مقالات

مبادرة دولت بهتشلي وآفاق حل القضية الكردية في تركيا

تحليل: د. طه علي أحمد

مع تسارع وتيرةِ التحولات الاستراتيجية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، لم تعُد أيٌ من دول المنطقةِ بمعزلٍ عن تداعيات هذه التحولات التي تقف في القلبِ منها الدولة التركية. وقد عبَّر عن ذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينما قال مؤخراً أن الأمنَ القومي لبلاده يواجه تهديدات من جانب إسرائيل التي سوف تتجه للسيطرةِ على أراضٍ تركيةٍ بعد الانتهاء من الحربِ الدائرةِ في غزة ولبنان بحسب زعم أردوغان. غير أن ما لم يذكره الرئيس التركي من تحدياتٍ تواجه بلاده هو الأزمة الاقتصادية والأمنية التي لا تنفصل عن الحرب الدائرة منذ 9 سنوات ضد الأكراد سواء في الداخل التركي أو ضد حزب العمال الكردستاني PKK على المناطق الحدودية في كلٍ من سوريا والعراق. ولعل ما يكشف عن دورِ العاملِ الكُردي في هذه الأزمة هو ما تقدَّم به أخيراً رئيسُ حزبِ الحركة القومية دولَت بهتشلي Devlet Bahçeli، من مبادرةٍ زعم فيها رغبةً ضمنيةً لتسوية القضية الكردية. ففي مطلع أكتوبر الماضي، وخلال الجلسة الافتتاحية للعام التشريعي قام بهتشلي، الذي يُعرَف بتشدَّدِه المُفْرط تجاه الأكراد، والذي يُعد حزبُه أبرز حلفاء الحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، بمصافحة قيادات ونواب حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب الداعم للأكراد في تركيا. وقد صرَّح  بهتشلي أنه بإمكان عبد الله أوجالان، القائد الكردي ومؤسس حزب العمال الكردستاني، الذي تعتقله السلطات التركية منذ 25 عاما، “بإمكانه التحدُّث أمام الكتلة البرلمانية لحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب بشرط أن يُعلن أوجالان انهاء الإرهاب في تركيا وحَلَّ الحزب وتسليم السلاح، وذلك مقابل إجراءات تمنحه الحق في الأمل ضمن إطار التسوية” بحسب بهتشلي. وقد اعتُبِرَت هذه الخطوة بمثابة تحولٍ “كبير” فيما يتصل بما يُعرف بـ “عملية السلام” بين الدولة والأكراد في تركيا، لاسيما وأن الرئيس التركي قد “زعم” أن في هذه الخطوة “فرصةً تاريخية” لحلِّ القضية الكردية. وفي هذا السياق، سمحت السلطات التركية لأوجالان، في 23 أكتوبر، بأول زيارةٍ عائلية بعد 43 شهراً من الانقطاع، في حين لا يزال غير مسموح له بلقاء فريق الدفاع القانوني عنه.

ولاعتبارات قومية، فإنها لطالما ارتبطت الحكومات التركية والإيرانية المتعاقبة بتحالفٍ ضمني مع نظيره الإيراني كتكتلٍ ضاغط على الأكراد ومعرقل لإمكانات حل القضية الكردية. غير أنه مع التحولات الاستراتيجية الإقليمية الجارية في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها وقوف طهران وتل أبيب على أعتاب مواجهة عسكرية تهدد بالانفجار الشامل في المنطقة. وفي هذا يبدو التوافق التركي الإيراني، وبخاصة في سوريا والعراق، معارضاً لتهديدات عميقةٍ عبَّر عنها أردوغان نفسه حينما حذَّر من تعرض أراضٍ تركية للاجتياح الإسرائيلي بعد الانتهاء من العمليات في فلسطين ولبنان. كما يتعزز ذلك بالاستهداف الاسرائيلي المتواصل لمواقع في الأراضي السورية. ولعل في ذلك ما يمثل تحديات استراتيجية متزايدة أمام الدولة التركية التي تواجه – في الوقت ذاته – أزمات داخلية عميقة سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي.

فعلى المستوى الأمني: تواجه القوات المسلحة التركية أعباءً شديدة على إثر العمليات التي تقودها ضد قوات حزب العمال الكردستاني بشكل متواصل منذ عام 2015. وعلى هذا يبدو أن الجيش التركي الذي يُعد واحداً من أقوى جيوش العالم، بميزانية دفاع تتجاوز 25 مليار دولار، وقدرات بشرية تتجاوز 625 ألف جندي (عامل واحتياط)، وسلاح جو متقدم يضم أكثر من 1000 طائرة مقاتلة، وقوات بحرية تحتل المرتبة الـ 20 عالميا، وغير ذلك من مؤشرات القوة الهائلة تاريخياً[1]، إن هذا الجيش يبدو عاجزاً عن حسم حروبه ضد حزب العمال الكردستاني الذي تندرج عملياته في أُطرٍ تكتيكيةٍ تتراوح بين أساليب “حروب العصابات” و “حروب المدن”[2].

وللتأكيد على ذلك، فرغم مزاعم الرئيس التركي في 13 يوليو 2024 بأن حزب العمال قد أصبح عاجزاً عن التحرك داخل الحدود التركية، جاءت عملية استهداف شركة تصنيع الطائرات في 24 أكتوبر 2024، لتؤكد عكس مزاعم أردوغان، وتعيد التأكيد على التحديات التي تعاني منها الدولة التركية أمنياً نتيجة لعدم حل القضية الكردية.

ولا تنفصل هذه الضغوط الأمنية عن حالة “الارتباك الاستراتيجي” التي يمكن رصد أحد مؤشراتها الإقليمية في تبدل موقف الرئيس التركي من النظام الحاكم في دمشق، فبعد أن صرًّح أردوغان بأنه سيواجه دعوةً للاجتماع مع بشار الأسد، لأول مرة منذ عام 2011، أعلنت دمشق موقفها من هذه الدعوة وربطت الموافقة عليها بسحب القوات التركية المنتشرة في الأراضي السوري.

وعلى المستوى السياسي: تبرز حالة الاستقطاب والاختناق السياسي التي كشفت عنها نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة والتي كشفت عن تقدم حزب الشعب الجمهوري (المعارض)، وتراجع  حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وحزب الحركة القومية (حليفه) الذي حَل في المرتبة الخامسة في الانتخابات المحلية الأخيرة (مارس 2024) والذي حصل في الانتخابات السابقة (مايو 2023) على 50 مقعدا مقابل 61 لحزب اليسار الأخضر الداعم للقضية الكردية، كما تأكد هذا الاستقطاب السياسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي عجز أردوغان لأول مرة في حياته السياسية عن حسمها من الجولة الأولى في 14 مايو 2023.

كما أن الرئيس التركي ذاته اعترف بهذه الأزمة حينما قال معلقاً على نتائج الانتخابات الأخيرة (ماس 2024): “نتعهد بمراجعة أداء حزبنا”، ثم أعقب لك بمقابلة عدد من خصومه السياسيين ورموز المعارضة مثل أوزغور أوزال الذي التقاه لأول مرة منذ ثماني سنوات، كما التقى رئيسة حزب الجيد المعارض ميرال أكشينار وغيرهم من المعارضين السياسيين أملا في تخفيف حدة الأزمة السياسية والتغلب على أزمة تراجع شعبيته وحزبه الحاكم تمهيدا للحشد المجتمع السياسي لدعم إجراء التعديلات الدستورية التي يطمح أردوغان في تمكنه من الترشح لفترة رئاسية أخرى بموجب التعديلات المنشودة على نظام الانتخابات الرئاسية بما يضمن إلغاء شرط الحصول على 50+ 1 للفوز بالمقعد الرئاسي، الأمر الذي يؤكد على مخاوف أردوغان على مستقبله السياسي في ظل تراجع شعبيته السياسية كما سبقت الإشارة.

أما على المستوى الاقتصادي، فإن الدولة التركية تعاني من أزمات هيكلية ألقت بظلالها على المشهد الانتخابي الرئاسي الأخير والذي اضطر خلاله أردوغان لرفع سقف وعوده الانتخابية بإجراء إصلاحاات لطالما رفضها مسبقاً، وتتصل في مجملها بالسياسات المالية ومعالجة أسعار الفائدة التي انعكست على مؤشرات اقتصادية مثل التضخم الذي وصل لـ 71.6% وفقا لصندوق النقد الدولي، والبطالة التي تجاوزت 11%. والحال نفسه بالنسبة للعملة الوطنية (الليرة) التي فقدت 93% من قيمتها مقابل الدولار على مدار العقد الماضي بما في ذلك 38% منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، و9% في الربع الأول من عام 2024.

وبشكل عام، فقد فرضت المؤشرات الاقتصادية المتراجعة على صانع القرار القرار ضرورة إعادة النظر ثوابت لطالما اعتُبِرَت طوال عهد أردوغان خطوطاً حمراء مثل أسعار الفائدة التي دأب الرئيس التركي على وصف نفسه بأنه “عدو أسعار الفائدة” حيث اضطر في يونيو الماضي لرفعها أملاً في السيطرة على مسارات التضخم المتزايدة. بل فرضت الضغوط الاقتصادية على أردوغان إعادة النظر في سياساته بشأن العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج ومصر بعد سنوات من العداء، لاسيما بعد إحباط أردوغان بشأن عدم تقدم على صعيد حصول بلاده على عضوية الاتحاد الأوروبي على مدى أكثر من عقدين من الزمان.

ما سبق يعكس عمق الأزمة التي تفرض نفسها على صانع القرار التركي بما يدفع نحو إعادة النظر في قضايا مهمة فيما يتصل بالأمن القومي التركي مثل القضية التركية، وهو ما يمكن تبين أثره في مبادرة دولت بهتشلي بشأن التعامل مع حزب العمال الكردستاني.

لكن رغم عمق الأزمة التي تكشفها المؤشرات السابقة – بجانب أبعاد أخرى – يبقى التساؤل الأهم: هل تنبع هذه المبادرة عن توجهات جادة لدى حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وحليفه “حزب الحركة القومية” ورئيسه دولت بهتشلي الذي صدرت عنه المبادرة؟ أو بعبارة أخرى؛ هل يمكن النظر لهذه المبادرة في ضوء مؤشرات الأزمة الاستراتيجية التي تواجهها الدولة التركية بما يضفي المزيد من الجدية عليها، أم أنها تمثل تكتيكاً مرحليا لتجاوز آثار هذه الأزمة في مرحلة عابرة من تاريخ القضية الكردية في تركيا؟.

وللخوض في عمق هذا التساؤل، تبرز أهمية التعرض لموقف الدولة التركية من حزب العمال الكردستاني منذ بداية تشكله في أواخر سبعينات القرن العشرين، وذلك باعتباره أحد محطات تطور الوعي القومي الكردي منذ بدأت مجموعة من المناضلين الكرد يتقدمهم عبد الله أوجالان الذي أصبح فيما بعد أحد رموز القضية الكردية في العقود الخمسة الأخيرة، وكانت حركة الوعي القومي الكردية قد انقسمت في هذه الأثناء (سبعينات القرن العشرين) بين تيارين رئيسين على النحو التالي:

التيار الأول: ينطلق من ضرورة إقامة وطن قومي كردي حتى وإن كان ذلك في حدودٍ جغرافيةٍ مُقيدة ومُحددة، بل و”مخنوقة” بجوارٍ مُعادٍ تقوده الدول القومية التي تأسَّست بإرادةٍ من القوى الغربية وتحالفت معها، وتنتفض بعنفٍ أمام أيةِ محاولة كردية من هذا القبيل، ولعل ما يؤكد على ذلك هو العداء الذي واجهته تجربة جمهورية مهاباد في إيران (1964) وإعدام قائدها قاضي محمد، وتجربة الاستفتاء على الانفصال الذي أُجري في إقليم كردستان في 25 ديسمبر 2017، حتى وإن بلغت الإجابة بـ “نعم” وتأييد الاستفتاء (92%)، بل إن أكثر التجارب تفاؤلاً في التاريخ الكردي الحديث والتي حملت بذورها معاهدة سيفر (1920) كانت تدور في هذا الفلك، أي منح الكرد الحق في كيانٍ قومي في مناطق جغرافية تقع شرقي نهر الفرات وجنوب الحدود الأرمينية وشمال الحدود بين تركيا وسوريا والعراق، وذلك بموجب المادة 62 من المعاهدة، إلا أن ذلك الحق كان مُقَيَّداً بموافقة الحكومة التركية على ما يتم الموافقة عليه، وذلك بموجب المادة 63 من المعاهدة المذكورة. وحتى ذلك الحق المقيد لم يخرج إلى النور نتيجة للتعصب الذي أبداه مصطفى كمال اتاتورك. وعلى ذلك، فبعدما تدفقت في أنهار السياسة والاقتصاد والاجتماع بالشرق الأوسط الكثير من الأمواج والتراكمات، بما زاد الأمور تعقيداً، أصبحت تجربة الحكم الذاتي في كردستان العراق، هي أقصى ما يمكن أن يتوافق مع الأمر الواقع، اللهم إذا تغير واقع النظام العالمي وتغير شكل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط لصالح نظام جديد يدعم الحق في إقامة وطن قومي كردي.

التيار الثاني: وقد خرج من رحم التحولات الفكرية التي عاشتها منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها الشعب الكردي، وقد تأثر هذا التيار الذي قاده عبد الله أوجالان بالأطروحات الاشتراكية التي قامت عليها حركات التحرر التي سادت حقبة الخمسينات والستينات من القرن العشرين. وفي هذا الإطار تأسَّس حزب العمال الكردستاني ليدشن مرحلة جديدة جديدة في تاريخ القضية الكردية.

ومن الجدير بالذكر أن نشأة حزب العمال الكردستاني قد تأثَّرت بالظروف التي شهدتها البيئة الإقليمية في الشرق الأوسط في سبعينات القرن العشرين، لاسيما وأن البيئة السياسية التركية شهدت انفتاحاً نسبياً بين انقلابي 1971 و1980، حيث سمحت حكومة “الجمهوريين” للتنظيمات والجماعات التقليدية واليسارية وجمعياتها بمزاولة النشاط السياسي والاجتماعي على نطاق أوسع، وفي هذا الإطار شهدت القضية الكردية حَيزاً من المناظرات والمناقشات التي تبلورت خلالها رؤى وأطروحات بشأن المسألة الكردية وآفاق حلها. وقد انتقلت هذه الأفكار إلى التيارات الأيديولوجية حيث سادت قناعة لدى البعض بأن حل القضية الكردية يتوقف على مدى تطبيق المبادئ الماركسية – اللينينية. وقد تزامن ذلك مع عدد من المتغيرات التي طرأت على منطقة الشرق الأوسط، والتي أسهمت في دفع القضية الكردية من هذا المنظور (الماركسي اللينيني) إلى المقدمة وهي[3]:

  • ثورة أيلول 1975 في كردستان العراق.
  • الحرب الأهلية اللبنانية
  • نمو وتصاعد وتيرة الصراع العربي الإسرائيلي
  • بروز منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها المتعددة، ودخولها كطرفٍ مُؤثِّرٍ في معادلة الحرب الأهلية اللبنانية والصراع العربي الاسرائيلي، وتحولها إلى نقطة جذب للكثير من التنظيمات اليسارية.
  • تنامي الصراع العالمي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي وتمحوره في الشرق الأوسط بعد انتهاء مشكلة فيتنام وخفوت الصراع في أمريكا لللاتينية، وتراجع المد الثوري في أوروبا.

وبجانب أمور أخرى، أسهمت هذه العوامل السابقة في جذب القضية الكردية لاهتمام العديد من الأحزاب والتنظيمات اليسارية، وتزامن ذلك مع تنامي الوعي القومي الكردي بين الشباب المتعلم بالجامعات، وانخراطهم في حقوق هذه التنظيمات نتيجة لعدم إشباع طموحهم من التنظيمات اليسارية التقليدية. في هذا السياق برزت من بين هذه المجموعات جماعة عرفت بـ “الأيديولوجية” وكان على رأسها عبد الله أوجالان الذي عُرِفَ بـ “آبو”، والذي قاد مع رفاقه تأسيس حزب العمال الكردستاني ككيان عسكري ذات نشاط دائم، بخلاف الانتفاضات المسلحة التي كانت خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.[4]

هنا تجدر الإشارة أن مُهمةُ حزب العمال الكردستاني قد تمثَّلت منذ انطلاقه في مطلع سبعينات القرن العشرين في إخراج الوجود الكُردي من كَوْنِه موضوع للسجال في إطار العمل على حل القضية الكردية، وفقا لرؤية عبد الله أوجالان لبناء دولة اشتراكية مشيدة. غير أنه لما وجد أن القضية الكردية عالقة بحبال الدولة القومية، فبعد جهدٍ فكريٍ ونقديٍ عميق خلص أوجالان إلى أن حل القضية يكمن في بناء “الأمة الديمقراطية”، كما خلص إلى عدم جدوى، إن لم تكن استحالة، إنشاء الاشتراكية في حال غياب المجتمع الديمقراطي.

ومنذ الإعلان عن تأسيسه، واجه حزب العمال الكردستاني بيئةً مضطربةً، وقد زاد من هذا الاضطراب الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا في 12 يوليو 1980، والذي تزايدت على إثره الملاحقة العسكرية التركية لينتقل على إثر ذلك العمل خارج تركيا، في سوريا ولبنان وبعض الدول الأوروبية. فعقد الحزب مؤتمره الأول في يوليو 1981، وأعقبه بمؤتمر ثانٍ بدمشق في أغسطس 1982 ثم أعلن في 15 أغسطس 1984 تأسيس وحدات عسكرية باسم “قوات تحرير كردستان”، ثم تأسَّست لاحقا (في مارس 1985) منظمة جديدة هي “جبهة التحرير الشعبية الكردستانية” بقيادة مؤسس الحزب عبد الله أوجالان وزعيمه[5].

في هذه الأثناء، وكجزء من تعامله مع القضية الكردية، أقدم الرئيس التركي تورغوت أوزال (1991 – 1993) على إلغاء الحظر الكامل المفروض على اللغة الكردية في المدارس الحكومية وجرى تحويله إلى حظر جزئي. وقد حاول أوزال إطلاق مفاوضات غير مباشرة مع حزب العمال الكردستاني لكن وفاة أوزال بشكل مفاجئ وغامض قد حالت دون نجاح هذه المحاولة. وكانت وفاة أوزال قد أثيرت بشأنها شبهات التسميم، حيث أفادت التقارير التشريحية من قِبَل هيئة الطب الشرعي التركية أن ثمة آثار لمواد سامة في رفاة أوزال، لكن لم اعتماد نتائج حاسمة من جانب السلطات التركية.

في السنوات التالية، وخلال عهد رئيس الوزراء نجم الدين أربكان (1996 – 1997) سعى أربكان لفتح مسار تفاوضي غير مباشر لكنه لم ينجح بسبب الانقلاب العسكري الذي أطاح به عام 1997. ومع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002 كان السياق الإقليمي يمر بتحولاتٍ استراتيجيةٍ عميقة تمثَّل أبرزها في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وصعود النموذج الفيدرالي بالعراق مع ظهور تجربة “إقليم كردستان العراق”، وتمركز مقاتلي حزب العمال الكردستاني فيه الأمر الذي أدركت معه حكومة “العدالة والتنمية” بمثابة تهديد للأمن القومي التركي.

غير أنه مع ترسخ وضع الحزب بقيادة رجب طيب أردوغان بحصوله على 48.8% في انتخابات عام 2007، تبنَّى أردوغان ما أطلق عليه بـ “مبادرة الانفتاح الديمقراطي” والتي زعم خلالها مساعية لإيجاد حل شامل ودائم للمسألة الكردية، لاسيما مع الخسائر الهائلة التي خلفتها الحرب ضد حزب العمال منذ 1984. وكانت الخسائر البشرية قد بلغت نحو 50 ألف قتيل، فضلا عن خسائر اقتصادية تجاوزت 400 مليار دولار فضلا عن تغير كثير من الخطط التنموية في مدن الجنوب والجنوب الشرقي للبلاد، بل إن المسألة التركية قد مثَّلت أحد العثرات ضد انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي رغم حصولها على صفة “مرشح للعضوية الكاملة” عام 2005. ومن هنا فُتِحَت الآفاق أمام مسارات الحل التفاوضي بين السلطات التركية وحزب العمال الكردستاني.

في عام 2008 أطلقت شخصيات من دول مختلفة لوقف القتال مقابل أن تحقق الحكومة التركية ملموسة في طريق السلام. وبالفعل وافق عبد الله أوجالان من معتقله، حيث انطلقت جولةٌ تفاوضيةٌ في أوسلو مقابل وقف إطلاق النار لمدة 6 شهور، وتوقفت الحكومة التركية عن مهاجمة معاقل حزب العمال الكردستاني. وقد ارتفعت الآمال بشأن هذه التطورات حتى أن الأمم المتحدة طرحت نفسها آنذاك بأن تكون راعية لهذه المفاوضات التي تم اختيار العاصمة النرويجية أوسلو مقراً لها. وقد انطلقت الجولة الأولى بين قيادات الحزب وقادة من المخابرات التركية بموافقة رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان. ورغم استمرار هذه المفاوضات بشكل سري لمدة 3 سنوات إلا أنها توقف عندما قام أعضاء الوفد التفاوضي بتسريبها والكشف عنها، وهو ما فسَّره البعض حينها بصراعات داخلية بين أردوغان وحركة “خدمة” ورئيسها فتح الله غولن، الذي توفى بالولايات المتحدة في 20 أكتوبر الماضي.

بعد فشل مفاوضات أوسلو عام 2011، عادت المعارك وكثَّفت القوات التركية قصف معاقل الحزب ومقرَّاته الأمر الذي ردَّ عليه الحزب بعمليات عسكرية وحصلت مواجهات عنيفة في جبل قنديل، واتسع نطاقها لتشمل داخل بعض المدن التركية بخاصة جنوب شرقي تركيا التي شهدت تظاهرات وشغب رفضاً للقصف التركي. واستمر هذا الوضع لعام ونصف حتى طالب أوجالان عناصر الحزب بوقف إطلاق النار بعد لقاءٍ أجراه مع وفدٍ من حزب الشعوب الديمقراطي الذي زاره في معتقله بجزيره “إمرالي”. وكان أوجالان قد أجرى مفاوضات سرية على مجار الشهور السابقة على ذلك عُرِفَت بـ “مفاوضات إمرالي”، وكانت على درجة أعلى من السرية مقارنة بسابقتها “مفاوضات أوسلو”، حيث قام بتمثيل الحكومة التركية فيها مجموعة من المخابرات بقيادة رئيس الجهاز السابق ووزير الخارجي الحالي هاكان فيدان. وقد أسفرت هذه المفاوضات عن وقف إطلاق النار بطلب من أوجالان نَقَلَه عنه وفدٌ من حزب الشعوب الديمقراطي أثناء زيارة لجبل قنديل. ثم أعقبها إلقاء رسالة من أوجالان عُرِفَت بـ “بيان نوروز” من أوجالان في 12 مارس 2013 لأنصاره بمدينة ديار بكر عبر شاشات التلفزة. وقد تضمنَّت رسالة أوجالان تأكيداً على “تمسُّك شعوب الشرق الأوسط بالحل الديمقراطي العصراني، ونبذ الفكر القومي والتهميش الذي عانته شعوب المنطقة من قوى الاستعمار ومن بعدها النخب القومية الحاكمة”، ثم أعقب هذه الكلمة التزام من جانب مقاتلي الحزب بتعليمات أوجالان حيث أعلن مراد قره يلان، قائد الجناح العسكري للحزب، انسحاب عناصر الحزب لخارج الأراضي التركية بشرط التزام السلطات التركية بوقف العمليات العسكرية ضد معاقل الحزب، والمطالبة بوجود لجنةٍ محايدةٍ لمراقبة عملية الانسحاب والإشراف عليها التي بدأت بالفعل في 8 مايو 2013 باتجاه منطقة الزاب الحدودية بين تركيا والعراق.

وقد اتفق الجانبان على خطةً لوقف إطلاق النار لأجلٍ غير محدد، والعمل على ثلاث مراحل هي[6]: 1) انسحاب مقاتلي الحزب من الأراضي التركية إلى الأراضي العراقي، وقد تم ذلك بالفعل في 8 مايو 2013، لكن هذه الخطوة توقفت بسبب اعتراض الحزب على تسيير طائرات تجسسية تركية فوق رؤوسهم حيث فسَّر قادة الحزب ذلك باعتباره “إهانة” من خلال تجسيد الأمر على أنه هزيمة وليس “انسحاب بموجب اتفاق سلام”، ولم يتحقق سوى نحو 20% من عملية الانسحاب المقررة والتي أعلن الحزب عن توقفها في 6 سبتمبر من نفس العام. كما تزامن ذلك مع شروع السلطات التركية في بناء جدار حدودي على الحدود مع سوريا في مدينة نصيبين جنوب شرق البلاد[7]، الأمر الذي وصفه الأكراد بأنه خطوة تهدف لمنع المجتمعات الكردية من تعزيز الروابط فيما بينها عبر الحدود، وهو ما يعني انعدام الثقة بين الجانبين، لاسيما مع تباطؤ الحكومة التركية في تنفيذ وعود إصلاحية كانت قدمتها بشأن تعزيز حقوق الأكراد في استخدام لغتهم وحق إطلاق أسماء كردية على قراهم الأمر الذي يؤكد إشكالية انعدام الثقة المذكورة.

 2) قيام أنقرة بإجراء إصلاحات داخل الدولة وتعزيز الديمقراطية على أن يكون ذلك عبر خطوات تتخذها الحكومة التركية مثل تعديل الدستور، وتخفيض شرط الحصول على 10% من الأصوات  لدخول البرلمان إلى 4%، وتعديل قانون مكافحة الإرهاب وإطلاق سراح عناصر الحزب من السجون التركية، ووقف العمليات العسكرية للجيش التركي، والتوقف عن بناء السدود والقواعد العسكرية في المناطق المحاذية لجبال قنديل. 3) عودة عناصر الحزب إلى تركيا من دون سلاح، بعد صدور عفوٍ عنهم وانخراطهم في الحياة المدنية، ودخولهم العملية السياسية وبقية الأعمال الحرة التي لا تخالف القانون. وفي هذا الإطار، اعتمد البرلمان التركي في يوليو 2014 (بتأييد 237 مقابل 37 معارضين) قانوناً جديداً لإحياء المفاوضات مع حزب العمال، وقد نص هذا القانون “شمول السياسيين والدبلوماسيين ورجال المخابرات الضالعين في التفاوض مع حزب العمال بالحصانة، بالإضافة لتسهيل عملية تأهيل مسلحي حزب العمال الذين يلقون أسلحتهم ويعودون إلى ديارهم، وغيرها من الإجراءات التي تضمن إنهاء العمليات العسكرية بين الحزب والقوات التركية[8].

وبشكل عام وضع أوجالان في عشرة بنود كإطارٍ عام لحل القضية الكردية، تم الإعلان عنها في مؤتمر صحفي مشترك بين الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطي في 20 فبراير 2015، وقد تضمنت هذه البنود ما يلي[9]:

  • السياسة الديمقراطية، ماهيتها ومحتواها
  • تحديد الأطراف الإقليمية والدولية التي ستتابع تطبيق مرحلة الحل السياسي الديمقراطي
  • الضمانات الديمقراطية والقانونية لخلق المواطنة الحرة
  • علاقة السياسة الديمقراطية بالدولة والمجتمع وآليات عمل هذه العلاقة
  • الجوانب الاجتماعية والاقتصادية للحل السياسي الديمقراطي
  • حالة الأمن وشروطها في ظل تفعيل الحل السياسي الديمقراطي
  • الضمانات القانونية لحقوق المرأة، توطيد الثقافة وحماية البيئة
  • الضمانات القانونية على حماية الهوية الحرة، وتحقيق المساواة والاعتماد على الديمقراطية في التعامل مع جميع المواطنين
  • تعريف الجمهورية الديمقراطية، الوطن المشترك، والقوانين الديمقراطية، وضمان كل ذلك في متن الدستور الرسمي للدولة.
  • وضع دستور للدولة يضمن كل البنود السابقة فيه بشكل ديمقراطي.

وقد أعقب هذا البيان توجيه رسالة من عبد الله أوجالان بتاريخ 21 مارس 2015 أكد فيها على أن هذه البنود العشرة تفتح مرحلة جديدة في مسيرة السلام.  ومع ذلك، عاودت القوات التركية ، في عام 2015، شَن غارات جوية ضد معسكرات حزب العمال شمالي العراق لتنتهي المفاوضات ونعدم الآفاق أمام عملية السلام المزعومة. ومنذ ذلك، لم تتوقف القوات التركية عن شن عمليات عسكرية حملت مسميات مختلفة في كل من سوريا والعراق مثل عملية “درع الفرات” (خلال الفترة 24 أغسطس – 29 مارس 2017) و “غصن الزيتون (خلال الفترة من يناير – مارس 2018)، و”نبع السلام” (أكتوبر 2019)، والمخلب – القفل (منذ أبريل 2022 – حتى الآن)[10].

ومع استمرار انخراط الآلة العسكرية التركية في مواجهات لا تبدو لها نهاية في الأفق، ومع تجدد الأزمة التي تعرضنا لبعض جوانبها في السطور السابقة، وفي السياق الإقليمي المتحول والمضطرب أيضاً، جاء مبادرة بهتشلي فيما يشبه المفاجأة، بل اعتبرها بمثابة “القنبلة السياسية” من حليف أردوغان وأشد الرموز السياسية تطرفاً فيماي خص القضية الكردية، وهو ما يخفض سقف التوقعات بشأن جدية مبادرة بهتشلي التي عبر عنها بلهجة تفتقر إلى الحس الدبلوماسي اللازم لخلق أجواء الثقة لدى الجانب الكردي إذ قال بهتشلي: “إذا رُفِعَت العزلةُ عن الزعيم الإرهابي، فليأت ويتحدث”.

في ضوء ما سبق، فإن تصريحات ومن خلفها الموقف الرسمي لم يصحابها خطواتٌ يمكن البناء عليها لتحقيق طفرةً إيجابية فيما يخص عملية السلام بتركيا، فباستثناء السماح بزيارة عائلية واحدة لعبد الله أوجالان في معتقله بسجن إمرالي، عاودت السلطات التركية، ممثلة في إدارة السجن، إقرار عقوبة انضباطية جديدة من شأنها الحيولة دون السماح لأوجالان بلقاء محاميه، ما يعني المضي في تجريد أوجالان من حقوقه التي تكفلها لوائح السجن والقوانين والمواثيق الدولية ذات الصلة. بل أعقب ذلك قيام السلطات السلطات التركية بطرد ثلاثة من رؤساء البلديات المنتخبين عن حزب الشعوب الديمقراطي في بلديان ماردين وهاياتي وباطمان، بتهمة الارتباط بحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه السلطات التركية “إرهابياً”.

الخاتمة

بشكلٍ عام، وفي إطار الدينامات السابقة، يمكن القول بأن القضية الكردية لم تشهد مؤشرات جادة تدفعنا للقول بإمكانية حدوث تطورات نوعية رغم تصريحات دولت بهتشلي. فالقضية الكردية لا يمكن معالجتها بشكلٍ مُنفصل عن عملية تحول ديمقراطي حقيقي بداخل المجتمع التركي بما يضمن تجاز إشكالية الاندماج الوطني التي يعيشها الأكراد في تركيا، وكذلك تراجع قبضة التيار القومي المتشدد عن مفاصل الدولة التركية فيما يعرف بـ “الدولة العميقة” التي دأبت على تبني دعاوى قومية متطرفة تشبعت بها فئات عديدة من المجتمع التركي، مع أهمية أن تؤخذ البنود العشرة التي وضعها عبد الله أوجالان كإطارٍ عام لحل القضية الكردية في الاعتبار لاسيما وأنها لا تنفصل عن أية توجهات ديمقراطية منشودة تتضمن ترسيخ هويةٍ وطنيةٍ جامعة مع الحفاظ على الخصوصيات الثقافية للهويات الفرعية بالمجتمع.

وفي هذا الإطار، فمن الأهمية بمكان أن تلجأ السلطات التركية لتخفيف القيود المشددة على قيادات حزب العمال الكردستاني وبخاصة عبد الله أوجالان الذي تتعاظم مكانته الرمزية بين قطاعات عريضة من المجتمع الكردي، والتخلي عن الدعاوى التي ترسخ صورة ذهنية سلبية لأوجالان بين الأجيال المتعاقبة من الأتراك، وذلك أملاً في إعادة ضبط هذه الصورة الذهنية وتهيئة الأجواء الداعمة لنجاح أية خطوات تفاوضية نحو حل القضية الكردية في تركيا.


الهوامش والمراجع

[1] كانت تركيا قد أعلنت عن خططها لزيادة ميزانية الدفاع والأمن لعام 2025 إلى 47 دولار وفقاً لمقترح حكومي، أنظر: https://2u.pw/VD7fcb1A  

[2] من الأعباء التي تفرضها ممارسات حرب العصابات على الجيش التركي أن يتم تجهيز فرق خاصة لقتال عناصر حزب العمال بهدف عدم الزج بكامل الجنود الأتراك في معارك تتطلب أساليب خاصة وبخاصة في الأماكن الجبلية الوعرة. أنظر: حسون جاسم العبيدي، حزب العمال الكردستاني PKK وأزمة الهوية، المجلة السياسية والدولية، الجامعة المستنصرية، العراق، عدد 17، 2010، ص33.

[3] طه علي، تطور الوعي القومي الكردي، مركز آتون، على الرابط: https://2u.pw/KlST7Bvf

[4] يرصد عبد الله أوجالان ثلاثة فصول في كتابه “مانيسفتو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية” على نحو 300 صفحة لشرح النقاشات والتحولات التي أفضت لولادة حزب العمال الكردستاني، والتي تراوحت فيما مجملها بين الظروف الإقليمية والتحولات التي كانت تمر بها البيئة الدولية في آتون الصراعات المصاحبة للحرب الباردة وما ارتبط بها من تحولات أيديولجية كشفت عنها التجربة وتحديدا في يخص النظرية الماركسية التي انطلق منها أوجالان في أطروحاته النقدية. أنظر: عبد الله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، مركز القاهرة للدراسات الكردية، القاهرة، 2017.

[5] عبد الفتاح على يحي، حزب العمال الكردستاني في تركيا، نشأته وتطوره، في خليل على مراد وآخرون، القضية الكردية في تركيا وتأثيرها على دور الجوار، مركز الدراسات التركية، جامعة الموصل، 1994، ص 122.

[6] على ناجي، بنادق للسلام: تركيا و”PKK” من أوسلو إلى جزيرة إمرالي، فيرلاج نور بابلشينج، 2017، ص ص 107 – 108.

[7] كرم سعيد، أردوغان والأكراد: أسباب ومعوقات التسوية، ورقة منشورة، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، 15 مارس 2015.

[8] احياء مفاوضات السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، https://2u.pw/9nVIoxmu

[9] على ناجي، مرجع سبق ذكره.

[10] أنس شواخ، فاعلية الضربات الجوية التركية ضد حزب العمال الكردستاني في سوريا، ورقة منشورة، مركز جسور للدراسات، يناير 2024.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى