من المتوقع أن يُحدث الذكاء الاصطناعي (AI) تحولًا كبيرًا في الاقتصاد العالمي، حيث إن الكثير من قيمته المحتملة لا تزال متاحة في سباق دول وشركات تتسارع للاستحواذ على نسبة أكبر من اقتصاديات الذكاء الاصطناعي، حيث تقدر الاحصائيات أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم بما يصل إلى 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، وهو ما يتجاوز الناتج الحالي للصين والهند معًا. من بين هذا المبلغ، من المحتمل أن يُساهم 6.6 تريليون دولار في زيادة الإنتاجية، و9.1 تريليون دولار من الفوائد للمستهلكين.
في أعقاب الثورة الصناعية الرابعة، بدأت الحكومات والشركات في منطقة الشرق الأوسط تدرك التحول العالمي نحو الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، فهم أمام خيار بين أن يكونوا جزءًا من هذا التحول التكنولوجي، أو أن يتخلفوا عن الركب، فعندما ننظر إلى التأثير الاقتصادي على المنطقة، فإن التخلف ليس خيارًا. وتشير التقديرات أن الشرق الأوسط من المتوقع أن يحصل على 2% من إجمالي الفوائد العالمية للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، وهو ما يعادل 320 مليار دولار أمريكي.
من حيث الأرقام، من المتوقع أن تُحقق السعودية أكبر المكاسب، حيث يُتوقع أن يُساهم الذكاء الاصطناعي بأكثر من 135.2 مليار دولار في اقتصادها بحلول عام 2030، مما يعادل 12.4% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن حيث النسب، يُتوقع أن تشهد الإمارات العربية المتحدة أكبر تأثير، يصل إلى حوالي 14% من الناتج المحلي الإجمالي في 2030. من المتوقع أن يتراوح النمو السنوي في مساهمة الذكاء الاصطناعي بين 20-34% سنويًا في جميع أنحاء المنطقة.
إن حجم التأثير المتوقع في هذين الاقتصادين ليس مفاجئًا نظرًا للاستثمار النسبي في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مقارنةً ببقية منطقة الشرق الأوسط – حيث يحتل كلا البلدين ضمن أفضل 50 دولة في العالم في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2022 من حيث القدرة على الابتكار ومخرجات الابتكار.
الاستثمار السيادي من النفط إلى الذكاء الاصطناعي
تستثمر الصناديق السيادية في الشرق الأوسط مليارات الدولارات في أبرز الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتظهر الصناديق السيادية من الشرق الأوسط كداعم رئيسي لشركات الذكاء الاصطناعي المتميزة في وادي السيليكون، حيث تسعى الدول الغنية بالنفط، مثل (السعودية والإمارات والكويت وقطر)، إلى تنويع اقتصاداتها، وتركز على الاستثمارات التكنولوجية كوسيلة للتحوط. وفقًا لبيانات شركة Pitchbook، زادت التمويلات الموجهة لشركات الذكاء الاصطناعي من قبل الصناديق السيادية في الشرق الأوسط خمس مرات في العام الماضي.
واستثمر صندوق MGX، وهو صندوق جديد للذكاء الاصطناعي تابع للإمارات، من بين المستثمرين الذين يسعون للحصول على حصة في أحدث جولة تمويل لشركة OpenAI الشهيرة، المالكة لمنصة ChatGpt، ومن المتوقع أن تُقيّم هذه الجولة شركة OpenAI بحوالي 150 مليار دولار، فقليل من الصناديق تمتلك سيولة كافية للتنافس مع عمالقة التكنولوجيا مثل مايكروسوفت وميتا وأمازون في الشراء، بل هذه الصناديق السيادية تتفوق عليها بأنها لا تواجه أي مشكلة في تأمين الأموال للصفقات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، فهي تستثمر نيابة عن حكوماتها التي استفادت من ارتفاع أسعار الطاقة في السنوات الأخيرة، ومازالت ترتفع نتيجة الصراع بين إيران وإسرائيل، حيث من المتوقع أن يرتفع إجمالي ثروة دول مجلس التعاون الخليجي (GCC) من 2.7 تريليون دولار إلى 3.5 تريليون دولار بحلول عام 2026، وفقًا لبنك غولدمان ساكس.
وتجاوز صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) 925 مليار دولار، وكان في حالة من الاندفاع الاستثماري كجزء من مبادرة “رؤية 2030” التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان، حيث يملك الصندوق استثمارات في شركات مثل أوبر، كما ينفق بشكل كبير على دوري غولف LIV وكرة القدم المحترفة، بجانب يمتلك صندوق مبادلة في الإمارات 302 مليار دولار تحت الإدارة، بينما يمتلك صندوق أبوظبي للاستثمار 1 تريليون دولار. أما صندوق الاستثمار القطري، فيملك 475 مليار دولار، بينما تجاوز صندوق الكويت 800 مليار دولار.
الخليج مركز استدامة الطاقة والذكاء الاصطناعي
تتمثل إحدى القضايا المتعلقة بالنمو السريع للذكاء الاصطناعي في أنه قد يكون مكلفًا من حيث الطاقة، ويزداد بشكل متزايد كونه مصدرًا رئيسيًا لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وأبلغت جوجل أن انبعاثاتها في عام 2023 كانت تزيد بنسبة 50% تقريبًا عن عام 2019، مما فسرته جزئيًا إلى متطلبات الطاقة للذكاء الاصطناعي، ووفقًا للوكالة الدولية للطاقة، قد يتضاعف الطلب على الطاقة من الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والعملات الرقمية بحلول عام 2026.
وتعتبر دول الخليج، التي تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على الوقود الأحفوري، في وضع جيد لتصبح لاعبين رئيسيين في هذا المجال، ولديها القدرة على جعل التكنولوجيا أكثر استدامة، يصنف الخليج العربي مركزًا للعالم عندما يتعلق الأمر بالطاقة – ليس فقط الطاقة التقليدية، بل خصوصًا الطاقة الجديدة، فهو المكان الأقل تكلفة في العالم لإنتاج الطاقة الشمسية، لذا فإن الفرصة لدمج الاستدامة والطاقة مع القوة الحاسوبية المطلوبة من منظور الذكاء الاصطناعي مهمة جدًا”.
بينما تسعى السعودية إلى تقليل اعتماد اقتصادها على النفط والغاز، فقد استثمرت بشكل كبير في الذكاء الاصطناعي، الذي تقول إنه سيساعد في تحقيق الأهداف المنصوص عليها في استراتيجية “رؤية 2030″، وفقًا لتوقعات حديثة من الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، التي استضافت قمة GAIN، من المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بنسبة 12% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، مع نمو القطاع بمعدل سنوي يبلغ 29%.
التخطيط الحضري المعتمد على البيانات والذكاء الاصطناعي
يُعتبر التخطيط الحضري الآن في مرحلة حاسمة، حيث يتطور من الممارسات التقليدية ليحتضن الثورة الرقمية. يُمثل ظهور “التخطيط الحضري المدعوم بالبيانات” تحولًا جذريًا نحو استغلال كميات هائلة من المعلومات الرقمية لتوجيه وتحسين وإعادة تعريف تطوير وإدارة البيئات الحضرية. تعيد هذه المقاربة التفكير بشكل جذري في كيفية تصور المدن وتصميمها وعيشها. في قلب هذا التحول تكمن بيانات التحليل، مما يمكّن مخططي المدن وصانعي السياسات من اتخاذ قرارات مستنيرة، والتنبؤ بأنماط النمو الحضري، وتخصيص الموارد بشكل فعال، مما يعزز من إنشاء مدن مستدامة ومرنة وصالحة للعيش للأجيال القادمة.
لقد أظهرت الإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر، بشكل خاص، التزامًا قويًا تجاه تطوير وتنفيذ تقنيات الذكاء الاصطناعي. حيث استثمرت الشركات في هذه الدول بشكل كبير في التكنولوجيا الجديدة، مدعومة من الحكومات التي كانت من أوائل المتبنين لهذه التكنولوجيا. ومع ذلك، فإن تبني الذكاء الاصطناعي خارج اقتصادات الخليج كان أبطأ. وتُعزى الفروقات في مستويات التبني إلى اختلافات في البنية التحتية والوصول إلى العمالة الماهرة، وهي عوامل رئيسية تسهم في تطوير الذكاء الاصطناعي.
وتتقدم المملكة العربية السعودية، من خلال رؤية 2030، في طليعة هذه الثورة الحضرية. تعكس الأجندة الطموحة لرؤية 2030 للتنويع الاقتصادي والاستدامة والابتكار التكنولوجي في المشاريع الضخمة مثل “نيوم” و”قدية” ومشروع “البحر الأحمر”. ولا تعيد هذه المبادرات تشكيل مشهد المملكة فحسب، بل تضع أيضًا معيارًا عالميًا جديدًا لمدن المستقبل. معظم هذه المشاريع هي مدن معرفية تُبنى من الصفر، مُجسِّدة جوهر الحضرية المدعومة بالبيانات. مع التزامها بالاستدامة والابتكار والرقمنة، تستعد المملكة لتصبح مختبرًا حيًا للتخطيط الحضري المدعوم بالبيانات، مما يوفر رؤى ودروسًا للمجتمع العالمي حول كيفية استخدام التكنولوجيا لخلق بيئات تعزز صحة الإنسان وسعادته ورفاهيته.
تهدف هذه الرؤية الفكرية إلى التعمق في النظام البيئي الأوسع للتخطيط الحضري، والدور المحوري للبيانات والتحليلات في إعادة تشكيل هذا المشهد، وكيف تستفيد رؤية 2030 ومشاريعها الضخمة من قوة البيانات لتحقيق أهدافها الطموحة. من خلال استكشاف دراسات حالة عالمية واستخدامات محددة وإطار مقترح للتعامل مع التخطيط الحضري المدعوم بالبيانات، سيلقي هذا الوثيقة الضوء على الطريق نحو إنشاء مدن ذكية ومستدامة تلبي احتياجات وتطلعات سكانها في العصر الرقمي.
وبالنظر إلى ما بعد عام 2030، من المؤكد أن تأثيرات الذكاء الاصطناعي على كل من الاقتصاد والمجتمع ستزداد، لذا من المهم أن تكون منطقة الشرق الأوسط في موقع استراتيجي لتوفير قاعدة انطلاق للمستقبل.