في بيئة سياسية متفجرة كالبركان، تغدو الأفكار ومحاولات الفهم أحد أوجه التسريب المخففة للضغط. فترسانة الأفكار ذات الوجه البنائي المؤسس، تغدو أداة بناء في مخاضات الاضطرابات والفوضى العارمة المستحكمة. أفكار تلامس بنى التعقيد الآني وتحاول حلحلة مأزومية اللحظة بالعودة للجذور والبحث في الأصول الفكرية والبنى الذهنية عن أصل الأزمة. ففي لحظات الضغط الهائل، نحتاج دومًا للتعبير الأصيل عن الروح الجماعية المتخلية عن ارتباطاتها الفردية لصالح النحنوية الجماعية. أسست السلطة في جانب منها في فضاءات الشرق على بنى معرفية غربية، لذا لم تتخل مصالحيا ولا نخبويا عن جذرها المؤسس، كما أن السلطة التي ادعت أنها جماهيرية، كانت في أنساقها الداخلية، سلطة احتلال داخلي، فما حدث في موجات التحرر الوطني التي اجتاحت دول المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين، كان استبدال السيطرة الغربية المباشرة، بسيطرة وطنية مؤَسسة على النسق المفاهيمي الغربي في التحكم والسيطرة والضبط والنظرة الفوقية لجماهيرها وكتلتها الشعبوية الخام.. أي أنها كانت حرب على المجموع لا حرب من أجل المجموع.. سلطة أعادت تأسيس ذاتها بعد التحرر على مقاسات أوليجاركية عسكرية رأسمالية.
وإذا أردنا تفكيك العلة والبحث عن خيط أريان، فنحن لابد عائدين إلى البنية التحتية لعملية التحديث التي استهلكت مساحات ضخمة من التفكير خلال العقود الفائتة في دوائر البحث الأكاديمي والفضاءات الثقافية بعامة. ودارت هو السؤال الرئيسي، هل كانت الحداثة هي السبيل الوحيد لإنجاز عملية الانتقال الحضاري، هل كانت القيم الغربية وحدها هي مدونة الأساس في فهم العالم الحداثي اليوم؟ وكلها أسئلة تتصل بالقلب الصلب لنقض الفكرة القائلة، بأننا في منطقة الشرق الأوسط، كنا في عتبات العصر الحديث جياعا لفعل الحداثة. لذا، فهذه الأفكار كلها تذهب باتجاه البديل. خلال العقود القليلة الفائتة، كان ثمة محاولات جادة لتأسيس مصطلحي ومفاهيمي جديد يندرج تحت مساق ضخم يسمى “حداثة بديلة”، حاولت التأسيس لحقول قوة معرفية جديدة في فضاءات ثقافية مغايرة للمجال السياسي والنفوذ الأيديولوجي للرأسمالية العالمية. أتى هذا في اللحظة التي سادت فيه الاعتقاد بأن الحداثة وملحقاتها وتبعاتها الجيوسياسية قد حققت انتصارا كاسحا على مستوى النموذج والتطبيق، وتعزز هذا خاصة بعد انهيار النموذج المقابل؛ أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما كان يمثله من ترسانة فكرية مغايرة للنموذج الرأسمالي الحداثي الغربي. إذن تطور أدب كبير حول المفاهيم ذات الصلة “الحداثة المتعددة” و “الحداثة البديلة” أو “الحداثة على نطاق واسع” و “العولمة المتعددة” ومبادئ السيولة والتوطين والتهجين التي تعنيها. من ناحية أخرى، يمثل مفهوم الحداثة المتعددة، دحض للنظريات المنتصرة للحداثة في الخمسينيات، والتي افترضت أن جميع المجتمعات الصناعية ستتقارب يومًا ما. افترضت جميع النظريات الكلاسيكية للحداثة برنامجًا ثقافيًا للحداثة، بوصفها نشأت في أوروبا، كان من المتوقع أن تصبح عالمية بمرور الوقت. ومع ذلك، أظهر تقدم الحداثة أن “الحداثة” و “الغربنة” لم تكن متطابقة ([1]).
يعد التركيز على التنوع والاختلاف الثقافي في إطار الحداثة المتعددة/ البديلة، تحديًا مباشرًا للنزعة المركزية الغربية في فهم الحداثة. هذا لا يعني بالضرورة رفض هذا الفهم بالكامل، ولكن إدراك حدوده. إن الاعتراف بوجود حداثات متعددة يعني الاعتراف بأن الحداثة ليست مجرد عملية غربية، بل هي عملية عالمية تتشكل وتتطور من خلال التفاعلات بين مختلف الثقافات والتقاليد. إن الحداثة المتعددة/ البديلة، ليست مجرد مفهوم نظري، بل لها آثار عملية مهمة على كيفية فهمنا للعالم المعاصر. على سبيل المثال، يمكن أن تساعدنا على فهم التنوع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم غير الغربي. كما يمكن أن يساعدنا على تجنب الوقوع في فخ التفكير في العالم من منظورنا الغربي. إن فكرة الحداثة المتعددة هي فكرة قوية يمكن أن تساعدنا على فهم العالم المعاصر بشكل أفضل. إنها تحدٍ مباشر للنزعة المركزية الغربية في فهم الحداثة، وتدعونا إلى الاعتراف بالتنوع والاختلاف الثقافي في العالم ([2]).
للمعرفة إذن قدرة على إنتاج بدائل للصيرورة التاريخية، وممكنات للفكاك من الجبر التاريخي. ولهذا، ليس من سبيل المبالغة العبور للتساؤل، عن قدرة العلوم الاجتماعية والمعرفة إجمالا، على وأد العنف وإذابة اللامعقول في السياسة الدولية. بل والذهاب في التساؤل بعيدا، هل للمعرفة قدرة ما على إنتاج سياقات أكثر معقولية لا تذهب بنا بالضرورة لدواء الحرب المر، هل بإمكان المعرفة مقاومة الايدولوجيا المرة والتنميط الدموي؟ ما يطرح هنا من مساق ومسار فكري بديل للحداثة بإطارها الغربي. في هذا السياق، قدمت المدونة الفكرية التي صاغها عبد الله أوجلان، في سفره الضخم المسمى مانفيستو الحضارة والديمقراطية، أوجه من القراءة البديلة لممكنات الانتقال الحداثي دون التزام بالأقنوم الغربي الفكري. وتجلى إسهامه الأكبر في المثلت المصطلحي والمفاهيمي، الحضارة الديمقراطية/ الحداثة البديلة / العصرانية الديمقراطية، وكلها أوجه مصطلحية لفكرة وأحدة، تذهب وراء النموذج الواقر في الأذهان عن طرق الارتقاء الحضاري في العصر الحديث بداية من عصور النهضة الأوروبية وصولا للقرن التاسع عشر والعشرين؛ قرنا الحداثة في أوروبا وآثارها الوحشية على بقية العالم غير الأوروبي.
إن نحت طريق بديل للتحديث بالنكهة الغربية، دليل على حيوية فكرية وإبداع جماعي خلاق قادر على تجاوز إرث التنميط السلطوي والنخبوي. فأفجَعُ كارثةِ يمكن أن تَحلُّ بمجتمعٍ ما، هي افتقارُه للقدرةِ على الإبداعِ الفكريِّ والقيامِ بالممارسةِ العمليةِ فيما يتعلقُ بشؤونِه. وقوى الهرميةِ والمدنيةِ التي تَعلَمُ ذلك جيداً قبل زمنٍ بعيد، قد أَعطَت الأولويةَ لحاكمياتِها الذهنيةِ التي نستطيعُ تسميتَها بالهيمنةِ الأيديولوجية ([3]). ويغدو بناء المعرفة انطلاقًا من حداثات بديلة / أو الحضارة الديمقراطية، فرصةٌ عظيمةٌ ورائعةٌ لإنتاجِ العلم والمعرفة. فدوما تتعاظم الحاجةَ الماسةَ إلى علمٍ جديدٍ، في ظل أتّونِ الأزمة والفوضى العارمة، والتي لا يمكن تلبيتها إلا بسيادةِ براديغما المجتمع الديمقراطي فقط. ونظراً لاستحالةِ ظهورِ الحلول العملية دون حَلحَلةِ وتفكيكِ القضايا الأبستمولوجية، فإنّ تحطيمَ طوقِ براديغما الدولةِ القومية، والتحلي ببراديغما العصرانيةِ الديمقراطية سوف يَصِلُ بنا إلى القدرةِ على إيجادِ الحل اللازم والمرتقب ([4]). وما سنحاوله هنا، هو العمل على أفكار بإمكانها تجاوزِ الحداثة الرأسمالية، عبر البحث عن التأسيس المعرفي لمفاهيم الحداثة البديلة/العصرانية الديمقراطية. وهذا ما يتطلب انتقادَ الأساليب ونُظُمِ المعرفة (طُرُقِ الحقيقة) المؤدية إلى الحداثة الرسمية القائمة، بقدرِ تسليطِ الضوء على أساليبِ ونظمِ المعرفة لِما وراء الحداثة، والمؤديةِ إلى فتحِ آفاقٍ واسعة ([5]).
هنا سنلجأ لبناء سردية الحداثة، وفق مالكيها الأصلاء، أو لما أسماه الكاتب الفرنسي جان دانيال؛ “غدا غد الأمة”، أي العودة بالفعل السياسي لمبدأه ونبعه الأول؛ الأمة قبل أن يتم تدجينها أو أدجلتها أو إدخالها في الزمرة المصالحية لما أضحى عالمًا أول. سلنجأ لهذا كله في هدي مصباح رؤية فكري يمكن تسميته كما سنرى حالا بالحضارة / العصرانية الديمقراطية، فكيف هذا؟
تفكيك المفهوم.. الميلاد والبداية
يمكن قراءة المفهوم بوصفه نقيض لنسق معرفي جملته الحداثة والمدنية الغربية كبنى فوقية اخترقت المجتمع بغية إحكام السيطرة عليه وتحزيمه وفق رؤي جماعات أوليجركية معرفية وسياسية. كان دومًا ثمة بديلٍ للحداثةِ المهيمنة، وأنّ هذا البديلَ قد استمرَّ بوجودِه رغمَ كلِّ محاولاتِ القمع والمواربة، وأنه ثابر على النشوءِ بشتى نطاقاته وأشكاله كطرفٍ مقابلٍ في الثنائية الجدلية. قد تَكُونُ تسميةُ “الحضارةِ الديمقراطية” ناقصة (الحضارة مرادفةٌ لكلمةِ العصر والمعاصَرة، وتعني الحداثة أيضاً في التركية الأصلية). وقد تُوَجَّهُ لها العديدُ من الانتقادات. لكن، ولدى أخذ ماهيةَ المجتمعِ بعينِ الاعتبار بصفتِه مجتمعاً تاريخياً، وكذلك لدى التَمَعُّن في الحركات التي يَكاد يَطفَح بها التاريخ، والتي تخصُّ شتى أنواعِ التجمعاتِ والمجموعات، بدءاً من الكلان إلى العشائر والقبائل والأقوام والجماعات الدينية وغيرها؛ يغدو ثمة إدراك أن الحضارةِ ذات سياقٍ ثُنائيّ، وأنها ليست أَحَدِيَّةً ضمن مسارِها الدياليكتيكي غير المُفني للمجتمع التاريخي.ما تَبَقَّى من الأمرِ هو العملُ على ذكرِ ما هو مذكورٌ في هذه المجلَّدات، وعَرضُه كتجربة؛ وإنْ كان ذلك في ظلِّ ظروفٍ قاسيةٍ وبدرجةٍ متدنيةٍ من الإمكاناتِ والتجهيزاتِ اللازمة. الخاصيةُ التي احترتُ بشأنها وامتَعَضتُ منها، هي عدمُ محاولةِ علماءِ علمِ الاجتماعِ الأوروبيِّ المركز لتنظيمِ ومَنهَجَةِ هذه الخاصيةِ الثنائيةِ للحضارة على شكلِ حداثتَين مختلفتَين، بالرغم من كلِّ تجهيزاتهم وأدواتهم المذهلة ” ([6]).
وبالعودة للمشروع الذي كانت الحضارة الديمقراطية بديلًا جيومعرفيًا له، يمكن القول أن الحداثة جذر الأساس في التجربة الغربية تأسست على ثلاثة عناصر أساسية، وفق أنطوني جيدنر، متقاطعة مع الحضارة / العصرانية الدمقراطية. تمثلت هذه العناصر التكوينية البنائية في : أولًا، صلة الربط بين الحداثة والرأسمالية ومحاولة تفكيكها على أرضية الحضارة/ العصرانية الديمقراطية ([7]). ثم ثانيًا، العودة لأنسنة الحداثة ونزعها بعيدًا عن مرحلة التصنيع الكبير. وثالثًا، وفي النهاية تفكيك صلة الربط مع الدولة القومية، وطرح الكونفدرالية الديمقراطية كوجه بديل من وجوه الحضارة | العصرانية الديمقراطية.
إذن يمكن القول بداية، واستكمالًا لمنطقية النسق البديل للتشكيل الحضاري المعرفي الغربي بالنكهة الاستحواذية. إن ما يمكن تسميته بالعصرانيةَ الديمقراطية، كانت موجودة دومًا مقترنة بالمدنيةُ الرسمية. إنها موجودةٌ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ نَشَأَت فيهما. ولهذا يغدو الأهم، هو إيلاءُ القيمةِ اللائقة التي يستحقها هذا الشكلُ من الحضارةِ (أي، الحضارة الديمقراطية غير الرسمية) المتواجدةِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ سادت فيه المدنيةُ الرسمية. وكذلك صياغةُ الشروحِ الجاذبةِ للأنظار بأبعادها الرئيسية. إضافةً إلى طرحِ التعاريفِ والأوصافِ المعنية بأشكالِها الذهنيةِ الأساسية، وبماهيةِ مجتمعها ببُناهِ وبنمطِ حياتِه ([8]). إنها ببساطة صرخة الشعوب خارج البنية الغربية، عوالم وأكوان متعددة متوازية من الحضارة والثقافة اللا بيضاء، إنها قراءة لا مركزية للتاريخ، انجذاب واعي لمقولة تدعي بأنه، لا يوجد ثقل حضاري بعينه استقطب وحده أضواء “الحضارة الأرقى”. فهذا العددُ الذي لا حَصرَ له من العشائر والقبائلِ والجماعات الدينية، أَلَن يَكُونَ لها ردودُ فِعلِها وأفكارُها وبُناها الاجتماعيةُ المُناهِضة؛ وهي التي ضُيِّقَ عليها الخناقُ واستُعبِدَت لدى إنشاءِ هذا الكَمِّ من المدنيات بدءاً من سومر إلى مصر وهارابا، ومن الصين والهند إلى روما؛ وهي التي تَمَرَّدَت وزَحَفَت كالسيل الجارفِ بدءاً من الصحراء الكبرى إلى بوادي آسيا الوسطى، ومن سيبيريا إلى الصحراءِ العربية؟ أَيُمكِنُ عدم التفكيرِ بذلك؟ أَلَن يَكُونَ للتجمعاتِ القروية الزراعية أيُّ صوتٍ أو ردةُ فعلٍ أو بُنيةٍ مضادة، وهي التي كانت تُغَذِّي كلَّ المدنياتِ على مرِّ عشرةِ آلاف عام؟ أَوَ هذا أمرٌ يَحتَمِلُه العقلُ والضمير؟ وعندما تَعَرَّضَت المدنُ التي أنشأوها مدى آلافِ السنينِ لشتى أنواعِ القمعِ والاستغلال على يَدِ حُكّامِها، هل ستَصمتُ الشعوبُ الكادحةُ أو ستَقِفُ مكتوفةَ الأيدي شاكِرةً قَدَرَها؟ أَوَ هذا ممكن؟ ([9]). إذن، فقد دعت الحاجة لوجود إطار وبنية مفاهيمية تحتمل المغايرة، تعتبر في ذاتها بنى مضادة أيضًا، لها موقف أخلاقي وسياسي صلب؛ يستند على “حالة السلوك الأساسي للطبيعة الاجتماعية” بتعبير أوجلان حصرًا.
ولهذا، ورغمَ كونِ “المجتمعِ الديمقراطيِّ” و”العصرانيةِ الديمقراطيةِ” مصطلحَين سياسيَّين، إلا إنّهما أَقربُ إلى الصحيحِ والجوهر، بحُكمِ أنّ الساحاتِ والشرائحَ التي يَتَضَمَّنانها تُشَكِّلُ الكتلةَ الرئيسيةَ للمجتمع، فمصطلحا “الحداثةِ الأَحَدِّية” و”الحداثةِ الممهورةِ بطابعِ الرأسمالية” مُبهَمان جداً ومشحونان بنسبةٍ عليا من الأخطاء ([10]). إن الامتياز الأهم الذي توفره المظله الضخمة لمصطلح الحضارة الديمقراطية أو العصرانية الديمقراطية، هو الانعتاق من أسر القالب الواحد، وبنية الجبر القادمة من أعلى سياسيا ومجتمعيا لتغلف وتخترق كامل الفسيفساء الاجتماعية. ذلك أنّ الطبيعةَ الاجتماعيةَ معقدة، ولا تدلُّ على شيءٍ واحدٍ أو لونٍ واحدٍ خالصٍ في أيِّ زمنٍ كان. هذا ويجبُ ألاّ ننسى أنّ التناقضَ يقتضي الاختلاف. والاختلاف هو معنى الحياة. فاللحظةُ التي يتوقف فيها التناقض، وبالتالي الاختلاف، هي اللحظةُ التي تنتهي فيها الحياة. والبحثُ الدائمُ عن التماثُل يعني إنكارَ الحياة، هذا إذا لَم يَكُن يَهدِفُ إلى سحقِ الأطرافِ المضادة. مِن هنا، فمساعي الفاشيةِ والحداثةِ الرأسمالية في القضاءِ على جميعِ الاختلافاتِ الاجتماعية، وسعيُهما لاختزالِها في لونٍ واحدٍ فيما خلا الموضة، هو مثالٌ آخر يبرهنُ مدى تَضادِّهما مع الحياة ([11]).
أما المرحلة الثانية في تفكيك الحداثة وتطورها من ناحية، والعودة بها إلى مضمار أكثر إنسانية من ناحية أخرى. فتأتي مع مرحلة التصنيع الكبير كخطوة نحو التحول الدرامتيكي الذي شهدته الآلة الغربية نحو ما هي عليه الآن، من سيطرة النموذج المهمين سياسيًا علي بقية الطيف الحضاري والاقتصادي الإنساني بالكامل. وأي محاولة للمقاومة لابد أن تتوسطها عملية تفكيك مرحلة التصنيع الكبير. وباعتبارِ الصناعويةِ خاصيةً تنفردُ بها الحداثة، فإنها تُشَكِّلُ التهديدَ الأكبر المنبثقَ من داخلِ المجتمعِ والمنتصبَ أمامَه على حدٍّ سواء. فالصناعويةُ عاملٌ أوليٌّ في جنوحِ السلطاتِ إلى التَكاثُرِ كالسيل الجارف، لتُدَمِّرَ مجتمعَ الزراعةِ والقرية وتُضَخِّمَ المدينةَ كالسرطان، ولتُبقيَ على المجتمع بأكمله تحت رقابةٍ ورَصدٍ مُحكَمَين؛ بحيث لَم تُبقِ مساماً في المجتمعِ إلا وتغلغلَت فيه. تؤدي الدولةُ القوميةُ دوراً رئيسياً في كافةِ هذه المراحلِ كقالبٍ أساسيٍّ للهيمنة السلطوية والأيديولوجية للصناعوية. وواضحٌ بما لا غُبارَ عليه مدى الدورِ الجادِّ الذي يؤديه تطابُقُ وتكافُؤُ رأسِ المالِ مع تضادّها مع المجتمع؛ وذلك من خلالِ نزعتِه الدائمةِ إلى التكديس والتضخمِ بناءً على “قانونِ الربحِ الأعظم”. ففَرضُ قانونِ التراكمِ باستمرار على طبيعةِ المجتمعِ يعني إبادةً مجتمعيةً بالتحديد. والإباداتُ المادية والثقافية هي أُولى الخطواتِ في هذا السياق. وضمن هذا الإطارِ بالتحديد تَظهَر مكانةُ العصرانية الديمقراطية في الوجودِ الاجتماعي بكلِّ جلائها وضرورتها المُلِحّة. فإمّا أنْ يُواظِبَ المجتمعُ على اندفاعِه نحو يومِ القيامة، أو أنْ يقولَ “كفى” بالتفافِه حولَ العصرانية الديمقراطية، وبانخراطِه في حملةِ الإعلاءِ من شأنِها وإعادةِ هيكلتِها. أما الانجرافُ نحو الوسط، فإنّ تكاليفَه تتضخم كالسيل الجارف مع مرورِ كلِّ يوم ([12]).
حقيقة، يمكن التعامل مع السياسةُ الديمقراطيةُ بمعناها الضيقِ ليست فقط (بوصفها) وسيلةً لتفعيلِ المجتمعِ السياسي. بل وهي عمليةُ كشفِ النقابِ عن المجتمعِ التاريخيِّ بجميعِ جوانبه. وفيما يخصُّ الجهودَ الراميةَ إلى شرحِ الحداثةِ الرأسماليةِ والصناعويةِ انطلاقاً من منظورِ السياسةِ الديمقراطية، فعندما تلتحمُ تلك الجهودُ مع الحقيقة، فحينها فقط تظهرُ القوةُ العظمى للمجتمعِ الأخلاقي والسياسي فيما يتعلقُ باتخاذِ القرارِ وسلوكِ الممارسةِ العملية. وحينها يُمكن لسؤالِ “أيّةُ عصرانيةٍ وحياةٍ عصرية؟” أنْ يَجِدَ جوابَه اللائق به. وتجربةُ الهيمنةِ الرأسماليةِ السائدة طيلةَ القرونِ الأربعة الأخيرةِ خيرُ برهانٍ على عدمِ وجودِ أيِّ أسلوبٍ آخر قادرٍ على إيجادِ الأجوبةِ الكافية والمؤديةِ إلى النجاح. بينما العصرانيةُ الديمقراطية بمُثُلِها وممارساتها العمليةِ هي الجوابُ الكفءُ لهذه التجربةِ التاريخية ([13]).
أما إذا انتقلنا للوجه الثالث الذي حاولت تفكيكه الحضارة | العصرانية الديمقراطية، فهو المتعلق بالتكثيف الهندسي لأفكار الحداثة الرأسمالية ممثلا في الدولة القومية. ذلك أن الدولةَ القوميةَ بوصفِها المتقطعةَ الثالثةَ الأهمَّ في الحداثة، تُعَدُّ الصياغةَ الأداتيةَ الأساسية للرأسماليةِ في غزوِ المجتمعِ واستعمارِه. فبينما تَعرضُ الليبراليةُ نفسَها على أنها تكامُلُ الأهداف، فإنّ الدولةَ القوميةَ تَجِدُ معناها كصياغةٍ أساسيةٍ للسلطة. إذ إنّ ما واجَهَه المجتمعُ طيلةَ سياقِه التاريخيِّ مِن غزوٍ واستعمارٍ هو الأشملُ نطاقاً في الداخلِ والخارج، ما كان سيتحققُ لولا قالب الدولةِ القومية. ومن المهم قبلَ كلِّ شيء أنْ نتَصَوَّرَ الدولةَ القومية (دولة الأمة) كأعلى سقفٍ لأشكالِ السلطة. ذلك أنه ما مِن شكلٍ للدولة يشتملُ على السلطة بقدرِ ما هي الدولةُ القومية (قد يَكُون من الأصح القول “أمة الدولة”). يَعودُ السببُ الأساسيُّ في ذلك إلى ارتباطِ الشريحةِ العليا من الطبقة الوسطى بالتحولِ الاحتكاري على نحوٍ متزايد. ينبغي ألاّ يَغيبَ عن البالِ بتاتاً أنّ الدولةَ القوميةَ هي أعلى أشكالِ الاحتكارِ الشامل. فالاحتكاراتُ التجاريةُ والصناعيةُ والماليةُ تُوَطِّدُ أقصى درجاتِ التحالفِ مع احتكارِ السلطة خلالَ طورِ الدولةِ القومية. ما يَسري هنا هو الاتحادُ الأعلى لإجماليِّ الاحتكارات. هذا وينبغي تَصوُّر الاحتكارِ الأيديولوجي أيضاً كجزءٍ لا يتجزأ من احتكارِ السلطة ضمن هذا المضمار ([14]).
وخطورة الدولة القومية الحقيقية، قد تكمن في كونها لا تقتصرُ على بناءِ ذاتها على خلفيةِ سلبِ الثقافةِ الاجتماعية المادية وغزوِها واستعمارها. بل وتؤدي دوراً مصيرياً في صهرِ الثقافةِ المعنويةِ أيضاً. إذ غالباً ما تُضفي الطابعَ الرسميَّ على المعاييرِ الثقافيةِ لأثنيةٍ أو جماعةٍ دينيةٍ حاكمة، وذلك باسمِ الثقافة الوطنية. ثم تَشنُّ الحربَ ضد جميعِ الكيانات الثقافية المتبقية. وبذريعةِ أنها “تضرُّ بالوحدة الوطنية”، فهي تُهَيِّئُ النهايةَ المحتومةَ لجميعِ اللغات والثقافات الموجودة في كافةِ الأديانِ والأثنيات والأقوام والأمم واللغاتِ والثقافاتِ التي لا تَبرح محافظةً على وجودها منذ آلاف السنين. وهي تَفعلُ ذلك باللجوءِ إلى العنفِ أو الإغراءِ الماديّ. وهكذا باتت اللغات، الأديان، المذاهب، العشائر والقبائل الأثنية، والأقوام والأمم ضحيةَ هذه السياسة؛ أو بالأحرى ضحيةَ هذه الإبادة بما لا ند له في أيةِ مرحلةٍ من التاريخ. بل إنّ الإباداتِ الماديةَ (الجسدية) مقابل الإباداتِ المعنويةِ ليست حتى كحجمِ الأُذُن في الجَمَل. بالتالي، تتمُّ التضحيةُ بالقيمِ اللغويةِ والثقافيةِ وبمجموعاتِها المُنسَلّةِ إلى يومنا منذ آلاف السنين، تحت ذريعةِ طيشِ بناءِ “الوحدة الوطنية”، وكأنها ممارسةٌ مقدسة ([15]).
ولهذا في المقابل تمتلك الحضارة/ العصرانية الدمقراطية بنيتها الفكرية الصلبة المواجهة لعسف الدولة القومية. إذ تَرُدُّ العصرانيةُ الديمقراطيةُ على التنميطِ وعلى مجتمعِ الرعيةِ والرعاع، الذي تسعى الدولةُ القوميةُ العصريةُ إلى تطبيقِه في مسارها الذي ترتأيه وفق الأسلوبِ الكونيِّ والمتقدمِ على خطٍّ مستقيمٍ قطعيّ (الأسلوب المنغلق على الاحتمالات والبدائل)؛ تَرُدُّ على ذلك بأساليب تَجعَلُ المجتمعَ الديمقراطيَّ التعدديَّ المنفتحَ على البدائلِ والاحتمالاتِ أمراً مرئياً. وتُطَوِّرُ بديلَها المنفتحَ على الكيانات السياسية المختلفة، والمنغلقَ على التحوُّلِ الاحتكاري، وذا التعدديةِ الثقافية، والمتميزَ بالصفاتِ الأيكولوجيةِ والفامينية، وببنيته الاقتصادية التي تلبي الاحتياجات المجتمعية الأوليةِ وتعتمد على التوفير الجمعي. الكونفدراليةُ الديمقراطية هي البديلُ السياسيُّ المقابل لدولةِ الحداثةِ الرأسماليةِ القومية ([16]).
وبالإمكان إيجازُ خصائصِ الكونفدراليةِ الديمقراطيةِ على النحوِ التالي: — الانفتاح على الكيانات السياسية المختلفة ذات المستويات المتعددة. الاستناد إلى المجتمع الأخلاقي والسياسي، بعيدًا عن المجتمع الرأسمالي الاشتراكي الاقطاعي الصناعي الاستهلاكي وغيرها. إذ تعتبر كلها ضمن الاحتكارات الرأسمالية.. كما تعتمد الكونفيدرالية الديمقراطية على السياسة الديمقراطية، فمقابل مفهوم الدولة القومية في الإدارة والحكم الصارم المركزي البيروقراطي ذي المسار المستقيم، تُشَكِّلُ جميعُ المجموعاتِ الاجتماعية والهويات الثقافيةِ الإدارةَ الذاتيةَ للمجتمعِ من خلالِ الكيانات السياسيةِ المُعَبِّرَةِ عنها. ويتم تسيير الشؤون والأعمال على مختلفِ المستوياتِ عن طريقِ إداريين قائمين على وظائفهم بالانتخاب، لا بالتعيين. ترتكِزُ الكونفدراليةُ الديمقراطية إلى الدفاع الذاتي. فوحداتُ الدفاع الذاتي قوةٌ أساسية، ليس بوصفها احتكاراً عسكرياً، بل بخضوعها لمراقبةِ الأجهزةِ الديمقراطية المُشَدَّدة بما يُلَبّي احتياجات المجتمع الأمنية الداخلية والخارجية. وتتجسدُ وظيفتُها في تفعيلِ إرادةِ السياسة الديمقراطية للمجتمع الأخلاقي والسياسي باعتباره بنيةَ القرارِ الحرِّ المعتمِدِ على “المساواة ضمن الاختلاف”. إذ لا مكانَ في الكونفدراليةِ الديمقراطيةِ للهيمنةِ عموماً وللهيمنةِ الأيديولوجيةِ خصوصاً. فمبدأُ الهيمنةِ يَسري في المدنيات الكلاسيكية. بينما في الحضاراتِ والعصرانيةِ الديمقراطية لا يُنظَرُ بعينِ التسامحِ إلى القوى المهيمنةِ وأيديولوجياتِها. ولدى تَخَطّي حدودِ التعبيرِ المغاير والإدارةِ الديمقراطية، يُشَلُّ تأثيرُ ذلك من خلالِ الإدارةِ الذاتية وحريةِ التعبير ([17]).
خلاصةً هنا، أن الفوارقُ ونقاطُ التضادِّ القائمةُ بين الحداثةِ الرأسمالية والعصرانيةِ الديمقراطية، والتي يمكننا المقارنةُ بينها بمنوالٍ أوسع بكثير؛ ليست مجرد ادِّعاءٍ مثاليٍّ وحسب. فهما عالَمان كبيران معاشان في الواقع الملموس. هذان العالَمان اللذان تَحارَبا أحياناً بلا هوادة كقُطبَين دياليكتيكيَّين متضادَّين، واللذان لَم تَغبْ حالاتُ السلامِ أيضاً بينهما بين الفينة والأخرى على مرِّ التاريخ؛ إنما هما في راهننا أيضاً في حالةِ صراعٍ أحياناً وسِلمٍ أحياناً أخرى ضمن إطارِ تجاذباتهما وتناقضاتهما. لا ريب أنّ النتيجةَ النهائيةَ سيُحَدِّدُها مَن يَنفُذُ مِن الأزمة البنيوية الممنهجة بتحقيق الانطلاقة السليمة والحسنة والجميلة فكرياً وسياسياً وأخلاقياً ([18]). إذن لماذا كان كل هذا التفنيد لبنية لحضارة الغربية في العصر الحديث ارتكازًا على المنظور النقدي للحضارة/ العصرانية الديمقراطية.
يمكن وصف المصطلح وبناه النظرية والعملية، بأنه بديل معرفي لواقع سياسي غدا ثقيلا، فالحضارةُ أو العصرانيةُ الديمقراطيةُ تُصبحُ مع الزمنِ بديلاً كسبيلٍ للنفاذ، نظراً لإخراجِها المدنيةَ المتناقضةَ والسرطانيةَ السائدةَ من طابعِها التسلطيِّ والاستعماريّ. بالتالي، وعوضاً عن تقييمِ انهيارِ المدنيةِ القديمةِ على أنه انهيارٌ للبشريةِ قاطبة، فإنّ الصحيحَ هو النظرُ إلى ذلك على أنه تصاعُدٌ للحضارةِ الديمقراطيةِ كي تأخذ المنزلةَ الرئيسية. ومن الأهميةِ بمكانٍ الإدراكُ في هذه الحالةِ بأنّ الثقافاتِ الاجتماعيةَ أكثرُ رسوخاً وسيرورة، وأنها تملكُ القدرةَ على إحداثِ التبايُنِ والتطورِ في المدنيات وإطراءِ التحولاتِ الجذريةِ عليها. من هنا، فدعكَ من تقييمِ انهيارِ المدنيةِ في مجتمعٍ ما كخسارةٍ جذرية، بل ينبغي الحكمُ عليه كتطورٍ إيجابيٍّ إلى آخرِ حدّ، فيما إذا فتحَ المجالَ أمام تطوُّرِ الثقافةِ بنيةً ومعنىً. ولَئِنْ مَهَّدَ الطريقَ أمام تحوُّلِ المدنية، فبالإمكان تفسيرُ هذا التطورِ على أنه تحررٌ جذريٌّ وبلوغٌ إلى الحياةِ الحرة ([19]).
وقد أفضى عدم وجود البديل الحداثي الديمقراطي، لحروب ومجازر عرقية وإبادات مجتمعية. هذا بالإضافةِ إلى الهُوَّات الشاسعة بين شرائحِ الأثرياء والفقراء، وما تعانيه الأخيرةُ من بطالةٍ وهجرةٍ وتفسخ واهتراء ثقافي وتَرَدٍّ أخلاقي، إلى جانبِ قوى الاحتكار المسعورةِ والأفراد المختَزَلين إلى مستوى العدم، والدمار البيئي الذي يُذَكِّرُ بيومِ المحشر. خمسةُ آلافِ عام ونظامُ المدنيةِ العالمي يَكادُ يَستَنفِدُ كلَّ الوسائل الثقافية المادية والمعنوية حصيلةَ تَهَجُّمِه عليها تحت ذريعةِ الحل. فمن خلالِ أداةِ الحرب، لَم يَبقَ هناك مكانٌ قابلٌ للغزوِ أو الاستيلاءِ عليه مجدداً. وإنْ قِيل: إنه موجود، فإنّ ضَرَرَ الغزوِ سيَفوقُ مَكاسِبَه بأضعافٍ مضاعَفة. فما تَبَقَّى من أداةِ المدينةِ في نهايةِ المطاف، ليس إلا مدن اللامدنِ التي تضخمَت كالسرطان، ومجتمعٌ قرويٌّ– زراعيٌّ محكومٌ بالفناء. وما تَبَقَّى من الأداة التي تُسمّى اقتصاداً هو في آخِرِ المطافِ احتكاراتٌ عالميةٌ لا يمكن كبحُ جِماحِها، حيث باتت مُتَوَرِّمةً بالأساليب غير الأخلاقية على الإطلاق من قَبِيلِ كسبِ المال بالمال. وبقيَ بالمقابل العاطلون عن العمل والبؤساء المقهورون، الذين يُناهِزُ تعدادُهم الملايين، ويتضاعفون مع مرورِ كل عام. أما ما تَبَقَّى من الأداة المعبودةِ على أنها الدولة، فهو احتكاراتُ السلطة والدولة القومية، والتي تتورَّم بنَخرِها المتواصلِ لمجتمعِها الداخلي، ولَم يَعُدْ لها أيّةُ وظيفةٍ تُذكَر. وبالمقابل بَقِيَ حشدُ المواطنين الرعية، الذين باتوا حمقى كلياً ولا علاقةَ لهم بتاتاً بالمجتمع الأخلاقي والسياسي. وما تَبَقَّى من أدواتٍ أيديولوجيةٍ تُعقَدُ عليها الآمال، هو الدينَوِيّةُ المفتَقِدَةُ لوظيفتِها الأخلاقية، والجنسوية التي تَنشُرُ السلطةَ في جميعِ مساماتِ المجتمع، والقومويةُ الغارقةُ في الشوفينية بما يُضاهي القَبَليةَ ألفَ مرة، والعلمويةُ التي لَم يَبقَ لها هدفٌ سوى إظهار سُبُلِ الربح الأعظم لاحتكاراتِ رأسِ المال والسلطة ([20]).
إن ما يحاوله أوجلان هو الالتفات على المر المعرفي، وذلك عبر تفكيكه سريعا، والانتقال لممكنات وبدائل أخرى. “لا أرمي إلى عرضِ وتطويرِ نظرياتِ المأزق والأزمة. كما كنتُ قد عَرَّفتُ الرأسمالية بأنها ليست مجرد نظامٍ يتسم بالأزمات الدورية وحسب. بل هي طَورُ الأزمةِ البنيوية الممنهجة لنظامِ المدنية المتأزم دورياً وعلى المدى الطويل. فكلُّ طَورٍ من أطوارِ الأزمة يحتوي على مستوياتٍ داخليةٍ أشدّ حِدّة. وما يُعاشُ حالياً هو طورٌ من هذا النوع. ولدى تبياني ذلك، فمن الضروري القول: لستُ من أولئك الاشتراكيين الذين كانوا في وقتٍ ما، وربما لا يزالون، يَعقِدون آمالَهم على الثورةِ النابعة من الأزمات. فالأزماتُ لا تُنتِجُ الثوراتِ فقط، بل والثوراتِ المضادةَ أيضاً. علماً أني أُقَيِّمُ هذا النمطَ من نظريات الأزمة–الثورة–الثورة المضادة على أنه جهودٌ بَلاغيةٌ ودعائيةٌ أكثر منه تعبيراً عن الواقع. بالتالي، فأنا لا أتشبثُ بالمقولة التي مفادها: إنّ الأجواءَ تَغدو منفتحةً بسرعة أمام العصرانية الديمقراطية. بل أَعتَبِرُ مراحلَ المأزقِ والأزمة ظواهرَ حقيقية. بينما لا أراها عواملَ مؤثرةً بمستوى القدرةِ على توليدِ الأحداث التاريخية. لقد كان النهجُ الكونيُّ القائلُ بالتقدمِ المطلق في وقتٍ ما حريصاً على استنباطِ أشكالِ المجتمعِ المتجهة من السيئ نحو الأفضل، واستخراجِها من نظريات الأزمة. لكنّ الواقعَ الملموسَ لَم يؤكدْ صحةَ هذه النظرية”.
وبالتالي وكما تمت الإشارة آنفًا، فإن الحضارة الديمقراطية/ العصرانية الديمقراطية، تمثل حل معرفي إلى جانب كونه حل سياسي غير اعتيادي، حل متجاوز لكل الأزمات البنيوية التي أوجدتها الحداثة بصيغتها الشرهة للهيمنة والحل الأحادي القادم على مبادئ الربح الأوليجاركي الرأسمالي. وهذا ما معناه ضرورة البحثِ في ميدانٍ آخر عن العوامل ذات القيمة المُحَدِّدة بحالاتها التاريخية والراهنة على السواء. والعصرانيةُ الديمقراطيةُ كانت على الأغلب خَياراً تمَّ بلوغُه حصيلةَ البحوثِ الناجمةِ عن تلك المساعي والجهودِ الحثيثة. وكذا الالتزم بالإرثِ الديمقراطي الإيجابي للتاريخِ. والإيمان بأنّ عَمَلَ اللحظةِ استناداً إلى التاريخ يتميز بقيمةٍ منهجيةٍ لا استغناء عنها ([21]). إن هذا التكرارُ المتواصل بشأنِ الأسلوب يهدف إلى التشديد على عدمِ تَصَوُّرِ الحضارة الديمقراطية كخيالِ “عصرٍ ذهبيٍّ” ماضٍ ولا “يوتوبيا” معنية بالمستقبل. بل هي تعبيرٌ أساسيٌّ عن معنى نمطِ الحياة المتحققِ في الفكر والممارسة كحاجةٍ يوميةٍ بل ولحظيةٍ ماسّة. فلا هي لَومٌ للذكريات القديمة، ولا هي سِلوانٌ والتهاءٌ بأحلامِ المستقبل. لا هي إبداعاتٌ لحظية، ولا هي حالةُ وجودِ حقائق أبدية–أزلية. قد يَكُونُ من الأنسب نعتُ حالةِ الوجود كذكاءِ الطبيعةِ الاجتماعيةِ المَرِن، وكوحدةٍ ضمن الاختلاف، بحيث تتسم بآفاقِ حريةٍ عليا كعصرانية ديمقراطية. لكن، وبحُكمِ أنّ العصرانيةَ تعني العصر، فعلينا ألاّ ننسى البتةَ أنها تكتسِبُ وجودَها كقطبٍ دياليكتيكيٍّ مضادٍّ لمدنياتِ العصورِ الكلاسيكية، وأنه علينا توحيدُها مع هذا التعريف بكل تأكيد. فكيفما يتم تَصوُّرُ الحداثوية كتسميةٍ خاصةٍ بالقرونِ الأربعةِ الأخيرةِ للمدنية الكلاسيكيةِ باعتبارها عصرَ هيمنةِ الرأسمالية، فإنه يجب تَصَوُّرُ العصرانية الديمقراطية أيضاً كتسميةٍ خاصةٍ بالقرونِ الأربعةِ الأخيرةِ للحضارة الديمقراطية. الخاصيةُ الأخرى المهمة هي أنّ العصرانيةَ الديمقراطية تحيا كقطبٍ مضادٍّ في كلِّ ساحةٍ وزمانٍ تتواجدُ فيهما شبكاتُ الحداثةِ الرأسمالية. أي أنها في حالةِ وجودٍ دائمٍ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ ضمن أحشاءِ الحداثةِ الرأسمالية، أكانت ناجحةً أم فاشلة، مشحونةً بالحرية أم بالعبودية، ضمن تَماثُلٍ أو تبايُن، بعيدةً عن المساواة أم قريبةً منها، ومكتسبةً المعانيَ الأيكولوجيةَ والفامينيةَ أم مفتقدةً إياها؛ وباقتضاب، سواءٌ أكانت قريبةً من ميزةِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي أم بعيدةً عنها ([22]).
إذن يمكن القول، بعد هذا التجوال في الباحات الخلفية للمفهوم والسياقات المنشئة له، والسياقات الداعية لوجوده ونموه ونطوره، أن عماد الحضارة/ العصرانية الديمقراطية؛ إتاحة حركة الفعل والإنشاء السياسي والاجتماعي لتكوينات أكثر اتساعًا، بما يعني حرية الفعل السياسي والحراك الاجتماعي. تُعَبِّرُ العصرانيةُ الديمقراطيةُ عن الذهنيةِ والبنيةِ اللتَين تُمَكِّنان من جعلِ الحياةِ أكثر حريةً ومساواةً وديمقراطيةً في ظل تلك الظروفِ من خلالِ اتِّباعِ شتى الأساليب. كما إنّ إنجازَ ثورةٍ تُعَدُّ بمثابةِ خَيارٍ وحيدٍ للتغيير الشرعي ضمن إطارِ العصرانية الديمقراطية، هو أمرٌ قَيِّمٌ بقدرِ إزاحةِ حجرٍ من وسطِ الطريق. مقابل ذلك، يتم التفكيرُ بالخَلاصِ الإلهيِّ والتصوُّفِ القَدَرِيِّ الذي تَفوحُ منه رائحةُ العبوديةِ ضمن الإطارِ نفسه، ولا يُنظَرُ إليهما بعينٍ أخلاقية. وعلى هُدى العِبَرِ التي نستَنبطُها من كفاحاتِ الحرية والمساواة والديمقراطية المُعاشةِ في القرونِ الأربعةِ الأخيرة، فمن المستطاعِ تعزيز العصرانية الديمقراطية، بل وحتى تحديثها بإعادة هيكلتِها من مكانٍ إلى آخر، في مرحلةِ الأزمةِ الممنهجة والبنيوية لهيمنةِ الرأسمالية المالية العالمية التي نَمر بها. بناءً عليه، فالتنوُّرُ والتعمقُ في الأبعاد الرئيسية للعصرانية الديمقراطية سوف يُنجِحُ مساعينا في هذا المنحى على نحوٍ أكبر ([23]).
ولهذا، وفي مقابل سمات الرأسمالية الغربية الثلاث، والتي حاولنا تفكيكها بمنظار الحضارة/ العصرانية الديمقراطية، ثمة أركان ثلاث شادها أوجلان للتأسيس المفاهيمي المصطلحي للعصرانية الديمقراطية: بالإمكان تناوُلُ العصرانية الديمقراطيةِ بمقاربةٍ شبيهةٍ بكيفيةِ تعاطينا للحداثةِ الرأسمالية وفق أبعادِها الرئيسيةِ الثلاثة. فمقابلَ مجتمعِ الإنتاجِ الرأسمالي ومجتمعِ الصناعةِ ومجتمعِ الدولة القومية، والتي يتم تَصَوُّرُها كمُتَقَطِّعاتٍ وماهياتٍ أساسيةٍ خاصةٍ بالحداثة الرأسمالية؛ تَبرُزُ في العصرانية الديمقراطيةِ أبعادُ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي والمجتمعِ الأيكولوجي–الصناعيِّ والمجتمع الديمقراطيِّ الكونفدرالي. وبالمستطاع الإكثار من تفاصيلِ الأبعادِ بالنسبة لكِلا النظامَين. إلا إنّ هذه الأبعادَ الثلاثيةَ قد تَفِي بالغرضِ وتُعطي المعنى اللازمَ من حيث تعريفهما بالخطوط العريضة.. بينما بُذِلَت المساعي لتقييمِ العصرانية الديمقراطية أيضاً ضمن سياقِ تَقَدُّمِها التاريخي، وقورِنَت مع المدنية والحداثة الكلاسيكيتَين، وعُمِلَ على إظهارِها بمَعِيّةِ عناصرها الرئيسية. لذا، فتقسيمُها إلى أبعادٍ أساسية، وتعريفُها عن كثبٍ أكثر سوف يُعَزِّزُ السردَ والمقاربةَ العملية منها ([24]).
المجتمع الأخلاقي والسياسي
يؤسس المجتمع تحت الفضاء الديمقراطي، وفق أبجديات الاختلاف، ويصفه أوجلان: “بأنه هو المجتمعُ الذي يَشهدُ اختلافاتِه فعلاً وبأوسعِ نطاق. فكلُّ المجموعاتِ الاجتماعيةِ يُمكنها العيشُ معاً على أساسِ الاختلافِ المتكونِ حول ثقافاتها وهوياتها الذاتية الخاصة بها، دون إرغامِها على قبولِ الثقافةِ أو المُواطَنةِ ذاتِ النمطِ الواحد. كما تستطيعُ المجموعاتُ الكشفَ عن طاقاتها الكامنة، وتحويلَها إلى حياةٍ فعالةٍ ونشيطة، بدءاً من اختلافِ الهوية إلى الاختلافاتِ السياسية. كما لا تعاني أيةُ مجموعةٍ من هاجسِ النمطية. حيث تُعتَبَرُ أحاديةُ اللون قُبحاً ورذيلةً ومَلَلاً وفقراً. بينما تحتوي تعدديةُ الألوان على الغِنى والسَّماحِ والجمال. وتُعتَبَرُ المساواةُ والحريةُ راسختَين أكثر في ظلِّ هذه الظروف. إذ إنّ المساواةَ والحريةَ لا تَكُونان ثمينتَين إلا استناداً إلى الاختلاف. ومن ثم، قد يُطرَحُ السؤالُ التالي: كيف يمكن لنظامٍ ما تَحَمُّلُ هذا الكَمِّ من الاختلاف؟ الجوابُ على ذلك هو أنّ الوحدةَ تَكمنُ في أساسِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي. فالقيمةُ الوحيدةُ التي لن يَتنازلَ عنها أيُّ فردٍ أو مجموعة، هي الإصرار على البقاءِ مجتمعاً أخلاقياً وسياسياً. فالمجتمعُ الأخلاقي والسياسي هو الشرطُ الوحيد الكافي لأجل الاختلافِ والمساواة والحريةِ في آن. فالمجتمعُ الديمقراطي يُثبِتُ جدارتَه تدريجياً كحالةٍ عصريةٍ لذاك المجتمع التاريخي” ([25]).
يَحيا المجتمعُ الأخلاقيُّ حالةً قصوى من الحصارِ والعطالةِ والضمور في ظلّ الحداثة الرأسمالية. ذلك أن الحداثةُ الرأسماليةُ هي آخِرُ مراحلِ المدنيةِ وأكثرُها تضييقاً على المجتمع السياسي وتعطيلاً لوظائفه. ينبغي استيعابُ هذا الأمر جيداً. فحسبَ تعبيرِ الليبراليةِ كهيمنةٍ أيديولوجية، يُعَدُّ النضالُ السياسيّ، بل وحتى السياسةُ الديمقراطية، متطوِّرَين إلى آخِرِ درجة في عهدها. هذه المزاعِمُ التي تتبدى صحيحةً لدى النظر السطحيِّ إليها، إنما تُعَبِّرُ عن النقيض مضموناً. ذلك أنّ عهدَ الحداثةِ الرأسماليةِ هو العهدُ الذي يعاني فيه المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسي من أقصى حالاتِ العطالة، نتيجةً لتصعيدِ النزعة الفردية والاحتكاريةِ إلى أعلى مستوى. فالدولةُ القوميةُ بصفتِها الحدَّ الأقصى للسلطة، إنما تعني المجتمعَ الذي جُرِّدَ من طابعِه السياسيِّ إلى أبعدِ حد. أي أنّ الدولةَ القوميةَ تُوَلِّدُ هكذا مجتمع. بل ولا يَبقى في الوسط شيءٌ اسمه مجتمع. وكأنّ المجتمعَ مصهورٌ في بوتقةِ الدولة القومية والشركات المُتَعَولِمَة. يَعتَبِرُ ميشيل فوكو الدفاعَ عن المجتمعِ في هذه النقطة أساساً للحرية. ولا يَقتَصِرُ في تقييمِ ضياعِ المجتمعِ (من قِبَلِ الفردية المُتَطَرِّفة والاحتكارات كحداثةٍ قائمةٍ بذاتِها) على أنه خُسرانٌ للحريةِ وحسب، بل وخُسرانٌ للإنسانِ أيضًا ([26]).
بهذا المعنى، فالعصرانيةُ الديمقراطيةُ هي المَخرَجُ الوحيدُ لنَيلِ الحرية بالتناسُبِ طردياً مع حمايةِ المجتمع. فالمجتمعُ الذي يدافِعُ عن ذاته بالسياسةِ الديمقراطية (تجاه النزعة الفردية والدولة القومية والاحتكارات)، يُصَيِّرُ ذاتَه مجتمعاً ديمقراطياً عصرياً من خلال تفعيلِ نسيجِه السياسي. بينما المجتمع الديمقراطي العصريُّ بدوره يُثبِتُ تَفَوُّقَه من خلالِ إحيائه الاختلافَ والتعددية الثقافية، وإنعاشِه المساواةَ تأسيساً على ذلك، بوصفه مجتمعَاً يُفَكِّرُ ويُناقِشُ جميعَ شؤونِه الاجتماعية، ويَتَّخِذُ قراراتِه بشأنها لإدراجِها حيزَ التنفيذ. وهكذا، فالعصرانيةُ الديمقراطية لا تَكتَفي بخوضِ الصراعِ الطبقيّ على أساسٍ سليمٍ وحسب. بل وهي في الوقتِ نفسِه لا تَخنقُ مجتمعَها بخلقِ سلطةٍ أو دولةٍ جديدة (الخطأُ المأساويُّ التاريخيُّ للاشتراكية المشيدة)، ولا تَقَعُ في هذه المَصيَدَةِ التاريخية. فهي مُدرِكةٌ أنها كلما تَحَوَّلَت إلى سلطةٍ أو دولة، فسيتنامى التحولُ الطبقيُّ بالمِثل، وبالتالي، سيَخسَرُ النضالُ الطبقيّ. من هنا، ينبغي الإشارةُ إلى هذا الإدراكِ كأحدِ أهمِّ المزايا الأساسيةِ للعصرانيةِ الديمقراطية ([27]).
وربما بالإمكان الوصول في النهاية إلى مزية المجتمع الديمقراطي، الذي يمكن نعته بأنه أعلى مراحل وصول الكتلة الجماعية لقدرتها الأعلى. إن المجتمعَ يكون ديمقراطيٌّ عصريٌّ حينما يُؤدي فيه المبدأُ الأخلاقيُّ والسياسيُّ دوراً أعظم، ويَعجَزُ فيه التمايزُ الطبقيُّ عن إنجازِ تطورٍ ملحوظ. بالتالي، فإما أنّ أجهزةَ السلطةِ والدولة تبقى عاجزةً عن فرضِ عنفِها، أو أنها تتحقق بالتأسيسِ على توافُقٍ مبتادَلٍ واعترافٍ متبادَل، فتَنتَعِشُ فيه الوحدةُ ضمن الاختلاف، وتُعاشُ فيه المساواةُ والحريةُ والشخصانيةُ (وليس النزعة الفردية) كخاصيةٍ مجتمعية. ذلك أنّ المزيدَ من المساواةِ والحريةِ والديمقراطيةِ هو ثمرةُ التغيُّرِ والتطوُّرِ الذي أفسَحَت مؤسسةُ السياسة الديمقراطية المجالَ أمامه بحُكمِ طبيعةِ هذا المجتمع ([28]).
بُعد المجتمعِ الأيكولوجي–الصناعيِّ
يَبلُغُ الاقتصادُ معناه الحقيقيَّ في العصرانية الديمقراطية، ويُعَبِّرُ عن البنيةِ الممنهجةِ القَيِّمة، التي تُبرِزُ قيمةَ الاستخدام (خاصية تلبيةِ الحاجاتِ الأهم) كحاجةٍ أوليةٍ للطابق الأرضي، وقيمةَ المقايضة (مُعَدَّلات تَبادُل السلع) كاقتصادٍ حقيقيٍّ للسوق. وهكذا يَخرجُ الاقتصادُ من كونه ساحةً تُعَوِّلُ عليها حساباتُ الربح. ويتم الجزم بماهيةِ الأساليب وكيفيةِ استخدامِ الحاجاتِ الأساسيةِ بأفضل الأشكال وأكثرِها عطاءً دون التمخض عن التمايز الطبقي، ودون إلحاقِ الضرر بالأيكولوجيا، ليَبلُغَ الاقتصادُ معناه الحقيقي من حيث كونه ساحةَ نشاطٍ اجتماعي. أي أنه يَكتَسِبُ معناه كشكل نشاطٍ أساسيٍّ يتنامى عليه المجتمعُ الأخلاقي والسياسي ويُطَوِّرُه على السواء ([29]).
لا تَكتَفي العصرانيةُ الديمقراطية بإنقاذِ الاقتصاد من هذه الميول المضادة فقط. فهي وبشكلِ حياتِها المتميزةِ بالشروطِ الأكثر رُقياً، تتسمُ بنظامٍ ممنهجٍ لا يَعترِفُ بالبطالةِ والفقر، ولا يَتركُ مجالاً للإنتاجِ الزائدِ أو الناقص. بل يُخَفِّضُ الفوارقَ بين البلدان والمناطق النامية والأخرى المتقدمة إلى حدودها الدنيا، ويُحَوِّلُ تناقضاتِ القريةِ–المدينة إلى علاقاتِ تكافلٍ متبادَل. ولا تبلغُ الاختلافاتُ الاجتماعية والاقتصادية أبعادَ الاستغلال الطبقيِّ ضمن منهجيتِها، ولا تتجذَّرُ التمايزاتُ الطبقية، ولا يتعاظَمُ الاستغلالُ الاقتصادي أو التناقضاتُ الاجتماعيةُ إلى حدِّ التسبُّبِ بالأزمةِ والحروب. كما لا يَقتَصِرُ نظامُ العصرانيةِ الديمقراطية على عدم السماح للصناعويةِ والتمدن بابتلاعِ القريةِ والزراعة. بل ولا يَسمَح بابتلاعِهما لنشاطاتِ المدينة والصناعة بأبعادها الحقيقية التي تُمَكِّنُ من العيش. وآليةُ ذلك معروضةٌ ضمن أبعادِ العصرانية الديمقراطية الرئيسيةِ في هيئةٍ متكاملة. فجميعُ المجموعاتِ تتناوَلُ عناصرَ الأيكولوجيا والصناعةِ ضمن تكامُلٍ مُتَّحِدٍ في نشاطاتها الاقتصادية ارتباطاً بالبُعدِ الأخلاقي والسياسي. إنها موثوقةٌ ببعضها البعض بأواصر لا تُبتَر. وهكذا، فلا يبقى شيءٌ بين مخالِبِ النزعةِ الفردية والاحتكارية الجارِحة، إذ تتم مُراعاةُ الاقتصادِ الأيكولوجيِّ والصناعةِ الأيكولوجيةِ في جميع النشاطات الاجتماعية. بناءً عليه، فالمشاريعُ التي ستُعَدُّ بهدفِ إعادةِ إعمارِ البيئةِ وإنعاش الزراعةِ وتحويلِ القرية إلى ساحةِ حياةٍ تتميز بالبيئة الأكثر صحةً وسلامة؛ كلُّها مشاريعُ قادرةٌ بمفردها على القضاءِ على مختلفِ ظواهر البطالة والفقر. فالبطالةُ مُناقِضةٌ لطبيعةِ الإنسان. ذلك أنّ النوعَ البشريَّ المتسم بهذا الكمّ من الذكاءِ الراقي لا يمكن لفتياته أنْ يَبقَين عاطلاتٍ عن العمل إلا بيَدِ العنفِ البشري. وهذا ما يحصل فعلاً. فالطبيعةُ التي لا يُعثَرُ فيها على نملةٍ عاطلةٍ عن العمل، كيف لها أنْ تَترُكَ مخلوقَها الأرقى عاطلاً يائساً؟ ولماذا يَكُونُ الفقرُ قَدَراً في عصرِ الصناعةِ والتقنية، واللتَين هما إنجازان رائعان لممارسةِ الإنسان العملية؟ ([30]).
من هنا، فالعصرانيةُ الديمقراطيةُ بأحدِ معانيها اسمٌ لثورةٍ ممنهجةٍ بنيوية ضد مفاهيم وممارسات الحداثة المنحرفة. بينما الصناعةُ الأيكولوجيةُ هي إحدى أبعادِ هذه الثورة الأساسية على الإطلاق. هذه الحجة بحَدِّ ذاتها برهانٌ قاطعٌ على مدى حياتية العصرانية الديمقراطية. يؤَسس الاقتصاد الكلاسيكي للحداثة الرسمية على مبدأ الربح جوهريا، دونما أي إلتفات لمئات الملايين من البشر العائمين في بحر المجاعة. لذا، فعنصرُ الاقتصادِ الأساسيُّ في العصرانية الديمقراطية سيَكُون حُكماً ضد عناصرِ تلك الشركاتِ الهادفة إلى الربح. إنّ السبيلَ الوحيدَ للخلاصِ من هذا التناقض هو تفعيلُ اقتصادِ المجموعات الأيكولوجية. إذ بإمكانِ الآلافِ منها تنظيمُ ذاتها كمُكَوِّناتٍ اقتصادية حسب شروطِ المجتمعِ الأيكولوجيّ. أما الأراضي الزراعيةُ المُفتَقِرةُ لخاصيتِها كوحدةٍ زراعيةٍ نتيجةَ اقتسامِها على التوالي بين العوائل، فإنّ إعادةَ تنظيمِها باتَت منذ زمنٍ بعيدٍ قضيةً مُلِحَّة، مع مُراعاةِ مبدأِ الصناعةِ الأيكولوجية. ويُعَدُّ تأسيسُ المجموعاتِ الأيكولوجية في الزراعة أحدَ المبادئ الاقتصادية الأساسية على الإطلاق في العصرانية الديمقراطية. تأسيساً على ذلك، فإنّ الإنتاجَ الزراعيَّ المعتمدَ على طرازِ الفِلاحةِ المتبقية من عهدِ القِنانةِ والعبوديةِ قد فقدَ مفعولَه. كما تُشَكِّلُ المجموعاتُ الأيكولوجية، التي ستتحقق بتأسيس وحداتٍ زراعيةٍ وفق المكيال الأيكولوجي، الأرضيةَ لعصرانيةِ القرية. أي إنه بإمكان القرية (القرية الحديثة) اكتسابُ وجودِها مجدَّداً كوحداتٍ اقتصاديةٍ بالمعيارِ الأيكولوجي، نظراً لأنها مجموعاتٌ أيكولوجية. وبالإمكان تشكيلُ مجموعاتٍ أيكولوجيةٍ شبيهة في المدن أيضاً. حيث يُنَظَّمُ الاقتصاد المتمحور حول الأيكولوجيا في مخطط المدينةِ كجزءٍ من التكامُلِ العامِّ فيها. وكيفما ينبغي عدم وجودِ البيروقراطية التي تَبتَلِعُ المدينة، فلا مكانَ أيضاً للاقتصادِ الذي يَبتَلِعُ المدينة. إذ يُنَظَّمُ الاقتصادُ بما يتوافقُ وطبيعةَ كلِّ مدينةٍ على شكلِ وحداتٍ بالحجمِ الأمثَل ([31]).
بُعد المجتمع الكونفدرالي الديمقراطي:
تشتبك الوجوه الثلاثة وتتقاطع الأبعاد، لنصل للبعد البؤري والمكمل لمثلث وجوه العصرانية الديمقراطية. يُعَدُّ النظامُ الكونفدراليُّ الديمقراطي في العصرانيةِ الديمقراطية نظيرَ الدولةِ القومية، التي تُعَدُّ الصياغةَ الرسميةَ للحداثةِ الرسمية. بالإمكان تسميةُ ذلك بـ”شكلِ الإدارةِ السياسية” التي ليست بدولة. وهذه بالذات الميزةُ التي تَمنَحُ النظامَ خصوصيتَه. ينبغي حُكماً عدم الخلط بين الإدارات الديمقراطية وبين حُكمِ الدولة الإداري. فالدولُ تَحكُم. بينما الديمقراطياتُ تَقومُ بالإدارة. الدولُ تعتمدُ على السلطة، بينما الديمقراطياتُ تعتمدُ على الرضا الجَمعي. التعيينُ أساسٌ في الدول، في حين أنّ الانتخابَ أساسٌ في الديمقراطيات. كما إنّ الضرورةَ الحتميةَ أساسٌ في الدول، بينما الطواعيةُ أساسٌ في الديمقراطيات. وبالمقدور الإكثار من الفوارق المشابهة. ونظراً لأنّ المجتمعاتِ ليست نمطية، بل تتألف من عددٍ جَمٍّ من المجموعات والمؤسساتِ والاختلافات؛ فهي تَشعُرُ بضرورةِ تأمينِ وصَونِ تَكامُلِها جميعاً ضمن تناغمٍ مُتَّسِقٍ مشتَرَك. بالتالي، فالإدارةُ المُفرِطةُ في المركزيةِ تفسح الطريق مِراراً أمام الانفجارات في ظلِّ هذه التعدديات. والتاريخُ مليءٌ بعددٍ لا محدودٍ من هذه الأمثلة. أما الكونفدرالية الديمقراطية، فتُعاشُ أكثر، نظراً لتَناسُبِها مع مقدرةِ كلِّ مجموعةٍ ومؤسسة واختلافٍ على التعبير عن الذات. أما كونها نظاماً غيرَ معروفٍ كثيراً، فيَعودُ لبنيةِ المدنيةِ الرسمية وأيديولوجيتِها المهيمنة. أي أنّ المجتمعاتِ كونفدراليةٌ أساساً في التاريخ، وإنْ لَم تُعَرَّف رسمياً على هذا النحو ([32]).
إنّ العصرانيةَ الديمقراطيةَ لا تختارُ الكونفدراليةَ الديمقراطيةَ كنموذجٍ سياسيٍّ أساسيٍّ عن عبث. بل إنها تُعَبِّرُ بذلك عن السقفِ السياسيِّ للمجتمع الأخلاقي والسياسي. ذلك لأن الكونفدارليةَ ليست غريبةً عن التاريخ، وأنها الجوابُ الأفضلُ لطبيعةِ مجتمعنا الراهنِ المزدادةِ تعقيداً. وذَكَرنا مِراراً أنّ السياسةَ الديمقراطيةَ هي السبيلُ الأفضل للمجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ في التعبير عن ذاته. فالسياسةُ الديمقراطيةُ هي نمطُ إنشاءِ الكونفدراليةِ الديمقراطية… فلدى قيام السياسة الديمقراطية بمنحِ كلِّ شرائحِ وهوياتِ المجتمعِ فرصةَ التعبير عن ذاتها والتحولِ إلى قوةٍ سياسية، إنما تَكُون بذلك قد شَكَّلَت المجتمعَ السياسيَّ أيضاً، لتَدخُلَ السياسةُ أجندةَ الحياةِ الاجتماعيةِ مجدَّداً. من المحال حلُّ أزمةِ الدولةِ دون اللجوءِ إلى السياسة. ذلك أنّ الأزمةَ نفسَها تنبع من دحضِ المجتمعِ السياسي. من هنا، فالسياسةُ الديمقراطيةُ هي السبيلُ الوحيدُ لتَخَطّي أزمات الدولة المتجذرة في يومنا. وإلا، فالبحثُ عن دولةٍ أكثرَ صرامةً في مركزيتها لن يتجنَّبَ التعرضَ لانكساراتٍ قاسية.. فهي أيضاً أنسبُ وسيلةٍ لتسييسِ المجتمع. إنها بسيطةٌ وقابلةٌ للتطبيق. إذ بمقدورِ كلِّ مجموعةٍ وأثنيةٍ وثقافةٍ وجماعةٍ دينيةٍ وحركةٍ فكريةٍ ووحدةٍ اقتصاديةٍ بناءُ نفسِها كوحدةٍ سياسيةٍ شبهِ مستقلةٍ للتعبيرِ عن ذاتِها ([33]).
وفي خلاصة واحدة يوجز أوجلان المغزى من هذا التجوال في الباحات الأمامية لأركان مفهومه عن الحضارة/ العصرانية الديمقراطية بقوله: “يُمكنُ من خلالِ منهجيةِ الكونفدراليةِ أنْ نستوعبَ على خيرِ وجهٍ مدى تكامُلِ الأبعادِ الثلاثيةِ الرئيسيةِ للعصرانية الديمقراطيةِ وإتمامِها بعضَها بعضاً. وهكذا يَكُون قد تَحَقَّقَ وتَوَطَّدَ واقعُ وتَكامُلُ المجتمعِ التاريخي للطبيعة الاجتماعية بأفضل أحواله، نظراً لأنَّ كلَّ بُعدٍ ضمن هذا النظام قادرٌ على النقاش والتقييم والبتِّ في شؤونِه، وعلى إعادة الهيكلةِ وممارسةِ أعمالِه فيما يتعلق بشؤونه الذاتية” ([34]).
تأسيس عالم جديد.. حل ديمقراطي في مقابل الحداثي
ولّدت الحداثة بوصفها الطبعة الأخيرة من الرأسمالية الغربية، حركات مقاومة تأسست على لزومية المشاعية الفكرية والثقافية وبالأساس السياسية، مشاعية في استهلاك المنتج الثقافي وتعاطي فعل السياسة بميكانيزمات لا نخبوية . فلدى قيامِ بعضِ الحركاتِ العشوائيةِ المفتقرةِ إلى النظامِ والمسماةِ بما وراء الحداثة باختراقِ “درع الدولةِ القوميةِ” للحداثة، أو بالأحرى بتحطيمِ “قفصها الحديدي”؛ فإنّ تلك الثقافاتِ والتقاليد، التي غالباً ما حُكِمَ عليها بالبقاءِ على هامشِ الحياةِ وباتت على وشكِ الانقراض، بدأَت بالازدهارِ والتكاثُرِ مجدداً كزهورِ الباديةِ التي تتفتحُ بعد هطولِ المطر. ولانهيارِ الاشتراكيةِ المشيدةِ أيضاً دورُه المهم في ذلك. أما حركةُ شبيبةِ 1968، فكانت بمثابةِ الشرارةِ التي أَضرَمَت نارَ هذا التطور. علاوةً على تأثيرِ مقاوماتِ كافةِ حركاتِ التحررِ الوطنيِّ وميولِها غيرِ الصائرةِ دولاً قوميةً تجاه الاستعمارِ الرأسمالي. وبالأصل، فالتقاليدُ والثقافةُ بحَدِّ ذاتَيهما تعنيان المقاومة. فإما أن تُفنى أو تَحيا لأنها لا تَعرِفُ الاستسلام. إنها تتميزُ بهكذا خصائص. حيث أنّ إبداءَ المقاوَماتِ الكثيفةَ كلما سَنَحَت الفرصةُ هو من ضروراتِ طبيعتِها وجوهرها. هذا هو الواقعُ الذي عَجِزَت فاشيةُ الدولةِ القوميةِ عن إدراجِه ضمن حساباتها. فالقمعُ بل وحتى الصهرُ لا يعني فناءَها. إنّ الدولةَ القوميةَ بوصفِها المتقطعةَ الثالثةَ الأهمَّ في الحداثة، تُعَدُّ الصياغةَ الأداتيةَ الأساسية للرأسماليةِ في غزوِ المجتمعِ واستعمارِه. فبينما تَعرضُ الليبراليةُ نفسَها على أنها تكامُلُ الأهداف (إجماليُّ المُثُل)، فإنّ الدولةَ القوميةَ تَجِدُ معناها كصياغةٍ أساسيةٍ للسلطة. إذ إنّ ما واجَهَه المجتمعُ طيلةَ سياقِه التاريخيِّ مِن غزوٍ واستعمارٍ هو الأشملُ نطاقاً في الداخلِ والخارج، ما كان سيتحققُ لولا قالب الدولةِ القومية ([35]).
وتأتي التياراتُ القوميةُ الصُّغرى للظواهرِ الأثنيةِ في صدارةِ الحركاتِ الثقافيةِ التي قَمَعَتها الدولةُ القوميةُ دون أنْ تتمَكَّنَ من صهرها كلياً. وهي تختلفُ عن قومويةِ الدولةِ القومية، إذ يَطغى عليها المحتوى الديمقراطي. ومن أهمِّ أهدافِها هو التحوُّلُ إلى كيانٍ سياسيٍّ ديمقراطيٍّ مُلتَفٍّ حولَ ثقافاتِها أكثر مما هو البحث عن دولةٍ جديدة. إنّ الكيانَ الذي تتطلعُ إلى بنائِه يختلفُ عن شبهِ الاستقلاليةِ الإقليميةِ أو المحلية. إذ يُعَبِّرُ عن اتحادِ وتضامُنِ كلِّ الذين يتشاطَرون الوجودَ الثقافيَّ نفسَه، دون الالتزامِ بالحدودِ المكانية. ومن أهدافِها المهمةِ أيضاً صونُ وجودِها تجاه الأثنيةِ الحاكمة. أما حركةُ مختلفِ الأثنياتِ المسحوقة، وبمعنى آخر، الحركةُ التي تتقدَّمُ خطوةً على الشعوبِ المضطَهَدة؛ فتسميتُها بحركةِ الأمةِ الديمقراطيةِ أمرٌ صائبٌ وقَيِّمٌ سوسيولوجياً إلى أقصى حد. إذ من العسيرِ الصمودُ وتأمينُ سيرورةِ الوجودِ على شكلِ أثنيةٍ واحدةٍ مسحوقة. بينما الذين يتشاطَرون الحدودَ الجغرافيةَ والسياسيةَ عينَها، وكذلك الثقافات ذات اللغاتِ واللهجاتِ المتشابهة؛ فينبغي تسميةُ حركتِهم بحركةِ الأمةِ الديمقراطيةِ. فالعيشُ على شكلِ كيانٍ سياسيٍّ بقدرِ ما يُرادُ ضمن تُخُومِ كلِّ دولةٍ أو إمبراطوريةٍ هو الشكلُ الإداريُّ الطبيعي. بينما الأمرُ غير الطبيعي هو إنكارُ وجودِ هذه الكياناتِ السياسيةِ أو قمعُها. أما الصهر، فَلَم يَكُن أسلوباً مُرَجَّحاً كثيراً. فالإمبراطورياتُ الرومانيةُ والبيزنطيةُ والعثمانيةُ والساسانيةُ البرسيةُ والعباسيةُ العربية كانت تَعتَبِرُ وجودَ المئاتِ من والوحداتِ السياسيةِ–الإداريةِ المختلفةِ ذريعةً لوجودِها، بشرطِ أن تَعتَرِف تلك الوحداتُ بشرعيةِ الإمبراطورِ أو السلطان. فالأصلُ كان يتجسدُ في العيشِ بصَونِ لغاتِها وأديانِها وفلكلورها وإداراتِها الذاتية. لكنّ وحشَ الدولةِ القومية (اللوياثان) قضى على هذا النظام. وهكذا تم التوجهُ نحو الفاشيةِ لتَكُونَ المحصلةُ العديدَ من الإباداتِ الثقافيةِ والجسدية. إنّ تفسيرَ حقِّ الأثنياتِ أو الشعوبِ المسحوقةِ في أنْ تَكُونَ أمةً على أنه يعني فقط بناءَ دولةٍ قومية، كان تحريفاً وفاجعةً كبرى للّيبراليةِ والاشتراكيةِ المشيدةِ على السواء. وقد كان هذا الوضعُ نتيجةً للقومويةِ الفاشيةِ والتوتاليتارية. أما إنشاءُ الأمةِ الطبيعيةِ المبنيةِ على الأرضيةِ الثقافيةِ حسبَ أسسِ الإدارةِ الديمقراطيةِ دون حُكمِها بحدود، فكان السبيلَ الإنسانيَّ الأصحَّ والأنسبَ للطبيعةِ الاجتماعية. وحقائقُ التاريخِ أيضاً كانت تُفسِحُ المجالَ لهذا السبيلِ بالأرجح. بَدَأَت حالاتُ التحوِّلِ إلى أمةٍ ديمقراطيةٍ بالظهورِ بكثافةٍ كسبيلٍ طبيعيٍّ لدى تَبَيُّنِ مأزقِ الدولةِ القوميةِ بجوانب عديدة ([36]).
إن أوجلان بهذا يتعامل مع العصرانية الديمقراطية بوصفها ماكينة فكرية، بل ومبنى مكتمل ونموذج جاهز للتطبيق، كما أنها بهذا طريقة لتفسير العالم وفق منطلقات شمولية إنسانية أخلاقية. وبناءً على هذه المنطلقات، فإنّ العصرانيةَ الديمقراطية كمصطلح ليست إشعاراً أو إخطاراً بـ”العصرِ الذهبي”، ولا هي “يوتوبيا الجنة” المستقبلية. كما إنها ليست أحد أشكالِ المجتمعِ ولا عصراً تاريخياً يتناولُه العلمُ الوضعيُّ بكثرة. بل هي الطبيعةِ الاجتماعيةِ الأساسية. ولهذا، فإن العصرانيةَ الديمقراطيةَ مُرغَمَةٌ على إنجازِ ثورتِها الفكريةِ والعلميةِ بالتأسيس على تَمَثُّلِ الشعاعاتِ والثوراتِ الفكريةِ لعهدِ المدنيةِ من جانب، وعلى تَمَثُّلِ الجوانبِ الإيجابيةِ للانطلاقاتِ الفكريةِ المضادةِ للحداثةِ من الجانب الآخر ([37]).
إنّ الأزمةَ العالميةَ للحداثة (الأزمة الراهنة النظامية والبنيوية) هي ثمرةُ الدمارِ الذي مارسَته قوى المدنيةِ المعمرةِ خمسةَ آلافِ سنةٍ ضد المجتمعِ الأخلاقي. بالتالي، فالبحثُ عن النفاذِ من الأزمةِ ضمن إطارِ إعادةِ هيكلةِ المجتمعِ الأخلاقيِّ أمرٌ صحيحٌ بحُكمِ الدياليكتيك. بل إنّ عمليةَ الهيكلةِ هذه بمثابةِ خيارٍ رئيسيّ. ولابد هنا من التشديدُ مجدداً على أنّ المجتمعَ واحد؛ ألا وهو المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسي. وتتجسد القضيةُ أولاً في إعادةِ هيكلةِ المجتمعِ ضمن ظروفِ العصرانيةِ الأكثر تطوراً ونماء، بعدما أَفنَته السلطةُ والدولةُ لحَدٍّ بعيد وعَرَّضَتاه للاستيلاءِ والاستعمارِ والاضطهاد. تُشَكِّلُ السياسةُ الديمقراطيةُ إلى جانب الدفاعِ الذاتيِّ جوهرَ السياسةِ المرحلية. فبينما تُطَوِّرُ السياسةُ الديمقراطيةُ المجتمعَ الأخلاقيَّ والسياسيّ، فإنّ الدفاعَ الذاتيّ يَحميه ضد هجماتِ السلطةِ التي تستهدفُ وجودَه وحريتَه وبُنيتَه المرتَكزةَ إلى المساواةِ والديمقراطية. إننا لا نتحدثُ عن حربٍ تحريريةٍ وطنيةٍ من نوعٍ جديد، ولا عن حربٍ اجتماعية. بل نتكلمُ عن صونِ هويته وحريته ودمقرطتِه والدفاعِ عن مساواتِه ضمن الاختلاف. وفي حالِ عدمِ وجودِ الهجوم، فلن يَبقى داعٍ للدفاعِ أيضاً ([38]).
وفي وسط هذه الأنفاس، المكتومة حينا والصارخة أحياناً، داخل الأحشاء الداخلية للمجتمع. فلن تَقبَلَ كلُّ المُكَوِّناتِ الاجتماعيةِ الارتباطَ ببعضِها بعضاً بروابطَ رخوة، إلا بشرطِ إبداءِ الاحترامِ لاستقلالِها الذاتيّ. بل لن تَرضى بوجودِ قوى المدنيةِ السلطويةِ والدولتيةِ إلا بهذا الشرط. والظروفُ التي يَغيبُ فيها الرضى هي الظروفُ التي تُعاشُ فيها حالةُ الحربِ الدائمة. بينما يتحققُ السلام بوجودِ الرضى. يتجسد مبدأُ الإدارةِ المجتمعيةِ المُقابلةِ لظاهرةِ السلطةِ ولبنيةِ الدولةِ القوميةِ (اللتَين احتَوَتا المجتمعَ برمته في العصرِ الحديث) في السياسةِ والكونفدراليةِ الديمقراطية. فبينما تُمارَسُ السياسةُ كسياسةٍ ديمقراطية، فإنّ كلَّ الوحداتِ الاجتماعية تُساهِمُ في المرحلةِ الكونفدراليةِ كقوةٍ فيدرالية. هذا النظامُ عالَمٌ سياسيٌّ جديد. فبينما تَحكمُ المدنيةُ والحداثةُ بالأوامر، فإنّ الحضارةَ والعصرانيةَ الديمقراطيتَين تمارسان إدارتَهما بمزاولةِ السياسةِ الحقةِ بالنقاشِ والوفاق. ومهما حُرِّفَت حقائقُ التاريخِ والحاضرِ أو طُمِسَت، فإنّ التطوراتِ الاجتماعيةَ الأوليةَ قد تحققت في كنفِ ريادةِ فنِّ السياسة. وبينما تَجهَدُ الرأسماليةُ للحفاظِ على سلطتِها ضمن ظروفِ الأزمة الكونيةِ بناءً على إعادةِ هيكلة الدولةِ القومية، فإنّ المَهَمَّةَ الأساسيةَ لكافةِ قوى العصرانيةِ الديمقراطيةِ ردّاً على الأزمة تَكمُنُ في تطويرِ النظامِ الكونفدراليِّ الديمقراطيِّ الهادفِ إلى صونِ وتطويرِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي ([39]).
إن العودة معرفياً ونظرياً وعملياً، لعرضِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ، بمنوالٍ عميقٍ؛ ذلك لأنها خَياراً يتمتَّعُ بقوةِ الحلِّ العُليا القادرةِ على توحيدِ تجاربِ مُناهِضي النظامِ في عهدِ الحداثة، وذلك من خلالِ ميراثِها التاريخيِّ وتأسيساً على المؤسساتِ والكياناتِ البُنيوية. وأنها سوف تتنامى لتَحتلَّ الصدارة في مدارج التفكير السياسي في السنوات القادمة. ذلك أنّ العصرانيةَ الديمقراطيةَ بمثابةِ نجمٍ يزدادُ عُلُوّاً وتألُّقاً تجاه ذاك النظامِ الذي يُثبِتُ إفلاسَه يوماً بعدَ يومٍ بدروسٍ مليئةٍ بالعِبَر ([40]). وقد فَرَضَت تجربةُ الفاشيةِ في أوروبا خلال الحربِ العالميةِ الثانيةِ، على الحداثةُ أنْ تُعيدَ النظرَ ثانيةً في مشروعِ المجتمعِ النمطيّ. فعُمِلَ عن طريقِ مشروعِ الاتحادِ الأوروبيِّ على الرجوعِ إلى التعدديةِ الثقافيةِ كبديل. وإلى جانبِ مشاطرةِ ما وراء الحداثةِ للتعدديةِ الثقافيةِ كقيمةٍ أساسيةٍ مضموناً، إلا إنها بعيدةٌ عن أنْ تَكُونَ بديلاً للحداثةِ الرأسمالية. أما جميعُ الثقافاتِ التي خارجَ نطاقِ الهويةِ الثقافيةِ الرسمية، فيُفرَضُ عليها في نهايةِ المطافِ أنْ تصبحَ هامشيةً وتُواجِهَ حقيقةَ التصفيةِ والزوال، تلقائياً كان أم بالإبادةِ غيرِ المباشرة: بأساليبِ القمعِ والاستغلالِ الرأسماليّ أو عبرَ سياساتِ الدولةِ القوميةِ في خلقِ مجتمعٍ نمطيٍّ رسميّ. والسبيلُ الأصحُّ للوقوفِ في وجهِ ذلك ولصَونِ وجودِها الثقافيِّ وجعلِه حراً طَليقاً، هو تَبَنّي مفهومِ الهويةِ الثقافيةِ منفتحةِ الأطراف، وتوحيدُها مع الثقافاتِ الأخرى في تركيبةٍ جديدة، وصياغةُ مشاريعِ العيش المشترك الأرقى. هذا وتُعَدُّ الأمةُ الديمقراطية، المواطَنةُ الدستورية، الجمهوريةُ الديمقراطية، ومفهومُ الثقافةِ التعدديةِ والوطنِ التعدُّدِيِّ بعضاً من هذه المشاريع الأساسية. أما أساليبُ السياسةِ الديمقراطيةِ ومنظماتِ المجتمعِ المدنيِّ وشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، فهي وسائلُ التطبيقِ الأساسيةُ لتلك المشاريع. من هنا، فحلُّ العصرانيةِ الديمقراطيةِ حاجةٌ ماسّةٌ ومصيرية، سواء للحفاظِ على الثقافاتِ التقليديةِ وتأمينِ حريتِها، أم في سبيلِ عيشِها على شكلِ تركيبةٍ جديدةٍ مع الثقافاتِ العصرية ([41]).
حل ديمقراطي للقضية الكردية
إنّ الواقعَ الكرديَّ المُجتَثّ من موطنِه الأمّ هو واقعٌ جريحٌ يحتضر. وعجزُه عن تبنّي وطنِه الأمِّ والدفاعِ عنه، يعني التخلي عن تاريخِه وثقافتِه. ويؤولُ في النهاية إلى التراجعِ عن العيشِ على شكلِ مجتمع، وعن كينونةِ الأمة. من هنا، محالٌ تعريفُ واقعِ المجتمعِ الكرديِّ من دونِ وطن. ومحالٌ على مجتمعٍ بلا وطنٍ أنْ يستمرَّ بوجودِه، أو أنْ يتخلصَ حينها من التعرضِ للتصفيةِ والزوالِ والتشرذمِ على التوالي. من المستحيلِ إنكارُ وجودِ كردستان، حتى لو كانت واقعَ وطنٍ يعاني من نيرِ الاستعمارِ والإبادة. بل سيستمرُّ وجودُها حتى آخرِ فردٍ صامدٍ يطمحُ في العيشِ بحُريةٍ وبما يليقُ بواقعِ تاريخِه ومجتمعِه وملتزماً به. وفي هذه الحالة، فإنّ كردستان لن تبقى موطنَ الكردِ فحسب. بل وستَغدو وطناً مشتركاً يتشاطرُه الأرمنُ والسُّريانُ والتركمانُ والعربُ أيضاً، ضمن أجواءٍ مفعمةٍ بالديمقراطيةِ والحريةِ والمساواة. وسيتشاركُ فيه كلُّ فردٍ أو ثقافةٍ تطمحُ في العيشِ على ثَراه بحرية. وعليه، فإنّ انعدامَ الدولةِ القوميةِ على أراضيها لن يَغدوَ سوءَ طالعٍ لها، بل حظاً سعيداً. أي إنّ كردستان لن تصبحَ هذه المرةَ وطناً لتمدنٍ طبقيٍّ جديدٍ مُعادٍ للأيكولوجيا، ولا لمدنيةٍ دولتيةٍ قوميةٍ جديدة. بل ستُصبح وطناً يبزغُ فيه فجرُ العصرانيةِ الديمقراطيةِ على الشرقِ الوسط، ويترعرعُ بين أحضانِه ([42]).
في عمومِ الشرقِ الأوسط، فمع تغلغُلِ قوى الهيمنةِ الرأسماليةِ الغربيةِ إلى المنطقة، لَم تَعُد التطوراتُ الوطنيةُ في الظاهرةِ الكرديةِ أيضاً تنبعُ من الديناميّاتِ الداخلية. وقد حَرَّفَ هذا السياقُ المتسارعُ في مطلعِ القرنِ التاسع عشر مساراتِ التحولِ الوطنيّ. إذ دارت المساعي لرسمِ ملامحِ التحولاتِ الوطنيةِ الجاريةِ في كنفِ الإمبراطوريةِ العثمانية، من خلالِ دعمِ قوى الهيمنةِ لها أو تقييدِها إياها بالأصفاد. المِعيارُ المُعَيِّنُ هنا هو منافعُ النظامِ القائم. حيث تستدعي المصالحُ تشكيلَ أمةٍ أو قمعَها أو حتى نسفَها من على وجهِ البسيطة. لقد صمدَت الإمبراطوريةُ العثمانيةُ مدةً طويلةً في وجهِ التحولِ إلى أمة. وجهدَت لتحقيقِ سيرورتِها بأساليبِ التحولِ الوطنيِّ الزائفة. فكانت نزعاتُ العثمانويةِ والجامعةِ الإسلامويةِ والجامعةِ التركياتيّةِ أساليباً مختَبَرةً على التوالي لهذا الغرض. لكن، ومع ذهابِ هذه الأساليبِ أدراجَ الرياح، ومع ولادةِ عددٍ كبيرٍ من الدولِ القوميةِ المتوافقةِ مع مصالحِ القوى المهيمنة؛ لَم تَبقَ أيةُ أرضيةٍ مناسِبة للتحولِ الوطنيِّ ([43]).
وعندما نتحدثُ عن التكامُلِ أو الوحدةِ الكرديةِ الوطنية، فينبغي عدم الفهمِ بأنّ المرادَ هو الدولةُ القومية. بل على النقيض، يتوجبُ استنباطُ المجتمعِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ من ذلك. لذا، لا داعي لحدودِ دويلاتٍ قوميةٍ جديدة. بل ثمة حاجةٌ مصيريةٌ إلى الحلولِ المرتكزةِ على البنى الديمقراطيةِ شبهِ المستقلةِ من أجلِ الثقافاتِ الاجتماعية كافة، وبالأخصِّ من أجلِ الشعوبِ المتجاورةِ التي تحيا متداخلةً مع بعضِها بعضاً. وقد تجلّى جلاءَ النهارِ أنّ الدويلاتِ القوميةَ الشرقَ أوسطيةِ التي بَنَتها الحداثةُ الرأسمالية غيرُ قادرةٍ على العيشِ معاً ضمن أجواءِ السلام، ولا على إسعادِ مجتمعاتِها. مقابل ذلك، فإنّ نظامَ العصرانيةِ الديمقراطية، الذي يتطلعُ إلى سيادةِ الحريةِ والمساواةِ وشبهِ الاستقلاليةِ ضمن زخمِ الإرثِ الثقافيِّ المُعَمِّرِ آلافَ السنين، هو السبيلُ الأصحُّ والأفضلُ والأجملُ من أجلِ استتبابِ السلامِ المجتمعيِّ والحياةِ السعيدة ([44]).
وفي هذا السياق، تُولَدُ فرصةٌ تاريخيةٌ أمام حركةِ الحياةِ الحرةِ والمقاومةِ ضمن الثقافةِ الكردية، لتلعبَ دوراً تاريخياً مرةً أخرى. وتُتاحُ أمام العصرانيةِ الديمقراطيةِ أيضاً فرصةٌ ثمينةٌ كي تطرحَ نفسها كخيارٍ بديلٍ ومستدامٍ تجاه الحداثةِ الرأسماليةِ التي تُعَدُّ آخِرَ قوةٍ مركزيةٍ للمدنية. وانطلاقاً من الأسباب الخاصةِ بالثقافةِ الكرديةِ العصرية، فإنها لن تتمكنَ من الارتقاءِ بنفسِها إلى مستوى النجاح، إلا ضمن إطارِ مقوماتِ العصرانيةِ الديمقراطية. مرامُنا من النجاح، هو وجودُ ثقافةِ الحياةِ الحرةِ بمنوالٍ وطيدٍ يستحيلُ إفناؤُه. والأشكالُ الأساسيةُ لهذه الحياةِ هي: الأمةُ الديمقراطية، الصناعةُ الأيكولوجية، والاقتصادُ التشاركيُّ الذي يخصصُ حيزاً للسوقِ الاجتماعيةِ أيضاً. وكيفما كانت كردستان والواقعُ الكرديُّ المعاصرُ مهداً لولادةِ نظامِ المدنيةِ تاريخياً، فهما يمتلكان الفرصةَ أيضاً ليَكُونا مهداً تُثبِتُ فيه العصرانيةُ الديمقراطيةُ جدارتَها كنظامٍ قائمٍ بذاتِه. هذا وتتسمُ الثقافةُ الديمقراطيةُ بأهميةٍ تاريخيةٍ كبرى، لأداءِ دورِها تأسيساً على ذلك؛ ليس بوصفِها ثقافةَ الحياةِ العصريةِ للكردِ وحسب، بل وباعتبارِها فرصةً ماثلةً أمام المنطقةِ بل والإنسانيةِ العالميةِ أيضاً ([45]).
والأهم من هذا كله، كما يمكن القول بكثير من المنطق، إنّ خيار العصرانيةِ الديمقراطيةِ ليس يوتوبيا معنيةً بالمستقبل، ولا ميثولوجيا اجتماعية عالقة في طياتِ الماضي. بل هي بديلٌ يتنامى بالتماشي مع طبيعةِ الواقعِ الاجتماعيّ. وإلى جانبِ تغيُّرِ شكلِها حسبَ المراحلِ والعصور، فهي واقعٌ موجودٌ دون انقطاع، وظلت على طولِ تاريخِها تمتلكُ تاريخاً مضاداً للمدنية. إنها تُمَثِّلُ كافةَ البشريةِ الباقيةِ خارجَ إطارِ قوى الطغيانِ والاستغلال طيلة التاريخِ الكونيّ. أو بالأصح، فهي تُعَبِّرُ عن نظامِ تلك البشرية. وبرغمِ أداءِ الواقعِ الكرديِّ البِدئيِّ دورَ مهدِ المدنيةِ من حيث الأصل، إلا إنه أدنى إلى الأمِّ التي غَدَرَ بها أبناؤُها. إذ يُعَبِّرُ في الوقتِ نفسِه عن الثقافةِ التي غالباً ما تَلَقَّت الضرباتِ القاضيةَ من قوى المدنية، وتعرَّضَت لهجماتِها المُبِيدة. وعليه، لن يَسَعَها تحقيقُ وجودِها، إلا بحضارةٍ مغايرةٍ وبعيدةٍ عن الحضارةِ الطبقيةِ التقليدية؛ أي بالحضارةِ المجتمعيةِ الديمقراطية. ولَئِنْ كان سيُدَوَّنُ تاريخٌ كرديٌّ ذو معنى، فلن يَكونَ هذا ممكناً إلا بكتابتِه ضمن هذا الإطار. والتعبيرُ الراهنُ عن ذلك هو “العصرانيةُ الديمقراطية”. بالتالي، فلن يستطيعَ الكردُ رؤيةَ أجزائِهم الوجوديةِ (الأنطولوجية) المتبقيةِ بوضوحٍ أسطع، إلا على هدى تاريخِ الحضارةِ الديمقراطية. فانطلاقاً منها سيقدرون على بناءِ أنفسِهم وتأمينِ وجودِهم من خلالِ مقوماتِ العصرانيةِ الديمقراطية؛ أي: الأمة الديمقراطية والصناعة الأيكولوجية واقتصاد السوق المجتمعيّ ([46]).
ببساطة، إن في تجربةِ الحربِ الشعبيةِ الثوريةِ الكردستانية، لَم تقتصرْ هذه التجربةُ في تلك الأوقاتِ على تخطّي الدولتيةِ القوميةِ. بل وطوَّرَت عوضاً عنها نموذجاً خاصا بها ويصلح في الوقت ذاته للتطبيق الإنساني العالمي، بالتالي فهو يُخرِجُ القضيةَ الوطنيةَ من كونِها قضيةَ بناءِ دولةٍ قومية، ليَصُبَّها في بوتقةِ إنشاءِ الشعبِ نفسَه بنفسِه كأمةٍ متساويةٍ وحرة، أي مندرجةٍ في معيارِ الأمةِ الديمقراطية. وهكذا جعلَت معيارَ الأمةِ الديمقراطيةِ نموذجاً بديلاً في حلِّ القضايا الطبقيةِ والوطنيةِ على السواء. وصَيَّرَت الأمةَ الديمقراطيةَ من أهمِّ عناصرِ العصرانيةِ الديمقراطية (إلى جانبِ عنصرَي الصناعةِ الأيكولوجيةِ والاقتصادِ التشاركيّ المُعيق للربح) ([47]).
ومقابلَ هذه المساهمةِ التاريخيةِ في الحقلِ النظريّ، فقد تسارعَ نشوءُ كيانَي الأمةِ الديمقراطيةِ والعصرانيةِ الديمقراطيةِ أيضاً داخلَ الواقعِ الاجتماعيِّ الكرديِّ المتجسدِ في كردستان على أرضِ الواقع. فمع تَكَوُّنِ الأمةِ الديمقراطيةِ صارت الحدودُ بين الكردِ في الأجزاءِ الأربعةِ من كردستان بلا جدوى. أي، وبينما تُعَدُّ الحدودُ كلَّ شيءٍ بالنسبةِ إلى الدولِ القومية، فقد أُسقِطَت إلى مرتبةِ اللاشيء بالنسبةِ إلى الأمةِ الديمقراطية. وبينما تشكَّلَت ملامحُ الأمةِ الديمقراطيةِ في عقليةِ الشعبِ كأهمِ ثورةٍ للوعي، فقد أُنشِئَ شبهُ الاستقلالِ الذاتيُّ الديمقراطيُّ أيضاً كأهمِّ ثورةٍ متجسدةٍ عينياً في الأجزاءِ الأربعة. كما جُعِلَت عجلاتُ آلياتِ الإبادةِ الثقافيةِ الخاصةُ بالدولِ القوميةِ التركيةِ والإيرانيةِ والعراقيةِ والسوريةِ تَدُورُ من دونِ جدوى بنسبةٍ مهمة. وبالمقابل، فقد صُيِّرَ الشعبُ الكرديُّ في كلِّ جزءٍ من تلك الأجزاءِ جزءاً مُبدعاً ضمن الأمةِ الديمقراطية ومُنشِئاً إياها. إنّ الحربَ الشعبيةَ الثورية، التي لَم تكتَفِ بإماطةِ اللثامِ عن مؤامرةِ الإبادةِ الثقافيةِ والدولتيةِ القوميةِ العميلةِ النابعةِ من هيمنةِ الحداثةِ الرأسماليةِ طيلةَ القرنَين الأخيرَين، تُعتَبَرُ نجاحاً عظيماً بتحقيقِها الأمةَ الديمقراطيةَ كبديلٍ راسخٍ في كلِّ جزء وفي ذهنيةِ كلِّ إنسانٍ كرديٍّ صادقٍ ومخلص وفي جسدِ كلِّ مجموعةٍ كرديةٍ وفية. بناءً عليه، فقد أَعَدَّت الأرضيةَ اللازمةَ لتطويرِ التعاونِ والتضامنِ الوديِّ بين شعوبِ الجوارِ أولاً (الشعوب التركية والعربية والفارسية)، وبين ثقافاتِ شعوبِ الأقلياتِ الأخرى والشعوبِ المُعَرَّضةِ للتصفيةِ ثانياً (الأرمن، الإغريق والسُّريان وغيرهم)؛ وهيأَت الأجواءَ لتنظيمِها جميعاً بوصفِها تَجَمُّعَ الأممِ الديمقراطية. كما فتحَت الأبوابَ على مصاريعِها أمام الرقيِّ بهذا النجاحِ التاريخيِّ على الصعيدَين الإقليميِّ والعالميّ، من خلالِ أدائِها لدورِها الرياديِّ في إنشاءِ العصرانيةِ الديمقراطية ([48]).
ولحُسنِ حظِّ الثورةِ الكردستانيةِ المُطَوَّرةِ بما يتلاءمُ مع نظريةِ ومصطلحاتِ العصرانيةِ الديمقراطية، فإنها تتحققُ في عهدِ الأزمةِ التي تعاني منها الحداثةُ الرأسماليةُ في حقولِ الذهنيةِ وطرازِ الحياة. فالقِسمُ الأكبرُ من ثوراتِ القرنَين التاسع عشر والعشرين، وعلى رأسِها الثورتان الفرنسيةُ والروسية، قد عجزَت عن تخطي ذهنيةِ الحداثةِ الرأسماليةِ وطرازِ حياتِها. وكانت نجاحاتُها محدودة، رغمَ جهودِها الدؤوبةِ والأصيلةِ وطموحاتِها في أنْ تَكُونَ البديل. ما من ريبٍ في أنها تركَت وراءها إرثاً عظيماً ومكاسب ذهنيةً لها نصيبٌ عالٍ من الحقيقة، ولا تزالُ تنضحُ بالحياة، وقِيَمَ حياةٍ أخلاقيةٍ وجمالية. وعليه، بمقدورِ الثورةِ الكردستانيةِ أنْ تستفيدَ من حُسنِ طالِعِها هذا على أكملِ وجه، بتوحيدِ كلِّ هذه المنجَزاتِ الذهنيةِ والحياتيةِ الثمينةِ في ممارستِها العمليةِ الخاصةِ بها. كما باستطاعتِها إحياءُ الفردِ الديمقراطيِّ والاشتراكيّ، الذي سيتشكلُ بالتوازي مع تحويلِ البناءِ المتداخلِ للأمةِ الديمقراطيةِ والاقتصادِ الكوموناليِّ والصناعةِ الأيكولوجيةِ إلى طرازِ حياةٍ اجتماعية؛ وذلك حيالَ فرديةِ الحداثةِ الرأسماليةِ المشحونةِ بالمصائدِ والأفخاخ، والتي صارَت وحشاً استهلاكياً طائشاً يَبتلعُ الحقيقة؛ وكذلك حيالَ عناصرِها المتمثلةِ في نزعاتِ الربحِ الأعظم والدولةِ القوميةِ والصناعوية، والتي تُوَلِّدُ الفرديةَ وتنتجُها. وبوسعِها تعميقُ ثورتِها الذهنيةِ والأخلاقيةِ والجماليةِ بكلِّ ما أُوتِيَت من طاقة، بحيث تجعلُها مُلكاً للفرد، وتعمِّمُها على شعوبِ الشرقِ الأوسطِ قاطبة. وبإمكانِها عبرَ ثورتِها الخاصةِ بها أنْ تقدِّمَ الإسهاماتِ المهمةَ للثقافةِ التاريخيةِ الشرقِ أوسطيةِ المتميزةِ دائماً بالتكاملِ والكونية، وأنْ تُقَيِّمَ الحياةَ وكلَّ مجالٍ من مجالاتِها على أنه مدرسةٌ ناجعةٌ في سبيلِ ذلك ([49]).
وما يمكن قوله في النهاية، إن الحداثة التي هي أعلى نتاج معرفي غربي، وجدت لها في السنوات الأخيرة مقابل ناضج ومتوازن. بديل يمكن إيجازه في حداثةِ بديلةِ، جاءت تحت اسمِ “العصرانيةِ الديمقراطية”. حيث عملتُ على تحويلِ الحداثةِ الرأسماليةِ إلى عصرانيةٍ ديمقراطية، على غرارِ كارل ماركس، الذي حوَّلَ الميتافيزيقيا الجدليةَ الهيغلية إلى ماديةٍ دياليكتيكية. وما من شكٍّ في أنّ عواقبَ ذلك كانت ستتبلورُ في مجرى التدفقِ التاريخيّ. أي أنّ وظيفةَ هذا التفسيرِ الجديدِ للماديةِ التاريخيةِ تجسدَت في تبيانِ مدى كونِها جواباً على النظامِ الرأسماليّ. ما يكمنُ وراء الحداثةِ الرأسماليةِ وثقافتِها الاستعبادية، هو تجريدُ الإنسانِ من الماضي والمستقبل، وتصييره مستهلِكاً حيوانياً للّحظةِ الحاضرة. لكن، ومقابل نزعةِ الفرديةِ الرأسماليةِ وثقافةِ حياتِها المشحونةِ بالطابعِ الحيوانيّ، تحاول العصرانيةِ الديمقراطيةِ النجاحُ في تمكينِ وحدةِ الفردِ مع حنينِه إلى الماضي الذهبيِّ وأملِه في مستقبلٍ مثاليٍّ مع الجماعاتِ الكوموناليةِ الديمقراطيةِ التي تحيا اللحظةَ الراهنة؛ وكذلك النجاحُ في اعتبارِ العملِ حريةً والتحولِ بالتالي إلى بديلٍ موفق ([50]).
لقد جاء طرح العصرانيةِ الديمقراطية، في إطار تقييمِ أزمةِ الدولةِ القوميةِ وما بَعدَها. ذلك أنّ عدداً جماً من الأحداثِ التي تخطَّت منذ أمَدٍ سحيقٍ نطاقَ المأساةِ في الشرقِ الأوسط، والتي باتت دليلاً على الكوارثِ المفجِعة؛ قد خرجَت من كونِها متعلقةً فقط بالشعوبِ المعنية (كالأرمن، السُّريان، الهيلينيين، اليهود، الفلسطينيين، الكرد، الأتراك، العرب، والأفغان وغيرِهم)، وغدَت تحيطُ بكافةِ مناحي الحياةِ الاجتماعيةِ ضمن المنطقة. كما إنّ الحداثةَ الرأسماليةَ وأنظمةَ الدولِ القومية، والتي تُعَدُّ بذاتِ نفسِها سببَ كلِّ المآسي والكوارثِ الكبرى المُعاشة، أمسَت غيرَ قادرةٍ على إعادةِ طرحِ نظامِها هذا والأنظمةِ التابعةِ له على أنها الحلُّ المرتَقَب. ولهذا السبب، يتحلى تركيزُ المداولاتِ حول الحداثة، وتقييمُ فُرَصِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ في صياغةِ الحلِّ والخروجِ من الأزمةِ بالأهميةِ العظمى ([51]).
ومن ثم، يغدو الجزمُ بمصيرِ الحداثةِ الرأسماليةِ ضمن ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ أمراً سهلاً، على هدى النقاشاتِ والنزاعاتِ الدائرةِ بصددِ الحداثة. إذ تشيرُ كلُّ التحليلاتِ التي صِغناها إلى استحالةِ تحديدِ هذا المصيرِ تلقائياً. بل لن يتحققَ تجاوزُ الحداثةِ الرأسمالية، إلا بمشاريعِ حداثةٍ بديلةٍ أقوى من حيث عزيمتِها بشأنِ الحقيقة. وهذا ما لن يتحققَ إلا بقيامِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ بعرضِ قوةِ الحلِّ التي تتحلى بها مقوماتُها الأساسية، وذلك بتوجيهِ انتقاداتِها إلى مرتكزاتِ الحداثةِ الرأسماليةِ الرئيسية ([52]). وفي إطار ذهنية الحل، تأتي نظريةُ الأمةِ الديمقراطيةِ، بوصفها عنصرُ الحلِّ الرئيسيِّ في العصرانيةِ الديمقراطية. ففيما عدا نظريةِ الأمةِ الديمقراطية، ما من نظريةٍ اجتماعيةٍ قادرةٍ على إعادةِ توحيدِ صفوفِ المجتمعِ البشريِّ العالميِّ وإحيائِه ضمن أجواءٍ مفعمةٍ بالحرية، بعدَما قَطَعَت نظريةُ الدولةِ القوميةِ للحداثةِ الرأسماليةِ أوصالَه كالقَصّاب. فالنظرياتُ الاجتماعيةُ الأخرى لا تستطيعُ من حيث معناها أنْ تذهبَ أبعد من أداءِ دورٍ هامشيٍّ إزاء القضايا الراهنةِ العالقة. أما النظرياتُ الليبراليةُ الرأسمالية، فهي غيرُ قادرةٍ على فعلِ شيء، عدا ما يُشبهُ مُداواةَ المريضِ بالسرطانِ البيولوجيِّ بإعطائِه أدويةً لإطالةِ عمرِه؛ بدلاً من تأمينِ الشفاءِ العاجلِ للمجتمعِ من خلالِ حلِّ الأمراضِ المزمنةِ والسرطانيةِ التي سَلَّطَتها الرأسماليةُ على البشرية. بمعنى آخر، فجميعُ الحلولِ التي تقترحُها تلك النظريات، إنما تُفاقِمُ من القضايا وتُطيلُ من عمرِ الحداثةِ الرأسمالية ([53]).
بالمنتهى، إن تفوقَ نظريةِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ كان يتأتى من عدم مقاربتها للقضايا من منظورٍ سلطويٍّ ودولتيّ. في حين أنّ النُّظُمَ المدنيةَ المُطَوَّرةَ تاريخياً بالتمحورِ حول السلطةِ والدولة، وكذلك الحداثةَ الرأسماليةَ التي هي الممثلُ الراهنُ لتلك المدنياتِ التاريخية؛ تتناولُ القضايا الاجتماعيةَ من منظورِ السلطةِ والدولة ([54]). لقد طوَّرَت نظريةُ العصرانيةِ الديمقراطيةِ مقاربتَها في هذا الشأنِ أيضاً، متمثلاً في الأمةِ الديمقراطيةِ التي تُعَدّ نتيجةً للحلِّ الديمقراطيّ. فالأمةُ الديمقراطيةُ هي قيامُ الشعبِ بذاتِ نفسِه بتحقيقِ تحوُّلِه الوطنيِّ عبر التسيسِ اللازم، ودون الاعتمادِ على السلطةِ أو الدولة. ولا يقتصرُ الأمرُ على التسيس فحسب. بل إنها تجهدُ لإثباتِ جدارةِ الشعبِ في التمكنِ من تحقيقِ التحولِ الوطنيِّ وتكوينِ نفسِه كأمةٍ ديمقراطية، من خلالِ مؤسساتِ الاستقلالِ الذاتيِّ المعنيةِ بحقلِ الدفاعِ الذاتيِّ والميادين الاقتصاديةِ والحقوقيةِ والاجتماعيةِ والدبلوماسيةِ والثقافية، دون اللجوءِ إلى التدولِ أو التحولِ السلطويّ. لذا، فحلُّ الأمةِ الديمقراطيةِ النابع من العصرانية الديمقراطية، هو حلُّ القضيةِ الوطنيةِ الأكثرَ سِلماً وحريةً وعدلاً وخلواً من الدماء ([55]).
إننا أمام طرح فكري مؤسس على أعماق جماهيرية، بل ويعيد فعل السياسية، إلى أنساقه الإنسانية الخام. دون حاجة إلى المرور على عتبات التحول الديمقراطي بالصيغة الغربية. فليست الحداثة هي الطريق الوحيد أمام التشكيل الحضاري اللا غربي لمتابعة تطوره السياسي والأخلاقي والاجتماعي. فدوما ثمة بديل إنساني، فقط نحتاج أن نغدو أحرارا على طول الخط.
[1] Bill Ashcroft: Alternative Modernities: Globalization and the Post-Colonial,
[2] Dilip Parameshwar Gaonkar: On Alternative Modernities,
[3] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الرابع أزمة المدنية وحل الحضارة الديموقراطية في الشرق الأوسط، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٢٤٣
[4] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الثاني المدنية الرأسمالية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٢١٦
[5] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الأول المدينة، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٦٤
[6] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الثالث سوسيولوجيا الحرية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ١٩٥
[7] نفسه: ص ١٩٥
[8] نفسه: ص ٢٠٠
[9] نفسه: ص ٢٠٠
[10] نفسه: ص ٢٠٣
[11] نفسه: ص ٢٠٣
[12] نفسه: ص ٢٠٥
[13] نفسه: ص ٢٠٨
[14] نفسه: ص ٢٠٩
[15] نفسه: ص ٢١٣
[16] نفسه: ص ٢١٩
[17] نفسه: ص ٢٢٠
[18] نفسه: ص ٢٢١
[19] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس قضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٢٧
[20] عبد الله أوجلان: المجلد الثالث سوسيولوجيا الحرية، ص ٢٤٠
[21] نفسه: ص ٢٤١
[22] نفسه: ص ٢٤٢
[23] نفسه: ص ٢٤٣
[24] نفسه: ص ٢٤٤
[25] نفسه: ص ٢٤٥
[26] نفسه: ص ٢٤٧ – ٢٤٩
[27] نفسه: ص ٢٤٩
[28] نفسه: ص ٢٥٠
[29] نفسه: ص ٢٥١
[30] نفسه: ص ٢٥٣
[31] نفسه: ص ٢٥٤ – ٢٥٥
[32] نفسه: ص ٢٥٧
[33] نفسه: ص ٢٥٩
[34] نفسه: ص ٢٦٠
[35] نفسه: ص ٣٠١
[36] نفسه: ص ٣٠٢
[37] نفسه: ص ٣٢٨
[38] نفسه: ص ٣٣٧ و ص ٣٤٩
[39] نفسه: ص ٣٥٠
[40] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس قضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، ص ٤٠
[41] نفسه: ص ١٣١
[42] نفسه: ص ١٣٩
[43] نفسه: ص ١٤٢
[44] نفسه: ص ١٦٦
[45] نفسه: ص ١٩٢
[46] نفسه: ص ١٩٥
[47] نفسه: ص ٢٩٤
[48] نفسه: ص ٢٩٥
[49] نفسه: ص ٥٠٠
[50] نفسه: ص ٤٤٧
[51] نفسه: ص ٤٧٠
[52] نفسه: ص ٤٨٤
[53] نفسه: ص ٤٨٤
[54] نفسه: ص ٥٠٤
[55] نفسه: ص ٥٠٥