وعرقياً وجغرافياً وتفشي الحالة المذهبية ومحاولة وضع اليد عليها من دون إيجاد الحلول لمكونات الشعوب وألأعراق، وكذلك في العراق، وفي لبنان من خلال الإنقسام العامودي الطوائفي والمذهبي الحاد، وتوزع الولاءات للخارج كيفما كان، والإنحراف بالصراعات الداخلية من طابعها السِّياسي الديمقراطي الإجتماعي في إطار الوطن الواحد الى طابعها الديني الشوفيني المتعصِّب الذي تقوده أيضاً الحركات الدينية الأصولية بمختلف أنواعها وإرتباطاتها، والتي تستهدف المزيد من إستنزاف الأوضاع الداخلية وتمزيقها وإنقسامها السياسي والإجتماعي وإستمرار تخلفها وتبعيتها وإرتهانها.
فباتت إشكاليات الواقع في الشرق الأوسط ودوله ومعه الواقع العربي وأزماته العديدة والمتنوعة إشكاليات عميقة، بسبب إتساع حجم وقوة الضغوط الخارجية، التي تحاول إبقاء المشروع الإمبريالي الناهب لثروات ومقدرات الشعوب، في السياسة، والاقتصاد، والهادف الى تفكيك كل مقومات النهوض الوطني والقومي الذاتي في بناء الدولة النهضوية، لحساب المشروع الحضاري الغربي بإسم الليبرالية الجديدة والديمقراطية والخصخصة والسوق الحر وتحرير التجارة والانفتاح.
الإيديولجيا الدينية ومفاهيمها
جاءت الأحداث التي لا تزال تعيشُها دول المنطقة منذ العام 2011 ، والتي أتت نتيجة الواقع الإقتصادي المرير بالأساس، إلاَّ أنَّ آثارها وتداعياتها كانت كبيرة على المستوى الثقافي والسياسي والإقتصادي الإجتماعي .
فالمنطقُ الإيديولوجي المسيطر على مجموعات من الأفكار والقيم والبرامج السياسية بكل أنواعها، قابلته إيديولوجيا إسلامية تحت مسمَّى الحركات السياسية، والتي تشكَّلت منذ قرابة مئة عام، ولا تزال إلى يومنا تترجم وتعبِّر عن نفسها بأشكال عُنفية في كثير من الأحيان، إنطلاقاً من الحركات الوهابية مروراً بحركة الإخوان المسلمين، وصولاً إلى الحركات التكفيرية والسلفيات الجهادية المتطرفة، وكلُّها إتَّبعت النَّموذج الخلدوني في التلازم وفي التقارب بين الدعوات الدينية والعصبيات القبلية وتحالفاتها، لتشكِّل السياقات التحليلية والتأصيلية في إيديولوجيا الإسلام ….
فحركات الإسلام السياسي أدركت أنها معنية بتعزيز شرعيتها من “النص”، وبما يتجاوز الإجتهادات التقليدية المتصلة بالشأن السياسي في السردية الإسلامية، فواصل الإخوان المسلمون تعزيز شرعية وجودهم السياسي، من خلال التأكيد مجددًا على “وجوب الدعوة” كوظيفة دينية إجتماعية وسياسية، تتطابق مع النص الديني، وهذه الإنطلاقة كانت الأكثر إستعصاء في أيديولوجيا الإسلام السياسي، وفي مواجهة محاولات إلغائها، وهو ما أعطاها قوة الإستمرار والصمود، وإن كانت بعض الإجراءات المتصلة بهذه الأيديولوجيا قابلة للتغير (1).
فهناك إطارات ومفاهيم عديدة لا يجوز الخلط بينها، وهي قائمة على إيديولوجيا الحركات الإسلامية التي إستفادت من أزمات المنطقة وأزمات الدول، ووظَّفت مشروعَها السياسي، وحاولت القبض والسيطرة على كلِّ شيء تقريباً.. وأيضاً هناك الإيديولوجيا الإسلامية التي إعتنقتها البلدان الخليجية المؤسَّسة والمُشرَّعة على النمط الخلدوني العصبوي في حكمِها، وهي تعتبر أيضاً أنَّ أيَّة شرعية أو نمط حكم إسلامي غيرها، بمثابة كفر ودجل وخروج عن الإسلام التقليدي، وخارجة عن شرعية الحكم الناظم للإسلام، عبر هذا الرضا الإجتماعي القائم في الدولة والمجتمع، ضمن قواعد وسلوكيات تعتبرها من ضمن التعاليم الإسلامية الحقة.
هنا ومنذ عقدين من الزمن بدأت بلدان عربية في الشرق الأوسط، تشهد شروخاً وتفسُّخات على مستوى النظم السياسية الحاكمة والناظمة للقرارات الرسمية فيها، وعلى مستوى آراء الشعب ونُخبه لناحية الموقف ممَّا يجري في المنطقة، فمنها مَن ساند وبارك المتغيِّرات التي أحدثتْها موجات الحراك الجماهيري العربي، بل أصبحت بعض الدول راعية لها ومتبنِّية، ومنها إتَّخذ موقف الحذر والترقُّب وهو بكلِّ الأحوال كشَفَ حالة الهشاشة والضعف وعدم النضوج لهذه الدول منها بالتحديد.
فالنظام الرسمي العربي والمشرقي غاب وإنتهى إجتماعياً وسياسياً، وفقد تأثيره إقتصادياُ، وإنتهى كنظام إقليمي بين دوله الحالية أقلّه بعد إتفاقية كامب ديفيد وصولاً الى الإجتياح الغربي الأميركي للعراق، وتعايش مع حالة إنكفاء بإعادة ترتيب الهمِّ الداخلي والقطري لكلِّ دولة بشكل منفرد، متخلِّياً عن الأبعاد والمفاهيم القومية والعروبة والوحدة والهوية، وهو بالأصل لم يعطِ الحيوية الديمقراطية لأبناء الشعوب في تقرير مصيرها وممارسة حقها الدستوري والحياتي في التعبير الذاتي عن خصائصه ومفاهيمه وخصوصياته، وحتى هذا جعل التوتُّر بين الدول العربية كلها تقريباً في تصاعد مستمر عند كل أزمة أو قضية، وهو توتُّر لم تشهدْه أبداً دولُه من قبل، وهو غير مسبوق في التاريخ الحديث للدولة العربية والمشرقية. ذلك أنَّ النظم السياسية الثورية والقومية الرافعة لشعارات التحرُّر منذ الإستقلال، كانت تتصادم مع دول الخليج وبمواقفها، الذي كانت تعتبره هذه الأخيرة أفكاراً مستوردة أجنبية وخارج التقاليد العربية والإسلامية، في حين أنَّ دول الخليج والسعودية تحديداً كانت تبني شرعية حكمها على الإسلام وتقاليده العربية الموروثة ، حيث كان التناقض أو التباين أو الفصل بين النمطين أسهل وأوضح ويُمكن الإشتغال أو العمل عليه.. إذا ما تقاطعت مفاهيم وعوامل مشتركة بين الأطراف الفاعلة.
لكن بعد وصول الإسلاميين(الإخوان المسلمون) ومشروعهم في الإسلام السياسي المؤقت الى الحكم، والتسبُّب بفشل وإفشال حالاتِ التغيير المنشودة، إصطدمت أولاً بالسعودية وممالك دول الخليج، لأنَّ هذه الحركات الإسلامية إنطلقت ونافستْ على نفس المصادر الشرعية المؤسَّسة عليها بلدان الخليج أي الإسلام، وهو باتَ تحدِّي إستراتيجي وسياسي معاً يربكها، إذ أنَّ شعارات الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، مثَّلت بالنسبة للدول الخليجية تحدِّياً سياسياً لها، وشكَّل بنظرها هرطقة دينية بحُلَّة ولبوس إسلامي، حتى لو كان جوهره سياسي وليس ديني، وأضْحت حاجة الخليج والسعودية ملحَّةً بمحاربة هذا النموذج الإسلامي الحديث، الذي يستبعدُ نموذج الإسلام الخليجي وخطراً يتهدَّد مصادرها الشرعية ووجودها.
وهنا كانت الرؤية موحَّدة لدى جميع حركات الإسلام السياسي، بنبذ الدولة الوطنية الحديثة ونسف أساس بنيانها، فهذه الحركات بمختلف تلاوينها ترى في أنَّ الغاية النهائية لإنتماءاتها ليس الدولة الوطنية بشكلها القائم، حتى لو قبلت مؤقتاً، كضرورية وواقعية أمْلتها الظروف الدولية عنوةً، فجوهر ما تصبو إليه أو يصبو إليه هذا الإسلام السياسي هو حالة اللادولة أو ما يسمَّى الدولة العدمية حتى وصول أو ظهور الخلافة، وهو ما أدركت خطره السعودية ومعها دول الخليج من خطورة هذا الأنموذج الإسلامي الجديد، ليس حرصاً على كيانات النظم العربية، بل خوفاً على نفسها وعلى شرعية وجودها، وبأنَّها ستكون الضحية الأولى في هذا التغيير في أيديولوجيا الدولة التفكيكية التي يريدها الإسلام السياسي، من هنا كان التخوُّف من وصول الإخوان أو الإسلام السياسي في مصر والدفع نحو العنف في سوريا والعمل على محاربته، بما يُمكن أن يؤثر على إستقرار دول الخليج، وإستمرار نظُمها الخلدونية القائمة على الشرعية الإجتماعية والولاءات القبلية والإنتماءات الفردية.
شروط الكفاءة الإقتصادية والتنمية
وهنا إشارة لا بدَّ منها، حيث أنَّه لا يُمكن في هذه الحالات أنْ ننسى دور الجانب الإقتصادي الذي قدَّم من خلاله الخليج ودوله، نموذجاً مهماً متقدماً وكفاءة عالية، وأمام هذا الواقع تراجعت السياسة والعمل بها في الخليج ونشط الفاعل الإقتصادي أكثر من العمل السياسي، وهنا يعتبر دخول الإيديولوجيا والإسلامية بالذات أمراً خطيراً في هذه الدول، لأنَّ ملوك وأمراء الخليج يعتبرونها مَفْسدة للعامل الناظم للإقتصاد، وأنها ستخلق المشاكل أكثر مما ستجلب من الإستقرار، خصوصاً أنَّ الثقافة الإسلامية هي الثقافة الوحيدة السائدة في هذه الدول، فمثال الحكم الذي تقدمه حركات الإسلام السياسي يقضُّ مضاجع دول الخليج، لأنَّها تهدِّد وجود الدولة وتقضي على ما يسمونه التنمية المعتمدة على عائدات الإقتصاد كأولوية على المشاركة السياسية.
إنَّ إيديولوجيات الإسلام السياسي بكلِّ فصائلها هي على عداء تام مع فكرة القومية والعروبة والعمل العربي المشترك، وكذلك نبذ اللامركزيات في الحكم والإدارة المحلية والحفاظ على الخصوصيات الذاتية، لأن ذلك يتصادم مع رؤيتها التي لو كُتب لها النجاح لقامت على تفكيك الدولة الوطنية…. وهنا الإخفاق الكبير والخطير القائم على ضرب وتفكيك بنية الدول الوطنية ومشاريعها الإقتصادية ومواقعها الحيوية الجيوسياسية، في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا والصومال ومصر والسودان وغيرها، بما يسهِّل عمل وإعادة تموضع مشاريع دينية وكولونياليات سياسية من طبقات الازلام التابعين للخارج، تحت مسميات عديدة كإعادة إحياء مشروع الإسلام السياسي من جديد، وإعادة طرح فكره الذي يتعدَّى مفهوم الدولة الوطنية، سواء في المشرق العربي أم في الخليج، فهذه سياسات مياومة وقصيرة النظر أخَّرت بناء وتطوير المجتمعات لقرن من الزمن على الاقل.
علماً أن الوضع الراهن، الذي تعيشه المنطقة العربية وشعوبها، لم يكن ممكناً تلمُّسه وإدراكه أوالوصول اليه، بعيداً عن عوامل التفكك والهبوط في بنية الدولة المشرقية والعربية التي بدأت في التراكم منذ اتفاقية سايكس بيكو الى اليوم، فبدلاً ممَّا كانت تتمتَّع به العديد من دول المنطقة في ستينيات القرن الماضي، من إمكانات التحرُّر والنهوض الوطني والتنموي، تحوَّل هذا الوطن بدُوَله العديدة وسكانه الى مجرد أعداد كبيرة مليئة بالنزاعات الداخلية والعداء بين دوله، لا يُحسب له حساب أو دور يُذكر في أيٍّ من المعادلات الدولية، وتحوَّلت معظم أنظمته وحكوماته الى أدوات للقوى المعادية له، تستخدمها متى تشاء وكما تريد، فيما قويت التبعية للغرب ولمشروعه الإستعماري، وتنوعت درجاتها وأشكالها السياسية والإقتصادية والتكنولوجية والثقافية والسيكولوجية، في ظروف فقدت معه فيها القوى والأحزاب الديمقراطية الوطنية والقومية واليسارية، قدرتها على الحركة والنشاط والنمو، وتراجع دورها في التأثير على الناس أو على ما يجري من أحداث حولها.
وفي مقابل هذا التراجع على المستوى الداخلي الرسمي لبلدان الشرق الأوسط، والذي منع تطوُّر وتجدُّد وصعود المشروع الوطني والتحرري والتنموي، تجلَّت هيمنة إسرائيل بصورة غير مسبوقة،إلى جانب عمليات الإخضاع الأمريكي المستمرة للنظام الرسمي في هذه الدول، في السياسة والإقتصاد والفكر والثقافة، التي لم تنجح في تغيير الموازين والمعايير العسكرية والسياسية في الصراع العربي – الصهيوني لصالح إسرائيل فحسب، بل نجحت في تغيير معالم أي عملية للتفاوض، إلى الدرجة التي تمَّ فيها إرساء قاعدة أن تعترف إسرائيل بحقوق العرب وليس العكس.
ومع إدراكنا لطبيعة هذه التراجعات في واقع المنطقة وعلى أكثر من مستوى، ولطبيعة طبقاته الإجتماعية الموجودة، والتي لم تكن معزولة أبداً عمَّا جرى ويجري في العلاقات الدولية الراهنة، إلاَّ أنَّه لولا هذه التراجعات العربية، التي شكَّلت قاعدة ومناخاً عاماً عبر أدواتها السياسية وشرائحها الإجتماعية وطبقاتها القديمة الجديدة، لما نجحت الإختراقات الخارجية الإقتصادية والثقافية، في فرض شروط الإستسلام عليها والإستباحة لها. ذلك أن ظاهرة العولمة بشروطها الإقتصادية أولاً الى جانب ما تحمله من مخاطر شديدة وتحديات كبرى، خاصة على بلدان المنطقة، تحمل الكثير من الفرص ومن حوافز التطور والنهوض لمن يمتلكون الإرادة رغم أنها عولمة التحديات، وإذا كان صحيحاً أن العولمة لا تستطيع بأي حال من الأحوال، إلغاءَ هذا التنوع الحضاري والتاريخي والثقافي والسياسي بين الأمم والقوميات، فإنَّ ذلك لا يعني الصمت أو الإستكانة والاطمئنان، لأنَّ الصراع المستمر والحركة الصاعدة في هذا الصراع، يشكلان القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية اليوم، أكبر بما لا يُقاس ممَّا كانت عليه في السابق، لذلك فإن الضعف الذي إعترى هذه الدول من العبور إلى مرحلة الصراع والتنافس العالمي متسلِّحين بالرؤية أو الهدف المطلوب، وبالخطط اللازمة وتوفير المقومات والآليات،أضاف المزيد من التبعية والقهر والمزيد من التراجع على هامش التاريخ أو حتى خارجه.
عوامل تأثير المناخات الدولية
ولعل أبرز المتغيرات الدولية المعاصرة أو العوامل الخارجية، التي دفعت بدول المنطقة نحو المزيد من التداعي والتراجع والإنهيار، تمثلت في إنهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الإشتراكية، وولادة مشاريع التسوية العربية الإسرائيلية، وما تَبِعها من عمليات التطبيع السياسي والاقتصادي للعديد من بلدان النظام العربي_الشرق أوسطي. فهذه المتغيرات لم تكن قادرة على التأثير، بدون إستكمال عوامل التبعية والتراجع الداخلي في مجمل النظام الرسمي للدولة في الشرق الأوسط، وتراكماتها وتحولاتها السيئة، التي تفاقمت خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، كان من أهم نتائجها، التحولات الخطيرة في إستراتيجية السياسة لدولها، ولكن استمرار تراكم الأزمات الداخلية وتبعية وإلتحاق النظم السياسية، أفرز حالة من العجز، وأصبحت تستجدي الإعتراف بالحقوق الوطنية لشعوبها من واشنطن، رغم إدراكها باستحالة تحقيق ذلك الإعتراف، خاصة بعد أن تمَّ تكييف وإعادة هيكلة معظم بلدانها وفق شروط النظام الرأسمالي السياسية والإقتصادية، بحيث أصبحت أوضاعه الداخلية كلها رهينة للصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الدولية وشروطها السياسية والاقتصادية(1).
ولكن رغم حجم هذه الضغوط الخارجية، ودورها ضد المصالح الوطنية لدول الشرق الأوسط، إلاَّ أن الأوضاع والضغوط الداخلية لدول المنطقة تشكل العامل الرئيسي الأول في إنجاح أو في إفشال تلك الضغوط الخارجية، فمن غير المُمكن تحليل الأوضاع السياسية ومساراتها، بمعزل عن مسار التطور الإقتصادي الإجتماعي الداخلي، باعتباره الركيزة الأولى والمدخل في تبعيته للمراكز الرأسمالية وضغوطاتها الخارجية لوضع يدها على القرار، إذ أن التراكمات البطيئة والمتسارعة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي والسياسي، وتحوُّلاتها خلال العقود الثلاثة الأخيرة عبر سيطرة القوى الرأسمالية، الطفيلية، والبيروقراطية، والتجارية، والعقارية، والمالية الكبيرة على مجمل البنية الاجتماعية والسياسية في مناخ الاقتصاد الحر والانفتاح، أدَّت الى تراكم وإتساع التناقضات الطبقية والشعبية من جهة، وإلى تطابق مصالح هذه البنى الطبقية العليا الداخلية الحاكمة، مع مصالح وشـــروط المــراكــز الرأسمالية الخارجية العالمي أو العولمة من جهة أخرى.
إذن، جوهر الإشكالية أو الأزمة في النظام السياسي والإقتصادي لدول منطقة الشرق الأوسط، بأبعاده الوطنية والقومية وبالديمقراطيات الإجتماعية والإقتصادية، وكذلك على الصعيد الداخلي، يكمن بأنه لا يمكن الخروج منه/أو التغلُّب عليه من دون توفر النظام السياسي المعبِّر عن إرادات وتطلُّعات ومصالح الشعوب ويقوم على خدمتها، بحيث تجلَّى ذلك في فشل السياسات الليبرالية الإقتصادية التي صاغها صندوق النقد والبنك الدوليين منذ ثمانينيات القرن الماضي، والتي عرفت بإسم برامج التثبيت والتكيُّف الهيكلي وببرامج التصحيح، ولم يكن هذا الفشل مفاجئاً للعديد من خبراء الإقتصاد حول العالم، إذ أن هذه البرامج أو التوجهات الليبرالية الجديدة التي قبلت بتطبيقها غالبية الدول حول العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، طَمَست أو غيَّبت بشكل متعمَّد كلَّ مصطلحات التنمية والتحرر الإقتصادي والتقدم الإجتماعي والعدالة الإجتماعية، التي وأمام هذا الزحف الكاسح للإستباحة الإقتصادية والسياسية، فقدت هذه الدول قدرتها على صياغة أي سياسة تتعارض مع المصالح الرأسمالية العالمية وأدواتها المحليين، فالخصخصة ليست إلاَّ إعادة توزيع الثروة لصالح البرجوازية المحلية والأجنبية، حيث يتسنى بمقتضاياتها نزع ملكية الدولة ونقل أصولها الإنتاجية للقطاع الخاص بغض النظر عن هويته وجنسيته(2).
والآن، وبعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمن على الإستجابة لهذه الشروط في تطبيق السياسات، تحصد النتائج الوخيمة التي لم تتوقف عند العجز عن مواجهة تحديات التنمية فحسب، بل أدَّت الى تفاقم المديونية الخارجية والداخلية، وعجزت بعض الدول عن سداد فوائد هذه الديون الى البنك الدولي صاحب تلك السياسات والبرامج، ولا تزال تلحق أسعار الفائدة المرتفعة للدولار الأميركي، وتحركات البنك المركزي في واشنطن وسياساته في تقوية العملة لفرض الشروط والإبقاء على العقوبات، من أجل السير في ركب السياسات الإقتصادية لواشنطن، كما أدَّت أيضاً الى تباطُؤ وتراجع حركة النمو الإقتصادي، وتزايد حالات الفشل والإنتكاسات الإقتصادية والمالية، وتزايد حالات الفشل والإنكسارات في مسيرة الإقتصاد الوطني ككل، وأوقعت الإقتصاد والمجتمع في مآزق وحُفر عديدة وعميقة، فتخلَّت الحكومات عن مسؤوليات التنمية، لحساب القطاع الخاص حسب شروط الصندوق والبنك الدوليين، الذين أثبتا عجزهما وعدم قدرتهما على سد الفراغ التنموي، _إلاَّ في إستثناءات قليلة_ وإزداد العجز في الإدخار المحلي، وفي إجتذاب الإستثمار الأجنبي، ومعها تزايد العجز عن التصدير، بل تم فتح الباب لخروج موارد الدولة على نطاق واسع من خلال الإستيراد وخروج رؤوس الأموال.
فهذا التراجع في دور الحكومات زاد العجز في تدبير الموارد لتمويل الإنفاق العام المحدود، وعليه وبسبب هذه السياسات، تمَّ تهميش دور التخطيط، بعد أن أصبح دور الحكومات مقتصراً فقط على الإشراف أو التوجيه عن بعد، وبالتالي غابت الأدوات لتنفيذ الخطط التنموية وغيرها.
فقد ثبت بالملموس، أن الإنفراج السياسي أو الديمقراطية الليبرالية وتطبيقاتها حسب توجيهات الصندوق والبنك الدوليين، لم يكن سوى عملية مدروسة إستهدفت تآكل المجتمعات، أو طحن الطبقات الشعبية الفقيرة، بعد أن تعرَّضت لمزيد من التهميش والإفقار والمعاناة والحرمان بكلِّ صوره، في مقابل فتح الباب على مصراعيه لسيطرة رأس المال الطفيلي البيروقراطي، والشركات والوكالات الأجنبية على الحكم ومؤسساته والتحكم بقراراته السياسية الخارجية والداخلية.
إن هذه المآزق تشير بوضوح كبير، إلى حجم التراجعات والإنهيارات الإقتصادية والإجتماعية الداخلية، التي أوْدت بالطبقات الشعبية إلى أشكال من الفقر والمعاناة والذل لم تعرفها من قبل، عدا عمَّا أوقعته هذه التطبيقات من أزمات خطرة، كشفت عمق التناقضات، والتباعد في بنية هذه السياسات الليبرالية الاقتصادية وأساليبها الهادفة الى إضعاف دور الدولة، وإلغاء الدعم المقدم منها للسلع الأساسية، وإلغاء مفاعيل ودور القطاع العام، والتقليل المستمر للفائض الإقتصادي الذي تملكه الدولة، ونقله للقطاع الخاص المحلي والأجنبي في إطار الإنفتاح الليبرالي والخصخصة وآليات السوق الحر.
وفي ظل هذا التدهور الناتج عن الإستجابة لسياسات الصندوق والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة الدولية، إلى جانب عوامل أخرى داخلية وخارجية متنوعة، كان لا بدَّ وأن تأخذ الأزمات الإقتصادية العامة طريقها وتشقُّه في صلب النظام الرسمي للدول في الشرق الأوسط، نحو مزيد من التراجع في الاقتصاد والتنمية والمجتمع والسياسة، كونه شكل الأساس الذي بُنيت عليه سياسات هذه النظم العربية ودوام إستمراريتها.
إن إستفحال مظاهر التبعية بكلِّ أشكالها، بما يستجيب لأهداف وشروط الخارج، الذي يسعى الى إضعاف وإرباك القاعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة، عبر تحطيم العلاقة والعمل على التباعد بين الدولة والشعب، بحيث يصبح المسار الرئيسي للدولة موجَّهاً في خدمة إستحقاقات العولمة والسوق العالمي والشركات المتعددة الجنسية أو ما يمكن تسميته بــ “الديكتاتورية الجديدة”، وإن ما يعزز هذا الاستنتاج، هو طبيعة التحولات النوعية الخطيرة التي أصابت معظم أقطار بلدان المشرق، وجعلت منها دولاً رخوة وهشَّة بالمعنى السياسي والاقتصادي المعاصر.
الموروث التاريخي والإيديولوجي
هناك تحديات تواجههها شعوب ودول منطقة الشرق الأوسط، وهو تحدٍّ حقيقي على جميع المستويات السياسية والثقافية والإجتماعية وغيرها، لكنه قبل كل شيء تحدٍ إقتصادي في المقام الأول.
وهذا يتطلب الوعْي لأبْعاد وتفاصيل اللوحة الإقتصادية في كل دولة، من أجل تعزيز مقومات حضور البديل الديمقراطي والتنمية الشاملة. إذ إن الإشكالية الكبرى التي تتعرض لها المجتمعات في هذه المرحلة، تكمن في الحقبة التي إنتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة الى المرحلة الجديدة أو العولمة ذات الغزو الثقافي والإقتصادي بتسارع غير مسبوق، وبمتغيِّرات نوعية تحمل تحديات غير مسبوقة، لا يمكن إمتلاك القدرة على مواجهتها، إلاَّ بإمتلاك أدواتها العلمية والمعرفة، فالإستحضار الأيديولوجي بالموروث التاريخي، يُعد أبرز الآليات التي تُعيد إنتاج التخلُّف، وتُعيد إنتاج الإستبداد، وتحافظ على البنى والعلاقات والتشكيلات ما قبل الدولة، فالعلاقة بين المستوى الأيديولوجي السياسي، والمستوى الإجتماعي الإقتصادي هي علاقة جدلية، والحديث عن أزمة المجتمع التي تعود في جوهرها الى أن البلدان العربية عموماً وفي المشرق خصوصاً، لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً، ولا تنتمي إليه، بسبب فقدانها بحكم تبعيتها للبوصلة من جهة، وللأدوات الحداثية الحضارية والمعرفية الداخلية، التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي ومساراته وعلاقته الجدلية بالحداثة والحضارة العالمية أو الإنسانية من جهة ثانية.
اليوم شارفنا على إنتهاء الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ولا تزال دول منطقة الشرق الأوسط قاصرة عن مواكبة الركب الحضاري للدول، وهي تعيش في زمان ما قبل الرأسمالية رغم تغلغل العلاقات الرأسمالية فيها، فالمجتمعات لم تستوعب أساسيات الثقافة الديمقراطية وثقافة التنوير، ففي غيابها يصعب إدراك الدور التاريخي الواقعي للذات في وحدة شعوبها ووحدة مسارها ومصيرها، إدراكاً يُلبي إحتياجات هذا التطور السياسي والإجتماعي والإقتصادي، ولعلَّ هذا هو السبب الرئيس لهذه الإشكالية الكبرى، ضعف الإدراك الجمعي بالدور التاريخي، وبالتالي فإن الواقع الراهن يشكل المرجعية الأولى والأساسية في تفسير مظاهر الضعف وحلقات التخلف السائدة بل والمجددة لنفسها، إذ أن دراسة هذا الواقع، الحي، بمكوناته الإجتماعية والإقتصادية تشير بوضوح الى أن العلاقات الإنتاجية والإجتماعية السائدة اليوم في هذه البلدان هي نتاج لأنماط اقتصادية/إجتماعية، من رواسب قبلية وعشائرية وشبه إقطاعية، وشبه رأسمالية، تداخلت وتشابكت بصورة غير طبيعية، وأنتجت هذه الحالة الإجتماعية/الإقتصادية المعاصرة، المشوَّهة.
واليوم تتعرَّض هذه المجتمعات من جديد وبضغوط كبيرة، لمرحلة إنتقالية لم تتحدَّد أهدافها النهائية بعد، رغم مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح والفئات الرأسمالية العليا بكلِّ أشكالها التجارية والصناعية والزراعية، والبيروقراطية الطفيلية، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي، وتحول دون أي تحول ديمقراطي حقيقي في مساره، عبر إندماجها التابع للنظام الرأسمالي المعولم من جهة، وتكريسها لمظاهر التبعية والتخلف والإستبداد الأبوي، على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى، من خلال التكيف والتفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الإنفتاح والخصخصة خلال العقود الأربعة الماضية، وبين النمط القبلي/ العائلي، شبه الإقطاعي،الريعي، الذي ما زال سائداً برواسبه وأدواته الحاكمة، أو رموزه الإجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث والمتجذِّر.
إن مخاطر هذا النمط المتشِوَّه من العلاقات الإقتصادية، إنعكس على العلاقات الإجتماعية كذلك، فعمّق الأزمة الإجتماعية ووسَّعها أفقياً وعامودياً معاً، خاصة مع إستشراء ظاهرة تراكم الثروات غير المشروعة، وأشكال الثراء السريع والفاحش كنتيجة مباشرة لسياسات الإنفتاح والخصخصة، والهبوط بالثوابت السياسية والإجتماعية الوطنية، التي وفَّرت المقومات لإزدهار إقتصاد المحسوبيات وأهل الثقة، القائم على الصفقات والرشوة والعمولات بأنواعها، حيث يتحوَّل الفرد العادي الفقير الى مليونير في زمن قياسي، وهذه الظاهرة شكَّلت بدورها المدخل الرئيسي لتضخُّم ظاهرة الفساد بكلِّ أنواعها في السياسة والإقتصاد والإدارة والعلاقات الإجتماعية الداخلية، بحيث تصبح الوسائل غير المشروعة هي القاعدة في التعامل، بعيداً عن أهل الكفاءة والخبرة، ودونما أي إعتبار هام للقانون العام أو المصالح الوطنية.
وممَّا هو جدير بالإهتمام وبالتأمل ليس الخطر الناجم عن هذه الظواهر فحسب، بل أن تصبح هي القاعدة التي تحكم أو تحدِّد مسار وطبيعة العلاقات الإجتماعية والسياسية في المجتمعات، فتصبح مؤسسة الفساد هي التي تملك السيطرة على دفة القيادة في هذا البلد أو ذاك، وتوجيهها وفق قواعد إدارة الأزمة بالأزمة، وهنا وجب الإنتقال نحو التغيير الديمقراطي بإلحاح وكمطلب في مواجهة هذا الوضع المأزوم، بحكم أنها تعبير عن أزمة هذا التطور المشوَّه الذي فرضته حالة التبعية البنيوية للإمبريالية.
التسلّط والإستبداد وتعثُّر التغيير
لا شك بأن حكم الغلَبة وقضية الإستبداد في الشرق الأوسط، يكتسبان أهمية حقيقية، وبأن منطق الحياة لم يعُد يقبل بإستمرار صيغة توفيقية وإستخدام واجهة ديمقراطية ترتكز على شكل من المؤسسات العصرية، المممزوجة ببعض حقوق الإنسان والمرتكزة بنفس الوقت على إستبداد متجذر أصيل في الحكم.فالاستبداد ليس “حالة عربية محضة” بالمعنى “الطبيعي”، بالعكس فإن الاستبداد مفروض تحت وطأة شروط وظروف قابلة للتغيير إذا ما توفرت قوة الدفع المناسبة.
ونحن نعيش في ظل مناخ ملتبس، فيه السياسة والمقدس، فالحرية تغيب بشكل كامل، لتحضر عنها كل عناصر القهر والقسر في صوره المادية والمعنوية، هي أهم مشكلة إجتماعية وفلسفية في تاريخ البشرية، والتاريخ كصناعة إنسانية في الأساس، فهو تسجيل مستمر لمعاناة أبدية لا تنتهي من أجل نيل حرية الإنسان، هذا مع الإعتراف بأن الحرية ظاهرة إنسانية متغيرة في الزمان والمكان، فحرية الحاضر لم يتحدث عنها السَّلف الأول، وبحسب ما يكون مفهوم المجتمع للحرية تكون صورة هذا المجتمع وثقافته، وفى النظم القبلية والأبوية، وحيث يكون “النظام السياسي صنو الدين” والحاكم هو صاحب السلطان ومستخلَف في الأرض، فإن مفهوم الحرية يتمحور أساساً حول طاعة الرعية لصاحب ووليّ الأمر، ومع إقتران الطاعة السياسية بالطاعة الدينية تتشكل الخطوط الاولى من أساسيات عملية الإستبداد.
أما على صعيد الفكر، يعتبر البعض أنه على مدار التاريخ، فإن السلطة الإستبدادية بصفة عامة كانت هي القاعدة، وأنَّ التحوُّل عن هذه السلطة إلى أشكال قريبة من الديمقراطية كانت هي الاستثناء، ويعني ذلك، أن النظم الأتوقراطية المستبدة كانت هي السائدة من الصين إلى أميركا اللاتينية حتى أوروبا، بحيث كانت هي القاعدة، وبالتالي فإن التحول إلى الديمقراطية يأتي على سبيل الإستثناء، ويظلُّ هنا للبُعد التاريخي أهميته في هذا التطور، فهناك “الدولة السلطانية” التي سادت العالم الإسلامي منذ الحكم المملوكي، وإتَّخذت شكلها الكامل في الدولة العثمانية، وكذلك الدولة البيروقراطية التي وُلدت في أعقاب الثورة الفرنسية، وتمخَّضت عنها إضطرابات القرن التاسع عشر، وفى هذا الإطار يلاحظ التركيز على “الدولة التسلطية”، التي هي ظاهرة خاصة ونمت بقوة في القرن العشرين، حيث يمثل فيها الطور المكتمل للدولة البيروقراطية الحديثة. هنا تكمن أهمية التأشير إلى إختراع البدع التي مكَّنت الدولة البيروقراطية الحديثة من الدخول والتحكم في حياة الشعب بصورة لم يسبق لها مثيل، ونعني بها الجيش والشرطة ورجال الدين، وهو ما غيَّر بصورة جذرية الأُسُس التي كانت تقوم عليها مؤسسة الحكم المطلق، فبينما نجحت الدول الأوروبية وبعض الدول الأخرى في العالم، بالحدِّ من قوة الدولة البيروقراطية الحديثة، عن طريق القوانين والدساتير وفصل السلطات، والولوج نحو “الدولة الليبرالية الدستورية البرلمانية” ، فإنَّ دولاً عديدة أخرى لم تنجح في الوصول لهذه النتيجة، لتظل حتى الآن في طور “الدولة التسلطية”، فمفهوم السلطة بأنها القدرة على التأثير، تأخذ طابعاً شرعياً في إطار الحياة الاجتماعية، والسلطة هي القوة الطبيعية، أو الحق الشرعي في التصرُّف، أو إصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز إجتماعي يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته وأوامره وقراراته.
وهناك من يعتبر “التسلط”، بما يتضمَّن من بطش وعدوان وعنف، هو الأصل لهذه المفاهيم، خاصة مع الإشارة إلى الخيط الرفيع الذي يفصل بين السلطة والتسلُّط، مع غَلَبة الرأي الذي يؤكد النزعة الاستبدادية للتسلط، وعليه، فإننا نجد أنفسنا – في سياق البحث الراهن- بحاجة إلى تحديد وضبط مفهومين أساسيين مما يخدم التقديم الآنف الذكر، وهما:القمع والإستبداد. فالأول هو كل نظرة دونية لأي إنسان، وكل تعصب قبلي أو عائلي أو ديني أو قومي أو طائفي أو مذهبي أو سياسي، وكل تزوير وتضليل في كل الميادين الحياتية، وكل رفض للحوار والتعاون والتنسيق والتوحيد، وكل إستهتار بالأخلاق والحريات والقوانين، الخادمة للإنسان.
أما عن الاستبداد، فهو التفرقة بين الحاكم الذي يلتزم بالقانون قولاً وفعلاً، والحاكم الذي يكون قوله وفعله هو القانون، فإذا وجد القانون وإحتكر الحاكم سلطة تعديل وتغيير القانون، فهو إذن حكم مطلق، وإذا قيدت سلطة الحكم بقانون أساسي فهو حكم دستوري، وقد يكون الحكم الإستبدادي فردياً أو حكم جماعة، كما أن هناك أهمية لتوجيه النظر نحو نوعية “الاستبداد” الذي ينبع من إختراق الدولة للمجتمع، وهيمنتها عليه بصورة كبيرة، وهي ما يعتبرها إبن خلدون الإحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع. والاستبداد هو الحكم الذي لا توجد بينه وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون ناقد الحكم، ولا عبرة فيه بيَمين أو عهد أو دين أو تقوى أو حق وشرف أو عدالة ومقتضيات المصلحة العامة، عليه وبناء على ذلك، فإنه في الأنظمة الحاكمة المستبدة تسير الأمور دوماً من أعلى إلى أسفل، بينما في الأنظمة الديمقراطية تسير الأمور من أسفل إلى أعلى وبالتبادل(3).وهنا ندخل الى إشكالية الحكم والسياسة وقضية الحرية والديمقراطية في الواقع العربي والمشرقي، من خلال منهجية تكرِّس العودة للوراء بدلاً من السير إلى الأمام أو حتى النظر بإمعان للواقع المباشر.
ففي معرض التفسير والتحليل للإشكالية، يُقال إن قضية الحرية والديمقراطية في بلاد الشرق العربي، ليست مجرد أن الدول العربية تقع تحت نُظم ملكية، وليست مجرد أن هناك قوانين طوارئ وقوانين استثنائية تكبِّل الحريات، وإنما الإشكالية تعود إلى عمق الموروث الثقافي، بعد أن ترسَّخ في الثقافة الشعبية وأصبح جزءاً من الوعْي القومي فيها، فيما أزمة الحرية والديمقراطية في الواقع المعاصر، تمتد جذورها إلى الموروث الثقافي وفي الوعي القومي، وما تبقى فيه من تصوُّر هرمي أو مركزي أو رأسي للعالم، يعطى الأعلى ما يسلبه من الأدنى، الأعلى يأمر والأدنى يطيع، كما هو معروف في الثنائيات التقليدية الموروثة.. وطبعا يمتد هذا التحليل، على هذا النحو لإبراز دور “الموروث الثقافي” في خلق المجتمع الأبوي وسِماته الخاصة، هذا مع إشارة للعوامل الإجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتفاعل بين العوامل المادية والمكونات الثقافية في الوعْي الفردي والوعي الجمعي، في ثقافة الفرد والتصوُّر الجماعي للعالم.
ترسُّخ الاستبداد في الوعي الجمعي
وهذا يقودنا الى الإرث الثقافي المحمول تاريخياً، فالإستبداد لا يعود فقط إلى أنظمة وأجهزة الحكم الإستبدادية، ولكن أيضا يعود إلى مشارب الثقافة المعاصرة، التي تجعل الجماهير مهيّأة لقبول هذا الاستبداد، أو متعايشة معه، وإذا تجاوزنا منطق الإرث والموروث في الثقافة، لنرى منطق الذين ينظرون للثقافة العربية المعاصرة بالشكل العام، وهي تعاني أصلاً من العلاقات الإجتماعية التي تأخذ طابع الإكراه والقهر والتسلُّط، التي تضرب جذورها في العائلة والمدرسة والحياة العامة، فهي مشْبَعة بروح العنف، وإن العنف يدخل في نسيج العملية التربوية، وبالتالي فإن السِّمة التسلُّطية تعود إلى الطبيعة الأبوية للمجتمعات الشرقية، فالقمع يسود ثقافتنا ويؤدِّي إلى مظاهر الإحساس بالدونية وفقدان مشاعر إحترام الذات.
إن الاستبداد العربي والمشرقي السائد، هو ظاهرة إجتماعية ثقافية ذات جذور تاريخية، وليست مجرد ظاهرة سياسية رسمية، هنا نبعت ثقافة الإهتمام بمؤسسات المجتمع المدني الراهنة من أحزاب ونقابات وإتحادات مهنية، وتجمُّعات ثقافية وأندية رياضية وإجتماعية، فثقافة الإستبداد الغالبة في كل البناء الإجتماعي العربي، هذه الثقافة بعينها هي التي تقوم بتغذية التطرف اللاعقلاني الذي تفشَّى في المجتمعات العربية والمشرقية، وكل هذا النقد والتحميل على الثقافة العربية المشرقية، الموروث منها والمعاصر، تكون نتيجته أن الجماهير المنتجة والملازمة لهذه الثقافة هي بطبيعتها مهيأة لقبول الإستبداد، بل متواطئة في التعايش معه، وذلك دون تحميل أي قدر للأسباب والظروف التي تعيش في ظلها هذه الجماهير، من أميَّة وجهل وفقر وتدنِّي مستويات التعليم والمعيشة والرعاية الصحية، بل إن الجماهير المهيأة لتقبُّل السلطة الإستبدادية، ينحصر كل أملها في أن يكون المستبد عادلاً، ولذلك يخضع الناس للسلطة ليس لأنهم مطبوعون على الخضوع، ولكن بسبب التسلط وبسبب أجهزة العنف التي تملكها السلطة وأساليب القهر والقمع وتهديد مصادر الرزق.
بنية المجتمع الإنتاجية وإنحسار قوى التغيير
يمثِّل المجتمع في دول الشرق الأوسط نموذجاً للتعدّد والتنوع على كافة المستويات، فمن ناحية هناك التنوع في الإنتماءات الدينية والقبلية والطائفية والعرقية، ومن ناحية أخرى هناك التعدد في أنماط الإنتاج، فهي تعيش في ظلِّ خليط من المؤسسات السياسية، التي تتراوح بين الجمهورية والملكية والإمارة، والحقيقة أنه ليس من السَّهل وصْف الأنظمة الإنتاجية في هذه الدول بأنها إقطاعية أو رأسمالية أو إشتراكية، لأنها في الواقع تجمع بين هذه الأنظمة في ظلِّ صيغة مركبة، مع ملاحظة أن العائلة تشكل ما يمكن تسميته بــ”عصب الإنتاج الاقتصادي”، وتقوم على بنية إنتاجية تجارية– زراعية متمركزة حولها، يرافقها نظام ريْعي في البلدان المنتجة للنفط. كذلك من سِمات التنوع في مجتمعاتها، أن بعض مناطقها تتمتَّع بالثراء والغنى في الموارد والثروات، ولكن هناك مناطق تعاني من الفقر والندرة في الموارد، وهي كذلك منفتحة على العصر وينقل اليها أحدث التقنيات والتكنولوجيا، ولكنها تتمسَّك ببنياتها التقليدية، ومجمل القول هي مجتمعات سلفية تقليدية غيبية في منطلقاتها ومستقبلية متجددة علمانية مستحدثة في تطلعاتها.
لكن ما تمرُّ به هذه الدول، هو ما يمكن أن نطلق عليه مسميات المحن السياسية والدستورية، والسبب هو أن النُّخب الحاكمة ليست مقتنعة في قرارة نفسها، بأن الحكومات يجب أن تخضع للمراقبة، وأن الحكام يجب أن يخضعوا للمساءلة، وأن الأمة هي مصدر السلطات، فإقتصر أمر الحكم على إستخدام الآلية الانتخابية وتصميم الدساتير، لا لشيء سوى لقوننة الحكم التسلُّطي أو تقديم التسلطية بوجه ديمقراطي، وعندما يجرى إضعاف الدستور، وإضعاف الحكم الدستوري، فإن حصيلته هي إضعاف حكم القانون وبالتالي تكريس الحكم المطلق.
ولذلك حتى بعد مرحلة التحرُّر الاقتصادي الشكلي، وإعتماد طريق الإنفتاح السياسي المحدود، صارت دول الشرق الأوسط أكثر تسلُّطا عمَّا كانت عليه، فترعْرعت المصالح الشخصية البيروقراطية الكمبرادورية الطفيلية في ظل آليات الخصخصة والإنفتاح، وشرعت الأبواب لسيطرة رأس المال الطفيلي، وإستشرت ظاهرة الثراء المفاجئ غير المشروع، وتضخَّمت ظاهرة الفساد بكل أنواعه في السياسية والاقتصاد والإدارة والعلاقات الإجتماعية، ووجدت النُّخب الحاكمة وتحالفاتها الإجتماعية المتضامنة مع الزمر الزبائنية، أنه ليس من مصلحتها إجراء تحوُّلات ديمقراطية، طالما أن مؤسسات الحكم لا تنفصل عن آليات توزيع العوائد المالية، فجرى إبتكار صيغة تجمع بين التحرر الاقتصادي والتسلُّط السياسي، من خلال إستقطاب بعض أعضاء النخبة الداخلية، ومن خلال رسم أدوار مشوَّهة لرئاسة أحزاب سياسية أو مؤسسات، أو حتى الاكتفاء بغض النظر عن آرائهم وانتقاداتهم طالما أنها لا تتعدى الخط الأحمر الذي رسمته الحكومة، فالمشروع الديمقراطي لم يحقق أي نصيب من النجاح الحقيقي، لأنَّ المبدأ الذي جرى إعتماده وتسويقه والمزايدة عليه: أن أكثر من نصف قرن من ديمقراطية جائرة مستبدة، أهون وأصلح من ليلة بلا ديمقراطية على الإطلاق. ولم تفضي التحسينات الشكلية التي أُجريت على شكل الحكم في الدولة (تعددية– برلمانات– انتخابات) الى إجراء أي تغيير في جوهر السلطة، كما لم يُوصل الانفتاح المشوَّه الى تحقيق عدالة التوزيع، ومشاركة الأغلبية الإجتماعية في عمليات الإنتاج والحكم، ومع تزايد تراكم الثروات لدى التحالفات والأزلام القريبة من الحكم، إتسعت الفجوة بين القلة من الأثرياء والأغلبية الساحقة من الفقراء المهمشين سياسياً وإجتماعياً، ليتاكد أن الإنفتاح المحدود وفقا لتوجهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كان عملية مدروسة أسفرت عن تآكل القاعدة الاجتماعية، وعرَّضت الجماهير الشعبية الفقيرة لمزيد من الحرمان والإفقار والتهميشن، بعد أن تمَّ فرض وصفة التثبيت والتكيف الهيكلي على هذه الدول، وفقا لشروط النظام الرأسمالي العالمي في اطواره “الإمبريالية المعولمة”، وهنا في هذا السياق، تحولت دول المنطقة الى مزيد من حال التبعية والتهميش.
ولكن وفي مقابل هذه الأحوال والمتغيِّرات الإقتصادية والإجتماعية المحلية الداخلية المأزومة، نجد تراجع قوى التغيير الديمقراطي بصورة مُلفتة، خاصة القوى القومية واليسارية، التي لم تستطع إدراك ضرورات العمل على التوحُّد بين المفاهيم والمعطيات القومية والماركسية واليسارية، كأنساق واحدة موحَّدة، وكطريق وحيد لمواجهة توحُّش العولمة من ناحية، وبالتالي فإن القوى اليسارية والقومية ظلَّت ولا تزال، فاقدة للقدرة على بلورة أو إنتاج صيغة واضحة، سياسية إقتصادية إجتماعية، علمية وواقعية، قادرة على رسم مستقبل المجتمعات والخروج من أزماته، وهو ما ترك آثاراً ضارة في الوعْي الجمْعي العربي والمشرقي، الذي وجد في الحركات السياسية الدينية الملاذ أو الملجأً الوحيد، يدفعها الى ذلك نزوعها الى النضال من أجل الخلاص من كل مظاهر المعاناة والحرمان والفقر، ومواجهة الظلم الطبقي والإستبداد السياسي الداخلي .
ففي هذا الواقع الذي يعيش فيه العالم، زمن الحداثة والعولمة وثورة العلم والمعلومات والإتصال، تشهد المجتمعات في الشرق الأوسط عودة الى الماضي، عبر تجديد عوامل التخلف فيه، لم يعرف مثيلاُ لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام وأكثر، فهو الى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية والطائفية، والأصولية والتعصُّب الديني، يوصف اليوم على أنه مجتمع شديد التنوع في بنيته وإنتماءاته الإجتماعية، أبوي، يعاني النزعة الإستبدادية على مختلف الصُّعد، مرحلي، إنتقالي غير مستقر، تراثي، تتجاذبه الحداثة والسلفية، شخصاني في علاقاته الإجتماعية، يعيش حتى في هذا الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية والتكنولوجية، وبالتالي مرحلة ما قبل الحداثة،أما على الصعيد الداخلي الإجتماعي، فالفجوات بين الطبقات الثرية والميسورة والمحرومة كبيرة جداً، وما زالت تزداد إتساعاً وعمقاً، فتمارس عليه وضده مختلف أنواع الإستغلال والهيمنة والقهر والإذلال اليومي، وفي ظل هذه الأوضاع بوجوهه الإجتماعية، يعيش الإنسان على الهامش، مستباحاً معرضاً لمختلف المخاطر والإعتداءات، قلقاً حذرا بإستمرار من إحتمالات السقوط والفشل والمخاطر، فهو إنسان بعيد ومغترب عن ذاته، ولأن إمكانات المشاركة نادرة وضيقة، لا يجد من مخرج سوى الخضوع أو الإمتثال القسري أو الهرب(4).
إن عدم التصدي لهذه الإشكاليات المتمادية والمربكة في بناء وتطوير الدولة، هو المسبِّب الرئيسي لسقوطها وإنحدارها بهذا الشكل، فلم يكن مفاجئأً إندلاع النزاع الطائفي والمذهبي، والتعامل الإقصائي مع الآخر المختلف في المجتمعات، ولم يكن مفاجئاً كذلك إحساس شرائح واسعة من هذه المجتمعات بالغُبن والمظلومية، ومنها الأقليات الطائفية والمذهبية والنساء والمثقفين، كما لم تكن خارج التوقع ضبابية الرؤية المستقبلية لحركات الإحتجاجات في ظل فساد أخلاقي مريب، لذلك فإن أي حراك تغييري اليوم، محكوم بمقدمات أساسية وضرورية كي لا تتراجع وتتهاوى، أولها تحديد مفهوم الدولة وماهيتها ودورها، والإنطلاق من رؤية واضحة تحررية ثابتة، تقدم حقوق الانسان وتعترف بالمساواة المدنية والمواطنية من دون مواربة، وبصرف النظر عن الإنتماءات الأخرى ما قبل الوطنية وما قبل القومية، وثانيها تأكيد الفصل بين السياسي والديني وإنتظام الدولة في السياق المؤسساتي الحداثي، النقيض التام للتركيبات القبلية المتخلفة، وثالثها التفرغ لتنمية حقيقية تضيّق التفاوتات الطبقية بين الإغنياء والفقراء، وتنزع فتيل الفتنة والحروب الأهلية، ورابعها مواجهة الهدر والفساد الأخلاقي والإنطلاق في العمل السياسي من مبادئ تقدم النزاهة والخير العام على المصالح الضيقة والشخصية، وآخر هذه المقدمات إعادة النظر بجدية وحزم في واقع المرأة في هذه المجتمعات لأنها تشكل نصفه، تذهب الى محاكاة الأصول وتواجه الأعراف والقيم والمفاهيم الجائرة والظالمة، وتسقط العقل الأبوي التسلطي، وتطيح أسسه التاريخية ومنطقه المتخلف.
فلا يمكن للتحول الديمقراطي أن يتم بين عشية وضحاها، لأن بناء المجتمع وفقاً للعلاقات السياسية والإجتماعية المدنية المعاصرة، يحتاج إلى عملية تراكم تاريخية متواصلة، يمكن لها أن تمتد لسنوات طويلة، وغالباً ما أخذت الأنظمة الإستبدادية من الصعوبات والمعوقات ذريعةً لها، لمحاولة الإلْتفاف على الديمقراطية وإستحقاقاتها الراهنة، ومن المعروف أن معظم الدول الحديثة، قد مرَّت بمراحل صعبة وقاسية في تاريخها، وصولاً إلى ما وصلت إليه من تقدم وتطور متسارع في لحظتها الراهنة .
ومن خلال التجربة التاريخية التي عاشتها الأمم وفي منطقة الشرق الأوسط، في العقود السابقة، تبرز العديد من المخاطر الماثلة أمامنا، ومن أبرزها إمكانية تحويل المطلب الحيوي الراهن لتحقيق الديمقراطية، إلى مجرد شعار يفتقد لأهميته ولموضوعه في الواقع العملي، في محاولات تهدف إلى إعادة إنتاج التشوُّهات التي يمكن أن تقوم بها القوى المناهضة للديمقراطية، بسبب حنينها والإرتداد إلى الماضي الذي يشكل نوستالجيا دائم، وما فيه من أنظمة إستبدادية ما تزال ممسكة بمقاليد الأمور في معظم البلدان .
إن تناولنا للأزمات السياسية، الإقتصادية، الإجتماعية في بلدان الشرق الأوسط، الى جانب تعقُّد أشكال الصراع السياسي والإجتماعي الداخلي المعبرة عن نفسها بأدوات وآليات وصور مشوهة، من التفكك المجتمعي والصراعات الدينية والطائفية والإقليمية، وكلها تعزِّز عوامل الإحباط أو الميل نحو الإستسلام، يتبدَّى ذلك بوضوح في ظاهرة الضعف الملحوظ لإلتفاف الجماهير حول الأفكار الإستقلالية والنمو والتطوير، والخوف من المستقبل المجهول في التغيير وتداول السلطة، فهي حالات حتى ولو بدت كظاهرة مؤقتة أو مرحلة إنتقالية، إلاَّ أنها قد حَملت في جنباتها مزيداً من أشكال الردة والتراجع، ولذلك فمن الطبيعي أن تسْعى كذلك هذه الأغلبية المتضررة من هذه النظم، إلى تقويض أركانه من أجل إمتلاك مقومات العلم والحداثة والمعرفة المعاصرة، والتكنولوجيا التي أصبحت قوة أساسية من قوى الإنتاج في هذه المرحلة، عبر إستنهاض المشاريع الوطنية والإقليمية المناهضة لشكل وجوهر وأهداف العولمة الراهنة، وذلك لصياغة المشروع الإنساني التقدمي البديل، وتفعيل حركته، لتتم عملية إخضاع مقتضيات العولمة لإحتياجات شعوب هذه البلدان وتقدمها الإجتماعي، ومن أجل المساهمة في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الإحتكاري.
وتبدو إنها لحظة ضرورية للعمل الجاد والمنظم في سبيل تأسيس عولمة نقضية من نوع آخر، ضمن مفهوم أممي جديد، عولمة ثورية وعصرية وإنسانية، تشكل التحالفات ما بعد الوطنية أو القومية العابرة فيها، والمعبِّرة عن مصالح الشعوب الفقيرة والمهمشة محوراً وعنصراً أساسياً فيها(5).
التحول الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة
رغم كل التضحيات التي قدمتها شعوب المنطقة في تاريخهم الحديث والمعاصر، لم يصلوا الى ما وصل إليه غيرهم من أمم العالم المتقدمة، إن في الاقتصاد أو السياسة أو في الفكر والإجتماع، ولكأن تضحياتهم ذهبت سدىً، فأنظمتهم قمعية إستبدادية ومجتمعاتهم متخلِّفة وعلومهم عاثرة وإنسانهم مستلَب مقهور ومحروم الإرادة والتعبير(6). فكل تغيير حصل ويحصل لم ترفِده مقدمات ثورية، كتلك التي رفدت ثورات الحداثة، فهي لم تتصدّ للإشكاليات التاريخية التي وقفت على الدوام من دون أي تحول ثوري للمجتمعات، فثمة مقدمات إيديولوجية وسياسية وإجتماعية وأخلاقية لا بدَّ منها: فإيديولوجياً لم تبلور مفاهيم للدولة والمجتمع والفرد والمواطنة تؤسس لتحوُّل نوعي في الاجتماع والسياسة، فالدولة تعاني من معضلات كبرى تاريخية وتكوينية، إن لجهة الهوية أو لجهة الدور والوظيفة والمشروعية.
كذلك فإلى جانب هذه المقدمات الإيديولوجية، لم تتصدَّ الدولة للإنقسامات الأقلوية الممتدة في الجسم السوسيولوجي فيها، ودورها في تهديد بنية الدولة من داخلها، لم تعبأ بما للديموقراطية من دور في وحدة الأمة وقوتها، فتعاملت بفوقية وإستعلاء مع الشعوب، فكان أن تقدمت التسلطية القائمة على العصبية والعنف لتؤجِّج الصراع بين المجتمع والدولة، وتقود الى تباعد كبير وشامل، فتعمَّم الفقر والأمية والإنحدار الثقافي والأخلاقي، وتم قمع عمليات التحديث، والدولة كذلك لم تجابه إشكاليات ومشاكل الفقر والإنفجار الديموغرافي وترييف المدن وتخلُّف المرأة، وهو ما أدَّى الى إنسحاب العقل الريفي وأعرافه المتخلفة على العلاقات المدنية والمواطنية، وهي لم تدرك التلازم الضروري بين الحرية والتنمية، فكان أن بقيت التركيبات القبلية المتخلِّفة تعمل في موازاة الأفكار التحديثية، وهي لم تواجه مسألة الفصل بين السياسي والديني، فكان أن أكتسح الديني السياسي، والأصالة للحداثة، والماضوية للعصرنة، ولم تتعامل جدياً مع الفجوة الطبقية المتمادية بين الفقراء والأغنياء، فكان أن بلغت هذه الفجوة ما هدَّد على الدوام الاستقرار الإجتماعي والحروب الاهلية.
والدولة العربية والمشرقية لم تجابه الفساد الأخلاقي، حتى باتت بلدانها في أغلبها تحتل مواقع متقدمة في تقارير منظمة الشفافية الدولية عن حالة الفساد في العالم.
في ضوء ما تقدم، فإن أيَّ شرط للحديث عن التكامل أو حصول التنمية بين دول المنطقة أو إعادة تفعيل وتجديد المشروع النهضوي أو البنائي للدولة للخروج من هذا المشهد – المأزق ، هو الإنطلاق بداية من رؤية واقعية جديدة لحركة إستنهاض عريضة وشاملة، بإعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تطورات المجتمع العربي والمشرقي، ولكي تستطيع ممارسة وأخذ دورها والقيام بوظيفتها ومهماتها التاريخية، لا بدَّ لها من إمتلاك الوعي لرؤية متكاملة وتقدمية، تسعى إلى إلغاء نظام التفتُّت والتباعد فيما بينها، المفروض خارجياً، وتعمل على توحيد القواسم المشتركة بين أبناء الشعوب.
وكذلك أن تسعى الى إستيعاب ثقافة التنوير والحداثة الأوروبية، وما تضمنته من عقلانية علمية مقترنة بروح النقد والإبداع، وإستكشاف متواصل من الحرية والديمقراطية، وإدراك الدور التاريخي لذاتها وسعيها الى الحركة والتغيير، إنطلاقاً من أن الإنسان هو صانع التاريخ والقادر على الإبتكار والتغيير وخلق التنوع في حاضره ومستقبله، وفق أسس الديمقراطية والعدالة الإجتماعية والتنوع والتعددية والإعتراف بالآخر المختلف، في إطار مشروع عربي وإقليمي_شرق أوسطي نهضوي وبنائي متكامل، ذلك أن عملية التحرُّر والإستقلال والتمتع بالقرار السياسي الحر كضرورة تاريخية، لا يمكن تحقيقها بدون التشارك في برامج سياسية إجتماعية وإقتصادية، وكضرورة تاريخية أيضاً لعملية التحرر ذاتها.
لذلك تعتبر قضية التحول الديمقراطي التنموي، مسألة إجتماعية – سياسية بامتياز، لا يقتصر تحقيقها في مؤسسات الدولة وفقط ، إذ لا بدَّ أن تطال كافة الفئات والشرائح الإجتماعية المعنية تماماً بعملية التغيير الديمقراطي، وبذلك تصبح الدولة عبر هذا المفهوم العام والشامل، دولة لكل المكوِّن الإجتماعي، وليست مجرَّد مؤسسة لفئة معينة من فئات المجتمع دون غيرها، وبهذا تتَّخذ عملية التحول أبعادها السياسية والإجتماعية والثقافية .
ومن هذا المنظور، تتوضَّح أهمية التنمية المستدامة في مختلف الميادين، بإعتبارها القاعدة المادية والمتينة، في الإقتصاد والإنتاج، والتقدم العلمي والتقني، وفي الثقافة والسياسة والإجتماع، للتأسيس لتحوُّل وطني ديمقراطي لا عودة عنه إلى مواقع الجهل والتخلُّف والإستبداد، ذلك أن العمل على ترسيخ منظومة القيم الديمقراطية، مرتبط بدرجة معينة من تحقيق التنمية البشرية في مجالاتها الإقتصادية المتعددة وفي فروعها المختلفة، فمن هذه المعايير وغيرها الكثير مما يدخل في إطار الإرادة الوطنية وطبيعة العقد الاجتماعي، ليتضح أنَّ عمق التحوُّلات الديمقراطية وإتساع مداها وأبعادها، مرتبط أساساً بطبيعة آليات الإنتقال للواقع الذي تطمح إليه الشعوب، وكيفية إطلاق عجلة التقدم والتطور في المجتمع .
فالديمقراطية ليست حكراً على المجتمعات الغربية المتقدمة، كما أنها لا يمكن أن تُفرض من الخارج، أو تُصدَّر للشعوب، ولا يمكن أيضاً أن تُستورَد، بل لا بدَّ وأن تنمو وتتطور من الداخل، وترتبط بالتطورات والخصوصيات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للدول والمجتمعات. ولكن الخارج يمكن أن يقوم بدور هام في دعم ومساندة التطور الديمقراطي في دول لديها معطيات وإمكانيات تجعلها أكثر قابلية للإنتقال الديمقراطي، فالديمقراطية تنطوي على مجموعة من القيم والمبادئ العامة ذات الطابع الكوني، مثل: الحرية، والمساواة، وسيادة القانون، والتسامح السياسي والفكري، وإحترام الكرامة الإنسانية، لكن صيغ وأشكال تطبيق النظم الديمقراطية متعددة، وتختلف من دولة إلى أخرى سواء من الناحية المؤسسية أو الإجرائية، وتتميَّز بالمرونة بما يتوافق مع ظروف كل دولة، ومجتمع. وبصورة إجمالية، في البلدان التي توطَّدت فيها أسُس الديمقراطية، شهدت زيادات إجمالية في متوسط الدخل الفردي بنسبة مئوية أعلى من البلدان التي حكمتها أنظمة شمولية أو تسلطية، ففي البلدان التي عرفت تحولات ديمقراطية حقيقية وراسخة، حققت نتائج إقتصادية وإجتماعية مذهلة، والفضل في ذلك يُنسب إلى الديمقراطية، فالديمقراطيات في العادة، لا تتعرَّض لمستويات أعلى من العجز في مالياتها العامة، كما أنها لا تتلقى مستويات عالية من المساعدات المالية الخارجية، بل الذي يظهر هو أن مسار العمليات الداخلية الخاصة بالأنظمة الديمقراطية هي التي تكون المسؤولة عن حسن أدائها، ويكمن أحد أسرار هذا النجاح الإنمائي للديمقراطيات في قدرتها النسبية على تجنّب الكوارث، ذلك أنه نادراً ما تترك الديمقراطيات إقتصاداتها تصل إلى الهاوية، فمن بين أسوأ 80 أداءً سنوياً إقتصادياً تمّ تسجيلها منذ العام 1960، لم يحدث إلاّ خمسة منها فقط في بلدان ديمقراطية، ونظراً لحالة الوهن الشديد القائمة التي تواجه معظم المجتمعات التي تعيش في حالة من الفقر، فإن قدرة الديمقراطيات على تخفيف التقلّبات الاقتصادية توفر لها فائدة جوهرية، فبدلاً من الحاجة إلى إنتشالها تكراراً من الإنهيارات التي تسببها الأزمات الاقتصادية، تجد الديمقراطيات نفسها أكثر قدرة على تحقيق التراكمية في أصولها المالية بين السنة والأخرى(7).
إن هذه العلاقة الجدلية القائمة بين الرؤية التحررية والإيديولوجيات العلمية، وتطابقهما معاً في النظرية والممارسة بأدوات وآليات تنسجم مع روح هذا العصر ومتطلباته، هي الصيغة أو المنظومة الفكرية التي تشكل المدخل الأولي للحوار من أجل بلورة أسسه وآلياته الفكرية أو المعرفية، أو مقوماته وأدواته التغييرية الديمقراطية المنظمة، بصورة عصرية تتوافق مع طبيعة التحولات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية العالمية، إذ لا يُعقل أن يستمر التعامل مع الفكرة القومية من منطلق أزليتها أو خلودها، أو الركون إلى مكوناتها الأساسية، اللغة، والجغرافيا أو الأرض، والتاريخ والثقافة والتراث، فبالرغم من أهمية هذه العوامل كمنطلقات مهمة وحيوية وأساسية للفكر القومي التحرري، إلاَّ أنها تظلُّ عاجزة وقاصرة وحدها عن التفاعل والتكيُّف مع المتغيرات الإقليمية والعالمية المعاصرة، نظراً لتعدُّد خصوصياتها القطرية وألوانها، رغم تشابكها في جغرافية متصلة، ما يجعلها فاقدة القدرة على إنتاج الوعي بحركته الإستنهاضية التحررية، ومن هنا تتجلَّى الأهمية والضرورة معاً للمحتوى الإقتصادي الإجتماعي والتقدمي القادر على إنتاج الآليات التي يمكن أن تتجاوز هذا الواقع المُجزّأ، التابع، المتخلف، المشوّه من جهة، وأدواته المتعددة القبلية،الطائفية،الدينية والمذهبية، والبيروقراطية الأحادية المستبدة، من جهة أخرى. إن مناخ التسلط والكبت تعيش فيه كلُّ عوامل الإحباط، وتجعل البحث عن المبادرة لإنتاج وبناء منظومة سياسية معرفية وتقدمية مناسبة ومنسجمة مع واقع العصر ومقتضاياته، ضرورة تاريخية ملحَّة، تعمل على نقل الواقع الشعبي من حالة السكون أو التخدير، إلى حالة الحركة أو التجدُّد، حيث يقع عبء صياغتها وتبنِّيها وتحمُّل مسؤولية فعلها وحركتها، على عاتق المثقَّفين والنخب الإجتماعية والسياسية، لإعادة تكريس الوعْي الوطني والتحرري والتنموي التعددي، بآلياته الحديثة والمعاصرة في الديمقراطية والعدالة الإجتماعية، وتشكل الوعاء الحقيقي للواجهة المشرقية الخارجية المتمثلة في اللغة والأرض والتاريخ والثقافة، وكذلك الأساس المادي للمشروع التنموي الديمقراطي في الحاضر والمستقبل، من خلال كسر حلقات التخلف والتبعية، وإختصار الطريق الى المعرفة العلمية والحداثة من جهة، وصياغة المشروع التنموي الإقتصادي المستند الى مبدأ الإعتماد الجماعي على الذات، بآفاقه التعاونية والتشاركية من جهة أخرى، بعدما أختُرقت سلطات الدولة الوطنية التي يفترض أن تتحكم بين المصالح المتعددة، ودخلت في علاقة تأثير متبادل مع الآخرين على حساب هيبتها..
في الختام:
يقول أستاذ العلوم السياسية والأستاذ بالمعهد الجامعي الأوروبي بفلورنسا “فيليب شميتر” في محاضرة عن “التحول من الحكم الإستبدادي وتوطيد الديمقراطية: دروس مستفادة”(8)، نظمها مركز شركاء التنمية بأحد الفنادق بالقاهرة في عام 2012: “البعض يربط بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية ونظرية الحداثة التي تفترض أنه (كلما ارتفع قدر الدولة على سلم التنمية الاقتصادية، ازدهرت الديمقراطية فيها)، ولكن هذا الإفتراض ليس صحيحاً إطلاقاً، فدولة مثل كوستاريكا طورت مؤسساتها وسارت في طريق الديمقراطية على الرغم من تراجعها الإقتصادي وإمتلاكها واحداً من أقل النواتج المحلية الإجمالية في العالم، لذلك لن يكون وضع مصر الاقتصادي مثلاً عائقاً أمام الديمقراطية”، ولن يكون الفقر عائقاً أمام تحول مصر للديمقراطية، هناك دول تعانى من الفقر وسارت في طريق الديمقراطية مثل الهند. وعليه فإن إن التحول الديمقراطي وما يقود إلى ترسيخ الديمقراطية، لا بدَّ أن يتضمن عناصر فاعلة تتمثَّل بــ:
تعدد الإرادات السياسية الفاعلة في عملية صنع القرار، وهو ما يؤكِّد بأن معنى الديمقراطية الحقيقي هو حكم الشعب، وكذلك تعدُّد القنوات الشرعية التي تربط الحاكم بالرعية، وهو ما يعني أن تكون العلاقة السياسية مباشرة من خلال التعددية السياسية، وجماعات المصالح، وفاعليات تكوين المجتمع المدني الحديث، وحرية وسائل الإعلام، بحيث لا تحتكر الأقلية الحاكمة مصادر المعلومات، فالعملية السياسية في هذا السياق من التحول الديمقراطي، يمكن أن تعبِّر عن تكامل حقيقي بين طرفيْ العلاقة السياسية: الحاكم من جهة، والمحكومين من جهة أخرى.
والرقابة السياسية تتحقق بإجراء إنتخابات دورية على كافة المستويات المحلية والوطنية، وينبغي أن تجري وفْق الإقتراع السري، ولاشك أن الإنتخابات بهذا المعنى تمثل الضمانة الأساسية لمشاركة الشعب في عملية صنع القرار، و تؤكد كذلك على مبدأ الرقابة السياسية، ومعها الإيمان بضرورة بوجود معارضة قانونية للحكومة المنتخبة، للسماح لأحزاب المعارضة بأن تؤهل نفسها لإستلام السلطة في حال فوزها في الإنتخابات، كما أنه يُيَّسِرُ من عملية تداول السلطة بشكل سلمي، وحدها المعارضة العقلانية والبنائية، هي التي تؤمن بالتداول السلمي للسلطة من داخلها، وذلك أساس ضمان أن تقبل هي تداول السلطة السياسية في المجتمع، فقاعدة الحرية بوصفها وعْي الضرورة وموضوعية الإرادة وحرية الإختيار، هي التي تعبِّر عن الوحدة في المجال السياسي للمجتمع.(9)
ولا بدَّ من إستقلال السلطة القضائية، إستقلالاً كاملاً، فلا ينبغي لأي سلطة أخرى في الدولة، ولاسيما السلطة التنفيذية، أن تتدخل في أعمالها، ويعني ذلك أيضاً، أن يمتلك القضاة الثقة اللازمة التي تمكنهم- إذا اقتضى الأمر ذلك- من إصدار أحكام ضد مسؤولي الدولة دون خوف من عقاب أو انتقام، وبهذا يتم احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، فالمواطن له حقوق أساسية باعتباره مواطناً، كحق الحياة في إطار العيش الكريم، وحق إعتناق أي عقيدة يريدها، وحق حرية التعبير، وحق حرية التنظيم والانضمام إلى منظمات، كالنقابات، والأحزاب السياسية، إن شاء، وينبغي أن تجسِّد الدولة المساواة الكاملة في المعاملة بين جميع المواطنين، بصرف النظر عن إنتمائهم، الديني، أو العرقي، أو اللغوي. يعني ذلك، أنه من غير الجائر أن تمارس الدولة التمييز ضد المواطن بسبب أصله،العنصري، أو جماعته العرقية، أو لغته، أو ديانته، أو لون جلدته، أو آرائه ومعتقداته السياسية
كذلك ضرورة تدعيم مؤسسات وتكوينات المجتمع المدني الحديث، لإستكمال عملية التحول الديمقراطي، التي تسهم في خلق نظم تنافسية ديمقراطية، لا سيَّما في البلدان التي حكمتها أنظمة شمولية أو تسلُّطية، وفي هذا الصدد تبرز أهمية ظهور مجتمع مدني حقيقي يحمل على كاهله عبء التحول الديمقراطي، ويتطلب هذا من الحكومة الانتقالية تدعيم، اتحادات العمال، والمنظمات الطلابية، واتحادات رجال الأعمال، وجماعات المثقفين. ومن المعلوم أن هذه الجماعات والتنظيمات لا تقف في طليعة المسيرة الديمقراطية فحسب ولكنها تشكل العناصر الفاعلة في تدعيم وحماية إستقلال المصالح الخاصة في مواجهة هيمنة الدول التسلطية(10).
هذا وبعد أن عاشت دول العالم العربي والشرق الأوسط خلال العقود الأربعة الماضية في عصر تغوُّل الدولة التسلُّطية على مؤسسات المجتمع المدني وإبتلاعها بالكامل، فإنه مع ما جرى في الأعوام الأخيرة وفي أكثر من دولة، برزت شيئاً فشيئاً أثناء عملية التحول الديمقراطي، بوادر صغيرة عبر الإفساح في المجال لمزيد من حرية الصحافة، وحرية التعبير، وحرية التجمُّع وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني، وتدعيم المنظمات الشعبية وكسر عقدة الخوف لدى الشعوب، وهو ما بدأت من خلاله هذه التكوينات من لعب دور أساسي في البدء في تنمية المجتمع ونهضته، لتبقى العقبة الأساسية التي تعترض تقوية وتمكين المجتمع المدني، متمثلة في توارث الحكم التسلُّطي وحكراً على عدد محدود من النخبة الحاكمة، فالعلاقات السياسية في الدولة التسلطية، كانت تقوم على أساس نموذج القائد المُلهم والأتباع، حالة مكَّنت الحكام العرب من إساءة إستخدام الموارد العامة بهدف الإثراء غير المشروع، والإستمرار في إحتكار السلطة.
إن التحول الديمقراطي لدى بلدان الشرق الأوسط، لا يمكن أن يترسخ إلا إذا قام المجتمع المدني بدوره الفاعل في عملية التحوُّل، وهذا يتطلب من الحكومات، لا سيما في البلدان التي تشهد أزمات حادة، أن تتخذ خطوات جادة لجهة إعطاء تكوينات ومنظمات المجتمع المدني الضمانات الدستورية والقانونية لكي تعمل بحرية وفعالية، ويمكن أن يتحقق ذلك كله من خلال فتح قنوات الحوار المباشر والمنظم، وبناء جسور الثقة والإحترام المتبادل، بيد أن التفاوض بشأن هذه الحقوق لا يعتمد فقط على مدى قبول من يمتلكون السلطة، ولكنه يعتمد كذلك على ضرورة تقوية التنظيمات الشعبية والإتحادات المهنية، بحيث تمارس ضغوطاً قوية من أجل تأمين حقوقها في حرية التعبير والتنظيم على النظام القائم .
تشكل هذه العناصر الأساسية الآنفة الذكر منظومة متكاملة ملزمة وضرورية لخلق نظام ديمقراطي جديد، حيث يمكن تدعيم ذلك النظام في ظل ثقافة سياسية ديمقراطية ومدنية تعمُّ المجتمع كله، كما يمكن تكريسه قانونياً من خلال إقرار دستور ديمقراطي عصري، وبناء آليات تسمح في الممارسة السياسية. ومن الضروري التأكيد على أنه لا توجد وصفة سحرية جاهزة لنجاح عملية التحول الديمقراطي، لكن من المفيد جدّاً إستلهام العديد من الدروس التي يمكن تعلمها من تجارب الإنتقال الناجحة على الصعيد العالمي، حيث تمثلت أهم شروط ومقومات النجاح في: الحفاظ على الوحدة الوطنية وترسيخها مما يحول دون حدوث إنقسامات وصراعات داخلية خلال مرحلة الإنتقال، لا سيما نبذ ومحاربة العنف السياسي، وحسن تصميم المرحلة الانتقالية وإداراتها من خلال التوافق بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين على خارطة طريق واضحة لتأسيس نظام ديمقراطي، بما يعنيه ذلك من التوافق على صيغة النظام السياسي المستهدف، ومراحل الإنتقال، والترتيبات المؤسسية والإجرائية الأكثر ملاءمة لظروف وخصوصيات الدولة والمجتمع، منعاً لإعادة إنتاج الإستبداد، أو إعادة إستبدال ديكتاتورية سابقة بديكتاتورية دينية جديدة، لتحقيق الإستقلال السياسي والإقتصادي الحر بعيداً عن ولاءات الخارج وشروط إملاءاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1-شفيق شقير،الأيديولوجيا الناعمة لـ”الإسلام السياسي” ومستقبله بعد الربيع العربي،17 يونيو 2019،https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/06/190617114139167.html
2- بول مايسون،ثورات في كل مكان،الدوافع الكامنة وألأسباب التاريخية،خطأ في النظام :الأسباب الاقتصادية للاضطراب المالي،شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت لبنان الطبعة الأولى 2014،ص 133،و134.
3- علي محافظة،اسس النهضة العربية الحديثة،في:معن بشور وآخرون،الواقع العربي وتحديات قرن جديدن،المحرر،ابراهيم العجلوني،ط1،عبد الحميد شومان،عمان،1999،ص 220و221.
4-عبد الغني مغربي: الفكر الإجتماعي عند ابن خلدون، ترجمة محمد الشريف ، عمان-
وزارة الثقافة، 2014.
5-أسامة المقدسي،ثقافة الطائفية والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر،ترجمة :ثائر ديب ،دار الآداب ،بيروت،2009،ص21.
6-غازي الصوراني، “العولمة وطبيعة الأزمات في الوطن العربي.. وآفاق المستقبل”، المستقبل، السنة 26، العدد 293 (يوليو 2003)، ص 111.
7–أسامة المقدسي،ثقافة الطائفية والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر،ترجمة :ثائر ديب ،دار الآداب ،بيروت،2009،ص21.
8–د.محمد نصر عارف، المعادلات الجديدة: مستقبل الدولة في العالم العربي،مجلة السياسة الدولية،العدد 186،تشرين أول 2011،ص 62و63,القاهرة مصر.
9–د. عبدالله بلقزيز- أسئلة الفكر العربي المعاصر،- الدار البيضاء: مطبعة النجاح الأيوبية-1998- ص13 .
10-جوزيف سيغل، الديمقراطية والرخاء الاقتصادي،صحيفة المؤتمر، انظر الرابط: www.almutmar.com/index.php?id=200822712
11-فيليب شميتر ،عالم السياسة الأمريكى فيليب شميتر:يتحدث لصحيفة الوطن، ما حدث فى مصر ليس ثورة.. وإزاحة قيادات العسكر لا يعنى نهاية علاقة الجيش بالسياسة.الفقر ليس عائقاً أمام الديمقراطية.. وسياسات صندوق النقد تعمق الفوارق الاجتماعية ، تقرير حسام حسن الثلاثاء 30-10-2012 .
12-–العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي: ندوة ( مهداة إلى: سمير أمين )، تحرير: د. عبدالباسط عبد المعطي، الطبعة الأولى، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1999.
13–نحو مشروع حضاري نهضوي عربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراساتالوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت: المركز، كانون الأول / ديسمبر2001.
14–د.حمدي عبد الرحمن حسن، ظاهرة التحول الديمقراطي في إفريقيا القضايا و النماذج و آفاق المستقبل ،مجلة السياسة الدولية، العدد 113، يوليو/جويلية 1993، (ص24).
15–غالب عمر، الموقع الإلكتروني: :HTTP/WWW.VOLTAIRENET.ORG/ARTICLE130913.HTML.
16-أليات الإستبداد وإعادة إنتاجه:
17--Peter M .Lewis, Political Transition and the Dilemma of Civil Society in Africa , Journal of International Affairs, Vol. 46, No1, Summer 1992 and Jan Kraus, Building Democracy in Africa, current History, May 1991
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ