السلطة والإدارة في الدولة
تحليل: د. رائد المصري/ أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية
توطئة
الأصل أن تدار إدارة الدولة والسياسة بعيداُ عن الكراهية أو شخصنة المصالح، والإسترشاد الدائم بمبادئ الحكم الرشيد والرفاهية العامة ورفاهية الأمة ومواطنيها، فالغرض من إدارة الدولة هو تنفيذ السياسات بكفاءة وفعالية، وتقديم الخدمات العامة، ودعم سيادة القانون، في حين يجب أن تتركز السياسة على المناقشات البناءة، والتسويات، وإيجاد حلول للتحديات المجتمعية وإنتظام قوة الإنتاج وعمل المؤسسات، فالإدارة هي بكل ببساطة تعني العقل التشاركي، وإيجاد الحلول للمشاكل والقضايا اليومية، الخدماتية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية.
فالمفكر والمناضل الأممي عبدالله أوجالان يقول:أنه من الأهميةِ ملاحظةُ الفارقِ بين السلطةِ والدولة، فرغمَ إنتشارِ السلطةِ في المجتمعِ وتغلغُلِها في كافةِ مساماتِه بدرجةٍ أكبر، إلاَّ أنّ الدولةَ تُعَبِّرُ عن هويةِ السلطة الأكثر ضيقاً وذاتِ ضوابط ملموسة. بمعنى آخر، الدولةُ شكلٌ من أشكالِ السلطةِ الخاضعةِ لرقابةٍ أكبر، والمرتبطةِ بالقواعد، والمتحوِّلةِ إلى قانون، والتي تُبدي عنايةً فائقةً لشرعنةِ ذاتِها. وبينما تُقَيَّمُ السلطةُ كحالةِ نفوذٍ عامّ، فإنه بالمستطاعِ الحكمُ على اللاسلطةِ كحالةِ عبوديةٍ عامة. واختلافُ أشكالِ السلطةِ والعبوديةِ متعلقٌ بالمزايا العامةِ للدولة، إذ تنتهلُ غَيضَها من فَيضِها. لذا، بالوِسعِ الحكمُ عليها أيضاً بأنها مضادةٌ للحرية. فبقدرِ تواجُدِ كُمونِ السلطةِ في المجتمع، فإنّ غيابَ الحريةِ يَسُودُ بالمِثل. وبقدرِ التقليلِ من السلطة، فإنّ وضعَ الحريةِ يُحقِّقُ التطورَ بالمِثل. لذا، ينبغي الإنتباه جيداً للحنينِ إلى السلطةِ بين صفوفِ المجتمع(1).
وهذا يعني، أنه مع ظهور الدولة أو ما يُسمَّى بالطبقة الإيديولوجية والاقتصادية المسيطرة الجديدة، تشعَّبت الإدارة المجتمعية وتشكلت في جهازين بالحكم، فكان للمجتمع مؤسساته الذاتية، التي يدير بها شؤونه الخاصة قبائلياً وعشائرياً، وكانت تتخذ من الأرياف والسهول والجبال ملاذاً لها، أما الدولة فكانت تفرض مؤسساتها الدينية الإيديولوجية والإقتصادية على المجتمع الداخلي والخارجي كالمستعمرات، والمدينة كانت مركزها الإداري، حيث ثنائية السلطة والديمقراطية تتجلَّى بشكل واضح في هذه الأنماط الإدارية بالمجتمع، وهي مستمرة إلى يومنا الراهن، لكن بأشكال مختلفة.
فالدولة إذن تمثل ترجمة العقد الإجتماعي الحافظ للقيم وكرامة الناس والعيش الكريم، بمعنى أنها تشكل المجتمع الصحي الذي يسعى لراحة الجميع، وتصان فيه حقوق الفرد فيه وتبقى كرامته مقدسة.
أما السلطة، فهي القوة التي تضبط بها القوانين المنبثقة عن العقد الإجتماعي والمعاني لهذه القوة، التي لا تعني الإخضاع والإجبار، وإنما الأمان وتدريب القائمين على السلطة من الحكومة على أفضل الطرق لسيادة المجتمع بالقانون والعدل، وهنا يطمئن الناس، الى أن الخطأ لن يحصل وإن حصل يعوَّض ويرمَّم، وهذا للأسف مفقود في مجتماعت متعددة من العالم النامي، حيث يخشى المواطن على كرامته من قيم في/أو على السلطة، لا يفهم واقع دوره فيها، ولم يتدرب أو يتعلم كيف يقوم بمهامه، ولم يعطِ الأسبقية في أمور ويؤخر في أمور أخرى.
نظرة تاريخية
سنسلط الضوء في دراستنا هذه على المفهوم، الذي تعايشت فيه السلطة والإدارة ضمن النظام العالمي التاريخي وبالتوازي معه، فالأزمة الدولية التي تعصف بالبنى السياسية والاجتماعية، توجب البحث عن البدائل المعقولة والحلول السوسيوتاريخية.
تعد الثورة الزراعية منذ آلاف السنين، كأهم مرحلة في التاريخ الانساني، لأنها شكلت المدماك الأول في تبلور مفهوم الإدارة، ومع إنتقال البشرية وإرتقائها الى مجاميع قبلية وعشائرية ذات تنظيم إداري محكم، إعتمدت على إدارة الذات على كافة الصعد الإجتماعية والإقتصادية، وهو ما كرَّس الوعْي الذاتي بالإدارة،عبر إقامة الثورة المجتمعية، وتنظيم بنية الدولة وحركة السكان، بيد أن هنالك لغط كبير في تعريف الإدارة من الناحية السوسيولوجية، عبر تداخل علوم الإدارة مع التجارة والتسويق والرأسمال، وعلى المستوى الدولي، يستخدم مصطلح الإدارة والسلطة كمرادفين متلازمين ، حيث تدعي كل الدول، بأنها سلطة وإدارة في آن معاً، و لكي نتخلص من هذا اللغط_الإشكالي، علينا تعريف الإدارة من منظور سياسي جديد.
من هنا وجب ضرورة التمييز كذلك، بتعريف الديمقراطية أيضاً التي تندرج على مغالطات كثيرة، بعد تحولها الى شعارات تستخدم في البرامج السياسية للكثير من الأحزاب وداخل الدول، وبدافع الضرورة الإجتماعية، كان التيار المقاوم لسلطة الدولة حاضراً دائماً، ويتَّخذ أشكالاً إدارية تتوافق مع النموذج الخصوصي للمجتمع الذي يمكن تسميته بالديمقراطية، بمعنى أخر تعني الديمقراطية قيامُ المجموعاتِ التي لا تَعرفُ الدولةَ أو السلطةَ بإدارةِ نفسِها بنفسِها، فإدارة الذات هي الشكل الديمقراطي للإدارة المجتمعية، أما الحكم من قِبل فئة أو مجموعة معينة، فهو الشكل السلطوي الذي يؤدي أو يقود إلى تراكم وتعذر حل القضايا الإجتماعية.
الدولة وبكافة أنماطها، تتعزز فيها مركزية السلطة، وتمتد بؤر السلطة وأياديها نحو الأطراف لتقوية حكمها، وكذلك فإن الصراعات بين أشكال الحكم المركزية واللامركزية قديمة قدم التاريخ، وهي مستمرة إلى يومنا هذا، فالدولة لا تتوافق مع الديمقراطية بالفطرة الطبيعية، لأن الديمقراطية تعني اللامركزية والمشاركة، التي بدورها تقوِّض مصالح الفئة المسيطرة بالسلطة، وحتى أكثر الدول تحضُّراً وعصرنة، لا تستطيع التخلِّي عن الحكم السلطوي الذي هو سبب وجودها، فلا نمط الحكم الليبرالي الوسطي الذي يٍسمَّى الديمقراطية الليبرالية، والذي إعتبره المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ السياسي، ولا المحافظ اليميني ولا اليساري أو ما يسمَّى الديمقراطية الإجتماعية، كل منهم إستطاع التخلص من سحر السلطة وإمتيازاتها ونفوذها المتغلغل عميقاً داخل المجتمعات.
ولذلك يحتاج النظام الرأسمالي دائماً الى الدولة القومية المهيمنة، وذات مركزية قوية في السلطة بشكل محكم، لأنه يستحيل تأمين ديمومة النظام بأي شكل آخر في قيادة الدولة، فلا تستطيع الرأسمالية أن تصعد على درجات النظام المهيمن من دون بعثرة وتشتيت الامبراطوريات، ومن دون القضاء على الجمهوريات الديمقراطية المقيمة في المدن، وبالتالي من أجل سد الطريق أمام التحول الوطني الديمقراطي، بمعنى آخر يستحيل على الرأسمالية الحفاظ على وجودها والرقي والتطور والنماء، من دون إعادة ترتيب السلطة في هيئة الدولة القومية.
ولذلك فإن الدولة القومية التي بُنيت في قلب منطقة وثقافة الشرق الأوسط مثلاً، تشكل مؤسسة كولونيالية وعميلة لمتروبول الدولة القومية العالمية المهيمنة الأم، فإنشاء إثنين وعشرين دولة عربية لم يكن إلاَّ من منظارٍ تأسيسيٍّ قائم على مصالح الدولة القومية الأقوى، من هنا فإن هذه الدولة القومية في الشرق الأوسط، شكَّلت وسيلة وجسر لتثبيت وتعميق الأزمات وليس حلها،إذ يكمن هدفها في تمكين الإستقرار العالمي للدولة القومية المسيطرة الأعلى، وهو ما أدى الى عولمة أزمة الرأسمالية في النهاية، وبنفس الوقت تعاني الدول القومية الشرق أوسطية من تناقضات كثيرة، لكونها تمثَّلت بأدوات لم تنشأ وتتبلور وفق أنماط ثقافية لمنطقتها ومحيطها، بل هي بعيدة كل البعد عن الواقع الثقافي لمجتمعاتها، بحيث تصبح كل مؤسسات الدولة تابعة وعميلة ولا جدوى منها، لعجزها عن حل أي من القضايا الإجتماعية.
هذا ما يقودنا مباشرة الى الجدل الذي ما يزال محتدماً الى يومنا هذا، حول مفاهيم المركزية واللامركزية وتطبيقاتها السياسية اليومية داخل الدولة، حيث يبرِّر الفريق المؤيد للمركزية في الحكم بالمحافظة على النظام وضبط الفوضى والسيطرة على مفاصل الحياة، بينما أنصار اللامركزية يحاججون على قدرة الوحدات المجتمعية على إدارة الذات، ومناهضة السلطة الاقتصادية والاحتكارية التي تجتمع في النظام المركزي بيد القلة الأوليغارشية الحاكمة.
اللامركزية والعلاقة مع السلطة والإدارة
تعني المركزية الإدارية تركيز وتكثيف السلطة في مركز معين (دولة، فئة، أشخاص)، حيث تدار كافة الشؤون الإجتماعية والاقتصادية والسياسية من هذا المركز الذي يكون بالتأكيد هرمياً، ولا يمكن للمستويات الإدارية الأخرى أن تتصرف إلاَّ بناءً على أوامر وتعليمات المركز، حيث صلاحيات إتخاذ القرار محصورة في أشخاص أو مؤسسات محدودة، وتمارس المركزية في الدول عن طريق جهاز رئاسي وحكومي مضبوط بشكل صارم، وأي قرار مهماً كان أم بسيطاً، يخضع لرقابة وموافقة المركز حصراً، أما الدستور هو الآلة القانونية التي تشرِّع هذه الممارسات.
كذلك تلعب الجغرافيا دوراً مهماً في ممارسة السلطة المركزية، حيث كل القرارات تعطى من مركز جغرافي واحد وهو العاصمة، وبذلك تصبح المناطق المحيطة والأقاليم البعيدة مهمشة من كافة النواحي الخدماتية والإدارية، وهذه مشكلة الدول ومجتمعاتها الى هذا الوقت، وهنا يمكن التشبُّه على المستوى الدولي، بأن السلطة المركزية تمارس على دول المحيط وشبه المحيط أيضاً، ويتدفق رأس المال الإقتصادي والمعرفي من المحيط إلى المركز، وبالتالي يصبح المركز القوة الإحتكارية الكبرى في المجتمع والنظام الدولي، وهذا النسيج من العلاقات السلطوية تفرضها الحكومات بالبيروقراطية الصارمة على شعوبها داخلياً(2).
ومن سيئات النظام المركزي، هو عرقلته لعملية الإدارة الإجتماعية، وهو بذلك يسبب حالات من الإستياء والتململ عند المجتمع، حيث التمهل في إنجاز المعاملات بسبب الروتين الإداري، والتعقيد بسبب كثرة الرئاسات المتعددة في الإدارة المركزية، ومن ناحية أخرى تفرض الإدارة المركزية حلول موحدة على قضايا مختلفة، كون القرار يكون بيد قلة قليلة من الأفراد، الذين ينظرون إلى كافة القضايا من منظور واحد، فلم تشكِّل المركزية حلاً إدارياً للقضايا المطروحة، بل أدَّت إلى تراكم المشاكل والقضايا، وبالتالي تكون النتيجة الحتمية هي الأزمة بكل أبعادها ومعانيها.
أما اللامركزية، فقد أصبحت من النظريات والمشاريع المطروحة دائماً وكثيراً في الإعلام والرأي العام، وخاصة بعد أزمات ما يسمَّى بالربيع العربي، فهي تعني مشاركة الإدارة مع الكل وممارسة الديمقراطية المباشرة، ويتم توزيع الوظائف الإدارية بين الأقاليم والوحدات الإدارية الصغيرة، وفي الأدبيات السياسية المعاصرة، تعني إعطاء دور أكبر للمجتمع المدني، وبشكل جوهري اللامركزية تعني تقويض السلطة، وتعطي دوراً رئيسياً للإدارات المحلية التي تعتمد على المجالس المحلية وممارسة الديمقراطية المباشرة ، وتُعيد ترتيب العلاقات الإجتماعية، وعلاقات القوة من أصغر الوحدات الإجتماعية إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى.
فأساس اللامركزية هو أن تكون السلطات المحلية متمتِّعة بالإستقلال الإداري والمالي والاقتصادي والخدماتي عن المركز،عبر تفعيل دور البلديات والمجالس المحلية، بمعنى مشاركة أكبر عدد ممكن من الناس في صنع القرار والتفاعل والمشاركة، وهي بعكس الإدارات المركزية، تفسح الإدارة اللامركزية المجال لإيجاد أفضل الحلول وفي أقرب وقت لأكثر القضايا تعقيداً، فلو كانت مدينة ما أو شارع ما بحاجة للكهرباء، فالإدارة المحلية ستسرع في إيجاد الحل، وسيشارك أبناء ذاك الحي أو تلك المدينة في هذه العملية، دون اللجوء لموافقة العاصمة، وبما أن الجميع يشارك في الإدارة في النظام اللامركزي، فالحلول المتنوعة والأفكار المبتكرة تبقى حاضرة للمشاكل اليومية والقضايا الكبيرة العالقة، ويتم التخلص من الأسلوب الأحادي المتَّبع لحل كل المشاكل كما في الإدارة المركزية، ناهيك عن إنخفاض نسبة المخاطر الناجمة عن قرار خاطئ، حيث تكون النتائج محصورة فقط في القطاع المحلي الذي إتخذ فيه القرار الخاطئ، أما القرار الغير صحيح في النظام المركزي، فهو يدفع بكامل جسم النظام للمرض والتضرر، وأخيراً فإن كل إدارة تتجه نحو اللامركزية، بحاجة للدستور الذي تكمن وظيفته في وضع الترتيبات القانونية بين الإدارة المحلية والمركز.
انواع السلطة وخصائص الحوكمة من المنظور الإداري
تعرف السلطة الإدارية،على أنها الحق المكتسب الذي تمنحه الوظيفة لشاغلها، وهي الحق الذي يعطيه المنصب في التصرف الإداري، كما أن السلطة الإدارية هي أحد أهم عناصر المسؤولية الإدارية التي تمثِّل قوة التنفيذ، والقوة التي تُعطى للموظف لإصدار الأوامر لموظفيه وتوجيههم إلى أعمالهم. والسلطة الممارسة في القطاعات الإدارية تقسم لأنواع عديدة، منها السلطة التنفيذية التي يكمن دورها في تنفيذ القرارات التي يتم وضعها من خلال السلطة التشريعية، فهي تتمثَّل بالحكومة وتوابعها من دوائر حكومية، وتُعد السلطة التنفيذية هي أعلى مصطلح لتحديد المواقع الهرمية للسلطة داخل المنظمات والمؤسسات والشركات بمختلف أنواعها ومجالاتها، وتتركز في المدير الأعلى، وهو الرئيس التنفيذي أو المدير العام، أو في فريق من كبار المديرين التنفيذيين. ويكون كل من يحمل السلطة التنفيذية هو المسؤول عن أداء المنظمة، وتشمل هذه المسؤولية تحديد الأهداف، وتقييمات الأداء وكذلك إتخاذ القرار في الأمور التي تؤثر على تنفيذ إستراتيجية المؤسسة، يمكن أن يتولى المالك أو المساهمون السلطة التنفيذية، وفي مناسبات معينة، يمنح المساهمون السلطة التنفيذية إلى شخص خارجي بسبب مؤهلاته وإستعداده للقيام بالمهمة.
والسلطة الإستشارية هي المسؤولة عن تقديم المشورة والنصح لصانعي القرار في المنظمة، بحيث لا تستطيع إصدار الأوامر أو ممارسة أي نوع من أنواع الرقابة عليها، بل تقوم بتقديم الإرشاد والنصح والإستشارة فقط، ويكون موقعها في المستوى التنظيمي الأعلى للمؤسسة، ويقوم المسؤول بدراسة الإستشارات والتوصيات المُرسلة له من قبل الأقسام الإستشارية وتحديد إذا كانت مفيدة، ليرفعها إلى السلطة التنفيذية، وتقوم السلطة التنفيذية بتطبيق التوصيات، حيث أنّ السلطة التنفيذية الجهة المطبقة للتوصيات والجهة المسؤولة عن النتائج النهائية.
وكذلك هناك السلطة الوظيفية وهي السلطة المسؤولة عن تفويض الإدارات، وتحديد كفاءات السياسات في المجالات التي يشرف عليها المدراء التابعين للمؤسسة، ويستمد المدير فيها من خلال الخدمات التي يمنحها ويقدمها إلى الإدارة التنفيذية، وتكون السلطة الوظيفية مرتبطة بالوظيفة التي يشغلها الفرد، والمستوى الإداري التابع له بالهيكل التنظيمي للمؤسسة أو الشركة أو الحكم، ويكون معمولاً بها وفق الأنظمة والتشريعات الأساسية للمنظمة.
وأخيراً هناك سلطة اللجان المؤلفة من بعض الأشخاص، الذين يجتمعون دوريًا على فترات قصيرة أو طويلة، مرة كل أسبوع أو مرة كل 3 أشهر، لمناقشة القضايا الخاصة بالمؤسسة، وقد تكون هذه اللجنة رسمية، وتُعد حينها جزءً من الهيكل التنظيمي للمؤسسة، لذلك تملك مهام وصلاحيات محددة، أو غير رسمية وتُعقد للمساعدة في إتمام بعض المهمات..
أما خصائص السلطة فتتميَّز بملازمة الوظيفة، حيث الأفراد الذين يعملون في نفس المستوى التنظيمي يكون لديهم السلطة، وتكون ملازمة للقبول من قبل المرؤوسين، أي أن المدير تكون له سلطة عندما يقبل المرؤوسين بذلك، وتنتفي السلطة إذا كانت الأوامر خارج نطاق منطقة القبول من الأعلى إلى الأسفل، أي أن الشخص الذي يعمل في الإدارة العليا، لديه سلطة أكبر ممن هو أقل منه إداريا، حيث تقل السلطة كلَّما إتجهنا نحو المستويات الأقل إدارة، فالجهة المانحة للموافقة تمنح السلطة الموافقة أو عدم الموافقة، على القرارات التي يتم إتخاذها ضمن حدود عملها، الجهة المانحة للمهام والإجراءات القانونية تمنح السلطة بعض المهام والإجراءات القانونية، التي يراد تطبيقها ضمن حدود عملها، والجهة المانحة لإعطاء الصلاحيات تُعطي هذه الصلاحيات لكل شخص داخل حدود عملها، وتقوم بتطبيق نظام العقوبات على الأشخاص المخالفين أو الواقعين في الأخطاء(3).
هذا من ناحية السلطة وأنواعها وتمايزها، لكن في إستعراض مفهوم الدولة والإدارة وكيفية تنظيمها، وقبل أن نتعرض لمفهوم الحكم الرشيد في الدولة، ربما من المنطقي التعرف أولاً، على مفهوم الدولة من المنظور الإداري، ثم مفهوم إدارة الدولة من هذا المنظور الإداري، ولذلك فإن المتتبع لتطورات إعادة هيكلة دور الدولة بصفة عامة، ومن المنظور الإداري بصفة خاصة يجد صعوبة في إيجاد تعريف للدولة من المنظور الإداري، باعتبار أنَّ أساس إعادة هيكلة دور الدولة، يتوقف على مفهومها وفق المنظور الإداري وعلاقته بنظام الحكم الرشيد للدولة.
فمن بين التعريفات الأكثر قبولا للدولة من المنظور السياسي، هي انها كيان سياسي لمجموعة من البشر، تقيم على إقليم مستقل محدد معروف سياسيا، بينهم روابط سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية، حيث يتم إدارة هذا الكيان، من خلال نظام يقوده حاكم ويدير شؤونه، وينظم حياة البشر هيئة منظمة تسمَّى حكومة بجهازها الإداري، على إعتبار أنها الأداة الأساسية للحاكم، يمنحها شرعيتها وأهليتها، لتأكيد ثقة المواطنين بها، ولتأكيد قدرتها وكفاءتها في الإستجابة لمطالبهم، ويحدد هذا النظام علاقات السلطة والمسؤولية بين الحاكم والحكومة والمحكومين أي المواطنين، وعلى ذلك فإن الحكومة بإعتبارها الأداة التنفيذية للدولة في إدارة شؤونها، يقع عليها مسؤولية صياغة السياسات العامة ووضع التنظيم الإداري، لتشمل مؤسسات الدولة والمؤسسات العامة، بما فيها رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء والوزراء ومساعديهم وغيرهم من شاغلي الوظائف العامة.
هذا ويُعَد نظام الحكم، أحد المتغيرات المهمة ذات التأثير على أسس وضوابط بناء وتشغيل الجهاز الإداري، ومن ثم يؤثِّر على فعاليته في ممارسة مهامه لتحقيق التنمية المجتمعية، ويتوقف تأثير نظام الحكم على فعالية الجهاز الإداري من خلال بعدين أساسيين مرتبطين بعضهما البعض وهما: أسلوب أو آلية ممارسة السلطة من قبل رئاسة الدولة، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين.
والمفهوم السياسي للدولة أيضاً يتضمَّن كافة الأبعاد السياسية، والتي تساهم في بناء الدولة سياسياً، ولكن كيفية إدارة هذا الكيان السياسي هو ما يعنينا في هذا المقام وتعريف الدولة من المنظور الاداري، حتى يمكن إدراك وفهم أهم الوظائف الإدارية للدولة، التي تمكنها من القيام بأدوارها الوظيفية، ومن ثم تتمكن من تحقيق أهداف الحكم الرشيد، ولذلك يمكن النظر إلى الدولة من المنظور الإداري، بأنها مجموعة من الكيانات المؤسسية المترابطة، ممثلة في كيان رئاسة الدولة والحكومة والوزارات والأجهزة والمؤسسات الاقليمية والهيئات العامة التابعة لها، والتي يتم إنشاؤها وإدارة كافة أدوارها الوظيفية (دور الامني ، إقتصادي ، وإجتماعي …) والكيان الإداري لتلك الكيانات المؤسسية، يهدف الى إستغلال الموارد المختلفة بكفاءة وفعالية، من أجل تحقيق رسالة الدولة وأهدافها المنشودة، فالدولة من هذا المنظور، ليست بمثابة كيان وحيد يمارس نشاطاً وحيداً، ولكنها مجموعة من الكيانات المؤسسية، تقوم بأدوار وظيفية مترابطة إنتاجياً وخدماتياً، ويتم إدراكها من خلال الكيان الإداري لكل كيان مؤسسي، بدءً من كيان رئاسة لدولة والحكومة وكيان كل وزارة ومحافظة ومؤسسة. ويتكون كل كيان مؤسسي في إداراته، من خلال القرارات التي تبدأ في مرحلة التفكير في إنشاء الكيان، وذلك إما بإتخاذ قرار بإنشائه أو تأجيله او إلغاء التفكير في إنشائه، ثانياً مرحلة إنشاء الكيان بعد إتخاذ قرار بإنشائه، ويتم في تلك المرحلة إنشاء الكيانات التشغيلية له، وثالثاً مرحلة إدارة تشغيل الكيانات بعد ولادتها.
يتضح من هذا التعريف العام للدولة من المنظور الإداري، بأن إدارة تلك الكيانات المؤسسية لا يتم بشكل مستقل كل منهما عن الآخر، ولكن الترابط والتكامل بينها، يمثل أحد المقوِّمات الأساسية، حتى تسير جميع تلك الكيانات في الطريق الذي يحقق رسالة وأهداف الدولة، والسبيل لتحقيق هذا التكامل والترابط، هو تبنِّي مدخل الإدارة الاستراتيجية للدولة، فيتم تصميم خارطة طريق الإدارة الإستراتيجية، وتحديد مقومات تنفيذها ثم الرقابة عليها، من خلال إتخاذ القرارات الإدارية، والتي تصنف إلى قرارات متعلقة بالخطة الاستراتيجية العامة للدولة، والخطط والوظيفية والتنفيذية على مستوى الوزارات والمؤسسات، ثم القرارات المتعلِّقة بتحديد مقومات تنفيذ تلك الخطط، والتي تتمثل في الآليات التنظيمية المتمثِّلة في الهياكل التنظيمية والوظيفية، وتوصيف الوظائف وتحديد العمالة اللازمة لشغل تلك الوظائف وغيرها، ثم حزمة الآليات الخاصة بتوجيه وتشجيع العاملين لتنفيذ تلك الخطط، ثم آليات الرقابة والتي تتمثل في منظومة العمل الرقابي، أما النوع الثالث من القرارات فيتعلق بقرارات التنفيذ الفعلية لتلك الخطط، من خلال الآليات التنظيمية والتنفيذية، ومن ثم إتخاذ القرارات اللازمة لتوجيه الأداء في الاتجاه الصحيح، وتتمثل هذه القرارات في تسكين العمالة السابق تحديدها على الوظائف ثم توجيههم وتحفيزهم على العمل، من خلال آليات التوجيه المعدة مسبقاً، مثل نظم الاتصالات والتحفيز والقيادات الادارية التي يتم اختيارها لهذا الغرض وغيرها. ثم في النهاية النوع الرابع من القرارات، والتي تتمثل في قرارات الرقابة،وفي قياس الاداء وتحديد الفجوات ثم معالجة تلك الفجوات(4).
وبإختصار يمكن القول بأن الإدارة الإستراتيجية للدولة، هي بمثابة مجموعة من القرارات الإدارية التي تساهم في تصميم خطط خارطة طريق الإدارة الاستراتيجية للدولة (الخطة العامة والخطط الوظيفية والتنفيذية) وتنفيذها، والرقابة عليها من أجل إستغلال الموارد المختلفة بكفاءة وفعالية، لتحقيق الرسالة والأهداف المنشودة للدولة، ويتم إتخاذ تلك القرارات من خلال منظومة العمل الإداري.
التوازن الإداري بين الدولة والسلطة والنظام
السلطة هي حينما يلتزم الموظف بأداء مسؤولياته وواجباته التي أُعطيت إليه، فهو لا يستطيع القيام بذلك، ولا يمكن مساءلته بدون تفويض سلطة رسمية له بقدر واجباته ومهامه، فالسلطة أساس المسؤولية وهي التي تربط أجزاء ووحدات المنظمة ببعضها البعض وتحدد العلاقات الرأسية والأفقية فيها، وأيضاً تعرف السلطة بأنها الحق في إتخاذ القرارات، بدون موافقة سلطة أعلى قبيل إمتثال وطاعة الأشخاص الآخرين المعنيين.
وتعرف كذلك بأنها الحق المشروع أو القانوني في توجيه أداء المرؤوسين والتأثير عليهم، والحق من القيام بتصرف معمرين أو توجيه سلوك الأخرين بقصد تحقيق أهداف المنظمة، والحق المشروع في إتخاذ القرارات، وإصدار الأوامر والتعليمات والتوجيهات للمرؤوسين القيام بواجباتهم، ويقصد بالسلطة هنا السلطة الرسمية لأنها ترتبط بالوظيفة التي يشغلها ، فأي فرد تُعهد إليه وظيفة معينة يمنح السلطة المرتبطة بالوظيفة التي يشغلها، بغض النظر عمن يكون هذا الفرد الذي يشغلها، ومصدر هذه السلطة هي السياسات والأنظمة والتعليمات والقرارات أو الثقافة السائدة في المنظمة.
والسلطة هي الحق المعطى في إتخاذ القرارات وإعطاء الأوامر والتصرف، وهي محددة ونهائية ومطلقة في حدود نطاق العمل المفوض، كما يرى البعض أن السلطة قد تمنح لشخص بتدبيره وسعيه، كما تجري عليه اتفاقا أو مصادفة في بعض الظروف.. فإن أحسن القيام عليها فأنه يحتفظ بها وأن لم يرزق ملكة القيادة فقد السلطة
أما السلطة بمعنى” Authority” فهي الحق الرسمي والقانوني الذي من خلالها يتمكن المدير من إتخاذ القرارات وتوجيه أهداف المنظمة، أو هي الحق في ممارسة القوة والحصول على الطاعة، والقوة هي القدرة على التأثير على أعمال الآخرين، وقد تكون سلطة بدون قوة كما هو الحال في مشرف ضعيف، وقد توجد القوة بدون سلطة، كما هو الحال في موظفي بعض أقسام الخدمات في المنظمة(5).
وللسلطة مجموعة من الخصائص، هي أن تكون ملازمة للوظيفة لا للفرد، وناتجة عن مركزه الوظيفي، وأن تكون ملازمة للقبول من جانب المرؤوسين، أي أن يكون للمدير سلطة عندما يقبل المرؤوسون أن تمارس عليهم السلطة، وأن تكون أخيراً ضمن عملية إنسياب من أعلى الى أسفل، بمعنى أن من هو في مستوى الإدارة العليا، لديه سلطة أكبر ممن هو مستوى إداري أقل، أي أنها تقل تدريجيا كلما إتجهنا نحو المستويات التنظيمية الوسطى.
ويتداخل مفهوم السلطة في الفكر السياسي والإداري والإجتماعي مع مفهومين آخرين هما، مفهوم القوة ومفهوم القدرة، ويبدو أنه من المهم أن نفهم سبب هذا التداخل وكيفية التمييز بين هذه المفاهيم، وإستعمالها في حياتنا الوظيفية والإجتماعية.
هنالك خط رفيع ينبغي فهمه، حول فاعلية أصحاب السلطة، سواء في الحكومة أو أصحاب المال والأعمال، حيث سلوك الوظيفة العامة، يعتمد على التربية والتنشئة البيتية في التعامل، وعلى تحديد دور الفرد، ومع غياب توضيح لمفهوم الخدمة العامة خارج مصطلحها، نجد إستشراء الفساد وتفشِّيه متى ما سمح الوضع العام بذلك، والتحجج بعدم القدرة على مقاومة الفساد، لفقد الوظيفة أو التعرُّض لعمليات ترحيل منها، لكن لمنع هذا، لا بدَّ من تفعيل أصول الخدمة العامة وتربيتها وثقافتها، والتدريب حول كيفية التعامل مع الشعب، بحفظ كرامتهم وبأنه موجود لخدمتهم، وهم ليسوا مجرمين أو متَّهمين، بل هو موجود من أجلهم، كذلك الشرطي، هو منفِّذ للقانون وليس هو القانون أو القاضي، كما يفهم الموظف أنه مؤتمن على الوظيفة وليس موجوداً ليعطي ميزة ما، بل كلما زادت مسؤوليته كلَّما ثقُلت مهمته في تحمُّل التابعين له وما تعني خدمته، ومن أجل هذا يرتفع راتبه.
من هنا صارت ظاهرة الفساد الإداري مجهراً كاشفاً لوجود الفساد المالي، وهذا من أسباب الفساد الإداري الذي يقود لمضاعفات وتضعضع المجتمع وتشتُّته، وغياب الدولة وإستبداد السلطة وضعفها أمام كل مهامها، حيث تصب جام غضبها وقوتها على المواطن البسيط المستنجد حفظ كرامته.
واجب المدير المتعامل مع المال أن يحيط ويُعْلم إدارته بأفضل ما يمكن، والمتعامل مع المواطن يجب أن يجد أفضل الطرق وأنجعها لمساعدته على حفظ كرامته، وليس إعتباره كأنه عبد يطيع الدولة، وليست الدولة من ينبغي أن تكون خادمة له، إذ أن الملاحظ من سوء الإدارة وفقدان التنظيم وجهد المواطن الكبير والصغير، وإحساسه بالمهانة والإزدحام والفوضى بسبب فقدان التنظيم، هو ما يجعل هنالك خطّا آخر للرشوة والفساد المالي.
يتصدرُ مصطلحُ السلطةِ لائحةَ المصطلحاتِ المتضاربة، والمؤديةِ إلى الأخطاء، والمتسببةِ بأكثرِ الصعوبات لدى تحليلِ الواقعِ الاجتماعيّ، فالأصحُّ هو تعريفُ السلطةِ الإجتماعيةِ بكونِها إستغلالاً إقتصادياً مُرَكَّزاً وإمكانيةَ قوةٍ ضاغطة وطاقة كبيرة، فهي أصبحَت وكأنها ذات طابعٍ تداخلي جينيٍّ في كلِّ البؤرِ البنيويةِ والعقليةِ للمجتمع، تُقدّم الإمكانياتِ للإستغلالِ والقوةِ المتراكمَين، لذا من الأهميةِ إضفاءُ المعنى على السلطةِ من حيث كونِها طاقة إحتياطية كامنةً لكياناتِ الطبقة والدولة، أما السلطةُ وطاقتها الكامنة فإنها تُشَكِّل دولة ما بطبقتِها الاستغلاليةِ الاجتماعيةِ التي ترتكزُ إليها نُخَبُها الحاكمة (العبودية، الإقطاعية، البورجوازية وما شابه). فالدافعُ المهم الآخر، لفرضِ السلطة نفسَها على المجتمعِ وكأنها ضرورةٌ حتميةٌ ولازمةٌ بإستمرار، يتمثل في المطابقة بين وجودها وبين الحاجة إلى الإدارة المجتمعية الطبيعية، أي أنّه يصبح لا غنى عن السلطةِ لمطابقتها ذاتَها مع ظاهرة الإدارة، في حين أنّ السلطة تتسلل إلى البنية الإجتماعية كوَرَم سرطانيّ، إذ ما تمَّ تمييزها عن قيادة المجتمع الطبيعيّ.
إنّ الاستبداد التاريخي الممثَّل في هيئةِ حكمٍ مِزاجيّ، الذي يتفشّى كأورامٍ إجتماعيةٍ متطرفة، يكبر بسرعة في سياقاتِ السلطة خاصة الرأسمالية، ومستشرية في كل الفواصل الإجتماعية، ومتجسدةً في حُكم قوة توتاليتارية ضمن المجتمع، أما شكل السلطة من طراز الدولةِ القومية، فله أواصرُه مع النظام الرأسماليِّ–القومي، مُعَبِّراً بذلك عن وضعه الأوليّ في التسلُّط.
والتعريف الصحيح لظاهرة الإدارة وهي كما الثقافة، ظاهرة مستدامة ومستمرةٌ في المجتمع، فهي تُعبِّر عن حالة الإنتظام في الكون وعن حالة الهرب من الفوضى، والوضع الراقي، يقتضي بدورِه رقيَّ القدرة على الإدارة، من الممكنِ تسميةُ الإدارة على أنها “العقل المجتمعيّ”، ومن المهمِّ في هذه الحالةِ تحليلُ مصطلحَي الإدارةِ الذاتيةِ والإدارةِ الدخيلة، فبينما تَقومُ الإدارةُ الذاتيةُ على تنظيمِ قُدُراتِ الطبيعة الإجتماعيةِ ومراقبتِها، وتوَمّن بالتالي سيرورةَ المجتمع، وتَضمَن مَأكلَه ومَأمَنَه، فإنّ الإدارةَ الدخيلة تُشَرعِنُ نفسَها كسلطة، وتعمل على إغواء المجتمعِ المُتسَلَّطة عليه، لتَتمكَّن بالتالي من حُكمِه بعدَ تحويلِه إلى مستعمَرة، من هنا، فالإدارةُ الذاتيةُ تتمتعُ بأهمية مصيرية بالنسبة لمجتمعٍ ما، وأي مجتمعٍ يفتقر إلى الإدارة الذاتية، فحتماً مصيره الزوال والفناء ضمن سياقِ الصهر والإبادةِ كما كل أحداث التاريخ.
تُمَثِّل الإدارات الدخيلةُ على جوهر المجتمعِ أكثرَ أشكالِ السلطةِ طغياناً وإستعمارا، بناءً عليه، فالمَهَمَةُّ الأخلاقيةُ والعلميةُ والأهمّ على الإطلاقِ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما، هي بلوغُه قوةَ الإدارةِ الذاتية، ومثلما لا يُمكنُ لمجتمعٍ قاصر عن النجاح في هذه المَهَمَّة أنْ يتطورَ أخلاقياً وعلمياً، فإنّ تطورَه وطابعه المؤسساتيّ السياسيَّ والاقتصاديَّ أيضاً يَزول، فالمهمُّ هنا منع كفاءة الإدارة من الإنتقالِ بذاتِها نحو شكلِ السلطة من جانب، ووقوفها بوجه اللاإدارةِ من الجانبِ الآخر، وبقدرِ أهمية عدمِ تحويل الإدارة إلى سلطة، فإنّ إنتزاع إمتيازاتِ الإدارة من يد السلطة أيضاً يتحلّى بأهمية كبيرة، وبقدر ما تُعَدُّ السلطة مناهِضة للمجتمعية، فإنّ الإدارة كفاءة وقوة مجتمعيةٌ بالمِثل، ومن دونِ القوةِ الإجتماعية، لن يحصلَ التطور الأخلاقيُّ والعلميّ، هكذا، وفي حال غياب التطور الثقافيِّ بمعناه الضيق، فلن يحصلَ التطور الاقتصاديُّ والسياسيُّ أيضاً بالمعنى الواسع، وما سيُبنى في هذه الحالة، هو الفناء نتيجة الإستعمار والإبادة.
أما النظام، فهو نظام المجتمع وما يعبِّر عن السياسة والدولة وإدارة الاقتصاد، وتعبِّر عنه رؤية الأحزاب إن وجدت أو الحكومة بطريقة ما، كذلك واجب المواطن تجاه صيانة السلطة وثباتها والدولة والنظام وكيفية تصويبه.
وهو كذلك النظام الإجتماعي، المعبِّر عن العلاقات البينية بين الناس والأسرة والعائلة والجيران، والتعامل مع الدولة المندمج بنظام المجتمع، وتنظيم العلاقات بما يكون عرفاً أو قيماً يؤمن بها المجتمع.
فالتوازن مهم بين الدولة والسلطة والنظام، فلا ينبغي أن تركز على مفهوم دون الآخر، وهذه السلبية عادة تحصل في العالم بإستثناءات قليلة، حتى الدول المتطورة مدنيا، باتت تترهل وتفقد جوهر نظامها، لأنها ألَّهت وأبَّدت النمطية في الحكم، ولم ترسِّخ بالتعليم المستمر وترمِّم لمعالجة السلبيات كل ما هو متطور من نظام.
فلا يمكن إقامة الدولة أو نجاح أي نظام بفرض رأي أو معتقد على المجتمع ككل، بل بإدارة الإختلاف وتماهيه، بألا تكون خصوصية المعتقدات أو طقوسها خارجة من السياق والسلوكيات العامة، ليكون ذلك مقبولاً وسمة ثقافية لا تشكل خطراً على أية منحى حياتي من مناحي العيش، ومن أجل هذا يجب على النظام منح خصوصيات للمعتقدات الأخرى لتسوية أمورها الخاصة، ما لم تتداخل مع الدولة وتتعارض، فقوانين الدولة تحكم الجميع، أما أن يفرض رأيا لمعتقد ويذهب الى تجاهل الإختلاف، فإن العقد الإجتماعي يعتبر لاغياً، وهذا خطر على كينونة الدولة، وإمتحان لصلاحية النظام وشرعية السلطة ومشروعية ما يؤهلها للقيادة بإسم الشعب، بل هو نهاية للعقد الاجتماعي الذي يشمل كل هذا،وعندها لا بدَّ من إعادة التنظيم للعوامل الثلاثة أو الجغرافيا، وعدم تلازم وإلتزام الشرعية بالمشروعية يقوضها أو يقوض الدولة والسلطة والنظام(6).
فالتوازن مهم بين الدولة والسلطة والنظام،ولا ينبغي التركيز على مفهوم وتعطل الأخر، والمؤكد أن التناغم بين فاعليات العوامل الثلاثة يعزز نجاح الإنسان كمنظومة عاقلة.
فشل السلطة وغياب المواطن
تعاني العديد من بلدان العالم الثالث وخاصة العربية منها هذه الأيام، من فشل ذريع في إدارة الدولة، فالمواطن يعاني من مشقَّة الحصول على المقوِّمات الأساسية للعيش الكريم، بينما هناك دول أخرى تملك موارد أقل وبعيداً عن الدول التي تمرُّ بحالة عدم التوازن في اللادولة مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق، على إعتبار أن الدولة هي التي تحتكر ممارسة العنف، طالما هناك جماعات خارجة عن سلطة الدولة وتنازع الدولة ممارسة العنف.
لكن لا بدَّ من الكشف عن المفاهيم التقليدية المتبعة في بعض البلدان التي لا يزال مواطنها يفتقر إلى أهم مقومات الكرامة الإنسانية، بينما العالم من حولنا تجاوز مسألة أساسيات الحياة إلى الإبداع والإبتكار، فالشعوب لا تموت بسبب الحصار من الخارج، وإنما يقتلها الحصار الداخلي الذي يجفِّف مصادر الإبداع، وإذا كان المواطن مقهورا ومهموماً بتحصيل أساسيات الحياة، فلن يتمكن من الإبداع والتفكير، ومَن لا يطور نفسه بإكتساب قدرات ومهارات جديدة لمواكبة الحياة والتطور، سيجد نفسه خارج حلبة سباق التطور، وهو أمر ينطبق على الأفراد والجماعات والدول.
لقد كان لظهور كل أنواع التكنولوجيا والتقنيات والإنترنت خلال العقدين الماضيين، الأثر البالغ في تغيير مفهوم كل من الدولة والسيادة، مما يقتضي بالتالي تغيير طريقة إدارة الدولة لشوؤن الناس ورعاياها تبعا لذلك، فالدولة لم تعدْ مجرَّد أرض أو شعب منظَّم سياسياً تحت حكم موحَّد، ولم تعدْ السيادة هي مجرَّد سلطة الدولة في حكم نفسها، ففي ظلِّ الفضاءات المفتوحة ألغيت المساحات الجغرافية، ولم يعدْ الشعب تلك المجموعة السكانية المحصورة في مساحة جغرافية معينة، وإنما إمتداد لبقية العالم، بحكم تأثره بما يجري حوله بفضل توفر المعلومة التي تصله سريعاً، وإذا كان بإمكان المواطن التواصل مع العالم الخارجي، وإكمال صفقات تجارية وتحريك ملايين الأموال دون معرفة الدولة، فهنا ينتهي دور السيادة على الأقل.
إذن المواطن لم يعدْ بإمكانه أن تلقِّي الأوامر من القائد الأوحد، وينفِّذها على الفور، وليست الحياة بتلك البساطة التي يختصر فيها تفكير شخص واحد أو نخبة بالإنابة عن الشعب، فلقد أصبح المواطن اليوم ناضجاً بفضل تواصله مع العالم الخارجي، وأصبحت مصادر المعلومات عديدة لديه، بخلاف النسخة التي تصدر من الدولة، مما يتطلَّب من الدولة تغيير نظرتها تجاه المواطن، وتغيير مفهوم حوكمة الدولة، إذ أن التعقيد الذي يغلف الحياة العامة، يتطلَّب تفكيراً جماعيا من أعلى سلم السلطة إلى أدناه، وعلى مستوى من الشفافية المطلقة.
وعليه نجد في النظام الكلاسيكي للدولة وكيفية إدارة شؤون الناس، بأن الموظف يعيش خارج التاريخ تماما، فهو لا يعرف شيئا عن التقنية الحاسوبية وسائر التطور التكنولوجي والذكاء الصناعي، ناهيك عن تصفُّح الإنترنت ومعرفة ما أحدثه من ثورة هائلة في مجال الإدارة، فالتفكير الجماعي هذا يتطلَّب قدراً من الحرية التي تمكِّن المواطن من إبداء رأيه في أداء الدولة بطريقة بناءة تنشد التطوير من ناحية، وحرية تمكن المواطن من الإبداع والإبتكار من ناحية أخرى، ولهذا إن المواطن الخائف من الدولة والمتردد لن يكون مؤهلا للإبداع، ولا يستطيع تقديم رأيٍ بنّاء لأنه فاقد للثقة بالدولة وبنفسه.
وفي مقلب آخر، ربما نشرح أكثر عن مسمَّى الإنحطاط السياسي، وهو مصطلح مقرَّب لوصف الوضع السياسي، وهو جزء من كتاب للمفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما في مناقشة أصول النظام السياسي وتطوّره وإنحطاطه، ويعطينا الفكرة الأوضح حول غياب السلطة والمواطن عن الفعل والتأثير في خدمة المجتمع الإنساني، هذا الإنحطاط يحدث، من خلال الفشل في التكيُّف مع المستجدات الطارئة، للإعتقاد بأن ما لدى الدولة من مؤسسات هي أفضل من غيرها، ويحدث أيضاً من خلال إستيلاء أو سطو الفاعلين في النظام السياسي، على كل مقدرات الدولة وثرواتها، وسعْي أصحاب إقتصاد السوق، لتحويل التفاوت في الثروات الى تفاوت في التأثير السياسي، وتفعيل عمليات المحاباة من قبل أصحاب النُّخب السياسية الى أقربائهم.
فهذه المقاربات، تُعدّ مرحلة لاحقة لِلتطور السياسي ومندمجة فيه لدى الكثير من الأنظمة السياسية، ويبدو أنها تنطبق على نماذج العراق وسوريا ولبنان ومصر، وكثير من بلدان التأزيم، فالنظام السياسي يتألف من الدولة ومن حكم القانون، ومن الحكومة الخاضعة لِلمحاسبة أو المساءلة، وهذه المؤسسات الثلاث لم تعرفها هذه الدول منذ تشكل الدولة في عشرينيات القرن الماضي.
فهذا الجوهر من الإنحطاط السياسي، يتركز في عدم القدرة على التكيّف، وما من ضمان لأيّ نظام سياسي فيه، بما في ذلك الديمقراطية اللِّيبرالية، من أن يصيبه الإنحطاط، فكلّ شيء يتوقّف على الأداء، وقد يكون الإنحطاط السياسي لِلنظام القديم بشارةً لتطور سياسي نحو نظام جديد، ولكن قد تكون عملية التغيير هذه فوضوية، وغير قادرة على إعادة الإستقرار كما حصل في العديد من بلدان الشرق الأوسط العربية وفي شمال إفريقيا.
والإنحطاط في النظام السياسي للدولة والإدارة، هو مشكلة عدم قدرة النظام على التكيّف مع متطلِّبات الجمهور وأولوياته الحياتية واليومية، والذهاب نحو معاقبة الشخصيات المروّجة وصاحبة التأثير، فهو يخضع “أي هذا النظام” لسيطرة أوليغارشيات تعمل على إدامة وإستطالة بقائها في السلطة من خلال الفوضى والفساد، حيث يساهم النفوذ والسيطرة على مؤسسات الدولة، في خلق نوع من التوافق الضمني بين الأحزاب السياسية، على نهب ثروات الدولة ومواردها الإقتصادية وتقاسم الاقتصاد الريعي، سواء أكان النفوذ والسيطرة من خلال الأحزاب السياسية، أو قوة الأسلحة الخارجة عن السيطرة، أو الجمع بين قوة السلاح والنفوذ السياسي، كل هذه الأساليب تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي نهب ثروة الدولة ومقدرات الشعوب، في حين تكمن مهمة الحكومات في إدارة نظام الحكم على أساس تحقيق التوازن بين رغبات ونفوذ مافيات السلطة، لذلك لا نتعجَّب من إنتشار الشخصيات وأصحاب النفوذ والتأثير التي تروّج للمحتوى الهابط في بيئة سياسية ملّوثة بالفساد، وفي ظلّ سيطرة المافيات، ووصول طبقة طفيلية إلى الثروات والموارد الاقتصادية، فالطبقةُ الحاكمةُ وقوى السلطة لم تعمل طوال ممارستها الحكم، على تأسيس ركائز دولة المؤسسات، ولا إشاعة حكم القانون، ولا أن تكون علاقتها مع الجمهور قائمة على أساس المحاسبة والمساءلة.
وعندما يعيش المواطن تحت هيمنة قوى اللادولة أو ما يمكن تسميته بــالدولة الفاشلة، مع السطو على المجال العام، فلا يمكننا التعجّب من هيمنة بل سيطرة شخصيات من المستوى التأثيري الهابط على المجال العام، ومع تغييب قوة وسيادة القانون، تتفشى الترويجات الهابطة بشكل أفقي وتنتشر في الفضائيات وعلى وسائل التواصل الإجتماعي، وفي تصريحات القيادات والشخصيات السياسية.
فالمشكلة هنا تخص النظام الإجتماعي الذي تكون الطبقة المُسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين، أو الذي تتمّ فيه مكافأة التفاهة والرداءة عوضاً عن الجدية والعمل الدؤوب والمنتج، وفي هذا النظام نجحت وسائل التواصل الإجتماعي عبر تقنيات التكنولوجيا والبرمجيات، في جعل كثير من تافهي مشاهير السوشال ميديا أن يظهروا لنا بمظهر النجاح، وهو أمر يختصر كل صور النجاح التي عرفتها وتعرفها البشرية لتبقى في المال فقط، وحتى في مكافحة هذه الظاهرة المتردية وشخصياتها ومستوياتها، تكون النتيجة ترك المحتوى أو السبب الرئيسي المتمثل بهذه البيئة المنتجة للإنحطاط، وكذلك غياب النص القانوني المحدِّد للمحتوى الهابط ومواصفاته، ليمتد ويشمل تقييد حرية النقد السياسي، فأصل الموضوع ليس الإعتراض أو التقليل من أهمية مكافحة المحتوى الهابط ومروجيه، الذي يُعدّ نتيجة طبيعة لنظام سياسي يواجه الإنحطاط السياسي، ولكنّ تحكُّم المزاجية السياسية التي تدخل في تحديد المحتوى الهابط، وإستغلال القانون لمنع نقد الأوضاع السياسية وشخصياتها، الذي يبدأ بالمعاقبة ومن ثمَّ يتطور ليشمل نقد الحكومة وشخصياتها وزعماء الأحزاب وشخصياتهم ليكون من ضمن المحتوى الهابط.
ولذلك وجب أن تكون حوكمة الدولة قائمة على أساس المواطن، بحيث يكون المواطن محور أداء الدولة، وأن يكون رضاه عن أداء الدولة معيارا لنجاحها وفشلها، وهذا يتطلَّب إشراك المواطن بالرأي في عملية إدارة الدولة، بحيث يقول رأيه في نوع الخدمات المقدمة، وطريقة تقديمها، وفي قدرات الموظف الذي يقدم هذه الخدمات، على أن تكون هناك إرادة سياسية تأخذ رأي المواطن كأولوية، فعندما تكون الحوكمة قائمة على أساس المواطن، يسهر موظف الدول على خدمة المواطن وبالتالي سيشعر المواطن أن له قيمة(7).
فحتى لو كان المطلوب من الموظف العام عادة تسيير شؤون المنصب العام، ومتابعة الإجراءات البيروقراطية المعروفة بطريقة صحيحة، فإن الأمر يختلف اليوم، على ضوء هذه التحوُّلات المشار إليها والمذكورة أعلاه، يطلب من الموظف العام الإبداع والإبتكار، ولن يكون ذلك ممكنا، إلاَّ إذا كان تعيين الموظف في المنصب المعين بناء على خبرته المهنية ومؤهلاته العلمية الملائمة لتلك الوظيفة، بمعنى أن التوظيف القائم على مسألتي الولاء والقرابة سبب أساسي في فشل الدولة من ناحية، وإستشراء الفساد من ناحية أخرى.
فالمطلوب هو إعتماد الإدارة الذكية،لا يعني ذلك إستخدام التكنولوجيا فحسب، وإنما أن يكون موظف الدولة مواكبا للتطورات التي تطرأ على مجاله عالميا، حتى يستطيع التفاعل معها إيجابيا وتنعكس إبداعا في مجاله، إذ أن موظف الدولة يعيش خارج التاريخ تماما، وهذا يعني ضرورة خضوع الموظف العام للتأهيل المهني، بما يمكنه من القيام بمهامه على أكمل وجه، على أن يتم التخلُّص من أي موظَّف عام يعجز عن مواكبة التطور، وأن تأسيس مفهوم الدولة على أساس المواطن وإشراك المواطن في التفكير بعد تمكينه من إمتلاك أسباب الإبداع والابتكار، فهو من الأمور الكفيلة بإخراج الدولة من مأزقها الراهن إلى فضاءات آمنة ورحبة.
وعلى صعيد صناعة القرار، لا بدَّ من وجود أسس علمية لإتخاذ القرار في الدولة، على ضوء مبادئ توجيهية تتأسس عليها سياسة الدولة وتوجُّهها بصورة عامة، إذ أنه في أغلب الدول سلطة القرار والتقرير كلها تدور حول الرئيس والنخبة الحاكمة ومجموعة من المحظيين والأزلام والتوابع، ويكون القرار في الغالب مدفوعا من جهة أو جهات لها مصلحة، ولها نفوذ على السلطة صاحبة القرار، لذلك نجد أن القرارات تتغيَّر وتتبدَّل في فترات وجيزة، بعد أن تصبح نتائجها كارثية، ولا يمكن الكلام عن إتخاذ القرار بدون إعتبار الرأي الآخر، فالطريقة التي يتخذ بها القرار في الدول المحترمة، تقوم على خطوات معينة تضمن الإستماع لإيجابيات وسلبيات القرار، بإشراف أهل الإختصاص، مع إثبات أنه يخدم المصلحة العليا للبلاد إستنادا إلى الواقع، ومن هنا يصبح الرأي الآخر البنّاء ضروريا، لأنه يعزِّز القرار ويكشف أي سلبيات قد ينطوي عليها، بما يمكِّن السلطة المعنية من إتخاذ الترتيبات اللازمة لتلافي السلبيات المحتملة، ولهذا السبب يتم تخصيص ميزانية من الدولة لصالح المعارضة السياسية حرصا على وجود الرأي الآخر.
إذن، تأسيس مفهوم الدولة بإعتبار المواطن شريكاً وفاعلاً في التفكير، بعد تمكينه من إمتلاك أسباب الإبداع والابتكار، هو من الأمور الكفيلة بإخراج الدولة من مأزقها الراهن، إلى فضاءات أرحب تتجاوز همومه وتلْحاق به بركب الأمم المتقدمة.
ختاماً
القوى أو المجموعات السياسية التي تصل السلطة من دون أهداف محددة، وإستراتيجيات للتخطيط، لصياغة وتصميم سياسة أي دولة، والذي يشكّل مرتكزا تستند إليه آليات ووسائل إدارة الدولة في كافة المناحي، سواء الإقتصادية أو الأمنية أو السياسية أو الإدارية، وبالتالي فإن نجاح هذه المعطيات في إدارة شؤون دولة، يتوقف على درجة إتقانها للاستراتيجية التي تضعها وتكريس جهودها وإمكانياتها لتنفيذ بنودها.
فإحتكار السلطة السياسية لكلِّ شيء في الدولة لصالحها بالقوة، تصبح سلطة عنف وإستبداد مطلق، وتتحوَّل إلى حالة إلغاء للاخر أولاً ،ولسلطة الدولة والقانون ثانياً، ولإحتكار الحق والقوة والعنف والتسلطية المطلقة ثالثاً، وتتحول سياسة التسلُّط لديها إلى ذهنية منتهكة للقيم، بخطابات تبرِّر ممارساتها التسلُّطية العُنفية، وهنا لا يفرِّق الناس بين الدولة والسلطة، مردُّ ذلك يعود الى طبيعة ممارسة الدولة للسلطة، حيث هناك فرق شاسع بين الدولة والسلطة وَجب التمييز بينهما، حيث أن الدولة لها أركان ثابتة دائمة، أما السلطة فهي زائلة ومتحركة، فتغيب أو تستمر في الحكم، بينما الدولة تقوم على ثوابت ثلاثة: الأرض والشعب وقانون أساسي ينظم السلوكيات والعلاقات، بينما تكون السلطة هي الإدارة القانونية للدولة، أي أن السلطة ما هي إلاَّ آلة تسيير لأمور الدولة، بموجب القوانين والشرائع التي تُسَنُّ من قبل البرلمان.
لذلك يبدو من الضروري أن نميز بين السلطة و الدولة، التي هي شكل من أشكال التنظيم السياسي الذي تمارسه المؤسسات، حيث المبادئ الأساسية التي ينبغي أن توجِّه إدارة الدولة والسياسة معاً في توجيه الخدمة العامة، إذ يجب على من يشغلون مناصب السلطة أن ينظروا إلى أدوارهم كموظفين عموميين ورسميين، مكرَّسين لخدمة المصالح العليا للأشخاص الذين يمثلونهم، بدلاً من دفع أجنداتهم الشخصية أو إثراء أنفسهم، ومتمتِّعين بالسلوك الأخلاقي كجهات فاعلة في إدارة الدولة والسياسة، والإلتزام بالمعايير الأخلاقية العالية، وإظهار النزاهة والصدق والشفافية، ولا يقوم سلوكهم على مكاسب شخصية أو سياسية.(8)
من هنا فإنَّ عمل الدولة يجب أن يكون قائماً على سيادة القانون وفي ظلِّه، حيث تطبق القوانين والأنظمة بالتساوي على جميع المواطنين، دون تمييز أو محاباة أو تحيز، لا ينبغي أن يكون أحد فوق القانون مهما كان وضعه، مع أن تكون القرارات السياسية شاملة وممثلة للأصوات المتنوعة داخل المجتمع، ممَّا يضمن الإستماع إلى إهتمامات جميع شرائح السكان والنظر فيها، فالحوكمة الفعالة تتطلَّب التعاون والإستعداد للتسوية، بين مختلف الأحزاب السياسية وأصحاب المصلحة، لإيجاد أرضية مشتركة والعمل من أجل الصالح الجماعي، لبناء إدارة وسياسة دولة سليمة، مدفوعة برؤية وتخطيط طويل المدى، وليس عبر مكاسب قصيرة المدى أو دورات إنتخابية.
كما يجب أن تستند السياسات والقرارات على الأدلة والبيانات ومشورة الخبراء والمستشارين، بدلاً من ردود الفعل العاطفية أو الإندفاعية، وإحترام حقوق الإنسان وحمايتها وتعزيزها ، وضمان إحترام كرامة وحريات جميع الأفراد ودعمها.
لكن يمكن للسياسة أحيانًا أن تتأثر بالمصالح الشخصية وصراعات القوة والمشاعر السلبية مثل الكراهية، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى سياسات إنقسامية وإستقطابية تعيق التقدم وتقوِّض وتُضعف ثقة الجمهور في قادتهم ومؤسساتهم، هنا يتطلب التغلُّب على هذه التحديات، والإلتزام بالقيادة الأخلاقية والإصلاحات المؤسسية والمشاركة النشطة من قبل المجتمع المدني في محاسبة القادة، وأن الهدف هو خلق ثقافة سياسية يعطي فيها القادة الأولوية للمصلحة الأكبر على المصالح الشخصية، والعمل لمواجهة التحديات المعقدة للوطن بروح من التعاون والإحترام المتبادل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- عبدالله اوجالان،السلطة و الادارة و الدولة – نظرية و اصطلاحا، صحيفة الشرق الأوسط الديمقراطية،السلطة و الادارة و الدولة – نظرية و اصطلاحا،
20/08/2020، الموقع الالكتروني:
2-عبدالله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الثالث “سوسيولوجيا الحرية”، ص185، والمجلد الثاني “المدنية الرأسمالية”، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، ص 193
3-صهيب الجويفل، ١٤ أغسطس ٢٠٢٣:إقرأ المزيد على موضوع.كوم: https://mawdoo3.com/%D8%A3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%A9
4- د. بطرس غالي ، د. محمود خيري عيسى ، المدخل في علم السياسة ، (القاهرة ، مكتبة الانجلو المصرية ، ب ت ) ص262 . الموقع الالكتروني: https://almerja.com/reading.php?idm=130555
5-السلطة والمسؤولية في الإدارة، الموقع الالكتروني:
6-محمد صالح البدراني،الدولة والسلطة والنظام، عربي 21، الموقع الالكتروني:
7-رمضان احمد بريمة،إدارة الدولة الفاشلة في غياب المواطن الحاضر، الموقع الالكتروني: https://www.aljazeera.net/blogs/2018/1/19/%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B4%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D9%8A%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7%D9%86
8- د. سامان شالى، كيف تدار إدارة الدولة والسياسة، 2023-08-01، https://pukmedia.com/AR/Details/179033
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ